كاتب الموضوع :
ثلجية !
المنتدى :
الارشيف
|| الجزء الثالث ||
" دموع ملونة "
في قلب كل فتى .. يوجد قصرٌ شاعري ذو أعمدة عاطفية و أساسات متينة راسخة في العمق ..
وكأي قصر بطبيعة الحال .. يحتاج إلى سيد ..
أو ربما سيدة !
أما أنا .. فقد أوليت أمره لأميرة صغيرة أسكنتها فيه منذ الطفولة !
سلمتها مفاتيحه باستسلام وتركتها تعيث في أرجائه كما يحلو لها ..
الأيام تركض لاهثة حذو الأفول ..
العمر ينقضي ،
الإهتمامات تتبدل ،
الأشجار تنمو ... والدمية تكبر !
وسن ..
تلك المخلوقة المتربعة على عرش فؤادي مذ رأيتها لأول وهلة ..
والتي لم تفارق ناظري لسبع سنين تفيضُ أنساً وألفة ومودة ..
سبع سنين أسقيها من ماء عيني ومن عصارة كبدي ومن لهفتي وولعي بها !
لم تكن مجرد فتاة عادية !
إذ كيف لطفلة كهذه أن تنحت في أحشائي ملامحها البديعية وتتوغل فيها عنوةً تأبى التلاشي !
يوماً يتلوه يوم ، وحيناً يعقبهُ حين ..
أشاهدها تكبر أمامي وأغدق عليها اهتمامي وأدللها قدر ما أستطيع ..
كثيراً ما لاعبتها وشاركتها حل واجباتها ..
وكثيراً ما كنت أتردد على المكتبة مصطحباً إياها برفقة شقيقتي الصغرى
لأسمح لها بشراء كل ما ترغب ..
من ملصقات وقصص وكتب وأشياء أخرى !
بالمناسبة ..
دميتي تهوى عالم الطبيعة و الحيوان !
إنها مهووسة بهما جداً منذ صغرها ، وبين كل فترة وأختها تقوم باقتناء إحدى الحيوانات الأليفة ..
ابتداءاً بِ صيصان ملونة و سناجب ظريفة مروراً بمختلف الطيور وانتهاءاً بأرنبها الرمادي ..
أميرتي تجيد الإعتناء بهذه المخلوقات ..
و محاولاتها الدائمة في تثقيف نفسها كوّنت لديها كومة من معلومات
لا يستهان بقدرها عن هذا العالم ..
أذكر أني حين سألتها ذات مرة عن أمنيتها المستقبلية ، ردت بثقة وبراءة :
" سأصبح طبيبة بيطرية ، إنه حلمي الكبير ! "
ولن أكون عادل ..
مالم أحقق لك حلمك هذا ، أو غيره ، أو حتى أحلامكِ كلها بلا استثناء !
حتى وإن رغبت بنجوم الدب الأكبر ، سأصفّها على سقف غرفتها بلا هوادة ..
*****
في المرات العديدة التي كنت أتردد فيها على منزلهم ..
ينشأ موقف قد تكرر مراراً ، حتى أنه لم يعد يصيبني بالدهشة كأول مرة لحدوثه !
ما يحصل ..
أني أجدها تحتضن إحدى حيواناتها المقربة وتستلقي على الأعشاب الخضراء الرطبة تتأمل السماء بسكون وشغف ..
لكم أن تتصوروا الدغدغة التي ترقص في باطن قدمي وتشاكس خلايا أوردتي بمجرد رؤيتها كهذا !
متمددة في سلام وخصلات شعرها تفترش الأرض وتلتصق بها ،
وعينيها ذو الرموش الكثيفة المتراصة ترصد الأفق في وضع لا يليق إلا بالأميرات الصغيرات !
فور أن تنتبه لوجودي تنهض فجأة ،
تتقدم نحوي في خطوات قافزة فرحة ، تمسك بيدي وتحثني على الإستلقاء بجانبها !
في معظم الأحيان كان مازن من يتولى مهمة ردعها وإقناعها بأن تعتقني
وأنني أتيت للجلوس معه لا للنوم هنا !
إلا أن إصرارها يمثل نقطة ضعفي لذا أجدني أذعن لطلباتها الجنونية ..
