المنتدى :
الارشيف
لعبتي الاخيرة ...بقلمي
لعبتي الاخيرة
الأولى الخطوة استيقضت صفاء هذا الصباح باكرا على غير عادتها في الآونة الاخيرة, استحمت بسرعة و ارتدت ملابسها لتتوجه الى المطبخ حيث وجدت والدتها قد اعدت الفطور .
-صباح الخير أمي
تأملت الأم ابنتها ببلوزتها الرمادية بحزام أسود تحت الصدر و بنطالها الجينز الأسود و قد رفعت شعرها البني الحريري و قالت:
-يبدو أنك جهزت نفسك و صممت على ما سولت لك به نفسك
جلست صفاء على مائدة الافطار و سكبت كأس عصير و هي تقول:
-سوّلت لي به نفسي؟ أرجوك أمي لقد سبق و ناقشنا هذا الموضوع فلماذا تصرّين على الاعتراض؟
-لأنني لا أرى حاجة لما أنت مقدمة عليه
-بل هناك حاجة امي, ان هذه الوظيفة ستنفعني حقا و أحمد اللّه لأنني وجدتها دون عناء أو مشقّة بل جاءتني على طبق من ذهب فكيف لي أن افوّت عليّ فرصة كهذه؟
بدت على والدتها ملامح الغضب و هي تقول:
-حسنا لا تفوّتي عليك فرصة كهذه لكن بكل بساطة ستقضين العطلة الصيفية في العمل, ألا تكفيك سنة كاملة من الدراسة التي استنفدت كلّ قواك؟
علمت صفاء أنّه لا سبيل الى إقناع والدتها فحملت حقيبتها السوداء و قبّلت رأس والدتها و غادرت المطبخ و هي تقول:
-إلى اللقاء حبيبتي لا تنسي أن تدعي لي بالتوفيق في أول يوم لي في العمل
ركبت سيّارتها البيضاء الصغيرة التي أهداها لها والدها لنجاحها في ولوج كلّية الطب منذ ثلاث سنوات و اتجهت بحماس كبير لتبدأ مسيرتها العملية التي ستساعدها دون شك في شق طريقها نحو النجاح و التألق في مجال دراستها.
في بادئ الأمر لم تكن فكرة العمل في عيادة طبيّة سوى فكرة عابرة, لكن فاجأتها إحدى صديقاتها القدامى التي التقتها في حفلة لمّ شمل الصديقات منذ أسبوع بأنّها تعمل عند طبيب مختصّ في أمراض النساء وأنّه بحاجة إلى مساعدة أخرى, هذا ما راقها و خاصّة أنّ طبّ النساء هو طموحها فقرّرت أنّه عليها ألّا تفوّت هذه الفرصة.
ها قد وصلت إلى العنوان المطلوب, بقيت فترة قصيرة تتأمّل البناية العالية التي تتواجد في أحد أرقى مناطق المدينة و هي تقول في نفسها:" هل ترى سأتمكّن من فتح عيادة في مكان راقي كهذا؟...ههه مستحيل كفاك أحلام و عودي إلى الواقع...أجل الواقع, اليوم هو أوّل يوم عمل لي في حياتي."
لم تكن مستعدّة لتضييع مزيد من الوقت في انتظار المصعد لذلك فضلت استعمال السلم للوصول الى الطابق الثالث حيث مقر عملها الجديد. ها قد وصلت, كانت إيمان قد سبقتها و فتحت باب العيادة, دخلت وفي قلبها مزيج من القلق و السعادة و الخوف أيضا حتى أنها بدأت تشعر بـألم في معدتها.
استقبلتها إيمان بترحاب شديد و قد بدت الفرحة واضحة في عينيها الرماديتين ,و أدخلتها و هي تطوف بها أرجاء العيادة , أعجبت صفاء بالعيادة و أكثر ما لفت انتباهها هي صور الأمهات و أطفالهن في مختلف الوضعيّات, أحست للحظة بحنين للأمومة لكنها كانت تعلم أنه لا يزال أمامها طريق طويل عليها قطعه قبل ان تفكّر في أمر مماثل, فدراستها و امتهانها الطّب هي أولى اولويّاتها و ما تبقّى فهي أمور ثانويّة قد تستغني عنها للأبد إن لزم الأمر.
انضمّت إلى إيمان التي بدأت باستقبال بعض النّساء و اكتفت صفاء برسم ابتسامة رقيقة على فمها الصغير المكتنز بعض الشيء و مراقبة ايمان وهي تسأل الزائرات بعض الأسئلة لتملأ استمارة تضعها جانبا. لم تنتبه لمرور الوقت إلى أن قالت إيمان:
-ها قد وصل الدكتور يوســف الان عليّ أن أعرّفه عليك لتبدئي بعدها بعملك.
