قبلات حاقدة في مهب الريح
ا
لحلقة الثالثة /
المشهد الأول :
*ملاحظة :لازلنا بنفس التوقيت , بعد مرور 10 سنوات .
هي أصبحت في العاشرة من عُمرها , فتاة بعمر الزهور بل تغّار الزهور من عمرها !
جسدها الغضّ الصغير يحمل في ليونته قصة فتاة اعتادت الدلال من والديها
مترفة هي بحبّهما حتى وإن كانوا يعيشون حياة بسيطة !
أميرة هي بعيونهم ولا تريد الأكثر من ذلك .
روحها الطفولية اعطت لوالديها الكبار في السن حباً وتمسكاً بالحياة .!
وكأن اعمارهم ابتدأت فقط من قبل عشرة أعوام خلت , وما قبل ذلك هو فقط مجرد هراء كانوا يعيشونه .
هي تراهم والديها الثمينين وهما يرونها الحياة !
كانت تخبرهمّا دائماً بأن جمالها اكتسبته من والدتها أما ثقتها فهي عاليةً تماماً كوالدها , و في الحقيقة لم يكن ما تتفوه به إلا هراء !
فهي لم تشبه والدتها أبداً في شكلها
و لم تكن ثقتها مكتسبة من والدها أبداً .
أمها بسيطة في ملامحها ! أما هي فتحمل خدين متوردّين شديدي النعومة
وعينانٍ يخال ناظرها انها تتسعان للعالم !
و على عكس والدها إمام المسجد المتواضع فقد تشبعت نفسها بالكثير الكثير من الكبرياء والغرور !
فهي لم تكن تصاحب الفتيات في مدرستها أبداً لأنها تشعر بالتفّوق عليهن
إن لم يكن مادياً فامتيازها في دروسها يكفيها .
المعلمات كنّ يحببنها حقاً فهي لبقة في كلامها و تحب الظهور والتعريف بنفسها
لم يكن هناك شيء يستطيع أن يسلب ثقتها بنفسها أبداً .
وحتى بعض فتيات فصلها الذين منّ الله على اهلهن ببعض المال , قد كانوا يحاولون زعزعة ثقتها بالسخرية من حقيبتها القديمة
أو - مريول - المدرسة الذي دائماً ما تبقيه لسنة كاملة دون تغيير !
و تارة يغيظونها بالسؤال عن شكل منزلها او المكان الذي ستقضي به صيفها القادم !
أو حتى بالضحك على ساعتها ذات النوع الرجالي الكبيرة جداً على معصمها الغضّ الطفولي والتي ترجع اساساً لوالدها الحبيب .
أما هي و بالرغم من كونها لا زالت في الصّف الرابع الابتدائي فإنها
تنظر لهم بتعالي وكبرياء تبتسم بتهّكم و تهمس في وجوههن : هه سخيفات !
شيءٌ واحد فقط هو ما سلب منها بعضاً من كبريائها و هي تلك الكوابيس المخيفة
التي ظلت تطاردها كأشباح آثرت البقاء معها لتدب في نفسها الرعب كلما سكنت!
هي كانت تستيقظ بشكل شبه يومي من نومها , تصرخ بصوت عالٍ وتبكي بشدّة
حتى يدخل والدها مفزوعاً ليقرأ عليها شيئاً من القران و يسمي عليها و يمسح على رأسها و يمسك يدها حتى تعاود النوم مطمئنه لوجوده !
كانت تلك البداية فقط , و مع تقدمها بالعمر لم تعد تفزع كالسابق فقد اعتادت على الأمر قليلاً , لكنها أصبحت تترك غرفتها لتندس تحت غطاء والديها و تنام معهما !
وحين دخولها للصف الرابع بدأت أمها بنهرها عن هذه العادة
وتذكيرها دائماً بأن الأطفال وحدهم هم من يشاركون ذويهم في الفراش !
أما هي فقد أصبحت فتاة كبيرة يجدر بها التصرف بلباقة أكثر .
لم تكن تقتنع بحديث والدتها ولم تكن تطيع , لكنها وذات ليلة استيقظت كعادتها مفزوعة
من كابوس مخيف آخر , قفزت من السرير و بخطوات هادئة اقتربت من غرفتهما
رفعت يدها لتضعها على مقبض الباب لكن صوت صراخ والدتها فاجأها
- خلاص البنت كبرت ياعبدالكريم كبرت ! ماعاد يصير الي تسويه ؟
- بس يا عادلة البنت تقوم خايفه من نومها وش تبين اسوي ؟ اتركها ؟
- عبدالكريم انا ما اشك فيك أو في اخلاقك لا والله انا ادري انك ما راح تضر هالبنت وادري انك تعاملها زي بنت لك ! بس هي مش بنتك ! افهم ياعبدالكريم مش بنتك حتى لو ما كنت حاسب لهالحقيقة حساب ! مافيه شي يقبل الي انت قاعد تسويه مافيه !!