وأتمدد بجوارها ، فيما يذهب هو لإحضار المشروبات وما يلزم للسهرة ..
- عادل !
- نعم دميتي ..
تقول وهي تشير للأعلى بسبابتها :
- السماء كبيرة .. كبيرة جداً !
- صحيح يا صغيرتي ..
- وجميلة جداً !
- أيضاً صحيح ..
- وساحرة ...
- صحيح ..
- وأنا أريد أن أذهب إلى هناك !
- صحيـ ...
ما إن حاولت إتمام جملتي إلا وقد استوعبت ما تفوهت به ..
التفت إليها في تعجب :
- ولكنها بعيدة ، المسافة بيننا ملايين السنين !
قالت وفي كلماتها يتجلى إصرار الأطفال وأملهم الوهمي :
- لكنني .. لكنني أحب السماء ، أريد أن أسكن هناك ، لماذا لا نستطيع السفر إليها ؟!
إن كان هناك مهمة صعبة ، فلن تكون أصعب وأعسر من أن توصل حقيقة وواقع
إلى عقل طفلة لم تفهم حقائق الأمور ولا زالت تهيم في عالم من الخيالات البريئة !
قلت بصوت حنون أجش ، محاولاً تغيير مسار عاطفتها المفعمة إلى أشياء أقرب :
- ألا تحبين الحيوانات ؟! الأجدر أن تحبيهم أكثر فهم بحاجة لكِ !
أدارت رأسها إلي بسرعة ،
ثم رفعت جذعها عن الأرض وجلست ،
وقالت وهي تلقي نظرة مستنتجة كأنما يلمع فوق رأسها مصباح مضيء توصّل إلى حل :
- سآخذ حيواناتي الأليفة ، ونعيش هناك !
*****
هل جربتم أن ترتكبوا أفعالاً سخيفة وتتعمدون مجاراتها كما أفعل ؟!
أم هل جربتم يوماً أن تقعوا في عشق كائن حي ضئيل الحجم ملائكي الملامح ،
ترقبونه في كل لحظة وتهتمون لأجله كالمهووسين !
تتمنون أن يعيش في كنفكم أبد الآبدين ..
وأنتم تشهدون لحظة أن تنمو فيها أطرافه ويزداد فيها حجمه تحت سقف متابعتكم ..
أنا أدرك جيداً ذلك الشعور ، فقد عشته دهراً ليس يسيراً من عمري ،
ولا زلت أعيشه ،
ولن أزال أفعل حتى تعلن رئتي عن شهيقهما الأخير !
- عادل ، ألم تجهز بعد ؟!
كان هذا صوت أمي اخترق طبلة أذني يوقظني من أطيافي الحالمة وذكرياتي المبجلة ،
وهي تطرق الباب في استعجال ..
قلت :
- بلى أمي ، سآتي حالاً !
البيت في حالة استنفار تام وذهاب وإياب وفوضى وحركة مشتعلة ..
الكل يحاول اغتنام الوقت وإنهاء ما يمكن إنهاؤه ،
أمي تغلف الأطباق التي سنحضرها معنا وهالة تلف حجابها بإحكام أمام المرآه و رنيم تحوم كالنحلة !
أبي وياسر في الخارج ، بانتظارنا ..
أما أنا فقد كنت معفياً من ثلة الأعمال هذه ،
أليس يومي المميز ؟!
اليوم سنقيم حفلة بمناسبة تخرجي من المرحلة الثانوية ،
لم أكن من اخترع الفكرة ولم أكن متحمساً لها ،
بل بإصرار من والدتي ورغبتها في عدم التفرقة بيني وبين شقيقي !
وأنه يجب أن أحظى بما حظي به ...
لكن ألا ترين الفرق شاسعاً أماه ؟!
تخرّج هو بمستوى عبقري يشار إليه بالبنان ، بينما تخرجت أنا بمستوى عادي ، لا يستحق كل هذا العناء !
لو أن مازن انضم إلي في هذه الحفلة ، وجعل منها مناسبتين عوضاً عن واحدة ..
ربما سيكون لها نكهة أخرى ..
لكنه رفض متحججاً بأنه سيتم حفلته الخاصة بين أقاربه هناك ..
