لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > قسم الارشيف والمواضيع القديمة > الارشيف
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

الارشيف يحتوي على مواضيع قديمة او مواضيع مكررة او محتوى روابط غير عاملة لقدمها


المُغرمون بالسمَاء ! - رواية -

|| الجــزء الأول || " إنها مختلفة ! " ذات مساءٍ هادئ ، تحديداً في الوقت الذي تشرف فيه الشمس على المغيب ، كنتُ قد أديت صلاتي

 
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 29-08-12, 08:19 PM   المشاركة رقم: 1
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Aug 2012
العضوية: 245408
المشاركات: 6
الجنس أنثى
معدل التقييم: ثلجية ! عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 25

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
ثلجية ! غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

المنتدى : الارشيف
افتراضي المُغرمون بالسمَاء ! - رواية -

 

|| الجــزء الأول ||


" إنها مختلفة ! "


ذات مساءٍ هادئ ، تحديداً في الوقت الذي تشرف فيه الشمس على المغيب ،
كنتُ قد أديت صلاتي في حجرتي نظراً للوعكة الصحية التي أمر بها حالياً ،
مما حرمني مرافقة أبي و شقيقي الأكبر ياسر إلى المسجد ...
حقيقةً سئمت الإعتكاف بين هذهِ الحيطان الأربعة !
لذا عزمتُ على مشاركتهم ارتشاف الشاي بعد قليل ، لعلّي أروّح عن نفسي لبرهة من الزمن .
جررتُ خطواتي الواهنة مستنداً على جدار الردهة متجهاً نحو غرفة المعيشة ،
كانت أمي ترتب أطباق المعجنات و شيئاً من الحلوى ، تساعدها شقيقتي الكبرى هالة ،
مجرد أن انتبهت لوجودي باغتتني قائلة :
- أوه عزيزي ، ألم أخبرك ألا تبرح فراشك ، لا زلتَ مريضاً لم تتعافى بعد !
و أقبلت نحوي تمسك ذراعي و تحثني على الجلوس ،
قلتُ بصوتٍ أشبه بالفحيح :
- لا بأس أمي ، مللتُ الإستلقاء وحيداً !
و أخذت تتحسس جبيني بقلق ...
نظرت إلينا هالة وعقبت :
- دعيه أرجوكِ ... لابد و أنه يشعر بالضجر !
ردت أمي في هلع جليّ :
- يا إلهي ! حرارته لم تنخفض ... يا حبيبي يا بني ... انتظر سأجلب كماداً بارداً !
أغمضت عينيّ في وضعٍ مستسلم ... متهالك ... خائر القوى ...
الآن ...
شعرتُ بيد أخرى تتلمسني ! هل نسيت والدتي يدها على رأسي بينما ذهبت إلى الداخل ؟!
فتحت جفنيّ بجهد مستميت ، فإذا بها هالة !
قلتُ بنفاذ صبر :
- ماذا هناك ؟!
ردّت مازحة :
- لا شيء ... أتأكد ما إذا كان دماغك قد وصل لمرحلة الغليان !
صحيح أن أطرافي كانت مخدرة و عاجزة تماماً ، إلا أن شفتي لم تكن كذلك ،
اكتفيت بضحكة مكتومة جعلتها هيَ الأخرى تضحك بمرح ...
ثم عادت لتجهيز أكواب الشاي بينما تدندن ...
قليلاً فقط ...
و إذا بأمي قادمة تحمل إناءاً مملوءاً بالماء و قطع الثلج ، و جلست إلى جواري ،
ثم شرعت بتمرير قطعة مبللة على عنقي و صدري و أطرافي ،
يا للراحة !
قلت بامتنان :
- شكراً أمي ، أتعبتكِ كثيراً !
ردت مقاطعة :
- لا تقل هذا عزيزي ، أنتَ ابني المدلل ، بمن أعتني إن لم أعتني بك ؟!
التفتت إلينا هالة بامتعاض و قالت متهكمة :
- على هونكِ أماه ... كيلا يتبخر !
في الواقع ...
كنت فتى مميز لدى أمي الحبيبة ،
دللتني كثيراً للحدّ الذي جعل إخوتي يستشيطون مني غيرةً في أغلب الأحيان ...
في ذات اللحظة وصلنا صراخ شقيقتي الصغيرة رنيم ... كم أمقت بكاء الأطفال هذا !
قالت أمي موجهةَ الحديث لهالة :
- اذهبي إليها و افعلي ما يلزم بينما أعتني بأخيكِ ... هيا يا ابنتي بسُرعة !
- حسناً ...

ذهبت بعد أن رشقتني بنظرة تذمر ... لكنها تضحكني باستمرار في كل مرة أراها !
لا بأس ...
نحنُ متعادلان !
هيَ تفردت بأبي و أنا بأمي ...
أما كبيرنا ياسر و صغيرتنا رنيم فهما الضحية !
بالمناسبة ...
ياسر هو أكبرنا ...
شخص قليل الكلام و صامت في الكثير من الأوقات ، مسالم جداً و هادئ الأعصاب ،
على العكس مني تماماً ! يسبقني في العمر بخمس سنوات تقريباً ...
تليه هالة ، تصغره بسنتين ، فتاة أبيها المدللة !
ذات شخصية قوية و صريحة جداً ، لكنها في المقابل عطوفة
و لو كانت تحاول إخفاء ذلك خلف ستار من القسوة و التمرد أحياناً ...
جاء دوري ... و الذي سأترك لكم أنتم الحكم عليه فيما بعد !
أخيراً ... رنيم ...
الفارق بيننا خمس سنوات كذلك ...
بيد أني ما زلت متشككاً ! أظنها لم تتجاوز مرحلة المهد بعد نظراً لبكائها المتواصل !
رغم أنها كبرت على هذا !
لماذ يبكي الصغار حين يستيقظون من النوم ؟!
أنا حقاً لا أطيقهم ، و لا أجيد التعامل معهم ...
كان اللهُ في عون الأمهات !

*****

ها قد عاد أبي و ياسر ...
ألقيا التحية و جلسا بالقرب مني أنا و والدتي ،
لاحقاً جاءت هالة تحمل رنيم الصغيرة و انضما إلينا ...
و تحلقنا حول مائدة الشاي ...
قال أبي متظاهراً بالمفاجأة :
- أوه عادل هنا ؟! متى قررت مغادرة السرير ؟!
ثم أردف مداعباً :
- هل حصلت على الإذن بالخروج ؟!
قلت :
- خرجت لأن أحداً لم يأتِ لزيارتي !
ثم ضحكنا جميعاً ...
بعد أن تبادلنا عدة أحاديث ...
ياسر قال :
- ثمة جيران جدد سوف يسكنون في المنزل المقابل لمنزلنا ...
قال والدي :
- نعم ... عُرض للبيع منذ مدة إلا أن أحداً لم يقبل عليه
تبعاً لسعره الباهظ و مستواه المتوسط ، ربما صاحبه تنازل بشيء من القيمة !

قالت هالة :
- مذهل ! أرجو أن يكون لديهم فتاة في مثل سني ، حتى نلهو سوياً !
عقبتُ أنا بسخرية :
- الناس تهوى جمع الطوابع ، لا جمع الزميلات !
جميعهم ضحكوا باستثنائها ...
- هه ... كم أنتَ ظريف !
قالتها بازدراء و أشاحت بوجهها ...
صدقوني لست أبالغ ! فهالة مهووسة بزميلاتها
و تحب أن تتباهى أمام أي مخلوقة تصادفها أو تتعرف عليها !
حقيقةً عالم الفتيات آخر العوالم التي أفكر الغوص فيها ...
أردف ياسر :
- لا تتأملي كثيراً عزيزتي ، لديهم فتى في سن عادل و أخرى صغيرة ...
هالة قالت بخيلاء :
- لا يهم ... لديّ الكثير منهن ، فقدان واحدة لن يضر!
التفت أبي إلى أخي و قال :
- و لكن كيف علمت بذلك ؟!
ياسر أجاب فوراً :
- صباح اليوم ، بينما خرجت لأشتري غرضاً من محل التموينات ،
شاهدت شاحنة كبيرة تحمل أثاثاً و حاجيات أخرى و كان برفقة العمال رجل يوجههم
فاستنتجت أنه الصاحب الجديد للمنزل ...

قاطعته أمي قائلة :
- إذاً فهناك من اشتراه بالفعل !
ياسر تابع :
- نعم ! ... ثم أني سلمت عليه و سألته إن كان يرغب في المساعدة
لكنه شكرني و أوضح أن كل شيء على ما يرام ، تبادلنا محادثة قصيرة لعدة دقائق
أخبرته فيها أننا بالخدمة إن احتاجوا لشيء ما و دللتهُ على منزلنا
ومنها أخذت نبذة سريعة عن أفراد عائلته ... هذا ما حصل !

أبي قال بفخر :
- حسناً فعلت يا بني ، باركك الله !
شاركتهُ أمي بزهوّ :
- هذا رجلي الذي أعرفه !
قال ياسر فيما يوجه كلامه لوالدي :
- لابد و أن تدعوهُ يا أبي يوماً ما ، يبدو أنه رجلٌ طيب !

- بالتأكيد ... لكن لندعهم يستردون أنفاسهم لبعض الوقت ...
ثم التقط جهاز التحكم و بدأ يقلب في قنوات التلفاز ...
أما أنا فقد اشتعلتُ حماساً لمقابلة ذلك الفتى !
بمجرد أن أتعافى لن أفوت تلك الفرصة ...
بالأخص و أن صديقي المقرب بدر قد رحل مع عائلتهِ مؤخراً إلى مدينة أخرى ،
بالتالي أصبح من الصعب علينا أن نلتقي ...
فأنا معدود الأصدقاء ، على النقيض تماماً من أختي هالة !

*****

تلا هذا اليوم ما يقارب الأسبوعين أو يزيد ...
تحسنت صحتي و استعدتُ نشاطي أخيراً !
و تحررت من جوّ المرض الكئيب ...
باستطاعتي الآن أن أذرع أرجاء المنزل جيئة و ذهاباً ،
أن أشاكس أمي على حين غرة بينما هي منهمكة في أعمال المطبخ ،
أو حتى أن أستفز هالة كما أفعل دائماً ...
أنا فقط أشعر بالملل !
والدي لم تسنح له الفرصة أن يطلب إجازة من عمله لذا فقدنا إمكانية السفر في هذهِ العطلة !
أما ياسر فيقضي معظم الوقت بصحبة أصدقائه خارج البيت ...
تذكّرت !
الفتى الجديد !
خلال الأسبوع الفائت دعاهم أبي إلى ضيافتنا و من حسن الحظ أنهم استجابوا بسرور ،
و من سوء الحظ أني لا زلت وقتها ملازماً لحجرتي لم أستطع الخروج !
لذا فلم ألتقيه بعد ..
علمت من أخي أن إسمه مازن ، و هو في الصف الخامس مثلي ...
هذا مدهش !
نبتت في رأسي فكرة وليدة اللحظة أن أذهب للتعرف عليه ...
لذا توجهت فوراً لغرفتي وأبدلت ثيابي ونسقت هندامي !
يجب أن يكون انطباعه الأول عني موفق ، لعلنا نكون رفقة جيدة ...
في طريقي للخارج ...
استوقفتني أمي :
- عادل ؟! إلى أين ؟! هل سترى أحداً من أصحابك ؟!
الوقت كان عصراً ، فترة القيلولة ، خشيت أن أخبرها فتردعني
محتجة أنهم نائمون ولا ينبغي إزعاجهم ...
قلت بتردد :
- لا أبداً ، سأتمشى قليلاً ...
- لا بأس ، كن حذراً يا بني ...
- حسناً ...