- بس يا عادلة البنت عادها صغيرة ! وانا......
- البنت كبرت ياعبدالكريم كبرت ! و الشيطان بعده ما مات !
- اكيد انتي جنيتي ؟؟ لا اكيد اكيد خرفتي !!
طفلة لم يتجاوز عمرها العشر سنوات كانت تستمع لهذا الصراخ المخيف !
خائفة جداً , وهل يعقل أن والدها ليس بوالدها ! وكيف يمكن !!
لم تفهم جيداً ما يدور من الحديث غير أن والدتها تحاول أقناع والدها بأنه ليس بوالدها!
الأمر أشد تعقيداً من أن تفهمه , كانت تريد حقاً الاستفسار عن الأمر
بل كانت تحتاج إلى صديق تشكي إليه .. لكنها لم تكن تملك أحداً !
أرخّت يدها عن الباب , وقفت لثانية ! ثم عادت ادراجها الى غرفتها .
المشهد الثاني :
*ملاحظة : بعد مرور ثلاث سنوات ...
الهواء النقّي يلفح خديهما لأول مرة منذ ثلاث سنوات !
إحساس لذيذ بالسعادة و الحرية .
الصديقان اللذان حُبسا لمدة ثلاث سنوات داخل السجن , اليوم يخطون خطوتهم الأولى خارجه !
يكاد كلاً منهما أن يقفز فرحاً و يبكي و يغني و يصرخ بشّدة , لكنهما آثرا الصمت
في هذه اللحظة الثمينه.
فلاشيء في الحياة يستطيعان التعبير به عن سعادة الحرية !
يقفان بجانب بعضهما البعض . متشابهين في سعادتهما , مختلفين في النظرات !
أحدهما كانت تفيض عيناه شوقاً , أما الآخر فكانت متشبّعة بالحقد الدفين .
يكسر الصمت وهو يهمس هو لصاحبة : يآآآآه ما اصدق !
أما الآخر يبتسم بسخرية : لا صدق ! كنّا محرومين من الحياة ثلاث سنوات !
يخفض رأسه و يتمتم : أنا آسف .. كله بسببي !
يلتفت عليه صاحبة بسرعة يدفعه للأمام بغضب ثم يعيد جرّه من كتفيه: ما انتهينا ! لا عاد تفتح الموضوع بحياتك من هذي اللحظة !
يبتسم ابتسامته المُطَمْئِنه و هو يرفع يد صديقة العزيز عنه بلطف
و يهمس بهدوئه المعتاد :حاضر حاضر .
ثم يردف بخشية : جاهد بترجع لبيتكم ؟
يتنفس هذا الأخير الصعداء ويتمتم بشفتيه : لا مستحيل !
يرمقه صديقة بنظرة أسى فهو يعلم ألم قلبه حتى و إن لم يشتكي !
ثم يعاود الهمس : خلينا نرجع لبيتنا نتروش و نتعدل ثم نروح للمستشفى نزور عمك .
يهمس جاهد : اسف ساهر ابغى اروح له وحدي !
لم يلقي ساهر اهتماماً لكلمات جاهد و هو يسير أمامه و يبتسم للشمس و الهواء و يتنفس بقوة الحرمان الذي عاناه بدونهما !
وصلا إلى المنزل اخيراً بعد ما سارا مدة طويلة , لم يركبا سيارة أجرة أو يسألا أحداً ليقلهما , هما فقط ارادا السير في الهواء الذي أفتقداه حد الجنون !
يدلف ساهر إلى البيت أولاً , يطيل النظر في كل شيء .. كل شيء هُنا تماماً مثل ما كان قبل ثلاث سنوات !
الأبواب المتصدعة , الأثاث العتيق , كل شيء يحكي له حكاية فقدانه !
نظر مطولاً إلى كرسي جدة المتحرك المركون في الزاوية .
ثم سارع خطواته ليذهب إلى غرفته !
كم أفتقد رائحة جدة العتيقة كتجاعيده التي طواها ما مضى من زمن !
يدلف خلفه جاهد بهدوء و قلبه معلق في الأمام , حيث يسكنان أغلى من لديه
و أكثر من تخلى عنه بنظره .
