كاتب الموضوع :
زهرة منسية
المنتدى :
سلاسل روايات احلام المكتوبة
رد: 383 - همسات الندم - جين بورتر
ما أن عادت جويل من الجهة الخلفية للنادى حتى هب ليو من مكانه واقفاً قبل أن تصل إليه . كانت قد أزالت المساحيق التجميل القوية و استبدلتها بزينة بسيطة . كما بدلت ملابسها أيضاً فارتدت بنطلوناً من الجينز وقميصاً حريرياً طويلاً ذا لون عاجى مع شريط ناعم محيط بالعنق . بدت بمظهرها هذا و بساطة هندامها أصغر بكثير من عمرها الحقيقى.
شعر ليو بعد رؤيتها بهذا الشكل بأن جسده يرتجف و كيانه ينقلب .
أصبح مزاجه على وشك الانفجار و أدرك بألم بأن لا شئ سيعود بينهما كما كان فى السابق بعد هذه الليلة.
شعرت جويل وهى تقترب من الطاولة بأن ليو يراقبها فرفعت نظرها ببطء و أجبرت نفسها على لقاء نظرته الثابتة المتفحصة .
ما إن التقت عيناها بعينيه حتى ضاقت نظراته الثابتة و راح يتفحصها ببطء فرأت جويل صورتها من خلال عينيه . رأت شعرها الطويل المنسدل و قميصها البسيط وبنطلونها الجينز الضيق ذا اللون الباهت و صندالها الذى يكشف عن أصابع قدميها .
غادرا المكان سوياً إلى الخارج فأخذت جويل نفساً عميقاً و قد شعرت براحة مفاجئة .
لقد أحبت منتديات ليلاس نيو أورلينز . أحبت تلك السنة التى أمضتها فى الولايات المتحدة. و لكن أكثر ما أحبته فى هذه المدينة هو أنها تمكنت من العيش كإنسانة حقيقية , إنسانة عادية . لم تعد تذكر متى بدأت تشعر بفقدان الحماسة لطبيعة حياتها الملكية . ولكن بعد رحيل شقيقتيها فى السنوات الأخيرة الماضية ازداد كرهها لهذا النمط من الحياة بسبب الملل و الرتابة.
كرهت ارتداء تلك الفساتين و القفازات كما كرهت الابتسامات اللا متناهية للضيوف دوى المقامات الرفيعة . فهى لم تحب يوماً الرسميات و الاستقبالات الملكية الجامدة و المناسبات العامة التى تستغرق وقتاً طويلاً .
أختها شانتال كانت تبلى حسناً فى أمور كالمصافحة و تقبيل الأطفال , ونيكوليت الذكية السريعة البديهة كانت لبقة جداً أما جويل فلطالما وجدت فى الاهتمام الشعبى و العام متطلبات دائمة و صعبة . والآن بعد وفاة جدتها أصبح العبء أكبر بكثير مما تستطيع احتماله.
أفتقد جويل جدتها كثيراً. و بعد وفاتها لم تستطيع أن تنهض من السرير لم تستطيع مواجهة الناس لم تحتمل أن تبتسم بطريقة رسمية و متكلفة فكيف باستطاعتها الابتسام و قد فقدت الشخص الوحيد الذى أحبها و أهتم لأمرها , بالرغم من كل شئ ؟ كيف يمكن ان تبتسم و قد فقدت الشخص الذى اعتنى بها و أشعرها بالراحة طوال تلك السنوات بعد وفاة و الديها؟
جدتها الشخص الوحيد الذى أدرك كم عانت جويل لكى تحتمل ضغط الحياة الملكية و أنها لا تزال تعانى من فقدانها و الديها, وأنها فى أعماقها لا تزال تأمل ـ و أن كان ذلك أملاً غريباً ومستحيلاً ـ بأنها يوماً ما ستصطدم بهما و هما يتجولان فى مكان ما لكى يجتمع شمل العائلة من جديد كما فى الماضى الذى أفتقدته بيأس.
والآن و بعد رحيل جدتها توقع الجميع منها أن تبدأ بالتصرف كالكبار....غداً سوف تكون على متن الطائرة عائدة إلى ديارها إلى ميليو إلى واجباتها و مسؤولياتها . هذا هو ما عليها القيام به فـ نيكوليت تحملت واجباتها تماماً و كذلك فعلت شانتال . والآن على جويل أن تقوم بدورها أيضاً من أجل جدتها و جدها , وإن لم يكن من أجل بلادها التى تحبها.