و خرجت ...
حين تجاوزت باب المنزل الخارجي ألقيت نظرة خاطفة يمنةً و يسرة
حتى أتمكن من قطع الشارع ...
كان يخلو من السيارات لذا أخذت أعبره على مضض و أنا أفكر ،
هل ذلك صائب ؟! ألن أسبب لهم ضجة في مثل هذا الوقت ؟!
حقيقةً شعرت بالخجل و رجحت تأجيل ذلك لفرصة أخرى ...
استدرت عائداً من حيث أتيت ،
إلا أنني رأيت باب منزلهم يُفتح !
كنت أقف في المنتصف بطريقة توحي للناظر أني متجه إليهم ،
هذا واضح !
استدركت الوضع و عدت بسرعة قصوى ووقفت عند العتبة الخارجية لفنائنا ،
رأيت فتى في مثل قامتي أو أقصر قليلاً يخرج حاملاً في يديه أطباق معدنية حافظة للطعام ...
وهو الآن يعبر الشارع نحوي ...
نعم نحوي !
التقت نظراتنا فوجدته يبتسم !
لم أعرف ماذا أفعل فتظاهرت بأني لم ألحظ شيئاً ،
دقيقتين وهو واقف أمامي ، اقترب مني وقال بخجل :
- السلام عليكم ...
رددت السلام ، فسألني :
- هذا منزل السيد عبد الله ، أبو ياسر ، صحيح ؟!
أجبته بابتسامة :
- نعم صحيح ...
دفع بما يحمله إليّ وقال :
- هذهِ بعض المأكولات من أمي ، أوصتني بإيصالها لكم !
تلقفتها منه ممتناً وقلت :
- شكراً جزيلاً لقد كلفتم على أنفسكم ..
- لا لا على العكس ، بالهناء و العافية ...

أظنه فتى لبق ومهذب !
بعد برهة من الصمت قال بلكنة طريفة :
- حين سألت إن كان هذا بيت السيد عبد الله ، كان بغرض التأكد ،
رغم أني وعائلتي قمنا بزيارتكم الأسبوع الماضي ... تعلم ... لا زلت جديداً على الحي !

ضحكت ضحكة خفيفة و عقبت :
- لا عليك ، ستعتاد عليه حتماً ، سأكون مرشدك السياحي إن رغبت !
قلتها مداعباً ،
فضحك هو الآخر و قال :
- أنتَ عادل ، أليس كذلك ؟!
- و أنت مازن ، أليسَ كذلك ؟!

أطلق ضحكة أخرى كمن استطاب مزاحي و قال :
- تشرفنا ...
قلت :
- الشرف لي ...
تصافحنا بمرح ثم استأذنته في حمل الأطباق إلى والدتي و دعوته للدخول أيضاً ...
بدا عليه التردد و الإحراج إلا أنني أصرّيت عليه بشدة فقبل أن يبقى لبعض الوقت ...
تركته في غرفة الضيافة و حرفت مساري إلى المطبخ لأضع الأغراض هناك على الطاولة ،
كانت أمي تعد الغذاء ،
و حين رأتني قالت :
- ما هذا يا بني ؟!
قلت :
- طعام أرسلته لنا أم مازن ، جارتنا الجديدة ، أحضره ابنها قبل قليل !
- يا لكرمها ، لم يكن هناك داعٍ لهذا العناء ...

قالت أمي بينما تنقل بصرها و تستكشف الأطباق ...
ثم تنهدت بارتياح :
- أشعر بالألفة اتجاه هذهِ المرأة ، إنها حسنة الخلق ...
- و ابنها أيضاً ... لقد دعوته للدخول أمي !

رفعت بصرها إلي :
- حقاً ؟! إذاً سأحضر لكم بعضاً من العصير ...
- لا أمي لا داعي ، لن يمكث طويلاً ، سيغادر بعد عدة دقائق ...
- حسناً بني ، كما تشاء ...

و عادت تكمل ما كانت تفعله قبل مجيئي ...
حملت كوباً من الماء البارد و توجهت إلى مازن ،
قدمته له فرشف منه رشفة ووضعه على الطاولة الجانبية ...
أحببت أن أخلق معه حواراً فبادرته بالسؤال :
- إذاً ، كيفَ تشعر حيال منزلكم الجديد ؟!
- جيد نوعاً ما ، أفضل من منزلنا القديم على أية حال ...
- عظيم !

ثم ساد الصمت مرة أخرى ...
تأهبت لطرح استفسار آخر إلا أنه تكفل هو بالسؤال هذهِ المرة :
- عادل ، أأنت في الصف الخامس كما أخبرني والدي ؟!
أومأت له إيجاباً :
- نعم صحيح ... ماذا عنك ؟!
- مثلك !

قلت مبتهجاً :
- هذا رائع ! يجب أن نكون في نفس المدرسة العام المقبل ...
ارتسمت على وجهه لمحة من السرور و قال :
- بالتأكيد ... إن شاء الله !
ثم تابع :
- اعذرني .. يجب أن أنصرف الآن ...
و استقام حتى يصافحني ...
مددت يدي و قلت :
- أرجو أن تعاود الزيارة !
ابتسم بهدوء و خجل :
- قد حان دورك ، المرة المقبلة أنت من سيأتي لزيارتي !
- موافق !

رافقته إلى الخارج وتابعته بناظري حتى ولج إلى منزلهم ،
ثم رجعت إلى غرفتي ...
فيما يظهر أن مازن فتى خجول وخدوم ومسالم !
ربما ما أقوله مجرد فكرة أولية تحتمل الخطأ و الصواب ...
المهم ...
أن لقائنا انتهى بسلام !

*****

اعتدنا أنا و ياسر حضور مباريات تابعة للدوري
الذي يقيمه مجموعة من الفتيان بين الأحياء المجاورة ...
و كان هذا في كل يوم خميس من كل أسبوع !
هو يحضر مع أصدقائه و أنا مع إخوتهم ...
نقضي الوقت بالتفرج على أحداث المباراة و التشجيع أيضاً ...
و أحياناً نتخذ جزءاً قصيّ من الساحة و نلعب نحنُ الصغار ،
غداً هو يوم الخميس ...
و أول ما خطر ببالي لحظتها أن أخبر مازن حتى يذهب معنا ،
إنها الساعة التاسعة مساءاً ...
لا أظن أنهُ نائم الآن ...
ذهبت إلى حيث كان والدي و والدتي يجلسان ،
و استأذنتهما في الذهاب ، فأذنا لي و خرجت مسرعاً تقودني الحماسة ...
وصلت إلى منزلهم ...
كان باب السور الخارجي شبه مفتوح ...
فطرقته ...
لكن لم يجب أحد ...
قرعت الجرس أيضاً و انتظرت هنيهة ... لم يخرج أحد أيضاً !
ألقيت نظرة على موقف سيارتهم فوجدتها مركونة بهدوء ...
إذا هم في المنزل ولا شك !
تماديت في خطو خطوتين إلى داخل الفناء متطلعاً إلى رؤية أي أحد كان ...
الصمت يسود المكان و لا دليل ينبئ بقدوم شخص ما !
لذا آثرت الخروج و قلت في نفسي " سأكلمه غداً " ...
انساب إلى أذني صوت باب على وشك أن يُفتح ...
فتنحنحت منبهاً لوجودي وقلت :
- السلام عليكم .. أنا عادل ابن جاركم ! مازن هنا ؟!
لم أتلقى إجابة و استمر مقبض الباب الداخلي بالتحرك إلى الأسفل ثم الأعلى بشكل متتابع !
افترضت أن الباب عالق فانتظرت ملياً ...
إلا أن الوضع استمر لعدة دقائق !
قلت بصوت جهور :
- مازن ؟! أهذا أنت ؟! أتيت لدعوتك مساء الغد إلى دوري كرة القدم !
إلا أن صوتاً لم يعبر مسمعي بعد !
ماذا أفعل الآن يا ترى ؟!
حسناً ...
سأفتح الباب ! يا لشقاوتي ! ... أدرك أنه من الأدب و اللباقة
أن أعود من حيث جئت إن لم أجد رداً ...
لكنني أصبت بالفضول جراء الحركة الخفية خلف هذا الباب !
ففتحته ببساطة !
لم أرى شخصاً كبيراً كما اعتقدت ،
كل ما اصطدمت بهِ عيني كائن صغير كطول إحدى ساقيّ !
رفعت رأسها إلي ...
و تمكنت من رؤية ملامحها جيداً ...
عينيها اللامعتين و خصلاتها المبعثرة على وجهها الصغير ...
و ببراءة أخذت تشير إلى مقبض الباب من الداخل !
أطللت برأسي فوجدت إحدى الألعاب عالقة هناك ! ما الذي أتى بها إلى هنا ؟!
نزعتها و قدمتها لها ...
ثم دفعت بها بلطف حتى أتمكن من إغلاق الباب ...
إلا أنها تشبثت بقدمي في محاولة لمنعي !
أوه ماذا أفعل الآن !
يا للورطة ...
أرغمتها على الدخول بيد أنها ابتدأت في جذب أنفاس متقطعة
و فمها آخذ في التقوس بصورة توحي إلى الرائي أنها ستبكي !
بل بكت بالفعل ...
و ازداد بكاؤها بينما هي تمسك ببنطالي !
مشكلة ...
كيف علي أن أتصرف ...
رغم أني معروف بكوني فظ مع الأطفال إلا أنني لم أستطع إجبارها على الدخول و إيصاد الباب !
لا أعلم ...
أنا فقط أحسست بالعطف اتجاهها ...
حملتها لأجعلها تصمت ثم بدأت أسير في الفناء و أطبطب عليها ...
و يا للدهشة ...
حلقت يديها حول عنقي و هي تتمتم بكلمات لم أدرك لها مغزى !
يا الله !
ماذا لو رآني أحد أفراد عائلتها .. ماذا سيقول !
ارتأيت أن أعيدها هذه المرة فحاولت إنزالها إلا أنها أبت و حلقت ذراعيها بقوة !
لو أنني قاومت فضولي و انصرفت لما حصل ما حصل ...
- عـــادل ؟؟!
أوه كلا !
كان هذا صوت مازن شقيقها اخترق طبلة أذني بلكنة مستنكرة و مندهشة !
لستُ ألومه بالطبع !
استدرت إليه و قلت بتوتر و ارتباك و بجمل متقطعة لم أستطع ترتيبها :
- طرقت الباب مراراً لكن لم ألحظ إجابة ، ف .... صادفت هذه الصغيرة في الأروقة
و .... كانت تبكي ... لذا حملتها لكنها ...