يسمع بكاء الفتاة التي حوطت رقبة اخيها بيديها دون استراق النظر إليهم فلم تكن الحجرة اللذان هم فيها بعيدة بل كانت ستارة خفيفة هي ما يفصل بينها وبين الصالة التي يجلس فيها جاهد .
حور التي بلغت الخامسة عشر عاماً بدأت تبكي في حضن أخيها وتصرخ عليه !
تشبع قلبها بالحزن الشديد عليه . كم افتقد تفاصيله اللطيفة !
ويستمع أيضاً لشهقات الحمد والثناء الذي يصدرها ذلك العجوز المتمدد على فراشة
فمرض قدميه المُسنتان لم تعد تسمح له بالتحرك وهاهي تخونه حتى بقدوم حفيدة العزيز إليه .
جاهد لم يحتمل الغيرة التي اكتسحت قلبه و آثر الخروج من المكان .
يتمنى فقط العودة للماضي ليستطيع تغيير حاضره !
المشهد الثالث :
تُمسك بيد زوجها الضخمة , تجثو أمامه بحزن !
وعيناها تفيض بالدموع , تهمس : ولدي بس ابي اشوفه لو شوي بس !
يفلت يديها وهو يقول بغضب : ولدك عصّاني و فشلني وطلعني كذاب قدام الي يسوى والي ما يسوى . ولدك ما عاد له لزمه يرجع .
تحاول كتّم شهقاتها وهي ترجوه أن يسامحه !
تخفض رأسها و لأول مرة في حياتها أمامه , تقول بحزن : خاف ربك يا رجّال , هذا ولدك مهما غلط بيظل ولدك .
يصّرخ هو بغضب : هو الي جنى على نفسه , انا كنت بطلعة من السجن من ثلاث سنوات , كنت بطلعة من القضية مثل الشعرة من العجين , انا كنت أبيه رجّال لكنه ماهوبرجّال و ماهوب كفو ! هذا مش ولدي لا تقولين ولدك !!!
كبريائها يُسفك أمامه و هو لا يريد التراجع عن رأي جائر أتخذه قبل ثلاث سنوات
كلماتٌ تفوه بها في حالة غضب و لم يستطع أن يعيدها إلى فمه .
هو يريد أكثر منها أن يجلب ابنه إليه ! و أن يحفظه بين دقات قلبه !
أن لا يرى به مكروه ! لكنه أحس بجرح لم يعهده أبداً !
يتذكر صراخه أمامه قبل ثلاث سنوات لأن يتخلى عن هذا الساهر و يستمع إلى المحامي الذي عينّه لقضيته , لكنه ابى و فضّل فقط أن يُسجن مع رفيقه !
يتذكر نهره عن ذلك بمحاولة تهديده بأن يتبرأ منه , و بحماقة اختار ان يظل بقرب صديقة و أن لا يظلمه في شيء !
و حتى في اخر لحظات القضية و حينما كان يتلقى الحُكم أمامه هو لم يحرك ساكناً
كان يراه بعيون خاوية , دخل و خرج و هو على نفس الحال !
لم يستطع فعل شيء سوى التحديق , و كم كره ما أحسه في ذلك الوقت .
أمّا الآن فهو لا يريد أن يراه ابداً , يعتقد في قرارة نفسه بأنه إذا لم يراه فكل ما يشعر به
سيرحل مع الزمن , و لم يكن يعلم بأن ما يحسه الآن هو بداية العذاب فقط ...!
يتبع ..
المشهد الرابع :
يدخلان للغرفة الباردة ببطءٍ قدر الامكان .
كلٌ منهما يرتعد لمنظر هذا المتمدد امامهما , ولم يكن لديهما خيار غير زيارته
فهو من دفع حياته الغالية لينقذهما بأعجوبة مما كانا سيخوضان فيه !
لو لم يرمي هذا الأثير نفسه أمام تلك السكين الحاقدة لوجد أحدهما نفسه ساكناً تحت سيف القصاص .
هو له الفضل الكثير عليهما , وليتهما يعرفان كيف يردان له هذا الجميل !
و ما هو القدر المساوي للحياة ؟
أقترب منه جاهد أولاً , يرخي رأسه لتصل قريباً من أُذنه , ثم يهمس : انا اسف .
يد ساهر ارتفعت لتُربت على كتف الواقف متصلباً أمام عمه , ثم يقترب بهدوء
و يرخي رأسه ليصبح قريباً من رأس صاحبه , يهمس بذات الهدوء : الله يقومك بالسلامة و يقدرنا نرد لك لو شي بسيط من الي سويته معنا .