أخذت نفساً عميقاً وهى تستمع إلى وقع خطواتهما على الرصيف فيما هما يسيران بصمت . كان مطعم(برينان) مباشرة أمامهما فهو لا يبعد مسافة كبيرة إنه على بعد بناية واحدة فقط . وكان القمر غير المكتمل قد أضفى على الشارع والأبنية نوراً شاحباً.
ليلة الغد سوف تكون فى ديارها. و بعد أسبوع من الآن ستُقام حفلة عيد ميلاد جدها , احتفالاً ببلوغة الخامسة و الثمانين . وبعد أسبوعين من ذلك يحين موعد زفافها . بعد ثلاثة أسابيع سوف تصبح صاحبة الجلالة الأميرة دوكاس بوغارد
ــ أين تعيشين؟
ــ أقطن على مسافة ست أو سبع بنايات من هنا .
ــ وتسيرين هذه المسافة كلها لوحدك؟
دلت نبرة صوته على عدم استحسانه لما تقوم به.
توقفت جويل فى منتصف الطريق و الغضب يتصاعد فى داخلها و قالت له:"بما أنك لا توافق على كل ما أقول أو أفعل , فهل أستطيع أن أعلم لماذا قمت بدعوتى إلى العشاء؟"
غمرتها أضواء مصابيح الشارع القديمة الطراز و أظهر طول ليو الفارع كما سطح الضوء الأصفر الشاحب على جوانب وجهه فبدا قاسياً فخوراً بنفسه....بدا رجلاً إيطالياً حقيقياً.
ــ إننى أحاول أن أفهمك
ــ وهل هناك الكثير لتفهمه ؟ إننى أبلغ من العمر 22 سنة . ناجحة عملى ومستقلة . أفعل ما أريد و أذهب حيث أشاء و أتخذ قراراتى بنفسى.
تمتم ليو شيئاً باللغة الإيطالية و لكنها لم تفهم ما قاله بل التقطت أذنها بعض الشتائم قبل أن يقول بنبرة صوت غير مفهومة :"أنت لا تعلمين شيئاً"
أصبح مطعم برينان أمامهما مباشرة الآن و قد بدت واجهته الخارجية مطلية بلون زهرى باهت . قام ليو بفتح الباب ذى اللون الأخضر الداكن و ظل ممسكاً به مفسحاً المجال لـ جويل لكى تدخل . و عندما تحركت لتمر أمامه شعرت بتيار من الرهبة يغمر كيانها كما أحست بوخز فى جسمها بدءاً من رأسها حتى أخمص قدميها و كأن بشرتها غدت سريعة التأثر بشكل مؤلم.
رمقته جويل بنظرة خاطفة ملؤها الحذر و هى تتساءل مجدداً لماذا يملك هذا التأثير عليها ؟ إنه فارع الطول و ينضح بالقوة و الحيوية و لكن ليست مقايسية الجسدية هى السبب بل تلك الطاقة التى تنبع من داخله.
ما إن وصلا إلى الطابق العلوى حتى اجلستهما المضيفة فى غرفة بدت لـ جويل من أصغر غرف الطعام حجماً . وقد طُليت بلون أحمر غامق و هى ذات نوافذ مرتفعة فرنسية الطراز تطل على فناء داخلى تكسوه الحشائش الخضراء.
ألقيا نظرة سريعة على لائحة الطعام قبل أن يقوما بطلب ما يرغبان به من مأكولات. قام النادل أولاً بتقديم حساء لويزيانا . ومع أن جويل كانت تتضور جوعاً إلا أنها بالكاد استطاعت أن تضع معلقة واحدة فى فمها.
هناك فرق كبير بين أن تجد رجلاً شديد الجاذبية إلى درجة تجعل القلب يتوقف عن الخفقان و أن تضطر للجلوس أمام هذا الرجل مباشرة و تناول الطعام معه.
لاحظ ليو بأن جويل بالكاد تذوقت حساءها . استقرت نظرته الثابتة القاتمة على وجهها و سألها :"ما الأمر ألا يعجبك طعم الحساء؟"
آهـ يا إلهى ! إنها تشعر بأنها تائهة تماماً و إلى أبعد حد....
ــ بلى أنه شهى ولذيذ
قالت جويل هذا و هى تجبر نفسها على تناول معلقة أخرى من الحساء, إلا أنه راح يراقبها بانتباه. ولهذا كانت المعلقة الثانية أصعب من الأولى.
ــ إذن ما الأمر؟
دفعت جويل بشعرها إلى الوراء متمنية لو أنها قامت بربطه و لكنها تأخرت على هذا الآن . كما تأخرت أيضاً على التخلص من دعوة العشاء تلك. لقد بدت فكرة تناول الطعام فى مطعم برينان مثيرة جداً طالما كانا ما يزالان فى النادى الأزرق أما الآن....