أنا آسف ...
مضطر للكذب !
سأنعتها بكذبة بيضاء ... أرجو ألا تظنوا بي سوءاً !
لم أتم عبارتي إلا و قد نزعها من على كتفي وهو يقول :
- أيتها المشاكسة ! كيف تمكنتي من فتح هذا الباب الحديديّ الثقيل !
ازدردت ريقي و لم أعلق !
في الواقع ... أنا من تطفل و فتحه لها ...
التفت إلي و قال بحرج :
- أعتذر ... كنت أستحم و والدي نائم ، لذا لم يستقبلك أحد ...
وضعت يدي خلف رأسي و قلت باستحياء :
- آه نعم ... لا بأس ...
أخذ يمسح دموعها المعلقة وهو يقول :
- وسن يا شقية ! لا تعيديها ثانيةً ...
إذاً فإسمها وسن !
أخذت أتابعهما بابتسامة و صمت ...
بعد لحظة ، جعلت تشير إلي و تتلعثم بما لم أفهمه ...
إلا أنني التقطت حرف الجيم في نهاية كلامها !
اتضح لي أن أخاها استنتج ما تقوله ! إذ فغر فاه مندهشاً و رفع حاجبيه ...
و أخذ يردد :
- لا لا صغيرتي ، هذا ليس سراج ! هذا ... عـــادل .. عادل !
صمتت هيَ و أخذت تنظر إلي كمن يود التأكد !
و يا للمفاجأة ...
مدت يديها في محاولة لرمي نفسها باتجاهي !
مازن قال :
- وسن حبيبتي ، سيذهب إلى منزلهم الآن !
إلا أنها لم تقتنع و استمرت تمد يديها في الهواء ... و تستعد لما يشبه البكاء !
- سأعيدكِ لأمي ... كم أنتي متعبة !
قالها بتذمر وهمّ راجعاً إلا أنني استوقفته ..
قلت :
- لا بأس ... سأحملها لبعض الوقت ، هناك شيء أتيت لأخبرك به !
مازن قال :
- أوه صحيح ، يا لحماقتي ! نسيت أن أسألك !
ثم تنازل عن وسن الصغيرة باستسلام و أجلستها على كتفي ...
و هي تضحك بسرور !
قال لي :
- تفضل بالجلوس ...
و أشار إلى إحدى الكراسي الموضوعة حول طاول مربعة الشكل في حديقتهم ...
جلسنا و وضعت الطفلة في حجري و هي تمرر أصابعها الضئيلة على خدي !
بينما أنا كذلك أخبرته عن يوم غد
فوعدني بالمجيء واتفقت على اصطحابه السادسة مساءاً ..
قلت مستفسراً :
- مازن ... من هو سراج الذي نعتتني بهِ وسن قبل قليل ؟!
و يا ليتني ابتلعتُ لساني و لم أسأل !
تكونت على ملامحه معالم الحزن و الخيبة لكنه تصنع الإبتسامة و قال :
- سراج شقيقي الأكبر ... توفي منذ ثمانية أشهر في حادث مروع مع أحد زملائه ،
رحمهما الله ! ، كانت متعلقة بهِ جداً ولا زالت تردد إسمه بين الحين والآخر ..

قلت مواسياً معتذراً عن فضولي :
- أنا آسف .... لم أكن أعلم ! ...... رحمه الله !
رد مازن بتضرع :
- اللهم آميــن ...
شعرتُ بالأسى من أجلهم ، ورأفت بحال وسن الصغيرة !
يا رب لا تفجعنا بمن نحب ...
قلت مديراً لدفة الحديث .. محاولاً انتشال الحزن الذي أطبق علينا بغتة ..
- أيتها الطفلة الجميلة ... كيف لكِ أن تتذكري أخاك و أنت لم تبلغي السنتين !
ضحك مازن ضحكة خافتة و قال :
- بل أربع ! هل لك أن تتصور أن هذا الكائن الضئيل ذو أربع سنوات ،
حتى أنها لم تنطق بعد بجمل واضحة و مفهومة !

نقلت بصري بينهما في استغراب :
- هل أنت جاد ؟! إنها تصغر أختي رنيم بسنة واحدة فقط ! الفرق بين حجميهما شاسع !
مازن تحدث بما يعزز كلامي :
- من المؤكد أن إنجابها في شهرها السابع قد أثر على بنيتها ، و لكن ...
قل لي بربك .. أليست لطيفة ؟!

نطق جملته الأخيرة بدعابة فقلت و أنا أتأملها :
- بلى ... إنها لطيفة ! يكفي أنها الوحيدة التي مكثت في حضني بهذا القدر ، فأنا سيء مع الصغار !
ضحك مازن و ضحكتُ أنا ... و تبعاً لذلك .... ضحكت هيَ أيضاً !
للمرة الأولى التي أستطعم فيها جمال هذه المخلوقات الطفولية ...
تناولنا حديثاً شيقاً امتد لساعة أو تزيد ...
كانت كفيلة بأن ترسل هذه الـ وسن إلى عالم الأحلام !
ببساطة ،
نامت في حجري ...
مستندة على صدري و متشبثة بي !
هذهِ هي المرة الأولى التي أشعر فيها بعاطفة ما ... نحو طفلةٍ ما !
لطالما أنعتهم بالكائنات المزعجة المغفلة ...
و لطالما يهرب مني أبناء أقاربنا خوفاً ...
إلا هذه !
لم تفر مني بل أقبلت إلي !
سلمتها أخيراً لأخيها و تركتهما على أمل أن نلتقي غداً ...

و اختُتِمَ هذا المساء العجيب ..
بعد أن زرعت في قلبي بذرة نبتت بمرور الزمن ...
و بداية لسلسلة من أحداث وأشياء أخرى ...
سأقصها عليكم في القريب العاجل ...

|| نهاية الجــزء الأول ||

 
 

 

عرض البوم صور ثلجية !  

قديم 29-08-12, 08:22 PM   المشاركة رقم: 2
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Aug 2012
العضوية: 245408
المشاركات: 6
الجنس أنثى
معدل التقييم: ثلجية ! عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 25

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
ثلجية ! غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ثلجية ! المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

|| الجزء الثاني ||

" عودة الأمنيات "


خلال الأيام السالفة .. اشتدت علاقتي بابن جارنا ..
أصبحنا نلتقي على مستوى يوميّ ، و أحياناً يبيت أحدنا في منزل الآخر !
و في كل مرة أرتاد منزلهم ..
أصادف تلكَ الدمية الصغيرة والتي فيما يبدو أني أروق لها !
بمجرد أن تسمع صوتي مقبلاً مع أخيها تأتي مسرعة حتى تصطدم بي كأنها تقول " انظر إلي " ..
متجاهلة لوجود مازن كلياً !
مازن يتظاهر بالبكاء و يجلس بالقرب منها ثم يخفي وجهه بكفيه ويقول :
- لماذا يا وسن ؟! أنتي لا تحبيني ! أنا حــزين ..
محاولاً استعطافها ..
لكنها ضربته ضربة خفيفة بيدها اليسرى فيما يدها اليمنى ملتفة حول ساقي !
إنها ببساطة لم تعبأ به !
قال متفاجئاً وشرع ينظر لها بذهول :
- أيتها ال ...... مجرمة !
ثم رفع بصره إلي في بلاهة بشكل مصعوق جداً !
كلانا تعجبّ من ردة فعلها الغير متوقعة ..
فتبادلنا نظرة استيعاب ثم استرسلنا في دوامة من الضحك الشديد حتى أني هبطت بجانبهما إذ لم أستطع البقاء واقفاً !
لا أخفيكم القول ..
أنها استقطعت من عاطفتي جزءاً لا بأس به ..
فبدأت أجلب لها الحلوى و الألعاب من فترة لأخرى ..
و أصر على مازن أن يحضرها برفقته في الأوقات التي أدعوه فيها ليتشارك معي ألعاب الفيديو ..
في الغالب كانت أمه ترفض لكن وبتدخل من والدتي في مكالمة هاتفية تؤكد لها أنها ستعتني بها ..
مما يجعلها تغير رأيها وتسنح لها بالقدوم ..
يراودني سرور عظيم بينما أراقبهما هيَ و رنيم يلعبان في نشاط و براءة لذيذة !
شعرها ذو اللون البني الداكن و عينيها المطلية بلمعة عسلية آسرة ..
وجنتاها الحمراوين وشفتيها الزاهية كالتوت ..
أقر وأعترف وأدرك وأعلم وأصرّح ..
بأنني أنا عادل ..
الفتى المعادي للأطفال !
قد أحببت هذهِ الدمية الصغيرة !

*****

انقضى شهرين حتى الآن ..
و قاربت العطلة الصيفية على النفاذ !
إنها تشهق بأنفاسها الأخيرة ، و بعد أسبوع سيبتدئ عام دراسي جديد ..
كنا نشعر بالتعاسة لكون الإجازة أوشكت على الإنتهاء ..
و نشعر بالسعادة لكون مازن سيلتحق بذات المدرسة التي أرتادها ..
و بالحزن والصدمة ..
لأجل القرار الذي اتخذه والداه .. مجبرين لا مخيرين !
أخبرني مستاءاً أن والدته مضطرة للعودة للمدينة التي كانوا يسكنونها قبل مجيئهم هاهنا ..
وذلك لظروف عملها لكونها معلمة ولابد لها من الرجوع قبل موعد استئناف الدراسة ..
سألته من سيعيلها هناك فقال أنها ستمكث لدى والديها ، لا أنسى النبرة المؤلمة التي تلفعت بها مفرداته وهو يشكو لي بيأس :
- كنا نعيش في سعادة .. بين معارفنا وأقاربنا هناك .. لم نشعر يوماً بالوحدة ،
والدي عُرض عليه الإنتقال بمقابل زيادة بسيطة في مرتبه فوافق على الفور ،
الذي جعل أمي تستمر في عملها هو أن يكون لدينا مصدرا رزق عوضاً عن واحد فقط ربما لا يكفي ..
في هذه الأثناء سيبحثون عن فرصة لنقلها إلى هنا ، حتى نستقر جميعاً ..
بينما سأظل مع أبي كيلا أتركه بمفرده ..