أحدُهما شعر بالسكون و الخوف حينما لمح طيف ابتسامة و كأن هذا الراقد
أمامهُما سعيدٌ بقدومهما إليه . و كأنه أستمع حقاً لصوتهما الذي اشتدت خشونته بين أسوار السجن !
و كأنه كان نائماً هُنا فقط لانتظار عودتهما!
يهمس جاهد لصاحبه بحذر : ساهر شوف عمي تحرك !
يُمعن ساهر النظر ثم يعاود الهمس لصاحبه : يتهيأ لك , الله يقومه بالسلامه .
يعيد الأول تحليقه في عمه المستلقي أمامه و يقلب نظره الى شفتيه
يتمنى فعلاً لو يستطيع الجزّم بأنها تحركت , يغص بألمه و هو يخبر صاحبه عما يخالج قلبه : أنا خايف يموت يا ساهر من لما طعنته وهو في غيبوبته مع انو المحامي قالي وقتها انو عالجوا الجرح بس هو ما صحى من بعد العملية و لا يدرون وش السبب !
ساهر يشد على كف صاحبه و يهمس بطمأنينة حانية : قلت لك من كنا في السجن لا تخاف الله معنا و بينصرنا لأننا انظلمنا , الله معنا يا جاهد و يسمع دعائنا له , عمك راح يقوم بالسلامة بإذن الله !
يرجع جاهد النظر إلى صديقه و يبتسم , كيف لهذا الشّقي صاحب البنية الصغيرة
أن يقول بضع كلمات تهزه من الأعماق , أن يؤمن بكل ما يخبره به و يصدقه !
كيف له و هو من أشّد العائلات تواضعاً أن يكسب وده و صداقته التي عجز عنها من هم في أعلى طبقات المجتمع !
يقاطع ساهر أفكاره : يلا ما بترجع للبيت ؟
جاهد بهدوء : وين أرجع يا ساهر ! مستحيل أقبل أعيش عندكم , معليش اعذرني
بس أنا مابي أقرب من بيتنا , مابي اشوفه و اتحسر . و بنفس الوقت أنتو بيتكم كله غرفتين و صالة و اختك معك بالبيت والله ياهي صعبة .
ساهر بحده : يعني وين بتروح ؟
جاهد بهدوء : أرض الله واسعة بروح أدور لي مكان يضفني لين ربي يفرجها !
ساهر يهمس بهدوء : طيب خلاص خلك عندي لين نلاقي لك سكن بعدها بكيفك مرح
أعارضك لو تبغا تروح أو تبغا تظل .
المشهد الخامس و الأخير :
يقفان أمام الغرفة التي وجداها لجاهد والملاصقة للمسجد الذي يتوسط الحيّ المتواضع.
أحد أصدقاء ساهر هو من دلهما عليها وقد أستأذنه ساهر قبلها بأن يؤجر لجاهد الغرفة الخارجية لبيته مؤقتاً و التي كانت أساساً لسائقهم الخاص قبل سفره وحتى عودته.
ولكنه أقام الأعذار جميعها و قام بالرفض بأدب .
ومن سيسمح لخريج سجن بالمكوث عنده و من سيصدق أنهما ضحية مؤامرة من أحد الفتية السيئين بعد أن ادانتهما المحكمة!
جاهد و ساهر و لمدة ثلاث أيام كانا يفترقان ليبحثان عن مسكن يقضي فيه جاهد ما بقي من أيامه , جاهد لم يكن يعلم في الحقيقة أين يبحث , فكل ما اعتاده هو البيوت المترفة ذوات الايجارات الضخمة , أما ساهر فقد علم تماماً أين يبحث
تلك الأحياء الفقيرة تماماً هي ما تناسب وضعه الحالي ,
و عمل بسيط قربها يكد عليه راتباً شهرياً ليستطيع دفع إيجاره .
وبعد بحث دام لساعاتٍ طويلة و اتصالات كثيرة أخيراً وجد ساهر بمساعدة صديق
أن أحد المساجد بحاجة إلى مؤذن ذو صوت جهوري , و سيدفع له راتب شهري
و أيضاً سيكون له غرفة خارج المسجد .
عاد لصاحبه و أخبره عما وجده و أخبره أن له الحرية في الرفض و العودة للبحث عن عمل و مسكن جديدين , لكن جاهد قابله بالرضى و أخبره أنه سعيد لأن منزل عائلته بالقرب يخنقه تماماً !
يخرج إليهما شيخ المسجد المتواضع و هو يتوكأ عصاه العتيقة ,
يقف أمامهما و يبتسم بطيبة : انا عبد الكريم ال محمد , إمام المسجد ,
و ساكن هنا قريب منه . مين فيكم الي يبي يكون المؤذن ؟