رفعت صفاء رأسها باتجاه الباب لكنها لم تر أحدا فسألتها بدهشة و قد اتسعت عيناها البنيتين:
-أين هو؟ لم ألمحه يدخل أم أنّه يدخل من باب سرّي؟
-ههه لقد كنت منشغلة و لم تنتبهي له عندما دخل
-لم أنتبه له؟ لا تقولي لي أنّه قزم او أنّ الدّهر اكل منه و شرب فانحنى ظهره لدرجة أنني لم ألمحه .
قهقهت إيمان و هي تقودها نحو الباب المقفل قائلة:
-كفاك ثرثرة و هيا بنا لتبدئي عملك
وقفت صفاء فجأة :
-لا بد أنّه كذلك...أشعر بألم في معدتي...يا اللّه أرجو الاّ يكون فظا دميما قليل ال...
-كفـــاك أرجوك إنه بعيــــد عن تصوّراتك هذه
و طرقت الباب و دخلتا. وقفت صفاء تتأمّل ذلك الكائن الجالس وراء مكتبه الكبير و المرتّب بعناية, بوزرة بيضاء مفتوحة و قميص حريري أسود شعره أسود كثيف, أسمر بعينين عسليتين.
"إنّه بعيد كل البعد عن الصورة التي رسمتها له, انه الصورة المثالية عن الفارس ذي الحصان الابيض في الروايات الرو..."
قطع تفكيرها إيمان و هي تقول:
-صباح الخير دكتور, لقد وصلت الانسة صفاء لتبدأ العمل
رفع رأسه بلا مبالاة ثم عاد يتفحّص أوراقه و هو يقول:
-يمكنك العودة إلى عملك إيمان
خرجت ايمان و قفلت الباب بعد أن ابتسمت في وجه صفاء ابتسامة مشجعة
أكمل قائلا:
-الانسة صفاء الكمال 21 سنة طالبة سنة ثالثة بكلّية الطب و الصيدلة, تقدّمت بطلب للعمل كمساعدة لي لمدّة لا تتجاوز 3 أشهر أي فترة إجازتك الصّيفية و قد منحت إيّاه.
-الانسة صفاء الكمالي دكتور
رفع رأسه و فجأة تحوّلت نظرته الباردة الى نظرة يملأها الغضب:
-هل تظنين أنك ستعملين في متجر لبيع الملابس الجاهزة يا انسة؟ اين هي وزرتك؟
وقفت صفاء مذهولة لانفجاره في وجهها فجأة:
-أنا .....في الواقع ...أنا لم...ظننت أن...
-هل ستبدئين بالأعذار الواهية منذ اليوم الأول؟ تفضلي ارتدي وزرتك و ابدئي عملك فورا.
خرجت صفاء دون ان تنطق بكلمة و الدماء تغلي في عروقها "كيف يجرؤ هذا المغرور؟ يا لفظاظته أخطأت حين أسميته بالفارس.. إنه...إنه شيطان مغرور.. أكككرهك"
لاحظت ايمان وجهها الغاضب وهي تخرج فسألتها:
-ماذا حصل؟ لم أنت...
-هل هناك وزرة لي؟؟
-نعم بالتأكيد
ومدّت لها الوزرة فأخدت صفاء ترتديها و هي تقول:
مغرور متسلّط, بعيد كلّ البعد على أن يكون طبيبا , فظ قليل ..قليل...أوووف... كان الاجدر به ان يكون معلما في مدرسة ابتدائيّة...يظنني تلميذة عنده... الغبــــــــيّ
ثم دخلت و ايمان مازالت تحدّق فاتحة فمها بذهول...
عادت صفاء لتجده لا يزال في مكانه و قبل أن تنطق بكلمة دخلت امرأة من غرفة الاستقبال وهي تلقي التحية لتجلس أمام المكتب. تأملت صفاء المرأة الطويلة التي لم تتجاوز السن الثلاثين و هي تجيب عن أسئلة طبيبها و معالم الحزن و القلق بادية عليها.
- رافقي السيدة يا انسة صفاء و ساعديها لتجهز للفحص.
كانت لهجته امرة لم تحمّل صفاء نفسها عناء الإجابة عليها و اكتفت بمرافقة المرأة الى حجرة الفحص وهي ترسم ابتسامة كاذبة على شفتها. سألتها و هي تساعدها:
-هذا حملك الأوّل أليس كذلك؟
أجابتها دون أن ترفع رأسها:
-لا
-إذن فلديك أبناء. سيكون الأمر سهلا عليك بما انّ لديك تجربة سابقة
-لا, ليس لدي أبناء حتى الان لأن...لأنني كنت أجهض في كلّ مرة, إنّه حملي الرابع
أحست صفاء بألمها و لاحظت أن عينيها قد تفيضان بالدمع في أيّ لحظة:
-هذا قضاء اللّه و قدره و عليك ألاّ تقنطي من رحمة اللّه, واصلي أخدك بالأسباب و لاشك أنّه عز و جلّ لن يحرمك من فرحة تملأ قلبك و سيجزيك خيرا إن كنت من الصّابرين.