أحسست بقلبي ينقبض لما يحصل ..
مؤلم جداً حين يضطر الإنسان أن يحيا في تشتت لسطوة الظروف ولقمة العيش ..
ما أوجعني أن صديقي يبدو منكسراً حائراً ..
والأشد وجعاً ..
أنها ستغادر !
تلك الطفلة الملائكية !
أجهل لمَ شعرت بالضيق المفرط وأنا أتخيل أني لن أراها بعد الآن ..
لن أتعمد الظهور أمامها فجأة لأستمتع بردة فعلها الظريفة !
لن أداعبها ..
ولن أشتري لها الحلوى !

*****

تعاقب الزمان سريعاً ،
مبتلعاً في جوفهِ أربعة أعوام بأكملها ..
مضت بكل مجرياتهِا و أحداثها وذكرياتها ..
نعم كبُرت !
و أنا حالياً على وشك التخرج من المرحلة الإعدادية في عامي الأخير ..
لستُ وحدي فحسب .. بل و مازن أيضاً ..
هذا الفتى الذي أمسى كأخ ثاني لي !
انقضت عدة سنوات منذ إنتقالهم إلى مدينتنا بالرغم من أنها هرولت على عجل ،
أشعر وكأنهم قدموا بالأمس !
خلال هذه الفترة كان يغادر في العطل الفصلية والصيفية بصحبة والده إلى مدينتهم القديمة ..
للمكوث مع أمه وشقيقته وقتاً يعوض فيه فقدانه لهم .. كجرعة من الأكسجين النقي ..
و حين يعود ..
يغدقني بالحديث عن مجريات السفر وأهم الأحداث التي حصلت هناك ..
و بالطبع لا يغفل عن ذكر الصغيرة وسن !
بينما أنصت بسعادة .. كأني بها أمامي !
تلهو وتلعب و تستوطن حجري بهدوء ..
لكم اشتقت إليها !

*****

تشعبت علاقتي بهِ كثيراً وامتدت جذورها في العمق ..
للحد الذي أكسب صداقتنا ألفة غير معتادة بين من هم في مثل عمرنا ،
بالأخص و أننا لم نكن نتشاجر ! .. ربما لم نتشاجر مطلقاً منذ أن سكنوا هذا المنزل ..
ثمة سر ما في هذا الصبيّ .. هل هو التضارب الكبير بين شخصيتينا ؟
ربما .. فالأضداد دائماً تتجاذب !
أذكر موقفاً عبر ذاكرتي الآن ..
حدث في أول عام دراسي تشاركناه في المدرسة .. في الصف السادس ..
تعلمون أنه عادةً ما يكون الطالب الجديد عرضةً للفضول والتنمر والإستفزاز من قبل أقرانه في الصف ..
وبما أن جسدهُ كان ضعيفاً .. و وجهه الذي ينمّ عن طيبة متناهية !
هذا ما جعل منه فريسة منعشة لاستعراض قواهم الحمقاء !
للأسف أننا لم نجتمع ذلك الوقت في قاعة دراسيّة واحدة ..
لذا كنت أستغل الفترات الفاصلة بين الحصص و أذهب إليه ..
إحدى المرات رأيت الطلاب متحلقون حوله بهمجية ،
أحدهم يختطف أقلامه والآخر يبعثر محتويات حقيبته .. لم أتمالك أعصابي حينها !
انقضضت عليهم مزمجراً ممسكاً بتلابيبهم أدفعهم بعيداً عنه ..
بالأخص حين لمحتهُ مستسلماً بضعف ، يحاول منعهم دون جدوى ..
لحظتها ثارت شياطين الدنيا في جمجمتي .. وبدأت ألكمهم بعصبيّة ..
تراجعوا واحداً تلو الآخر قد تلبستهم الرهبة و الدهشة على سواء ..
إذ يدرك أبناء صفي كيف أكون ثائراً إن بدأت في نزاعٍ ما !
هذهِ السمعة التي اكتسبتها جراء لعراكي الدائم ، جعلت مني شخصيّة شهيرة !
لذا لم يكن يجرؤ أحد على إثارة أعصابي ..
ابتدأت ألتقط أنفاسي بقوة و أنا أشير بسبابتي إليهم مهدداً :
- فليحاول أحدكم أن يفعل هذا مجدداً ، أقسم أني سأحطم رأسه ..
ألقيت عليهم نظرة زاجرة و قلت :
- هذا الفتى صديقي ! من يجرؤ على أذيته سألقنه درساً لن ينساه .. أقسم بذلك .. أتفهمـــون ؟!
لم ينطق أحد منهم بل أخذوا يطالعونني بتوجس وخوف ..
كررت صارخاً :
- أتفهـمــون ؟!!!
استقام مازن واقترب مني و ربّت على كتفي مهدئا :
- عادل هوّن عليك .. واثق أن هذا لن يحصل ثانية .. أليسَ كذلك ؟!
و نقل بصره إليهم مبتسماً ..
كأن لم يفعلوا شيئاً قبل دقائق !
انتهى الموقف الأول من نوعه بيد أنه لم يكن الأخير ..
و هكذا تواترت اللحظات ..
وتكررت مشكلات عدة كهذه ..
في المنزل ، أو الشارع .. في المدرسة و الملعب والنادي وأي مكان !
أنا من يتشاجر على الدوام ، و مازن من يطفئ الشجار ..
أنا من يتورط بنزاعات .. و مازن من يتدخل لفكها ..
حين ولجت المرحلة المتوسطة ..
أخبرني ياسر أني سأقابل الكثير من الفتيان العدائيين ، وأني ربما سأقضي وقتاً عصيباً ،
وأنه علي ألا أخاف !
اتبعت إرشاداته حرفياً بالتالي تابعتُ مسيرتي في كوني فتى لا يُداس له على طرف ،
والويل لمن يحاول التمرد على حسابه ..
هكذا أثبت نفسي وصنعت لي مكانة في مجتمع البقاء فيه للأقوى !
صحيح أني لم أكن نجيباً كمازن ، لكن علاماتي لا بأس بها ..
حقيقةً يرهقني الإجهاد الفكري فأستسلم للنوم في بعض الحصص المملة ،
تحديداً وإن تضمنت معادلات رقمية وخزعبلات كهذه !
في المساء ..
أضطر لخوض درس خصوصي مكثف بإشراف وإعداد من صديقي العزيز ..
إذ أنه لا يرضى كما يقول بأن أتخلف عن المراتب الأولى ..
وفي المدرسة ..
كان الطلاب يتحاشوني اتقاءاً لشري !
أما هو ..
فعلى العكس تماماً ..
ذكائه و نباهته جعلاه محور إهتمام المعلمين و مرمى يستقبل مديحهم المتواصل ..
بينما في المقابل أمسيت أنا مضرب المثل في العدائية و التهور ..
تغيرت و أصبحت حاد المراس ودائماً ما أبدو على أهبة الهجوم ، لأي سبب ..
كلما فرت الأيام ، أضافت لعاتقي زمناً يزداد على إثرهِ عمري ، وحجمي على حدٍ سواء !
ربّاه ..
لقد قاربت من طول أخي ياسر والذي التحق بالكلية الهندسية منذ سنتين ..
ربما لو استمرت عظامي في النمو على هذا المنوال فإني قد ألامس السقف بحلول العامين القادمين !
نبتت عدة شعيرات أسفل أنفي مما أضفى على مظهري شيئاً من الكبر ..
إنها بوادر الرجولة كما يقول والدي ..
في حين أن أمي تقول بأني أصبحت شاباً جذاباً !
هل أنا جذاب بالفعل ؟!

*****

غداً يوم النتائج ..
لست أشعر باللهفة بقدر مازن الذي ينتظرها على جمرٍ متقد !
قال لي تلك الليلة :
- أرجو أن تكون علاماتي كاملة ، أبي وعدني بمفاجأة لن تخطر لي على بال !
ابتسمت بعدم مبالاة وقلت :
- لقد كبرنا على المفاجآت يا صديقي ..
بادر يقول وهو يهز رأسه نفياً :
- لا لا .. ليس كما تعتقد .. أخبرني بأنها مفاجأة معنوية !
حركت بصري إليه ببلاهة وقلت :
- ماذا ؟! أتعني أنه سيحضر رزمة من المشاعر الجياشة ويغلفها لأجلك .. مثلاً ؟!
رماني بعلبة المشروب الغازي التي كانت في يدهِ وأردف :
- كن جاداً ولو لمرة !
لا تقلقوا .. العلبة كانت فارغة لكنها اصطدمت برأسي ..
و آلمتني قليلاً ..
ضحكت فور أن تصفحت ملامحه المتظاهرة بالغضب ..
يبدو ظريفاً حينَ أستفزه .. يروقني ذلك !
مازن قال :
- في المرة القادمة سأقذفك بواحدة ممتلئة إن لم تنتهِ عن التهكم !
لكنه يدرك يقيناً أن طبيعتي هذه صعبة التغيير ..
أن أكون ساخراً .. هذا ما أجيده في الحقيقة !
سهرنا طويلاً تلك الليلة ..
لذا عندما خلدت للفراش لم أستيقظ إلا مساء اليوم التالي ..

*****

صحوت في فزع !
كم الساعة الآن ؟!
أوه إنها الثامنة !
أبعدت لحافي في امتعاض و استياء شديدين ..
لمَ لم يوقظني أحد ؟!
كيف لا يوقظوني في يوم مهم كهذا !!!
توجهت سريعاً إلى الصنبور وغسلت وجهي بسرعة ثم انطلقت أبحث عن من أصب عليه غضبي ..
صادفت أمي في غرفة التلفاز برفقة هالة ..
كانت تعقد بعض خيوط الصوف بالسنارة في انهماك ..
لحظة أن رأتني قالت بعطف :
- عزيزي استيقظت أخيراً .. هل ترغب أن أحضر لك شيئاً تأكله ؟!
أنا كنت في أقصى درجات التذمر لذا ألقيت بجسدي على المقعد المجاور بإحباط ،
قلت معاتباً :
- أمي ! لماذا لم توقظيني .. اليوم كان يوم النتائج !
بالرغم من أني لم أكن شغوفاً بمعرفة التفاصيل إلا أنني خشيت من رسوبي في الرياضيات ..
المادة التي أنفر منها ولا أستسيغها ..
فقط وددت التأكد من نجاحي وعدم تعثري بها أو في إحدى المواد الأخرى ..
هالة قالت متصنعة للشفقة :
- كم أنت مسكين ! لقد رسبت في مقررين !
و جعلت تلوح بورقة في يدها نحوي ..
فتحتُ عيني عن آخرهما ونهضت بقوة وتوعّد مستعداً لأن أزمجر إلا أن أمي أمسكت بيدي وقالت مطمئنة إياي :
- لا تعبأ بها بني .. إنها تمازحك .. اطلع عليها والدك وهو سعيد جداً بعلاماتك .. بالإضافة أن مازن من تكفل بإحضارها هذا الصباح ..
و شرعت تبتسم في حبور ..
نظرت إلى هالة فإذا هي تضحك ضحكتها الحادة وتقول :
- لو رأيت عينيك ! بدوت كالبومة !
وأخذت تقهقه لتغيظني ..
لم أعرها اهتماماً ..
بل تنهدت في ارتياح .. بعد أن تأكدت من اجتيازي لجميع المواد بالتالي لم أكلف نفسي عناء تفقدها ..
وتركتها في يد هالة ..
الحمد لله !
هممت بالذهاب إلى غرفتي ..
أمي قالت :
- عادل .. هل تشعر بتوعك ؟! حاولت إيقاظك مرات عدة لتؤدي الصلاة إلا أنك لم تفق ..
كنت غائب عن الوعي تماماً !

