كاتب الموضوع :
عهد Amsdsei
المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
رد: أكواريل .. د. أحمد خالد توفيق .. (3)
د. أحمد خالد توفيق يكتب.. أكواريل (4)
رأيت الحسناء تمشي في الصالة غافلة (رسوم: فواز)
ـ "باسيونيه!".
هكذا راح يكرر النداء من النافذة.
مع الوقت كان يدرك أكثر فأكثر أنه في مأزق.. هذه الشقة ليست على ما يرام، والأسوأ من الشقة هذه اللوحة المائية التي لا تكف عن التغيّر..
هل اللوحة تتغير فعلا؟ ربما يخيل له ذلك.. ربما كانت اللوحة تعبيرا عن حالته النفسية لا أكثر، هذا وارد..
هناك غرفة الصالون.. كل شيء يقول إن اللوحة تحذّره من دخولها، وهذا سبب كافٍ كي يجرّب حظه، سوف يتوكل على الله ويأخذ نفسا عميقا ويتجه إلى هناك.
لقد رأيت الحسناء تمشي في الصالة غافلة بينما الوحش ينتظرها في الصالون، ماذا لو كنت أنت الفتاة؟ ربما أنت الوحش؟
مد عنقه ليُلقي نظرة داخل الغرفة المضاءة.. تبا لمصابيح الفلورسنت هذه.. الغرفة أمامه بالفعل ورائحتها هي رائحة الموت، رائحة الغبار.. دعك من الأثاث المغطى بالقماش بتلك الطريقة الكئيبة التي تذكرك بشواهد القبور..
لا يوجد شيء.. هناك نافذة موصدة بعناية وعليها ستائر متسخة لا يمكن معرفة لونها القديم..
هذه هي الغرفة التي وجدوها ميتة فيها، كالعادة هناك خادمة ما تأتي ثلاثة أيام في الأسبوع لتنظف الشقة وتبتاع الخضر.. وكالعادة تصل هذه الخادمة فلا يفتح لها أحد الباب، ثم بعد محاولات جهيدة تجد نسخة من المفتاح لدى البواب.. تفتح الشقة.. في غرفة الصالون تجد الخالة على الأرض متخشبة وقد فتحت فاها في صرخة صامتة.. الطبيب الشرعي قال إن الوفاة حدثت منذ زمن، وكان على التصلب أن يزول.. هذا لغز غير مفهوم..
ما الذي وجدته السيدة في غرفة الصالون أو ما الذي حدث لها فجعلها تصرخ؟ لماذا تخشبت؟
تبا! هذه الأفكار سوف تدفعك إلى الجنون فعلا.. قرأ ذات مرة قصة لهـ. ج. ويلز عن الرجل الذي بات ليلة كاملة في الغرفة الحمراء، فكاد خياله يقتله.. وفي الصباح أدرك أن الغرفة مسكونة فعلا.. مسكونة بالخوف ذاته..
هذه الشقة مسكونة بالخوف هي الأخرى في كل ركن..
ما الذي وجدته السيدة؟
أزاح الغطاء قليلا عن قطع الأثاث، لم تكن كلها من طراز الصالون المزدان بالأويما، هناك أريكة عريضة قبيحة الشكل لكنها عملية جدا، لدى محمود أريكة كهذه في بيته ويعرف أنها تستخدم كأريكة وكفراش.. وعندما تفتح فإنها تكون صندوقا للخزين كذلك..
أشياء كهذه قد تفوت رجال الشرطة الذين لم يأتوا ليفتشوا الشقة أو يحققوا في جريمة قتل، لقد كان عملهم روتينيا وأتمّوه بسرعة.
فتح الأريكة بعناية وبالفعل وجد أنها صندوق مفعم بأشياء عديدة.. أشياء تحتاج إلى شهر كامل من الفحص، لو خرج من هنا فسوف يعود مع خمسة أو ستة رجال..
هناك كراسات مغبرة متراصة، وهناك جهاز مذياع قديم، وأعداد من مجلة "هو وهي" التي كانت منتشرة في زمن خالته، الكراسات.. ماذا فيها؟
هناك رسوم.. رسوم بالقلم الرصاص الملون أو الباستيل.. وهناك رسوم بالأكواريل. ليست رائعة لكنها ليست سيئة كذلك، ويمكن القول إنها تخص ذلك الفتى حسام..
فتيات.. خيول.. مناظر طبيعية..
هناك مظروف مغلق عليه اسم الدكتور كمال عطية - دكتوراه في الأمراض العصبية والنفسية.. زميل كلية بباريس.