- ماهذهِ الوسامة يا رجل ! ستخطف الأنظار لا محالة !
إنها هالة ... تشيد بي إعجاباً وتصفق ..
عندما أستقبل مديحاً من أحدهم فإن لساني يُلجم ، لست جيداً في الرد على عبارات كهذه !
قلت محاولاً التستر على خجلي بصوت خشن :
- أين أمي ؟!
هالة قالت بخبث ، مشيرة إلي :
- يا إلهي إنه يشعر بالخجل ! انظري رنيم تعابيره امتقعت باللون الأحمر ..
رنيم بينما كانت منشغلة بتفقد حقيبتها جاءت لتطل في وجهي بفضول ،
ثم تبدلت قسماتها للدهشة :
- أنتي محقة أختي .. السمار الخفيف تحول إلى مزرعة من الطماطم !
وشرعتا في الضحك ..
كل هذا وأنا متخشب في المنتصف كاللوحة !
ما إن تبدأ هاتان الفتاتان في استلام موجة السخرية والتشبيهات لا يكون بمقدوري سوى الإنسحاب خشية أن أصفعهما ،
قلت بصوت أكثر حدة وخشونة :
- اصمتا وإلا ....
هالة لم تبالي بتهديدي إنما تقدمت في شقاوة حتى أصبحت بجواري تماماً ..
وجعلت تنظر للمرآة المستقرة أمامنا وهي تقول :
- دعني أقيس فارق الطول بيننا !
رنيم أيضاً جاءت ووقفت إلى جانبي الأيسر :
- أنا أيضاً أريد أن أعرف ..
الآن ..
نظرت إليهما تتملكني رغبة صارمة في الضحك لكنني لم أشأ محو التعابير الممتعضة التي تكونت قبل قليل ،
قلت :
- ابتعدا أيتها القصيرتان !
قالت هالة باندفاع :
- بل أنت الطويل جداً ، يا عمود الكهرباء !
في هذه الأثناء خرجت أمي من المطبخ وقالت :
- ماذا تفعلون هنا ؟! هيا فوالدكم في الإنتظار ..
*****
أبي دعا الكثير من أقاربنا وبعض من معارفه في العمل وبالتأكيد لم تفته دعوة تلك العائلة الحميمة ..
اتصلت بمازن قبيل خروجي وأكدت عليه أن يكونوا أول الحاضرين ..
فرحب بطلبي غير ممانع ،
مقر الحفلة كان في إحدى الشاليهات الفاخرة ،
انقسمنا لسيارتين أحدها بقيادة والدي وبرفقة والدتي و رنيم ،
الأخرى بقيادتي يرافقني كل من ياسر وهالة ..
في الطريق ،
استلمت هالة دفة الحوار وثرثرة الفتيات المعتادة ،
ياسر التزم الصمت وأنا ألقي بتعليق بين الفينة وأختها ،
وفكري ورأسي برمته تركته هناك ، أمام المنزل المقابل !
استغرقنا في سيرنا ما يقارب العشرون دقيقة ،
وأخيراً وصلنا !
ترجّل الجميع بحماس و سرور فائقين ،
دخلت النساء إلى قسمهن ، وتوجهت وشقيقي ووالدي إلى القسم الخاص بالرجال ،
ثم بدأنا بإعداد الترتيبات المناسبة وتجهيز أكواب الشاي والقهوة وما سنقدمه للضيوف ،
استمرّ الوضع لساعة حتى ابتدأ المدعوين بالتوافد ،
تتقدمهم عائلة صديقي مازن الموقرة !
فرحتُ كثيراً لرؤيته وكم تمنيت حينما شاهدته مقبلاً أن ألمح إلى جواره تلك الدمية الصغيرة !
بيد أنه أتى خالياً من الدمى ،
بالإضافة إلى أن صغيرتي قد كبرت ،
رغم كونها لا تزال طفلة في ناظري إلا أنه لم يعد باستطاعتي مداعبتها كالسابق ،
ولا أن أحملها وأقبلها وأمسح على شعرها البني ولا أن أتأمل عينيها العسليتين ،
أمضيت معهم بعض الوقت ...