التفت إليها وقلت :
- لابد أن يكون السبب هو سهري منذ الأمس .. لم أشعر بكِ إذ كنت منهكاً جداً ..
- حسناً بني .. اذهب لتأدية ما فاتك من الصلوات في حين أحضر لك المائدة ..

استدرت منصرفاً فتبعني صوت هالة :
- مازن اتصل قبل قليل .. طلب أن تكلمه فور أن تستيقظ للضرورة ..
خفقَ فؤادي لا أعلم لمَ ..
اللهم اجعلهُ خيراً ..

*****

أشعر ببهجة عارمة و سعادة متناهية ..
فقد انتهى العام الدراسي على مضض ..
واليوم هو اليوم الأول في إجازة الصيف ..
والصيف يعني ..
المتعة واللهو والسهر والإثارة !
سرت إلى حيث يتكئ الهاتف وبدأت بنقر أرقامه ..
ومكثت في تحري أن يرفعه أحد ..
انقطع الرنين إلا أن هذا الـ " أحد " لم يرد ..
كررت الإتصال مرة أخرى ..
وانتظرت ..
فباغتني صوتُ ما :
- مرحباً !
الصوت كان صوت امرأة !
نظرت إلى شاشة الهاتف ..
لعلي أخطأت في طلب النمرة !
تأكدت من الرقم .. إنه صحيح فأنا أحفظه عن ظهر قلب ..
- ألو .. من هناك ؟!
عاودت المرأة القول .. فقلت في ارتباك :
- عفواً .. هل هذا منزل مازن ؟!
- نعم .. لكنه في الخارج الآن .. سيعود بعد دقائق ..

لم أعقب والتزمت الصمت .. فقالت :
- هل لك أن تخبرني بإسمك .. سأعلمه فور أن يصل ..
قلت بتلعثم :
- آآآ .. قولي لهُ عادل ..
- حسناً ..

و أغلقت الهاتف ..
بينما تركتني في دوامة من الذهول لم أستفق منها إلا على نبرة هالة المزعجة وهي تقول :
- هيا انهض .. أريد أن أحادث رفيقتي !
قمت كرجل آلي متجهاً لحجرتي حتى أبدل ملابسي استعداداً للخروج ..
إنها امرأة ..
لابد وأنها والدته ..
هل من المعقول أنها عادت !
ولكن غريب .. ألم يكن هو ووالده من يسافرا إليها جواً في كل العُطل الماضية !
هل هذهِ هي المفاجأة التي تحدث عنها مازن ليلة أمس ؟!
نفضت هذه التداخلات الفضولية من رأسي ..
إلا واحدة ..
استقرت بهِ وتشبثت كما تفعل صاحبتها دائماً !
وسـن ..
هل سأروي قلبي برؤيتك مجدداً ؟!
والكثير من التساؤلات عبرت دماغي لحظتها ..
شعرت بقشعريرة أجهل مصدرها وأنا أرجو أن أقابل تلك الدمية الفريدة مرة أخرى ..

*****

سمعت طرقاً على باب غرفتي فقلت بصوتٍ عالي :
- مـن ؟!
فإذا بها رنيم تخبرني أن ثمة من يريدني على الهاتف ..
- أنا قادم ..
هببتُ مسرعاً كشهاب وانقضضتُ على السماعة :
- السلام عليكم ..
- وعليكم السلام أيها الكسول !

لم تخفى علي نبرته المميزة فقلت :
- أوه مازن .. أنا آسف .. استغرقت وقتاً طويلاً في النوم ..
- لا بأس .. من المفيد أنك نمت جيداً لأنني سأسرقك حتى يوم الغد !

قلت باندهاش :
- ماذا ؟! .. أقصد .. لماذا ؟!
أجاب فوراً بلا مقدمات :
- ستعرف حالما تحضر إلى منزلي الآن .. لا تتأخر !
و انتهت المكالمة ..
إن كان يعني قدوم والدته فقد عرفت بالفعل .. أعتذر مازن إن لم أبدُ متفاجئاً ..
لقد علمت من دون قصد !
ذهبت لتناول الطعام الذي أعدته أمي .. وبعد أن فرغت ..
ألقيت نظرة خاطفة على مظهري النهائي ..
و سرتُ خارجاً حتى استقريت أمام منزله ..
بلعتُ ريقي ..
لمَ أنا متوتر إلى هذا الحد ..
ما الذي أنتظره ؟!
لمَ لم أقرع الجرس حتى الآن ؟! ..
و قلبي ..
لمَ ينبض بهذا الإندفاع ؟!
كم أنا سخيف ..
تجرأت ومددت يدي وكبست على زر الجرس ..
ماهي إلا دقيقة واحدة ويُفتح الباب عن آخره ..
ظهر لي مازن بوجه بشوش يفيضُ فرحاً :
- أهلاً صديقي .. تفضل ..
وأشار لي بالدخول ..
فجررتُ خطواتي على استحياء ..
لم يعد المنزل فارغاً ومتاحاً كما كان !
مازن تبدل صوته إلى لكنة خائبة قليلاً :
- يا للخسارة ! .. أمي للتو أخبرتني أنك اتصلت فاستنتجت أنك علمت بأمر المفاجأة !
- نعم .. تعجبت ملياً إلا أني سرعان ما أدركت بكونها والدتك ..
- ليس بقدري ! كنت نائماً في ساعة الظهيرة وأحسست بها توقظني .. ظننت أني لا زلت أحلم لكنها حقيقة .. وهي هنا بيننا .. هل لكَ أن تتخيل !

شعرتُ بالسرور الجم لأجله !
قلت :
- ألستم معتادين على الذهاب أنتم إلى هناك .. لمَ تبادلتم الأدوار هذهِ المرة ؟!
أجاب ولا زالت ابتسامته منحوتة على شفتيه :
- إليك بالصاعقة الأخرى .. لقد تدبروا أمر نقلها إلى إحدى مدارس هذهِ المدينة .. بالتالي سنستقر هنا .. لن نضطر للتفرق بعد الآن ..
فغرتُ فمي غير مصدق :
- حقاً ؟! أتعني ما تقول ؟!
أومأ برأسهِ إيجاباً فعانقتهُ بعاطفة حميمة ..
لم يكن أحد يشعر بمقدار الفراغ الذي خلفوه في قلب صديقي العزيز سواي !
- الحمد لله على سلامتهم ..
قلتها بسعادة لا تقل عن سعادته ..
أخبرني أنهم في الأيام القادمة سيعيدون تأثيث المنزل وطلاء جدرانه وتقويم ما يحتاج إلى إصلاح ..
عرضت عليه المساعدة وبالطبع .. لن أقبل برفضه !
وبعد أن يفرغوا من ذلك سيعودون لقضاء بقية العطلة بين أقاربهم ..
دعاني إلى غرفة الجلوس ..
واستأذن ليحضر لنا الشاي والمعجنات ..
فالليلة سنقضي سهرتنا هنا حتى يطلع الفجر ..
أمسكت جهاز التحكم وأخذت أتنقل بين قنوات التلفاز بعشوائية ..
بينما عقلي مرتكز عند مخلوقة صغيرة رحلت منذ أربع سنوات ..
و ها قد عادت !
يا ترى كيف أصبح حجمها .. هل كبُرت أم لا زالت قصيرة كاللعبة !
في خلجتي يراودني شوق عظيم لرؤيتها ..
ليتني أراها الآن .. هنا .. في هذهِ اللحظة !
وهذا ما حصل ..
رأيتها !
إذ تسمّر بصري هناك ..
حين لمحت مصادفة .. ناظرين معلقين يحدقان بي من خلف ذلك الباب !
ضيقت محيط عيني ابتغاءاً للتأكد .. ربما أتوهم !
بلى ..
هناك من يطل علي بشكل متلصص ..
يا إلهي إنها هي ..
لقد طالت .. و طال شعرها .. لم أكد أعرفها للوهلة الأولى ..
بيد أن تعابيرها ذات الطابع البريء الطفولي .. واللون الوردي الذي يكسو شفتيها ..
و لمعة عينيها الساحرة .. بقيت كما هي ..
لم أستطع مقاومة نفسي فقلت .. بكل ما تعنيه اللهفة :
- وسن .. تعالي يا صغيرتي ..
و مددت ذراعي نحوها .. بينما لم أبرح مكاني .. يفصل بيننا عدة أمتار ..
لم تتحرك وظلت مختبئة خلف الباب ..
ما سر علاقتكِ الوطيدة بالأبواب أيتها الفتاة !
قلت بلهجة شديدة العطف :
- وسن .. ألم تتعرفي علي ؟! أنا عادل .. هيا تعالي جميلتي ..
لكنها لم تأتِ ..
جل ما فعلته أن تقدمت بضع خطوات حتى ظهرت بالكامل ..
قالت بنبرة طفولية محببة :
- أنت عادل ؟!
قلت :
- نعم أنا عادل .. هل نسيتيني ؟! .. حين كنتِ صغيرة كنت دائماً ما أحملكِ وأبتاع لكِ الحلوى ..
نظرت إلي بتشكك ..
على ما يبدو أنها لم تتذكر !
كيف للخيبة أن تنتابني وقد كانت مجرد طفلة لا تعي ما حولها ..
بالطبع لستُ ألوم ذاكرتها الصغيرة ..
حين لم تتجاوب معي ..
استقمت راغباً في الذهاب إليها إلا أنها تراجعت بسرعة لتختفي خلف الباب ..
ردة فعلها أربكتني ..
خشيت أن تبكي أو تصدر فوضى لذا عاودت الجلوس ..
وعاودت هي التحديق بفضول ..
جاء مازن أخيراً ..
توقف حين رآها وهو يحمل بين يديه صينية الشاي .. قال :
- ماذا تفعلين هنا يا شقية !
قاطعته ممازحاً :
- تسترق النظر .. إنها حتى لم تأتِ لتسلم علي ! محتني من ذاكرتها تماماً ..
- حقاً !!

