كاتب الموضوع :
عهد Amsdsei
المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
رد: د. أحمد خالد توفيق يكتب.. رسائل المحبة (6)
د. أحمد خالد توفيق يكتب.. رسائل المحبة (الأخيرة)
بدأ يحاول أن يحشر جسده عبر النافذة (رسوم: فواز)
تشاك! كليك!
سمع حمدي الصوت، وهو بالطبع رجل أمن محترف أطلق الرصاص مئات المرات في التدريب وسواه، ويعرف معنى ما يسمعه..
جلب كومة الصحف.. ووضعها تحت النافذة، ثم تسلق عليها ليصل إلى النافذة الضيقة.. لحسن الحظ أنها غير ذات قضبان.. فقط عليه أن يهشّم الزجاج ويحشر جسده من خلالها. بالفعل لفّ المنديل حول قبضته بعناية، ولكم الزجاج بأعنف ما استطاع، وهو يغمض عينيه ويضغط على أسنانه.. شم رائحة المطر والبلل من الخارج.. وقدّر أنه سيفلت.. فقط لو تأخر هذا القاتل ثلاث دقائق أخرى..
بدأ يحاول أن يحشر جسده عبر النافذة..
تبا!! ضيقة جدا.. لكنه سوف يفعل ذلك..
هذا هو الزقاق.. هه.. هه... ضيق جدا...
أرنب يحاول الفرار عبر شق ضيق في عشة الدجاج عند جدته.. هل ينجح؟
لكن الوضع بالخارج كان مثيرا فعلا.. رسائل المحبة قد ذهبت في كل صوب.. إنه يرى بوضوح..
يرى تلك السيدة التي تقف في نهاية الزقاق، وقد ابتلت بمادة ما.. ربما الكيروسين.. تصرخ.. هناك شعلة تسقط فوقها من عل.. في اللحظة ذاتها هناك من يحمل (مخرطة) ملوخية يطوحها في كل صوب ليطير الرقاب.. رقاب من؟ هناك أربعة رجال التحموا في قتال عنيف..
وفي الآن ذاته تطلق سيدة طلقة نارية على رجل في طرف الزقاق الآخر.. كل شخص قد وجد سلاحا ما.. وكل شخص يستعمله..
رسائل المحبة! تبا! الكل تلقى رسائل المحبة.. إنه الجحيم.. أبوكاليبس.. سفر الرؤية يتحقق.. مارس إله الحرب قد صحا من نعاس عميق، وقرر أن يعمل قليلا، والأرنب لا يستطيع التملص..
هذا مأزق..
أين رجال الشرطة؟ لقد أرسلهم اللواء جابر منذ فترة، فهل هم لم يقدروا على اجتياز الزقاق؟ هل هم متورطون في تخليص المشاجرات أم إن يوم القيامة هذا امتدّ لهم؟ ربما يفتك رجال الشرطة ببعضهم الآن...
في هذه اللحظة شعر بيد قوية تطبق على ساقه..
هذا موقف لعين بحق.. أن تجد نفسك محشورا في نافذة ضيقة، ونصفك الخلفي تحت رحمة مجنون يحمل مسدسا.. هذا موقف غير محبب، والأسوأ أنها ميتة غير أنيقة؛ لأن الطلقة سوف تستقر في.....
طاخ!..
أدرك أنها استقرت هناك في أسفل ظهره.. سوف يقضي العمر مشلولا لو عاش، لكنه ابتسم، وسال ماء المطر على وجهه مدرارا.. لن يتوقف صاحب المحل عند هذا.. بالتأكيد سوف يطلق رصاصة فعالة أخرى تنهي كل شيء.. لن يدوم الشلل..
طاخ!!
هذه هي!
*****************************
عندما خرجنا من مكتب المأذون كانت أناملنا متعانقة..
شقتي كانت قريبة، وقد ابتعت بعض الشطائر من محل تيك أواي.. ثم صعدنا في الدرج.. لو رآنا أحد فلن يصدق أننا زوجان حديثان، وأن هذا حفل زفافنا..
لقد توقفت الأمطار.
الآن أعرف اسمها وهي تعرف اسمي.. ما كنا لنتزوج من دون بطاقتي هوية.. لن أخبرك بالاسمين.. يكفيك أن تعرف اسمي لمياء ونصر.
لم أسألها عن أسرتها ولم تسأل عن أسرتي.. لا قيمة للماضي ولا الحاضر.. المستقبل هو الشيء الوحيد أمامنا وهو مظلم عطن كالقبور..
لماذا تزوجنا؟
لأننا شعرنا بالوحدة.. كل واحد فينا موصوم وحيد.. يحمل لعنة القرون. كان لا بد أن نمزج خوفي وخوفها معا.. عندما نموت لن نموت ونحن نرتجف مذعورين وحيدين..
أنا وأنت ضحيتان لقوى لا نفهمها..
أنا وأنت منبوذان خطران يجلبان الموت..
