حين كنتُ صغيرةً..
كنتُ أرى في الزَّواج لعبةً جميلةً.. فستانٌ أبيض رائعٌ.. وكعبٌ عالٍ.. وإسوارةٌ من ذهبٍ.. وخاتمٌ يلف الإصبع.. وحبٌ يسكن القلب.. ومملكة ٌصغيرةٌ يأتي مليكها على حصان أبيض ليعيش مع حبيبته فوق الغيم!
وحين وعيت.. علمتُ أنَّ الزَّواج مسؤوليةٌ والتزامٌ.. مودةٌ ورحمةٌ ووئامٌ.. تفاهمٌ واحترامٌ.. مصارحةٌ وتغافلٌ وانسجامٌ.. وأنَّ الأرض عنوانه لا الفضاء.. ولا أحصنة بيضاء ولا "ريش نعام".. فكلُّ ما حفظناه في المسلسلات والأفلام كان نسجًا من أوهام!
حين كنتُ صغيرةً..
كنتُ أرى في الحماة "ماري منيب".. قنبلة ذريّة.. قوية متسلِّطة.. بل قل طاغية! تفتك بقلب العروس الَّتي انتزعت وليدها من أحضانها.. وسلبت عقله وألهبت كيانه.. فبَعُد عنها ليستقر في بيتٍ آخر وقلبٍ ثان.. وهي في محاولات متكرِّرة لنزع فتيل الودّ بين العروسين وخراب البيت.. فحينها فقط يعود إلى حضنها ما استُلِبَ منه!
وحين وعيت.. علمتُ أنَّ الحماة امرأةٌ ضحّت وربّت وطرّزت قلب وليدها بكلِّ جميلٍ.. لينبت في حِجرها ويشتد عوده ويقوى.. فيُقبِل على الحياة منطلِقًا لقطف ثمارها.. فإذ به يبتعد عنها بعد طول قرار.. فتفقد لنبضه بالقرب منها فتثور.. ويجتاحها حزنٌ عميقٌ ممزوجٌ بفرحةِ نضجه.. قد تسيء التَّعبير -ربما- مع الوافدة الجديدة ولكن إن وعت العروس تلك الحقائق وتكشّفت لها أسرار الطَّريق إلى قلب أم الزَّوج.. سيربِح البيع مع الله -جل وعلا- أولًا.. ثمَّ مع زوجها وأهله.. فالحكمة هنا لا بد أن تتحلّى بها وإلا.. انفرط العقد!
حين كنتُ صغيرة..
كنتُ أرى في زوجة الأب امرأةً قاسيةً.. ديدنها تعذيب أولاد زوجها الَّذين افترقوا عن أمهم قسرًا إمّا بموتٍ أو طلاقٍ.. فتعاني منها الفتاة.. تهمل الدِّراسة لتعمل في البيت "خادمة".. ويُقهر الأبناء ويُشكَون إلى أبيهم لينهرهم ويضربهم نتيجة تصرف أو سلوك فعلوه أو لم يكن إلا في خيال الزَّوجة! ولربما ساهمت سندريللا الَّتي أدمنّاها حين كنا صِغاراً بترسيخ هذه الصُّورة في عقولنا.. وغيرها من حكايا واقعية لأناس ما عرفوا الله -جل وعلا- حقَّ معرفته فظلموا!
وحين وعيت.. علمتُ أنَّ في هذه الصُّورة لزوجة الأب ظلمٌ كبيرٌ.. فكَم من نساءٍ قبِلن خوض تجربة تربية أولاد غيرهنّ.. فكُنّ خير أمّهات واعيات.. عرفن كيف يتعاملنَ مع الوضع بحكمةٍ وتعقّلٍ.. حتَّى في تلك الأحيان الَّتي رفض فيها الأبناء المرأة الَّتي احتلّت مكان الوالدة في البيت.. فكالوا لها واخترعوا مواقف "لتطفيشها".. فتحمّلت وراعت حتَّى استتب الأمن والاستقرار في البيت..
حين كنتُ صغيرة..
كان موضوع التَّعدّد يثيرني حدّ الجنون.. فكانت صورة الزَّوج المعدِّد صورةً مشوّهةً لكائنٍ يسعى وراء الشَّهوة والماديّة في العلاقة.. فلا يرحم الزَّوجة الَّتي تحمّلت شظف العيش معه حين كان يكوِّن نفسه شابًّا.. ولا يزين الأمور بموازينها.. ليخرب العلاقة.. وربما سيق للطَّلاق إن رفضت الزَّوجة الأولى الضرّة! وبأي حالٍ لا يعدل بين الزَّوجتين فيذر الأولى كالمعلّقة وينساق وراء تجديد شبابه مع الثَّانية..
