دخل غرفة مكتبه متجهماً كعادته , مكشراً عن أنيابه , يصرخ في مرؤوسيه , يوبخهم ,تلك عادته اليوميه , فهو حاد الطباع , غليظ القلب , رغم أن هيئته لا تدل على ذلك , فهو قصير القامة نحيف , عندما يغضب تراه يقفز كضفدع .
جلس على مقعده والذي بالكاد يظهر من خلف طاولةمكتبه , ارتدى نظارته الطبيه , أشعل سيجاره فهو مدخن شره قلما تجد فيه خال من السيجاره , ضغط على زر جهاز المناداه الداخلي , لحظات ودخلت سكرتيرته تحمل بريده اليومي , متوتره , تضع البريد أمامه برعشة في يدها , تصحّف البريد ثم نظر إليها من اعلي النظاره متسائلا",, ما هذا ؟ فقالت , هذا عم إبراهيم يطلب سلفه لظروف ألمّت به وهو بالخارج يطلب مقابلتك , وهنا ثار البركان , انتفض من مكانه صارخاً , سأتفرغ لعملي أم لمشاكل العاملين , ضرب وجهها بالبريد , تناثر على الأرض , انحنت تلملم , خرجت مسرعه وصوته يعلو ويعلو , يتوعدها بالعقاب , احمر وجهه , برزت عروقه , ارتمى على مقعده , شعر بضيق في التنفس , خفف من ضغط الكرافته , فتح زر قميصه بيد مرتعشه, مد يده بصعوبة لكوب الماء الموجود على الطاوله , كانت يده ترتعش , بالكاد أوصلها إلى فيه , سقط الكوب وراح في غيبوبه .
أفاق إذ به يرقد في مشفى يملكه احد أصدقاءه , الذي لم يسلم من حدة طباعه ككل من حوله , وكثيراً ما حذره من خطورة تلك الانفعالات على صحته , سمع من يتحدث خلف باب الغرفه , كانتا ممرضتان تتحدثان عن حالته , أصابه الذهول , شعر وكأن الأرض تهوى من تحته , سيموت غداً أو بعد غد على الأكثر , بصعوبه استطاع أن ينزل من على مرقده , وبهدوء انسحب من المشفى دون أن يشعر به احد , لم يقوى أن يرى نظرات الإشفاق من صديقه الطبيب .
ركب سياره أجره , فهو لا يعرف كيف وصل الى المشفى أو من أوصله , سأله السائق , أين وجهتك ؟
كان شارد الذهن , عيناه ترورقان بالدمع , لا يسمع من حوله , يرى الناس تتحرك وكأنه فيلم صامت , حركه بلا صوت , نظر السائق إليه محدثه , إلى أين وجهتك يا محترم ؟ أفاق على صوت السائق أخيراً بصعوبه وبصوت خافت مرتعش قال , لا اعرف , إلى مكتبي , ودل السائق على عنوان مكتبه .
كانت المسافة بين المشفى ومكتبه ليست بالبعيدة , ولكن زحام الطريق كلفهم بعض الوقت , نسى كل شئ خلالها , شركته , أولاده , أمه , لم يعد يتذكر غير شيء واحد , قليلا ما تذكره , ربه , نظر إلى السماء والدمع يفيض من عينيه يحدث ربه ,كيف سأقابلك , أتغفر لي , سامحني على زلاتي , لم اترك شيئاً ينفعني عندك , كنت قاسى القلب حتى مع أقرب الناس لي , أمي , أكلت أموال بغير حق , كذبت , ظلمت , لم اترك معصيه لم ارتكبها , ولكنك غفور , امهلنى حتى أصلح ما أفسدته , أتوسل إليك يا رب , كان يحدث ربه وهو ينتحب , شفتاه ترتعشان , لقد تذكر كل أفعاله لم يجد فيها ما يستند إليه عند ربه , تذكر تلك السيده العجوز التي تقابله كل صباح أمام سيارته تنظفها له بغيه أن يعطيها من فضله و كيف كان ينهرها بقسوة , ربما ما حدث لي كان من دعاؤها علىّ , لا من دعاء أمي , لا من دعاء من ظلمتهم لا لا لا , امسك رأسه بيده وأفاق على صوت السائق , وصلنا يا باشا, دفع حسابه وصعد إلى مكتبه .