فتح الخطاب.. كانت بداخله ورقة بالإنجليزية وقد كتبت على عجل تقول:
"تحتاج حالة الشاب حسام عبد العزيز إلى رأي ثانٍ وثالث، على قدر علمي يسهل أن تصنفه كشخصية سايكوباثية، لكن الأمور أعقد من هذا، يعبر عن نفسه بالرسم كثيرا وهذه علامة صحية، وأعتقد أن رسومه جيدة جدا.. لكن قسوته على الحيوانات لا توصف.. كما أنه يتحرش بالفتيات، ولا يكف عن إهانة قريبته التي تقيم معه وترعاه كأم.. وأحيانا يضربها بقسوة، يتكلم كثيرا عن عبادة بعل وعن أنه ابن بعل الأكبر، وأحيانا يزعم أنه شيطان، قريبته متأكدة من أنه جرّب التهام الحشرات وجرّب اللحم النيئ.. تؤكد أن خزانته مليئة بقطط ميتة يقوم بتحنيطها، لا أفهم جذور هذه الحالة ولا كيف بدأت، لكني أحتاج إلى رأي آخر، وإنني لأقترح عرض الحالة على د. عزيز إسكندر لدى عودته من الولايات المتحدة في نوفمبر القادم، إن تشخيص الحالة كمس شيطاني سهل بالنسبة للعامة، لكن الطبيب النفسي يبحث عن أسباب ودوافع وتشخيص صحيح، وأعتقد أن د. عزيز يملك الإجابة عن أسئلة كثيرة، مثل منشأ هذه الشخصية السايكوباثية وجذورها".
كان محمود يحاول أن يفهم، لكنه على يقين من شيء واحد، هو أن خالته لم تفهم حرفا من هذه الرسالة، وهذا لأنها لا تجيد الإنجليزية، وإن أجادتها فسوف يستحيل إقناعها بأن الصبي ليس ممسوسا، لا يمكن أن تكون هذه الرسالة هي سبب موتها ذعرا.
هذا الفتى المريض نفسيا كان مولعا بالرسم.. وتلك اللوحة اللعينة رسمها يوما ما.. لا شك أنها تحمل الكثير من جذور المرض النفسي..
أين اللوحة بالمناسبة؟
خرج إلى الصالة وهو يشعر بإرهاق شديد.. اتجه إلى النافذة وأطلق صيحة "باسيونيه" أخرى على سبيل أداء الواجب، ثم بحث عن الرسم.. لقد تغيرت اللوحة من جديد.. هذا حقيقي.. هذه المرة يرى رجلين يلتحمان وامرأة تصرخ.. رجل قوي ضخم أصلع الرأس له شارب كث، وفتى نحيل ضعيف، لكن الفتى يحمل خنجرا.. ما معنى هذا؟
الخالة أصابها الرعب من ربيبها الشيطاني (رسوم: فواز)
هذا البيت عبارة عن أسئلة بلا أي أجوبة.. لا شك أنه سيدفعه للجنون..
هناك غرفة واحدة باقية.. لا يعرف ما يوجد فيها.. عليه أن يدخل ويفتش وبعد هذا يجد طريقة للفرار، هكذا اتجه ليفتح الباب الأخير، كان الظلام دامسا بالداخل واصطدم بقطعة أثاث.. لما استطاع بلوغ مفتاح النور أدرك أنها أقرب إلى غرفة نوم أخرى.. هناك فراش مغطى، لم يكن يدخل هذه الغرفة لدى زيارته لخالته إلا نادرا جدا، ومن المنطقي أن المدعو حسام كان ينام هنا..
أما ما اصطدم به فهو آلة خياطة مغطاة.. آلة عتيقة تدار بدواسة قدمين.
لقد تحركت قليلا من موضعها فانكشف جزء من خشب الأرضية..
لسبب ما اتجه إلى الصالة وبحث عن اللوحة ثم حملها في يده عائدا للغرفة.. لقد تغيّرت الصورة فعلا.. يمكنه أن يرى الرجل الضخم الأصلع يقف والصبي ميت على الأرض والسيدة تمسك برأسها صارخة على الطريقة الباروكية، صورة بليغة جدا يمكن أن تضع عليها بالونات الحوار: لقد قتلته.. لم أقصد ذلك.. أنت قد جلبت علينا الخراب.. منك لله.. إلخ..
أدرك أن الرجل الضخم يقف في هذا المكان بالذات.. جوار الفراش..
نظر إلى خشب الأرضية المهشم..
رجل أصلع ضخم له شارب كث..
خاله..
خاله الذي ذهب لأوروبا واختفى تماما.. لا أحد يعرف عنه شيئا ولا أحد يذكره..
والفتى الميت على الأرض.. أليس هو حسام؟
اللوحة المائية تحكي قصة رهيبة إذن.. الخالة التي أصابها الرعب من ربيبها الشيطاني.. تتصل بأخيها ليأتي ويساعدها.. مشادة عنيفة بين الفتى والأخ الغاضب.. تهديد بالسكين.. الخال القوي الغاضب يقتل الفتى..
يقتله.. هنا بالذات..
في هذه الغرفة..
يُتبع
|