كاتب الموضوع :
عهد Amsdsei
المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
د. أحمد خالد توفيق.. قصة لم تكتمل (الأخيرة)
بدأ رجال الشرطة يجدون شيئًا مسليًا في القصة (رسوم: فواز)
بعد المرحلة الإجبارية الأولى عندما يفترض الناس أنك مجنون، بدأ رجال الشرطة يجدون شيئًا مسليًا في القصة وراحوا يصغون..
بالطبع هي قصة لا يقولها سوى مجنون تفككت صواميل عقله تمامًا، وقد ازداد الزحام في الغرفة وبدأت التعليقات الساخرة تنهمر، لكن مصطفى لم يتزحزح.. حكى عشرات المرات قصة السفاح الذي أوجده على شاشة الكمبيوتر ثم فر من هناك..
الحقيقة أنه كان يعرف بعض التفاصيل.. مثلاً كان يعرف أن القاتل يلبس حذاء غليظًا يشبه أحذية تسلق الجبال. وكان يعرف أنه أشول.. هذه أشياء لم يقلها أحد في وسائل الإعلام..
سأله العقيد صبري وهو يشعل لفافة تبغ:
- "هل كتبت هذه التفاصيل في قصتك أيضًا؟"
رشف مصطفى رشفة أخرى من القهوة وقال:
- "لا.. لم أكتب كل شيء.. لكن لكي يكون لقصتك بطل، فلا بد من أن يكون مكتملاً في ذهنك.. أنت تراه وتسمعه وتشمّ رائحته، لكن لا يجب بالضرورة أن تكتب هذا.. مثلاً أنا أعرف أن القاتل له عين يمنى حولاء حولاً وحشيًا (للخارج) لكن لا داعي لذكر هذا.. فقط أراه في خيالي.. أرى حذاءه.. أرى السلاح في يده اليسرى.. لكن لا أكتب كل ما أراه".
تبادل العقيد النظرات مع من حوله وابتسم، ثم قال:
- "هل من صفات أخرى؟"
قال مصطفى مفكّرًا:
- "إنه مصاب بنوع غريب من الصرع يجعل وجهه يلتوي بشكل مخيف.. هذه بالذات عقدة حياته وسبب نفور الفتيات منه في شبابه.. هكذا صمّم على أن يجعل كل عاشقَيْن في رعب دائم.. سوف يجوب المروج بحثًا عن عُشّاق منفردين، وسوف يطير أعناقهم وهكذا ينتقم أولاً، ثم يقنع نفسه بأنه يمارس نوعًا خاصًا عجيبًا من الفضيلة.. يجب أن أقول كذلك إنه مولع بشكل خاص بساعة الغروب، ومولع بأيام الثلاثاء.. ويحب القتل بالسيف؛ لأنه يحبّ الدماء والموت البطيء.. بالنسبة له القتل بالمسدس غير ممتع.. إنه يقرأ الكثير عن الشياطين على شبكة الإنترنت، ولهذا يعرف اسم أبراكساس".
سأل العقيد في سخرية:
- "وكيف عرفت هذا كله؟"
- "لأنني من صنعه.. أعرف كل تفاصيل شخصيته، ولو استكملت قصة له لجعلته يقتل بهذه الطريقة في يوم ثلاثاء".
تبادل الرجال النظرات للحظات قبل أن يطردوا مصطفى مصحوبًا باللعنات؛ لأنه أضاع وقتهم.. لقد سلّاهم لفترة معقولة لكن ما يقوله هراء في النهاية، وعليهم واجبات أهم..
*****************************
هذا بالطبع حتى صباح الأربعاء، عندما جاء ثلاثة رجال شرطة أخذوه بالقوة إلى مديرية الأمن، وهذه المرة كانت الوجوه أكثر والنظرات أخطر والدخان أكثر كثافة والمعاملة أعنف..
كان يعرف الإجابة طبعًا.. هناك عاشقان قد ماتا أمس ساعة الغروب.. أمس كان الثلاثاء.. بالطبع هناك آثار حذاء تسلّق واتجاه قطع الرءوس يشي برجل أشول..
قال مصطفى:
- "أرجو أن تكونوا متأكدين من أنني لم أفعل هذا.."
قال النقيب الشاب الذي كان معه في المرة الأولى:
- "مع الأسف.. لقد راقبناك أمس.. كنت في المقهى لم تفارقه".
- "هذا جميل. أعتقد أنكم في سبيلكم لتصديقي.."
- "لا نصدّق.. لكن لا نجد مخارج أخرى.. أنت تعرف القاتل.. ربما هو قريبك أو أخوك.."