مسح دموعه قبل أن يدخل مكتبه , ثم دخل بخطي هادئه , العاملون ينظرون إليه في صمت , أشار لسكرتيرته أن تتبعه ودخل مكتبه , دخلت خلفه , تستعجب هدوءه , وتحدث نفسها , ربما بسبب إجهاده , سألها قبل أن يجلس على مقعده , كيف وصلت إلى المشفى ؟ أخبرته , حملك عم إبراهيم على كتفه حتى أدخلك سيارة الشركة , قال , حتى بعد موقفي منه , قالت , هذا موقف انسانى لا يحتمل التفكير , ابتسم وكانت أول مره ترى له ابتسامه , طلب منها إحضار كشف بمديونياته التي كان يماطل فيها , أن تأتيه بكل مظلمة عنده حتى يبت فيها , وخص بالذكر عم إبراهيم , طلب منها أن يكون كل هذا غداً على مكتبه , وأن تسامحه إن كان صدر عنه شيء يؤذيها , خرجت من غرفته ضاربه كفاً بكف بعد أن وضعت ملفاً على طاولة مكتبه , فتحه فإذا به شيكاً بمليون جنيه مستحقاته عن إحدى أعماله , نظر إليه مبتسماً محدثه , كم انتظرتك طويلا وظلمت من ظلمت لأحصل عليك , ما فائدتك الآن , أتحجب عنى الموت , أتزيد من حسناتي , أتشفع لي عند ربي , أم ستنضم إلي إخوانك عندي في البنك , ثم وضع كفه على جبهته قائلاً , كم كنت جاهلا .
خرج من مكتبه , اتجه إلي أمه , محدثاً نفسه, هي الوحيده التي بيدها نفعي , ومن سواها , الآن أفكر فيها , كم من مرة مرضت ولم أعدها بحجه انشغالي بالعمل , كم من مره طلبت رؤيتي وتقاعست , سأذهب إليها , ارتمي تحت أقدامها, لتسامحني وتشفع لي عند ربي .
عاد لمنزله بعد زياره أمه منهكاً, مصفر الوجه ,عيناه زائغتان , تجنبته زوجته كعادتها خوفاً من بطشه , ولكن انتابها العجب , لأول مره يدخل منزله دون أن تسمع صياحه , وزادها العجب عندما اتجه إلي غرفه نومه , تمدد علي مرقده , يقرأ في المصحف وبصوت مرتفع , تختلط القراءة بالبكاء , ظنت أن زوجها أصابه مس من الجنون , كان يخشي أن يغلبه النعاس قد لا يستيقظ قبل أن يصلح جزءاً مما أفسده , لكنه سلطان وله الغلبة ,
انتفض من نومه على صوت الهاتف , نظر حوله نظرات زائغة , تحسس جسده , حدث نفسه ,لازلت حياً, لازلت حياً لعل ربى أمهلني يوماً آخر , كان الطبيب علي الطرف الآخر , سأله , أين ذهبت بالأمس يارجل ؟
أأتركك لحظات ثم أعود فلا أجدك!!! , رد عليه , وماذا تنتظر من رجل ميت , ضحك الطبيب بصوت مرتفع استفزه , فيما كل هذا الضحك , أتشمت فيّ ؟ كنت اتوقع ذلك , قال له الطبيب , مجرد إرهاق أصبح موتاً, قفز من علي مرقده قائلا, أعد ما قلت , قال مجرد إرهاق هذا كل ما في الأمر , قص عليه ما سمعه البارحة من الممرضتان , فزاد الطبيب من ضحكه قائلا , لم تكن أنت المقصود .
دخل غرفة مكتبه , اتجه إلي حيث وضع الشيك يبحث عنه بين الأوراق بتوتر حتى وجده , تنفس الصعداء, جلس علي مقعده وضغط على زر جهاز المناداه الداخلي ,دخلت السكرتيره ولكن دون توترها المعتاد , وضعت البريد أمامه بعد أن جهزت كل طلباته , تصحّف البريد , نظر لها من أعلى النظارة متسائلاً , ما هذا ؟ قالت , هذا طلب عم إبراهيم , فضرب وجهها بالبريد صائحاً , أغربي عن وجهي ,,,
تمت,,,,