ثم جررت خطواتي بتسلل أحاول استنشاق هواء نقي مفعم بسحر الطبيعة ،
بعيداً عن الضجيج ورائحة البخور والأطعمة والقهوة !
يا للأيام !
كيف لها أن تخطفكِ مني بعد أن أصبحتِ وتداً في خافقي لا أقوى على انتزاعه ،
مرات قليلة ومتفاوتة تلك التي أتمكن فيها من رؤيتها والحديث معها لبضع دقائق ،
إذ أن مرحلة المنع والقيود ابتدأت تفرض عليها من قبل والدتها ،
لأنها وكما تدعي قد أصبحت كبيرة ، لا يصح لها أن تخالط الفتيان !
آه يا دميتي ،
أرجوكِ لا تكبري !
فقط ابقي هكذا .... ابقي هكذا ...
لن أحتمل يوم أن تصبحي فتاة ناضجة ، تتحجب عن الغرباء .. و عني !
- أيها العاشق ! فيمَ أنت شارد ؟!
اقتطع سلسلة هوسي تلك صوت مازن يسألني مازحاً ،
رغم كونه أخي الذي لم تلده أمي ، إلا أنني لم أبح له يوماً بجنوني وتعلقي بأخته ،
كيف لي أن أفعل ؟!
الجميع يفسر تصرفاتي كنوع من الحنان والعاطفة التلقائية بين شاب كبير يتلطف بفتاة صغيرة ،
إنهم ينظرون إلينا بمبدأ الإخوة ،
إنهم لا يدركون ، وأنت يا مازن لا تدرك ، والعالم كله أجمع ،
أن ولعي بها أكبر من ذلك ... أكبر من ذلك بكثير !
تبسمت وقلت :
- لا شيء ، أفكر بالمستقبل !
ضحك مازن مندهشاً وكأنه لم يتوقع إجابة جادة كهذه !
- يا رجل ! ألست من تقول أن القلق بشأن المستقبل مضيعة للوقت ؟!
رشقته بنظرة تأكيد وبابتسامة متهكمة قلت :
- وللجهد أيضاً !
سدد إلى كتفي بقبضته ضربة خفيفة وقال :
- هذا صديقي الذي أعرفه ...
أردفت بسخريتي المألوفة :
- دعنا نعود إلى ضيوفنا الكرام ! لابد وأنهم يفتقدون أمير الحفلة ..
*****
المجلس مزدحم بالرجال والضوضاء ،
يجب أن أتبسم بافتعال وأسكب لهم المشروبات وأجيب على أسئلتهم الساذجة ،
بعض الشبان خرجوا للعب كرة القدم في الملعب المخصص من الشاليه ،
وبما أنني قد سئمت الإستماع المرغم لأحاديث الكبار التي لا تروق لي وتشعرني بالملل المفرط ،
آثرت الخروج ومتابعتهم لعل هذه السويعات تنقضي بسرعة ،
لا أعلم لمَ يصيبني الضجر دائماً جراء هذهِ الإجتماعات !
نهضتُ بتململ وخرجتُ إليهم ... ثم وقفت على مقربة أراقبهم بصمت ،
أحد أبناء أقاربنا لوّح لي من بعيد يحثني على المشاركة ،
هززت رأسي نفياً وحركت يدي مشيراً إلى أنني سأكتفي بالمشاهدة ،
طلب منهم الإنتظار واقترب مني قائلاً :
- هيا يا رجل ! لن نلعب من دونك ..
نقلت بصري إليهم فإذا بالجميع يحملق بي ،
ترددت قليلاً !
لن يبدو مظهري لائقاً إذا ما لعبت بزيي الرسمي ! ألن أبدو مضحكاً ؟!
قلتُ أحاول التهرب :
- اعفني أرجوك ، حتى أنني لم أرتدِ ملابساً رياضية ..
الفتى رفع حاجبيه وقال :
- يا ذكي ، ألا ترانا جميعاً كذلك ؟!
وأشار إليهم ، الجميع بزيهم الرسمي .... أظن حجتي كانت واهنة وتدعو للسخرية أيضاً !
ضحك وقال :
- هيا عادل ، دع الرسميات جانباً لنمرح قليلاً !