كنا نلتهم الشطائر، ومن حين لآخر أخرج قطعة دجاج من شطيرتي لأدسها بين شفتيها.. تمد يدها في شطيرتها وتفعل الشيء ذاته، وتنظر لي في ثبات.. ما أجمل عينيك!!
أرى نفسي في عينيها.. أنا جميل.. برغم تلك الوصمة على جبيني.. هي رائعة الحسن..
أنا مرهق..
هل توقفت الأمطار بالخارج؟ لا بد أنها كذلك..
*****************************
وفي الصباح شربنا الشاي باللبن والتهمنا شطائر الفول والفلافل، ووقفتْ أمام المرآة تصلح من زينتها وتضع المساحيق على جبينها، كما وضعت المساحيق على جبيني..
مدت يدها تتناول الخطاب مني:
"الأربعاء 3 مايو..
استعدي لقتل رجل في الثامنة مساء...
مع فائق الاحترام".
نظرت له وابتسمت، ثم مدت يدها في حقيبتها وأخرجت خطابا آخر.. الخطاب الذي يدعوني للموت.. وأعطته لي..
تناولت الخطاب وابتسمت لها..
كنا نعرف الآن أننا سنقتل بعضنا.. أين؟ لا نعرف بعد.. لكن سيكون الأمر في ملعب رياضي أو نادٍ أو استاد كبير.. على الأرجح لأن هذا يجعل المشهد أقرب لمباريات الموت الرومانية في الـ Arena..
قالت وهي تحمل حقيبتها وتتجه للباب:
ـ "سلام.. لا تقتلني ببشاعة من فضلك.. لا داعي للذبح والحرق.. استعمل الرصاص".
كان من الواضح أن السم غير وارد في القائمة.. لا بد من أساليب عنيفة انفعالية.
قلت باسما:
- السلاح الناري أو المطرقة على الرأس أو الدهم بسيارة.. يجب أن نلتزم بهذه الأساليب.. أعرف أن النساء يقتلن بطرق أبشع من الرجال، لكن عليك أن تغيري طبعك من أجلي.
ما أغربها محادثة.. لكن منذ متى يمر المرء بأشياء مألوفة؟
*****************************
كانت هناك بقعة من الرماد يتصاعد منها دخان أحمر غريب (رسوم: فواز)
الأربعاء 3 مايو...
الثامنة مساء..
كنا نقف الآن أمام باب الدكتور فكرون..
بوضوح لمحت حقيبتها مفتوحة.. وأدركت أنني أرى مقبض الشاطور يطل منها، بينما كانت الطبنجة التي ابتعتها من ورشة في زقاق تثقل جيبي..
رأت ما رأيته وفهمت نظراتي، فقالت:
ـ هل سوف تقتلني الآن؟
ساد الصمت.. تحسست المسدس للحظات ثم نظرت للأرض..
ـ "لا تستطيع.. أليس كذلك؟
ـ بلى.. وأنت.. كل ما تحتاجين له هو أن تقبضي على الشاطور وتهوي على رأسي".
ـ مستحيل..
ـ أعتقد أن الحب ولد بيننا.. ثمة علاقة روحية جعلت التنفيذ صعبا.
قلت لها وأنا أطوّق كتفها بذراعي شاعرا أن هذه الفجوة موجودة هنالك منذ الأزل من أجلها.. نفس الحجم.
ـ لقد بحثت.. وعندي ألف سؤال.. الحقيقة هي أنني أشك في فكرون نفسه..
اتسعت عيناها في رعب فقلت:
ـ هذا الرجل مستجدّ على الساحة وعلى الجمعيات الروحانية من فترة قريبة جدا.. لا أحد يعرف من أين جاء، ولا أين كان قبل ذلك.. الحقيقة هي أنني أعتقد أن هذا الرجل مصدر الخطابات..
ـ وما مصلحته؟
ـ لا أعرف..
ـ "ما حدود قدراته؟ كيف تصل الخطابات لمستحقيها؟ وكيف تصل لنا؟ هل هو قادر على صنع تلك العلامة الحمراء؟".
قبل أن أرد سمعت الباب ينفتح.. يبدو أننا تكلمنا بصوت عالٍ نوعا.. الدرس الأول لدى التعامل مع الأمور الخارقة للطبيعة -هي ألا تفصح عن خواطرك أمام باب أحد الخبراء.. سوف يسمعك حتما..
كان هذا وجه فكرون وقد سقطت الظلال عليه، فبدا لا ينتمي لهذا العالم.. وجه طوطم قديم منسي حافل بالأسرار.. قال لنا وهو يفسح الطريق:
ـ "لم تستطيعا قتل بعضكما.. كان يجب أن أعرف هذا.. استنتاجاتك جيدة لكنها ناقصة جدا..".