وحين وعيت.. علمتُ أنَّ الرَّجل مخلوقٌ غير سيءٍ إن هو قرر الارتباط بأُخرى.. حتَّى لو لم يكن هناك سبب "مُعتَبَر" عند الآخرين.. فالشَّرع قد أباح له التَّعدد؛ لأنَّ المولى -جل وعلا- أعلم بما ومَن خلق.. فجعل الرَّجل قادرًا على حبِّ أكثر من امرأة لعلّة لا يُسأل عنها -سبحانه وتعالى-.. فإن استطاع تحمّل تبِعات التَّعدد من نفقةٍ ورعايةٍ وعدلٍ فله ذلك ولا شيء عليه.. ولم يعد في نظري الوحش الكاسر الَّذي يتخلّى ويتبلّى ليتحلّى!! ولعلّ حاجة النِّساء غير المتزوجات لنصف رجل أو ربع رجل أشدُّ خطورةً من مشاعر الغيرة الَّتي تفتك في قلب النِّساء حين يتزوج أزواجهنّ عليهنّ..
حين كنتُ صغيرة..
كان يقشعر بدني من الأرمل الَّذي يسارع إلى الزَّواج من أُخرى حالما يتوفَّى الله -جل وعلا- زوجته الأولى.. فلا يكاد يمر وقتٌ قصيرٌ إلا ويكون قد عقد على أُخرى ضاربًا بعرض الحائط وفاء السِّنين الَّتي جمعته بتلك الغائبة..
وحين وعيت.. علمتُ أنَّ الوحدة قاتلة.. وأنَّ الرَّجل بحاجة إلى مَن تساند وترافق وتواسي وتراعي وتلبّي.. وأنَّ حبَّه ووفاءه لزوجته المتوفّاة ليسا عائقًا أمام زواجه من ثانية تُقيم أمور بيته.. وهذا الحبيب -عليه الصَّلاة والسلام- قد تزوج بعد أمِّنا خديجة -رضي الله تعالى عنها- وأحبَّ عائشة أكثر من أيّ بشرٍ.. وكان مع ذلك يردد أنَّه قد رُزِق حبَّ خديجة -رضي الله تعالى عنها-، وكان وفيًّا لذكراها رغم مرور السِّنين..
حين كنتُ صغيرة..
رأيتُ النَّاس تعتبر المطلّقة فضيحةً.. وعارًا على الأسرة الَّتي تحويها.. وسببًا لهروب المتزوجات خوفًا على أزواجهنَّ منها.. وعالةً على المجتمع وعبئًا عليه.. وغالبًا يحمّلونها سبب الطَّلاق.. فلو "طحن الملح على ظهرها" كان لا بد من الصَّبر.. تراها تركن في زاوية البيت تبكي ماضيها وتتحسّر على حاضرها.. أمَّا المستقبل فلا نور فيه ولا وجود!
وحين وعيت.. علمتُ أنَّ المطلّقة فكرٌ ونبض.. تحتاج بعض رعاية ومتابعة قبل أن تنطلق في الحياة من جديدٍ.. ومَن حولها هم المساهمون الأساسيُّون في تحطيمها وتقييدها أو بثِّ روح الحياة فيها من جديدٍ.. وأنَّها قد تكون ضحية مظلومة في بيت زوجها ثمَّ في مجتمعها من بعده.. وعلمتُ أنَّ لفظ مطلّقة ليس تهمةً ووصمة عارٍ على جبينها بل هو دليل نضوب الماء في بيت زوجيَّة ما ارتاحت فيه فاختارت طريقها بعيدًا عنه.. أو ربما أذاقها زوجها سوطه دون رغبة منها ففُرِض عليها اللفظ ونمط حياة جديد لغاية في نفسه قضاها! وتيقَّنت أنَّه إن عرفت المطلّقة كيف تستعيد أشلاءها لترمم نفسها من جديدٍ فقد يكون ما بعد الطَّلاق أفضل بكثير من حياة سلبتها النَّبض والنَّفَس!
حين كنتُ صغيرة..
كنتُ أرى في العشرينيَّة صبيّةً ملؤها الحياة.. وفي الثَّلاثينيَّة نضجًا وحيويةً.. وفي الأربعينيَّة بداية الانتكاس.. وفيمن بعد ذلك عجوزًا تنتظر الموت!
وحين وعيت.. وجاوزتُ الأربعين.. علمتُ أنَّ في هذا العمر قمّة النُّضج والعطاء والحكمة.. وتوقٌ لشبابٍ راحلٍ.. ورغبة في راحةٍ قادمةٍ لا نجدها إلا حين نُسلَّم الكتاب باليمين.. ويُقال لنا: ادخلوها بسلامٍ آمنين..