راقت لي الفكرة فانضممتُ إليهم وبدأنا في ركل الكرة ،
بعد قليل التحق بنا مازن واشتعل الملعبُ حماساً وزادت حدة اللعب بين الفريقين ،
الهتافات تتعالى ،
ثمة من يصفق ويشجع أيضاً !
خرج بعض الكبار لمشاهدتنا فاشتدت المباراة حرارة ونشاطاً ،
و بصراحة ،
سدد فريقي أغلب الأهداف بمشاركتي ولا فخر !
تلاشى الملل شيئاً فشيئاً ونسيتُ تماماً أني كنت ضجراً قبل دقائق ..
بينما نحنُ منهمكين في تلقف الكرة وتمريرها ،
سمعناً صوتاً أقرب للصراخ !
قادم من قسم النساء ،
لم نعبأ به ، أو شخصياً ، لم أبالِ إذ ظننتهُ للوهلة الأولى يعود لطفل ما يلعب مع أقرانه ،
إلا أن الصوت أخذ يتعالى ،
إنها فتاة صغيرة تقف هناك عند الباب الفاصل بين القسمين وتصرخ بهلع !
استطعت التقاط بضع كلمات مما كانت تهذي به :
" أسرعوا ..... هناك فتاة سقطت ... دماء ... ساعدوها ! "
توقفنا جميعاً في جزع ، والتفتنا إليها ..
رأيت أبي يخرج مسرعاً باتجاهها وجميعنا متسمرون في أماكننا نحدق بها !
ويقول بخوف :
- ماذا هناك يا فتاة ، لماذا تصرخين ؟!
الفتاة أخذت تبكي ، وبما أن الأجواء سكنت عن الحركة والجميع تلفع بالهدوء فجأة !
تمكنت من سماعها بوضوح وهي تقول :
- هناك فتاة سقطت في بركة السباحة ، إنها تنزف الكثير من الدماء ، خذوها إلى المستشفى !
أليس من الطبيعي أن من يسقط في بركة السباحة سيغرق ؟!
إذاً كيف لها أن تنزف ...
أوه كلا !!!!!
تذكرت ...
المسبح فارغ من المياه كلياً ...
أبي دفع الفتاة وهبّ كالمصعوق إلى الداخل ..
كلنا متصلبين في توجس وتوتر ..
نتبادل الرمقات بصمت وذهول وعدم استيعاب !
ما الذي حصل ؟!
أخبروني ما الذي حصل ؟!
ألم نكن مبتهجين قبل ثوانٍ فقط ، ألم نكن نتدافع ونلعب في أهبة المتعة وقمة الجذل ؟!
وبدأ بعض الرجال يتهافتون وراء أبي ومن ضمنهم ياسر ومازن ..
لحظات فقط هي التي استغرقتها لأصحو من تلك الدوامة الموحشة ..
وكأنني تنبهت لشيء طاف عن مخيلتي !
ماذا ......
ماذا لو كانت وسن ؟!
يا إلهي وسن !!!
ركضتُ أسابق الريح أو أمتطيها لا أعلم !
تصاعدت الدماء إلى رأسي وخفق قلبي بشدة كادت تمزق أضلاعي ،
في ضربٍ من الجنون ولجتُ إلى قسم النساء وأنا أتلفت برهبة وفزع ،
أتخبطُ كالمسعور !
أبحث فلا أجد إلا نساء متلفعات بجلابيبهن ، أصواتهن الباكية تخترق أذني فتزيد جنوني جنوناً ،
صياحهنّ يدمي الحجر ويخلق الذعر !
وهناك ...
رأيت والدي في منتصف البركة ومن حوله آخرون يساعدونه في حمل الفتاة المبللة بدمائها ،
لم أقوى على التقدم ، ولا على التأخر ،
وكأن قدمي مزروعتان في سابع أرض !
وأخذت تتلاطم بي الوساوس ويصيب عينيّ غشاوة منعتني من التمييز !
إنهم يحملونها كالجثة الهامدة ، لا تتحرك !
وأنا لم أنطق بعد ،
وكأن لساني قد أرداه الشلل ،
وهو لا يزال يجاهد في نطق أحرف ثلاث لم يستطع الصدح بها !