عندما جلسنا بالداخل طلب من رامز أن يعد لنا بعض الشاي.. طبعا لم تكن عندي أي نية لشرب شيء في هذا البيت بعد الآن.. لكن فكرون أشعل سيجارا ووضع ساقا على ساق، وقال:
ـ "أنتما تعتبران هذه الخطابات شيئا مخيفا بغيضا.. الحقيقة عكس ذلك.. منذ أعوام جاء إلى الأرض كيان.. لن أشرح ما هو لكنه خير خالص، وكانت مهمته هي أن يعاقب المجرمين الذين أفلتوا من القانون.. كانت لديه قائمة ممتازة.. المدرس الذي يتحرّش بالمراهقات البريئات اللاتي يأتين لبيته لتلقي درس خصوصي.. طبيبة التوليد التي مارست الإجهاض وترقيع البكارة مرارا مقابل مال وفير.. لاعب كرة على علاقة بأخت زوجته.. ضابط مرتشٍ يخفي الأدلة أو يزيفها.. كل هؤلاء مجرمون.. وكلهم يخفون مخالبهم ويبدون للمجتمع ملائكة.. لقد حاكمهم وأصدر عليهم الحكم بالإعدام.. وطريقة الإعدام لديه هي أن يحتشدوا في ساحة واسعة ويذبحوا بعضهم.. حركات تطهير مستمرة".
تساءلت في حيرة وأنا أزيح الشاي جانبا:
ـ "وما دورنا نحن؟".
ـ "لم يكن هذا الكيان قادرا على تنفيذ المهمة وحده.. لا بد من موزّعين يحملون رسائله وينقلونها بقوى نفسية إلى المحكوم عليهم.. هؤلاء الموزعون يجب أن يكونوا شديدي النقاء والطهر.. هذه شهادة لكما بأنكما نقيان كالثلج.. أنتما تتلقيان الخطابات دون أن تعرفا ذلك، وتوزعانها من دون أن تشعرا.. ومع الوقت تظهر بقعة حمراء صغيرة على جبين كل واحد منكما".
هنا تساءلت لمياء، وقد قررت الوقوف بسبب توترها:
ـ "إذن أنت من يكتب الخطابات ويرسلها!".
قال باسما بطريقته السمجة:
ـ "أنتما لا تفهمان شيئا.. أنا أريد أن تتوقف هذه الخطابات بأي ثمن!".
رأى عدم الفهم على وجهينا، فقال:
ـ "كنت أريد أن أعرف من هم الموزعون الذين اختارهم الكيان.. لهذا قدّمت هذا العرض الساحر وتكلمت عن الشيطان الذي يرسل رسائل.. وجعلت الورقة تحترق بهذا الشكل الصبياني.. كنت أعرف أن الموزعين سوف يعرفون ويأتون.. لن يقاوموا فضولهم لفهم ما يدور وما يحدث لهم.. وكنت آمل أن أقنعهم بقتل بعضهم.. لكن من الواضح أنني فشلت في ذلك".
ونهض وسحب الدخان من السيجار، ثم أطلق سحابة كثيفة، وقال:
ـ "ربما هو الحب.. لا أعرف بالضبط..".
وفي اللحظة التالية توارى في غرفة داخلية..
كان رامز يقف هناك على باب الغرفة، وقد بدا ككلب (بيت بول) يحاول حماية سيده. صحت فيه:
ـ "أنت تعرف هذا من البداية ؟".
قال في عصبية:
ـ "لا.. ولا أفهم حرفا مما تتكلمون عنه.. لكني أعرف شيئا واحدا.. أنتما لن تضايقا د. فكرون!".
حاولت أن أبعده فوجّه لي لكمة أطارت الشرر من عيني.. جاوبته بلكمة مثلها، والتحمنا في صراع عنيف.. سقطنا على أريكة وضربت رأسه في الجدار مرارا.. أخيرا همدت حركته وبدا أنه فقد الوعي أو مات.. لا وقت لفهم هذا..
قالت لمياء وهي تلهث:
ـ "لكن من هو فكرون إذن؟".
قلت لها وأنا أسعل وألملم ثيابي، وأنهض من فوق ضحيتي:
ـ "شخص يهمه أن تنقطع خطابات المحبة.. شخص يهمه أن تتوقف عملية القصاص هذه.. شخص يقدر على أن يرسم علامات حمراء على جبيننا ويحرق ورقة فتتخذ شكل رأس الشيطان..".
وتراجعت للخلف، ثم وثبت لأضرب الباب بقوة بكتفي... لم أجرب إن كان موصدا أم لا.. والحقيقة أنه لم يكن كذلك.. لقد انفتح على الفور..
وليتني لم أرَ ما رأيته..
في وسط الغرفة لم يكن هناك د. فكرون.. كانت هناك بقعة من الرماد، يتصاعد منها دخان أحمر غريب الشكل.. ورحنا نسعل بسبب رائحة ثاني أكسيد الكبريت.. نسعل حتى بعدما فتحنا النوافذ؛ ليدخل الهواء النقي.
تمّت
|