في عصبية قال مصطفى:
-"بالطبع لا.. تمنّيت لو أنكم فكرتم خارج الصندوق مرة واحدة.."
ساد الصمت، وبعدها بدأت عملية استجواب بسيطة طويلة مرهقة.. كل واحد يدخل ويبدأ السؤال من جديد.. ألف قدح قهوة.. ألف سيجارة.. ألف متشكك..
في النهاية، وفي ساعة لا يعرف مصطفى إن كانت ليلاً أم نهارًا قال له رجل ضخم يحمل ملايين النياشين (لا يعرف شكل وزير الداخلية شخصيًا لكنه لن يستبعد لو قيل له إنه هو):
- "أمامك فرصة ذهبية لترينا.. سوف تعود لدارك وتستكمل قصتك.."
- "ماذا؟"
- "سوف يملّ هذا السفاح حياته ويقرر الانتحار.. كل سفاح يحمل بذرة الانتحار داخله، وأنت تعرف أن زودياك انتحر غالبًا.. هذا ما يقال.. سوف تكتب هذا في قصتك.."
- "ولكن..."
- "هذه تجربة تستحق أن نجربها.. سوف نعيدك لدارك.. كل ما عليك هو أن تفتح جهاز الكمبيوتر وتواصل كتابة القصة.."
*****************************
بيده اليسرى ضرب ابن أبراكساس على مفاتيح جهاز الكمبيوتر (رسوم: فواز)
وهكذا عاد مصطفى للبيت.. كان يعرف أن المهمة صعبة.. على الأرجح لن يدخل ابن أبراكساس القصة أبدًا.. لن يظهر في النص.
كان المشهد الذي طالعه في صالة البيت هو زوجته.. كانت جالسة على المقعد هناك، لكن رأسها لم يكن في موضعه.. وأدرك أن الأرض عليها آثار أقدام.. أقدام تلبس حذاء تسلّق ملطخًا بالدم.. لقد كان هذا الشيء في المطبخ..
وجد السكين العملاقة على الأرض جوار الجثة.. انحنى والتقطها واتجه لجهاز الهاتف.. لو استطاع أن يطلب الشرطة قبل أن...
لكنه سمع ذلك الصوت الثابت يتكلم من خلفه:
- "لا تضيع وقتك.. ابن أبراكساس قد تحرّر ولن يعود.. لم يعد من حق أحد أن يكتب قصتي.. أنا سأكتب قصتي بنفسي وأكتب قصص الآخرين.."
وفجأة لم يعد مصطفى يشعر بالعالم من حوله.. كانت الأرض تنزلق من تحته وساد ظلام غريب..
*****************************
بيده اليسرى ضرب ابن أبراكساس على مفاتيح جهاز الكمبيوتر:
"بكى مصطفى كثيرًا وهو يحاول تحرير يديه المقيدتين بحبل من ليف.."
"كان رجال قبائل المايا يرقصون ويصرخون ويشربون الخمر بلا توقف.. وكانوا يحملون القربان البشري إلى حفرة النار المتقدة. من أجل "كويتزالكوتل" إلههم الوثني سوف يقدمون هذه الضحية البشرية المذعورة.."
"كانت مشكلة مصطفى هي أنه لا يعرف كيف ذهب هناك.. ولا علاقته بقبائل تعيش في المكسيك.. ما يعرفه هو أنه كان في عالمنا وزمننا، وفجأة وجد نفسه هناك في ألعن ظروف يمكن تخيلها.."
"النار تلتهب وتتصاعد لعنان السماء، والرقص يزداد حدة وجنونًا.."
"لكن ليطمئن قلبه.. مع الأسف هو لن يموت بهذه السرعة وهذه البساطة.. سوف ينجو ليواجه لحظات ألم أقسى وأعسر.."
وضحك ابن أبراكساس فالتوى وجهه بهذا الشكل المخيف الذي يثير رعب الفتيات..
الحقيقة أنه بدأ يحب الكتابة.. يمكن أن يتحكّم في مصائر الناس ومستقبلهم بهذه الطريقة، ويمكن أن يمارس أعتى درجات السادية وهو جالس.. صحيح أن مصطفى بطل قصة تافه جبان لكن لا بأس به كبداية..
لحظة ممتعة هي عندما تدرك أن هناك أديبًا تحت جلدك وأنت لا تعرف..
هكذا جلس ابن أبراكساس إلى مكتب مصطفى، بعد ما أعد لنفسه بعض الكابوتشينو، وأشعل لفافة تبغ، وقام بتشغيل أغنية خافتة لفيروز، وراح يحدق في الشاشة، وهو يشعر بأنه سيكتب عملاً رائعًا..
تمّت
|