ونظر إليها بعتب مصطنع ..
- لماذا يا وسن ؟! هذا عادل الذي دائماً ما أحدثكِ عنه .. ألم تقولي بأنكِ تريدين رؤيته !
رفعت بصرها إليه .. ثم إلي ..
و جرت خطواتها الملساء الخجولة باتجاهي ..
قد يكون تواجد أخاها ما شجعها للدخول !
مازن قال :
- هيا حبيبتي .. سلمي عليه ..
أقبلت إلى حتى استقرت أمامي مباشرة ..
ضممتها بقوة و رغبة جامحة في الإرتواء ..
ثم أبعدتها عني لأتأمل وجهها الملائكي ..
قبلتها على جبينها وخدها وقلت :
- لقد أصبحتِ دمية كبيرة !
ضحكت هيَ ببراءة ماتعة وقالت :
- أنا لستُ دمية .. أنا أميرة !
ألقيت نظرة على مازن فإذا به يراقبنا ويبتسم ..
اقترب مني ووضع ما كان يحمله على الطاولة المقابلة .. وجلس ..
قال :
- أنتي أميرتي !
التفتت عليه بينما لا زلت أضع يديّ على كتفيها الناعمين .. قالت :
- لا .. لست أميرتك ..
بادرها متسائلاً :
- إذاً قولي يا مشاكسة .. أنتي أميرةُ من ؟!
نظرت إلي .. ثم إلى السقف ..
وضعت سبابتها على جبينها في محاولة للتفكير ..
و قالت ما جعلني ومازن نتبادل النظرات بتعجب .. ونقهقه .. ونغرق في موجة من الضحك الصاخب ..
في موقف مشابه لما حصل في الماضي :
- أنا أميرة عادل !
ستقتلني هذهِ الفتاة لا محالة !

|| نهاية الجزء الثاني ||

 
 

 

عرض البوم صور ثلجية !  
قديم 29-08-12, 08:23 PM   المشاركة رقم: 3
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Aug 2012
العضوية: 245408
المشاركات: 6
الجنس أنثى
معدل التقييم: ثلجية ! عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 25

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
ثلجية ! غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ثلجية ! المنتدى : الارشيف
افتراضي

 


|| الجزء الثالث ||

" دموع ملونة "

في قلب كل فتى .. يوجد قصرٌ شاعري ذو أعمدة عاطفية و أساسات متينة راسخة في العمق ..
وكأي قصر بطبيعة الحال .. يحتاج إلى سيد ..
أو ربما سيدة !
أما أنا .. فقد أوليت أمره لأميرة صغيرة أسكنتها فيه منذ الطفولة !
سلمتها مفاتيحه باستسلام وتركتها تعيث في أرجائه كما يحلو لها ..
الأيام تركض لاهثة حذو الأفول ..
العمر ينقضي ،
الإهتمامات تتبدل ،
الأشجار تنمو ... والدمية تكبر !
وسن ..
تلك المخلوقة المتربعة على عرش فؤادي مذ رأيتها لأول وهلة ..
والتي لم تفارق ناظري لسبع سنين تفيضُ أنساً وألفة ومودة ..
سبع سنين أسقيها من ماء عيني ومن عصارة كبدي ومن لهفتي وولعي بها !
لم تكن مجرد فتاة عادية !
إذ كيف لطفلة كهذه أن تنحت في أحشائي ملامحها البديعية وتتوغل فيها عنوةً تأبى التلاشي !
يوماً يتلوه يوم ، وحيناً يعقبهُ حين ..
أشاهدها تكبر أمامي وأغدق عليها اهتمامي وأدللها قدر ما أستطيع ..
كثيراً ما لاعبتها وشاركتها حل واجباتها ..
وكثيراً ما كنت أتردد على المكتبة مصطحباً إياها برفقة شقيقتي الصغرى
لأسمح لها بشراء كل ما ترغب ..
من ملصقات وقصص وكتب وأشياء أخرى !
بالمناسبة ..
دميتي تهوى عالم الطبيعة و الحيوان !
إنها مهووسة بهما جداً منذ صغرها ، وبين كل فترة وأختها تقوم باقتناء إحدى الحيوانات الأليفة ..
ابتداءاً بِ صيصان ملونة و سناجب ظريفة مروراً بمختلف الطيور وانتهاءاً بأرنبها الرمادي ..
أميرتي تجيد الإعتناء بهذه المخلوقات ..
و محاولاتها الدائمة في تثقيف نفسها كوّنت لديها كومة من معلومات
لا يستهان بقدرها عن هذا العالم ..
أذكر أني حين سألتها ذات مرة عن أمنيتها المستقبلية ، ردت بثقة وبراءة :
" سأصبح طبيبة بيطرية ، إنه حلمي الكبير ! "
ولن أكون عادل ..
مالم أحقق لك حلمك هذا ، أو غيره ، أو حتى أحلامكِ كلها بلا استثناء !
حتى وإن رغبت بنجوم الدب الأكبر ، سأصفّها على سقف غرفتها بلا هوادة ..

*****

في المرات العديدة التي كنت أتردد فيها على منزلهم ..
ينشأ موقف قد تكرر مراراً ، حتى أنه لم يعد يصيبني بالدهشة كأول مرة لحدوثه !
ما يحصل ..
أني أجدها تحتضن إحدى حيواناتها المقربة وتستلقي على الأعشاب الخضراء الرطبة تتأمل السماء بسكون وشغف ..
لكم أن تتصوروا الدغدغة التي ترقص في باطن قدمي وتشاكس خلايا أوردتي بمجرد رؤيتها كهذا !
متمددة في سلام وخصلات شعرها تفترش الأرض وتلتصق بها ،
وعينيها ذو الرموش الكثيفة المتراصة ترصد الأفق في وضع لا يليق إلا بالأميرات الصغيرات !
فور أن تنتبه لوجودي تنهض فجأة ،
تتقدم نحوي في خطوات قافزة فرحة ، تمسك بيدي وتحثني على الإستلقاء بجانبها !
في معظم الأحيان كان مازن من يتولى مهمة ردعها وإقناعها بأن تعتقني
وأنني أتيت للجلوس معه لا للنوم هنا !
إلا أن إصرارها يمثل نقطة ضعفي لذا أجدني أذعن لطلباتها الجنونية ..
وأتمدد بجوارها ، فيما يذهب هو لإحضار المشروبات وما يلزم للسهرة ..
- عادل !
- نعم دميتي ..

تقول وهي تشير للأعلى بسبابتها :
- السماء كبيرة .. كبيرة جداً !
- صحيح يا صغيرتي ..
- وجميلة جداً !
- أيضاً صحيح ..
- وساحرة ...
- صحيح ..
- وأنا أريد أن أذهب إلى هناك !
- صحيـ ...

ما إن حاولت إتمام جملتي إلا وقد استوعبت ما تفوهت به ..
التفت إليها في تعجب :
- ولكنها بعيدة ، المسافة بيننا ملايين السنين !
قالت وفي كلماتها يتجلى إصرار الأطفال وأملهم الوهمي :
- لكنني .. لكنني أحب السماء ، أريد أن أسكن هناك ، لماذا لا نستطيع السفر إليها ؟!
إن كان هناك مهمة صعبة ، فلن تكون أصعب وأعسر من أن توصل حقيقة وواقع
إلى عقل طفلة لم تفهم حقائق الأمور ولا زالت تهيم في عالم من الخيالات البريئة !
قلت بصوت حنون أجش ، محاولاً تغيير مسار عاطفتها المفعمة إلى أشياء أقرب :
- ألا تحبين الحيوانات ؟! الأجدر أن تحبيهم أكثر فهم بحاجة لكِ !
أدارت رأسها إلي بسرعة ،
ثم رفعت جذعها عن الأرض وجلست ،
وقالت وهي تلقي نظرة مستنتجة كأنما يلمع فوق رأسها مصباح مضيء توصّل إلى حل :
- سآخذ حيواناتي الأليفة ، ونعيش هناك !

*****

هل جربتم أن ترتكبوا أفعالاً سخيفة وتتعمدون مجاراتها كما أفعل ؟!
أم هل جربتم يوماً أن تقعوا في عشق كائن حي ضئيل الحجم ملائكي الملامح ،
ترقبونه في كل لحظة وتهتمون لأجله كالمهووسين !
تتمنون أن يعيش في كنفكم أبد الآبدين ..
وأنتم تشهدون لحظة أن تنمو فيها أطرافه ويزداد فيها حجمه تحت سقف متابعتكم ..
أنا أدرك جيداً ذلك الشعور ، فقد عشته دهراً ليس يسيراً من عمري ،
ولا زلت أعيشه ،
ولن أزال أفعل حتى تعلن رئتي عن شهيقهما الأخير !
- عادل ، ألم تجهز بعد ؟!
كان هذا صوت أمي اخترق طبلة أذني يوقظني من أطيافي الحالمة وذكرياتي المبجلة ،
وهي تطرق الباب في استعجال ..
قلت :
- بلى أمي ، سآتي حالاً !
البيت في حالة استنفار تام وذهاب وإياب وفوضى وحركة مشتعلة ..
الكل يحاول اغتنام الوقت وإنهاء ما يمكن إنهاؤه ،
أمي تغلف الأطباق التي سنحضرها معنا وهالة تلف حجابها بإحكام أمام المرآه و رنيم تحوم كالنحلة !
أبي وياسر في الخارج ، بانتظارنا ..
أما أنا فقد كنت معفياً من ثلة الأعمال هذه ،
أليس يومي المميز ؟!
اليوم سنقيم حفلة بمناسبة تخرجي من المرحلة الثانوية ،
لم أكن من اخترع الفكرة ولم أكن متحمساً لها ،
بل بإصرار من والدتي ورغبتها في عدم التفرقة بيني وبين شقيقي !
وأنه يجب أن أحظى بما حظي به ...
لكن ألا ترين الفرق شاسعاً أماه ؟!
تخرّج هو بمستوى عبقري يشار إليه بالبنان ، بينما تخرجت أنا بمستوى عادي ، لا يستحق كل هذا العناء !
لو أن مازن انضم إلي في هذه الحفلة ، وجعل منها مناسبتين عوضاً عن واحدة ..
ربما سيكون لها نكهة أخرى ..
لكنه رفض متحججاً بأنه سيتم حفلته الخاصة بين أقاربه هناك ..
- ماهذهِ الوسامة يا رجل ! ستخطف الأنظار لا محالة !
إنها هالة ... تشيد بي إعجاباً وتصفق ..
عندما أستقبل مديحاً من أحدهم فإن لساني يُلجم ، لست جيداً في الرد على عبارات كهذه !
قلت محاولاً التستر على خجلي بصوت خشن :
- أين أمي ؟!
هالة قالت بخبث ، مشيرة إلي :
- يا إلهي إنه يشعر بالخجل ! انظري رنيم تعابيره امتقعت باللون الأحمر ..
رنيم بينما كانت منشغلة بتفقد حقيبتها جاءت لتطل في وجهي بفضول ،
ثم تبدلت قسماتها للدهشة :
- أنتي محقة أختي .. السمار الخفيف تحول إلى مزرعة من الطماطم !
وشرعتا في الضحك ..
كل هذا وأنا متخشب في المنتصف كاللوحة !
ما إن تبدأ هاتان الفتاتان في استلام موجة السخرية والتشبيهات لا يكون بمقدوري سوى الإنسحاب خشية أن أصفعهما ،
قلت بصوت أكثر حدة وخشونة :
- اصمتا وإلا ....
هالة لم تبالي بتهديدي إنما تقدمت في شقاوة حتى أصبحت بجواري تماماً ..
وجعلت تنظر للمرآة المستقرة أمامنا وهي تقول :
- دعني أقيس فارق الطول بيننا !
رنيم أيضاً جاءت ووقفت إلى جانبي الأيسر :
- أنا أيضاً أريد أن أعرف ..
الآن ..
نظرت إليهما تتملكني رغبة صارمة في الضحك لكنني لم أشأ محو التعابير الممتعضة التي تكونت قبل قليل ،
قلت :
- ابتعدا أيتها القصيرتان !
قالت هالة باندفاع :
- بل أنت الطويل جداً ، يا عمود الكهرباء !
في هذه الأثناء خرجت أمي من المطبخ وقالت :
- ماذا تفعلون هنا ؟! هيا فوالدكم في الإنتظار ..