- و نعم باللّه
- هل تعلمين, لقد عانت عمّتي الأمرّين لتقرّ عينها برؤية أبنائها, لقد كانت...
قطع سردها طرقه على الباب و دخوله ليفحص مريضته. لم يكلّف نفسه عناء النظر إليها و هو يوجّه إليها أوامره التّي نفّدتها دون ان تنطق بكلمة. و بينما هي واقفة تراقب عمله سألتها المرأة:
-أكملي لو سمحت, ماذا حدث مع عمّتك؟
- اه نعم... لقد أجهضت إحدى عشرة مرّة و أحيانا كانت تجهض من الشهر التاسع, لكنّها صبرت و احتسبت أمرها للّه و الان لديها ولد بكر عمره 6 سنوات و منذ شهرين أنجبت ...
رمقها بنظرة غاضبة لكنّها لم تكثرت و أكملت:
- أنجبت توأما ؛ بنتان رائعتا الجمال و كان هذا جزاءها لصبرها و إيمانها بأن اللّه معها.
ابتسمت المرأة و الأمل باد في عينيها:
- سبحان الذي يرزق من يشاء بغير حساب
أكملت المرأة زيارتها و رافقتها صفاء الى الباب لتودّعها و الفرحة تملأ قلبها لأنها استطاعت زرع بعض الأمل في قلب هذه المسكينة و التفتت لتجده واقفا وراءها و السخط بادٍ على وجهه:
-هل وظّفتك يا آنسة لتحكي قصص ما قبل النوم لمريضاتي؟ أو كمساعدة اجتماعية ؟ اعلمي بأنّك بتصرّفاتك اللاّمسؤولة تعرقلين عملي و لن أسمح بتكرار ما حدث.
حاولت تصنّع الهدوء وهي تجيب:
- آسفة لم أٌقصد عرقلة عملك كل ما فعلته هو أنّني حاولت أن أخفّف على المسكينة ألمها و لم أعلم أنّ هذا سيزعجك
أجابها بنفس النبرة الغاضبة:
- لا تعيدي الكرّة مرّة أخرى و أثناء الفحص لا أسمح لك بالتعاطي مع المريضات
- لكن الأمر لا يستحق كل هذا الغضب دكتور...
- لا أحب سماع كلمة "لــكن" تجنّبي استعمالها مرّة أخرى
نطق جملته الأخيرة ببرود و عاد إلى مكتبه.
حاولت صفاء الحفاظ على هدوئها طوال اليوم و تجنّبت كثرة الكلام حتّى لا تسمع محاضرة أخرى من أستاذها المحترم, لم يكن الأمر سهلا كما توقّعت نظرا للجفاء الذي عوملت به من طرف مستخدمها لكن الأمر يستحق ذلك.
وصلت إلى منزلها و هي تشعر بالكسل كل ما تمنّته حينها هو حمّام دافئ و الاستلقاء فوق سريرها لتراجع أفكارها, تملّصت بصعوبة من أسئلة أمّها الملحّة و تناولت عشاءها لتقفل باب غرفتها بعد أن أخدت حمّاما دافئا.
"من الواضح أن السيّد سيّء الطباع, علي أن أكون أكثر حذرا معه فأنا في الوقت الحاضر في حاجة إلى خدماته. كم تمنّيت لو كان أكثر لطفا لكان ساعدني كثيرا لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن. ليس علي سوى مجاراته و التعود على طباعه على كلّ حال فرفقة إيمان ستخفّف الأمر, يبدو لي شبح صداقة حميمة يطوف في الجوار"
تنهدت بعمق في سريرها و هي تقول:
-لا أعلم لم تظنّه لطيفا فمعاملته لها لا تختلف كثيرا عن معاملته لي أو ربّما تختلف. و لم قد تختلف؟ أ لأنّها أجمل منّي مثلا؟ يستحيل هذا فهو لم يكلّف نفسه عناء النظر إليّ طوال اليوم إلّا موبّخا. لماذا أكلّم نفسي كالمجنونة؟ الأفضل لي أن أنام كي أجدّد نشاطي الذي استنفذه جفاء ذاك الطبيب المتعجرف.
و غطّت في نوم عميـــق...
|