ما لاذى يحصل لها ؟ و لماذا تشعر بالضياع و بأن الأمور مختلطة عليها بهذا الشكل؟ قام هذا الرجل بالبحث عنها منذ بداية الأمسية و راقبها طيلة السهرة . ثم دعاها للانضمام غليه و الجلوس معه. لِمَ تراه فعل كل هذا؟
ــ أتعلم ليو؟ أعرف بأنك لا توافقنى على كل ما أقوله مع أننى لا أعلم ما هو السبب فى ذلك . ربما لأننى لا أفهم ماذا أو من تعتقدنى لكننى أؤكد لك بأننى ليست امرأة عابثة , كما أننى لا أدخن أيضاً . وكما ترى فأن جسدى لا تغطيه الأوشمة أو أقراط الحلق. أنا فقط أحب الغناء لا أكثر.
نظرت جويل إليه و التقت نظرتها الثابتة بنظرته قبل أن تتابع كلامها قائلة :"كما أننى أحب أن أستمتع بوقتى"
تدلى شعرها الطويل الداكن إلى الأمام فيما كانت تضم قبضة يدها اليمنى و هى تضعها على الطاولة و غدا صوتها متقطعاً أجش وأكثر عمقاً
لم تفارق نظرتها الثابتة نظرته و هى تسأله قائلة :"من الواضح بأن هناك الكثير من الأشياء التى لا تعجبك فىّ . ولكن ألا أملك أى شئ قد ينال إعجابك؟"
شعر ليو بالتوتر بسبب هذا السؤال الاستفزازى . أتكأ إلى الوراء على كرسيه و هو يلاحظ ابتسامتها الصغيرة المشدودة و الغضب البارد فى عينيها الزرقاوين المائلتين إلى الخضرة.
أجابها بفظاظة :"بلى أن عينيك جميلتين جداً"
تعرف جويل أنها تملك عينين جميلتين ذات رموش كثيفة و طويلة و قد بدت رموشها الآن أطول و أكثر كثافة و هى تضع رموشاً اصطناعية على الأطرف
ــ شعرك
تجولت نظرته المتفحصة على شعرها الطويل ذى اللون الداكن. شعر برغبة فى أن يمرر يده بين خصلاته و يشعر بملمسه الناعم المصقول.
أترأها توافق على الذهاب إلى جناحه فى الفندق؟ هل توافق على مرافقة رجل غريب قبل ثلاثة أسابيع من زفافها؟ سيقول لها إن المكان هنا خانق و إن بإمكانهما تمضية بقية الأمسية هناك على الشرفة.
شعر ليو بأنه قاسٍ و عنيف . ولكنه بحاجة إلى معرفة الكثير من المعلومات عنها. فهناك الكثير مما لا يعرفه أو يفهمه.
ــ وهل هذا كل ما يُعجبك فىّ؟
منتديات ليلاس
شعر بصدره ينقبض و بجسده يتقلص و يصبح مشدوداً جداً . أصبحت الأمور أكثر تعقيداً , فهو لا يعلم ماذا قال بالتحديد أتراه قال أكثر مما ينبغى؟أتراه قد أستسلم لسحرها دون ان يدرى؟
ظل ملتزماً الصمت فيما راح يفكر و يزن ويقيم الأمور برمتها . قام بتنسيق و موازنة تصرفاته و ردات فعله , متفحصاً داوفعه . إذ قام بإطلاعها على هويته الحقيقية سوف تتغير أمام عينيه وتصبح شخصاً آخر . فهو يعلم بأنها ستقوم بإخفاء شخصيتها الحقيقية لكى تصبح الأميرة دوكاس . ولكنه لن يقبل بأى غموض من ناحيتهابل يريد الحقيقة الكاملة . أراد أن يعرفها على حقيقتها....أراد أن يتعرف ليس فقط على الجانب الجيد منها و إنما السئ و البشع كذلك.
إنه يحتاج إلى معرفة الحقيقة الآن . تلك الحقيقة التى تدحض الإشاعات و تقضى على كل الأكاذيب و الادعاءات . أراد الحقيقة لكى يعلم من هى المرأة التى سيتزوج بها.
من المفترض أن تكون تلك الفتاة البريئة أما هو...فمن المفترض أن يكون ذلك الأمير المترفع الذى يتمتع بأخلاق عالية. لكن لسوء الحظ لم تجر الأمور كما خطط لها تماماً.
ــ لا
أجابها ليو بنعومة و عيناه تحتويانها و تخبرانها بشوقه إليها و أكمل قائلاً :"أنا لا أهتم لجسدك فقط و أنما لعقلك أيضاً"
نهاية الفصل الثانى
|