*****

أبي دعا الكثير من أقاربنا وبعض من معارفه في العمل وبالتأكيد لم تفته دعوة تلك العائلة الحميمة ..
اتصلت بمازن قبيل خروجي وأكدت عليه أن يكونوا أول الحاضرين ..
فرحب بطلبي غير ممانع ،
مقر الحفلة كان في إحدى الشاليهات الفاخرة ،
انقسمنا لسيارتين أحدها بقيادة والدي وبرفقة والدتي و رنيم ،
الأخرى بقيادتي يرافقني كل من ياسر وهالة ..
في الطريق ،
استلمت هالة دفة الحوار وثرثرة الفتيات المعتادة ،
ياسر التزم الصمت وأنا ألقي بتعليق بين الفينة وأختها ،
وفكري ورأسي برمته تركته هناك ، أمام المنزل المقابل !
استغرقنا في سيرنا ما يقارب العشرون دقيقة ،
وأخيراً وصلنا !
ترجّل الجميع بحماس و سرور فائقين ،
دخلت النساء إلى قسمهن ، وتوجهت وشقيقي ووالدي إلى القسم الخاص بالرجال ،
ثم بدأنا بإعداد الترتيبات المناسبة وتجهيز أكواب الشاي والقهوة وما سنقدمه للضيوف ،
استمرّ الوضع لساعة حتى ابتدأ المدعوين بالتوافد ،
تتقدمهم عائلة صديقي مازن الموقرة !
فرحتُ كثيراً لرؤيته وكم تمنيت حينما شاهدته مقبلاً أن ألمح إلى جواره تلك الدمية الصغيرة !
بيد أنه أتى خالياً من الدمى ،
بالإضافة إلى أن صغيرتي قد كبرت ،
رغم كونها لا تزال طفلة في ناظري إلا أنه لم يعد باستطاعتي مداعبتها كالسابق ،
ولا أن أحملها وأقبلها وأمسح على شعرها البني ولا أن أتأمل عينيها العسليتين ،
أمضيت معهم بعض الوقت ...
ثم جررت خطواتي بتسلل أحاول استنشاق هواء نقي مفعم بسحر الطبيعة ،
بعيداً عن الضجيج ورائحة البخور والأطعمة والقهوة !
يا للأيام !
كيف لها أن تخطفكِ مني بعد أن أصبحتِ وتداً في خافقي لا أقوى على انتزاعه ،
مرات قليلة ومتفاوتة تلك التي أتمكن فيها من رؤيتها والحديث معها لبضع دقائق ،
إذ أن مرحلة المنع والقيود ابتدأت تفرض عليها من قبل والدتها ،
لأنها وكما تدعي قد أصبحت كبيرة ، لا يصح لها أن تخالط الفتيان !
آه يا دميتي ،
أرجوكِ لا تكبري !
فقط ابقي هكذا .... ابقي هكذا ...
لن أحتمل يوم أن تصبحي فتاة ناضجة ، تتحجب عن الغرباء .. و عني !
- أيها العاشق ! فيمَ أنت شارد ؟!
اقتطع سلسلة هوسي تلك صوت مازن يسألني مازحاً ،
رغم كونه أخي الذي لم تلده أمي ، إلا أنني لم أبح له يوماً بجنوني وتعلقي بأخته ،
كيف لي أن أفعل ؟!
الجميع يفسر تصرفاتي كنوع من الحنان والعاطفة التلقائية بين شاب كبير يتلطف بفتاة صغيرة ،
إنهم ينظرون إلينا بمبدأ الإخوة ،
إنهم لا يدركون ، وأنت يا مازن لا تدرك ، والعالم كله أجمع ،
أن ولعي بها أكبر من ذلك ... أكبر من ذلك بكثير !
تبسمت وقلت :
- لا شيء ، أفكر بالمستقبل !
ضحك مازن مندهشاً وكأنه لم يتوقع إجابة جادة كهذه !
- يا رجل ! ألست من تقول أن القلق بشأن المستقبل مضيعة للوقت ؟!
رشقته بنظرة تأكيد وبابتسامة متهكمة قلت :
- وللجهد أيضاً !
سدد إلى كتفي بقبضته ضربة خفيفة وقال :
- هذا صديقي الذي أعرفه ...
أردفت بسخريتي المألوفة :
- دعنا نعود إلى ضيوفنا الكرام ! لابد وأنهم يفتقدون أمير الحفلة ..