و ... سن ... و .. س .. ن
لم يخرج من حنجرتي سوى كلمة باهتة بلا صوت ،
ثم ما لبث سدّ الصدمة هذا إلا وقد انهار وتحررت مفاصلي لأنادي بصوتٍ مكسور أقربُ للنشيج :
" وســــــن "
إلا أن أحداً لم يسمعني !
لا أحد ...
عدتُ أصيح بصوتٍ أعلى :
" وســن " ...
إنهم منشغلون .. لقد أخذوها .. وذهبوا على عجالة ..
لم يجبني أحد ، لم يلتفت لي أحد ، لم يطمئني أحد ..
خرجوا واحداً تلو الآخر ،
كلهم ..
وبقعة الدماء لا زالت تلطخ الأرضية ..
وأنا أحملق بها مشدوهاً شبه واعٍ لما حدث ..
اجتررت ساقي جراً وتقدمت كالمخدر تماماً ..
لا زلت أردد بصوت لم يتجاوز أحبالي الصوتية ..
" وسن " ..
وتدحرجت على خدي دمعة أظنها بلون تلك الدماء !
ثم تلتها أخرى ..
وأخرى ..
وأخرى ..
حتى سقطت من طولي عاجزاً مصدوماً غيرَ مصدق ..
واستقريت على ركبتي ..
هبطتُ برأسي وأسندت ثقله بين كفي ..
في كابوسٍ رجوت أن أستيقظ منه عاجلاً غير آجل ..
وكانت الكلمة الأولى والأخيرة التي انطلقت من شفتي حينها :
" وسن " ..
وفي وضع أشبه بالحلم .. حلم فضيّ .. أو ملائكي !
شعرت بيدٍ ما تلامس كتفي ..
ثم تشد عليه ..
ثم تمسكه بقوة ،
ثم تلفه نحوها وتقول :
- عادل ... أنا هنا !
فتحتُ جفني ببطئ وارتباك .. وقطرات من الماء المالح تتكدس في محجري فتحجب عني الرؤية ..
بدت لي معالمها تبين ..
وتتّضح ..
شعرٌ بني طويل وناعم يتجاوز منكبيها ، وجسد صغير ... وبشرة بيضاء .... وطفلة جميلة !
دققت النظر .. فتجلت لي نظراتها الناعسة ..
وهي تقول :
- أنا بخير عادل .. أرجوك لا تبكِ ...
زمّت شفتيها في حزن وخيبة ..
تحركت يدي إليها بلا إدراك ..
أمسكتها لعلني لا زلت أحلم !
و بيدي الثانية .. اجتذبتها إلي كالظمآن ...
في جنون لم أشهد له مثيلاً ..
حوطتها بكلتيّ ذراعيّ ..
ضممتها حتى خلتها قد امتزجت بي ..
أمسكت رأسها بكفي وأخذت ألثمها وأقبل جبينها ..
بلهفة الأم وهلع الأب .... ومشاعر الدنيا أجمع !
- وسن أنتي بخير ؟! أنتي بخير ..
الحمد لك يا رب .. الحمد لك ..
وسن بخير ..
مكثت أتفحصها وأشد على كتفيها ..
- أنتي بخير .. أليس كذلك ؟!
وهي تومئ برأسها متعجبة دون أن تهمس ..
أضمها حيناً وأتأملها حيناً ..
ثم أعاود النظر إليها غير مصدق ..
أخيراً ..
احتضنتها خشية أن تفلت من بين ذراعي ..
و قلت بصوتٍ هزيل :
- دعيني هكذا لبعض الوقت ..
لم تدفعني ولم تنبس ببنت شفة ..
مكثنا على هذه الحال لثوانٍ تمنيتها سنين ..
ثم أبعدتها حتى أتمكن من ارتشاف ملامحها ..
وأدرتها للناحية المعاكسة حتى لا تتمكن من رؤية الدماء ...
قلت :
- وسن ...
ردت بنغم :
- نعم ...
وارتسم على ثغرها ابتسامة طفولية كبلسم سحري يشفي الجروح الغائرة ..
قلت بنبرة جدية مؤكدة :
- ما حصل الآن .. لا تخبري بهِ أحداً .. عديني بذلك ..
رمقتني بنظرات غير مدركة لكلامي ..
أعدت الكرة :
- ما حصل بيننا الآن يا وسن .. لا تخبري بهِ أياً كان .. عديني !
يبدو أنها فهمت أخيراً ..
هزت رأسها إيجاباً وأردفت :
- أعدك ..
نهضتُ وأنا أمسح ما علق من الدموع على خدي ..
فإذا بها تعبث بحقيبتها ثم تخرج منديلاً ملوناً من القماش وتمده لي ..
قلت :
- لا داعِ دميتي ..
لكنها لم تبرح مكانها ولا زالت تمده لي بإصرار ..
مددتُ يدي وتلقفته .. قلبتهُ بين كفي وعلقت :
- ألن تحتاجينه ؟!
رفعت رأسها .. سكتت قليلاً كمن يستحضر العبارات ثم قالت :
- الرجال لا يبكون .. ولكن بما أنني سأهبك هذا المنديل فأنت لن تبكي أبداً .. لذا احتفظ به !
حدقت بها هنيهة ..
وكنت على وشك أن أطلق ضحكة لا تتناسب والموقف ..
إلا أن رؤيتها بهذا المنظر الذي لا ينبؤ بكونها تمزح إطلاقاً ..
جعلتني أتكتم على رغبتي في الضحك ..
قلت مداعباً لها :
- ولماذا لا أستطيع البكاء .. أليس لي عينين كبقية البشر ؟!
نظرت إلي لوهلة ثم انتزعت المنديل من يدي وأخرجت من حقيبتها قلماً واستندت على الحائط ..
خطت بعض الكلمات وأعادته إلي ..
قالت بلكنة مرحة وبريئة :
- تفضل ...
وشرعت تبتسم من جديد !
نقلت بصري إليه فإذا هي قد كتبت :
" عادل .. إذا بكيت .. سأبكي أنا أيضاً .. وسن "
قلت لها بقلق :
- ولمَ تبكين ؟!
أجابت هذهِ المرة .. ولكن بدهاء .. وهي تلمحني بطرف ناظريها :
- أليس لي عينين كبقية البشر ؟!
اقتربتُ منها ومسحت على رأسها ...
- أيتها المراوغة !
*****
فيما بعد ..
اتصل والدي ووالد الفتاة المصابة ..
يطمئنوننا أنها بخير ..
وأنها لا تعاني إلا من شج في جبينها إثر السقوط مما أدى إلى نزيف كمية من الدماء لذلك أصابها الإغماء ..
لكنها لم تتأذى بأي جروح بليغة ..
الحمد لله ..
ما حصل زلزل الأنحاء وقضى على أي رغبة في متابعة السهرة ..
لذا شرع الجميع في الرحيل بصمت ..
ياسر تكفل بإيصال عائلة الفتاة إلى منزلهم نظراً لكون والدهم مرافقاً لها في المستشفى ..
واضطر لأخذ سيارتي ..
الآن لم يتبقى سوانا ..
نحن ننتظر عودة والدي ليقلنا إلى المنزل .. ومازن وعائلته يودون البقاء معنا لحين موعد ذهابنا ..
اليوم ..
ورغم كل تفاصيله الصاعقة ..
أدركت أمرين لا ثالث لهما ..
أنني مهووس بتلك الـ وسن .. أو مجنون بها !
لماذا كانت هي أول من اقتحم رأسي وأول من هرعتُ لأجلها ..
لمَ لم تكن رنيم مثلاً ؟!
أو أي صبية أخرى ..
وكيف لي أن تجتاحني رغبة في الضحك وإهمال تام لكل ما حولي بمجرد أن علمت أنها بخير ..
لم تزل لحظتها دماء المصابة تعم الأرجاء ،
حتى أنني لم أكن أعلم بعد هل هي على قيد الحياة أم لا !
أي عالمٍ ذاك هو الذي تأخذينني إليه يا وسن ؟!
وأي جنون هو الذي تلبسينني إياه ..
أجهدني الأرق ليلتها ..
تقلبت على السرير طويلاً ..
ولكنني أذكر جيداً أنني عندما استسلمت للنوم ..
فرشتُ على وسادتي منديلاً ملوناً ..
أظنكم تعرفونه ...
|| نهاية الجزء الثالث ||
|