*****

المجلس مزدحم بالرجال والضوضاء ،
يجب أن أتبسم بافتعال وأسكب لهم المشروبات وأجيب على أسئلتهم الساذجة ،
بعض الشبان خرجوا للعب كرة القدم في الملعب المخصص من الشاليه ،
وبما أنني قد سئمت الإستماع المرغم لأحاديث الكبار التي لا تروق لي وتشعرني بالملل المفرط ،
آثرت الخروج ومتابعتهم لعل هذه السويعات تنقضي بسرعة ،
لا أعلم لمَ يصيبني الضجر دائماً جراء هذهِ الإجتماعات !
نهضتُ بتململ وخرجتُ إليهم ... ثم وقفت على مقربة أراقبهم بصمت ،
أحد أبناء أقاربنا لوّح لي من بعيد يحثني على المشاركة ،
هززت رأسي نفياً وحركت يدي مشيراً إلى أنني سأكتفي بالمشاهدة ،
طلب منهم الإنتظار واقترب مني قائلاً :
- هيا يا رجل ! لن نلعب من دونك ..
نقلت بصري إليهم فإذا بالجميع يحملق بي ،
ترددت قليلاً !
لن يبدو مظهري لائقاً إذا ما لعبت بزيي الرسمي ! ألن أبدو مضحكاً ؟!
قلتُ أحاول التهرب :
- اعفني أرجوك ، حتى أنني لم أرتدِ ملابساً رياضية ..
الفتى رفع حاجبيه وقال :
- يا ذكي ، ألا ترانا جميعاً كذلك ؟!
وأشار إليهم ، الجميع بزيهم الرسمي .... أظن حجتي كانت واهنة وتدعو للسخرية أيضاً !
ضحك وقال :
- هيا عادل ، دع الرسميات جانباً لنمرح قليلاً !
راقت لي الفكرة فانضممتُ إليهم وبدأنا في ركل الكرة ،
بعد قليل التحق بنا مازن واشتعل الملعبُ حماساً وزادت حدة اللعب بين الفريقين ،
الهتافات تتعالى ،
ثمة من يصفق ويشجع أيضاً !
خرج بعض الكبار لمشاهدتنا فاشتدت المباراة حرارة ونشاطاً ،
و بصراحة ،
سدد فريقي أغلب الأهداف بمشاركتي ولا فخر !
تلاشى الملل شيئاً فشيئاً ونسيتُ تماماً أني كنت ضجراً قبل دقائق ..
بينما نحنُ منهمكين في تلقف الكرة وتمريرها ،
سمعناً صوتاً أقرب للصراخ !
قادم من قسم النساء ،
لم نعبأ به ، أو شخصياً ، لم أبالِ إذ ظننتهُ للوهلة الأولى يعود لطفل ما يلعب مع أقرانه ،
إلا أن الصوت أخذ يتعالى ،
إنها فتاة صغيرة تقف هناك عند الباب الفاصل بين القسمين وتصرخ بهلع !
استطعت التقاط بضع كلمات مما كانت تهذي به :
" أسرعوا ..... هناك فتاة سقطت ... دماء ... ساعدوها ! "
توقفنا جميعاً في جزع ، والتفتنا إليها ..
رأيت أبي يخرج مسرعاً باتجاهها وجميعنا متسمرون في أماكننا نحدق بها !
ويقول بخوف :
- ماذا هناك يا فتاة ، لماذا تصرخين ؟!
الفتاة أخذت تبكي ، وبما أن الأجواء سكنت عن الحركة والجميع تلفع بالهدوء فجأة !
تمكنت من سماعها بوضوح وهي تقول :
- هناك فتاة سقطت في بركة السباحة ، إنها تنزف الكثير من الدماء ، خذوها إلى المستشفى !
أليس من الطبيعي أن من يسقط في بركة السباحة سيغرق ؟!
إذاً كيف لها أن تنزف ...
أوه كلا !!!!!
تذكرت ...
المسبح فارغ من المياه كلياً ...
أبي دفع الفتاة وهبّ كالمصعوق إلى الداخل ..
كلنا متصلبين في توجس وتوتر ..
نتبادل الرمقات بصمت وذهول وعدم استيعاب !
ما الذي حصل ؟!
أخبروني ما الذي حصل ؟!
ألم نكن مبتهجين قبل ثوانٍ فقط ، ألم نكن نتدافع ونلعب في أهبة المتعة وقمة الجذل ؟!
وبدأ بعض الرجال يتهافتون وراء أبي ومن ضمنهم ياسر ومازن ..
لحظات فقط هي التي استغرقتها لأصحو من تلك الدوامة الموحشة ..
وكأنني تنبهت لشيء طاف عن مخيلتي !
ماذا ......
ماذا لو كانت وسن ؟!
يا إلهي وسن !!!
ركضتُ أسابق الريح أو أمتطيها لا أعلم !
تصاعدت الدماء إلى رأسي وخفق قلبي بشدة كادت تمزق أضلاعي ،
في ضربٍ من الجنون ولجتُ إلى قسم النساء وأنا أتلفت برهبة وفزع ،
أتخبطُ كالمسعور !
أبحث فلا أجد إلا نساء متلفعات بجلابيبهن ، أصواتهن الباكية تخترق أذني فتزيد جنوني جنوناً ،
صياحهنّ يدمي الحجر ويخلق الذعر !
وهناك ...
رأيت والدي في منتصف البركة ومن حوله آخرون يساعدونه في حمل الفتاة المبللة بدمائها ،
لم أقوى على التقدم ، ولا على التأخر ،
وكأن قدمي مزروعتان في سابع أرض !
وأخذت تتلاطم بي الوساوس ويصيب عينيّ غشاوة منعتني من التمييز !
إنهم يحملونها كالجثة الهامدة ، لا تتحرك !
وأنا لم أنطق بعد ،
وكأن لساني قد أرداه الشلل ،
وهو لا يزال يجاهد في نطق أحرف ثلاث لم يستطع الصدح بها !
و ... سن ... و .. س .. ن
لم يخرج من حنجرتي سوى كلمة باهتة بلا صوت ،
ثم ما لبث سدّ الصدمة هذا إلا وقد انهار وتحررت مفاصلي لأنادي بصوتٍ مكسور أقربُ للنشيج :
" وســــــن "
إلا أن أحداً لم يسمعني !
لا أحد ...
عدتُ أصيح بصوتٍ أعلى :
" وســن " ...
إنهم منشغلون .. لقد أخذوها .. وذهبوا على عجالة ..
لم يجبني أحد ، لم يلتفت لي أحد ، لم يطمئني أحد ..
خرجوا واحداً تلو الآخر ،
كلهم ..
وبقعة الدماء لا زالت تلطخ الأرضية ..
وأنا أحملق بها مشدوهاً شبه واعٍ لما حدث ..
اجتررت ساقي جراً وتقدمت كالمخدر تماماً ..
لا زلت أردد بصوت لم يتجاوز أحبالي الصوتية ..
" وسن " ..
وتدحرجت على خدي دمعة أظنها بلون تلك الدماء !
ثم تلتها أخرى ..
وأخرى ..
وأخرى ..
حتى سقطت من طولي عاجزاً مصدوماً غيرَ مصدق ..
واستقريت على ركبتي ..
هبطتُ برأسي وأسندت ثقله بين كفي ..
في كابوسٍ رجوت أن أستيقظ منه عاجلاً غير آجل ..
وكانت الكلمة الأولى والأخيرة التي انطلقت من شفتي حينها :
" وسن " ..
وفي وضع أشبه بالحلم .. حلم فضيّ .. أو ملائكي !
شعرت بيدٍ ما تلامس كتفي ..
ثم تشد عليه ..
ثم تمسكه بقوة ،
ثم تلفه نحوها وتقول :
- عادل ... أنا هنا !
فتحتُ جفني ببطئ وارتباك .. وقطرات من الماء المالح تتكدس في محجري فتحجب عني الرؤية ..
بدت لي معالمها تبين ..
وتتّضح ..
شعرٌ بني طويل وناعم يتجاوز منكبيها ، وجسد صغير ... وبشرة بيضاء .... وطفلة جميلة !
دققت النظر .. فتجلت لي نظراتها الناعسة ..
وهي تقول :
- أنا بخير عادل .. أرجوك لا تبكِ ...
زمّت شفتيها في حزن وخيبة ..
تحركت يدي إليها بلا إدراك ..
أمسكتها لعلني لا زلت أحلم !
و بيدي الثانية .. اجتذبتها إلي كالظمآن ...
في جنون لم أشهد له مثيلاً ..
حوطتها بكلتيّ ذراعيّ ..
ضممتها حتى خلتها قد امتزجت بي ..
أمسكت رأسها بكفي وأخذت ألثمها وأقبل جبينها ..
بلهفة الأم وهلع الأب .... ومشاعر الدنيا أجمع !
- وسن أنتي بخير ؟! أنتي بخير ..
الحمد لك يا رب .. الحمد لك ..
وسن بخير ..
مكثت أتفحصها وأشد على كتفيها ..
- أنتي بخير .. أليس كذلك ؟!
وهي تومئ برأسها متعجبة دون أن تهمس ..
أضمها حيناً وأتأملها حيناً ..
ثم أعاود النظر إليها غير مصدق ..
أخيراً ..
احتضنتها خشية أن تفلت من بين ذراعي ..
و قلت بصوتٍ هزيل :
- دعيني هكذا لبعض الوقت ..
لم تدفعني ولم تنبس ببنت شفة ..
مكثنا على هذه الحال لثوانٍ تمنيتها سنين ..
ثم أبعدتها حتى أتمكن من ارتشاف ملامحها ..
وأدرتها للناحية المعاكسة حتى لا تتمكن من رؤية الدماء ...
قلت :
- وسن ...
ردت بنغم :
- نعم ...
وارتسم على ثغرها ابتسامة طفولية كبلسم سحري يشفي الجروح الغائرة ..
قلت بنبرة جدية مؤكدة :
- ما حصل الآن .. لا تخبري بهِ أحداً .. عديني بذلك ..
رمقتني بنظرات غير مدركة لكلامي ..
أعدت الكرة :
- ما حصل بيننا الآن يا وسن .. لا تخبري بهِ أياً كان .. عديني !
يبدو أنها فهمت أخيراً ..
هزت رأسها إيجاباً وأردفت :
- أعدك ..
نهضتُ وأنا أمسح ما علق من الدموع على خدي ..
فإذا بها تعبث بحقيبتها ثم تخرج منديلاً ملوناً من القماش وتمده لي ..
قلت :
- لا داعِ دميتي ..
لكنها لم تبرح مكانها ولا زالت تمده لي بإصرار ..
مددتُ يدي وتلقفته .. قلبتهُ بين كفي وعلقت :
- ألن تحتاجينه ؟!
رفعت رأسها .. سكتت قليلاً كمن يستحضر العبارات ثم قالت :
- الرجال لا يبكون .. ولكن بما أنني سأهبك هذا المنديل فأنت لن تبكي أبداً .. لذا احتفظ به !
حدقت بها هنيهة ..
وكنت على وشك أن أطلق ضحكة لا تتناسب والموقف ..
إلا أن رؤيتها بهذا المنظر الذي لا ينبؤ بكونها تمزح إطلاقاً ..
جعلتني أتكتم على رغبتي في الضحك ..
قلت مداعباً لها :
- ولماذا لا أستطيع البكاء .. أليس لي عينين كبقية البشر ؟!
نظرت إلي لوهلة ثم انتزعت المنديل من يدي وأخرجت من حقيبتها قلماً واستندت على الحائط ..
خطت بعض الكلمات وأعادته إلي ..
قالت بلكنة مرحة وبريئة :
- تفضل ...
وشرعت تبتسم من جديد !
نقلت بصري إليه فإذا هي قد كتبت :
" عادل .. إذا بكيت .. سأبكي أنا أيضاً .. وسن "
قلت لها بقلق :
- ولمَ تبكين ؟!
أجابت هذهِ المرة .. ولكن بدهاء .. وهي تلمحني بطرف ناظريها :
- أليس لي عينين كبقية البشر ؟!
اقتربتُ منها ومسحت على رأسها ...
- أيتها المراوغة !

*****

فيما بعد ..
اتصل والدي ووالد الفتاة المصابة ..
يطمئنوننا أنها بخير ..
وأنها لا تعاني إلا من شج في جبينها إثر السقوط مما أدى إلى نزيف كمية من الدماء لذلك أصابها الإغماء ..
لكنها لم تتأذى بأي جروح بليغة ..
الحمد لله ..
ما حصل زلزل الأنحاء وقضى على أي رغبة في متابعة السهرة ..
لذا شرع الجميع في الرحيل بصمت ..
ياسر تكفل بإيصال عائلة الفتاة إلى منزلهم نظراً لكون والدهم مرافقاً لها في المستشفى ..
واضطر لأخذ سيارتي ..
الآن لم يتبقى سوانا ..
نحن ننتظر عودة والدي ليقلنا إلى المنزل .. ومازن وعائلته يودون البقاء معنا لحين موعد ذهابنا ..
اليوم ..
ورغم كل تفاصيله الصاعقة ..
أدركت أمرين لا ثالث لهما ..
أنني مهووس بتلك الـ وسن .. أو مجنون بها !
لماذا كانت هي أول من اقتحم رأسي وأول من هرعتُ لأجلها ..
لمَ لم تكن رنيم مثلاً ؟!
أو أي صبية أخرى ..
وكيف لي أن تجتاحني رغبة في الضحك وإهمال تام لكل ما حولي بمجرد أن علمت أنها بخير ..
لم تزل لحظتها دماء المصابة تعم الأرجاء ،
حتى أنني لم أكن أعلم بعد هل هي على قيد الحياة أم لا !
أي عالمٍ ذاك هو الذي تأخذينني إليه يا وسن ؟!
وأي جنون هو الذي تلبسينني إياه ..
أجهدني الأرق ليلتها ..
تقلبت على السرير طويلاً ..
ولكنني أذكر جيداً أنني عندما استسلمت للنوم ..
فرشتُ على وسادتي منديلاً ملوناً ..
أظنكم تعرفونه ...

|| نهاية الجزء الثالث ||

 
 

 

عرض البوم صور ثلجية !  
قديم 29-08-12, 08:49 PM   المشاركة رقم: 4
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو فخري
ضياء ليلاس

البيانات
التسجيل: Apr 2012
العضوية: 241278
المشاركات: 2,878
الجنس أنثى
معدل التقييم: أضواء الصباح عضو جوهرة التقييمأضواء الصباح عضو جوهرة التقييمأضواء الصباح عضو جوهرة التقييمأضواء الصباح عضو جوهرة التقييمأضواء الصباح عضو جوهرة التقييمأضواء الصباح عضو جوهرة التقييمأضواء الصباح عضو جوهرة التقييمأضواء الصباح عضو جوهرة التقييمأضواء الصباح عضو جوهرة التقييمأضواء الصباح عضو جوهرة التقييمأضواء الصباح عضو جوهرة التقييم
نقاط التقييم: 2237

االدولة
البلدKuwait
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
أضواء الصباح غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ثلجية ! المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

السلام عليكم و.رحمه الله و.بركاته

مرحبا فيج عزيزتي منوره وحي الاعضاء


للاسف العنوان مخالف لقوانين المنتدى بسبب التشكيل

ينقل للارشيف

عزيزتي ارجعي نزلي الروايه من جديد من غير تشكيل بالعنوان


حياج الله


.......

 
 

 

عرض البوم صور أضواء الصباح  
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
المُغرمون, بالسمَاء, رواية
facebook




جديد مواضيع قسم الارشيف
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 04:08 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية