المنتدى :
القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
مقتل طائر
- جلس وحيدا في قاعة الاستقبال بالمطار في انتظار طائرته .. جلس ساهما موجوما يشعر بحزن عميق يملآ قلبه .. كان الناس يتحركون حوله يمينا ويسارا في نشاط زائد وقد حملوا حقائبهم .. بعضهم سعيدا مبتسما ربما لعودته للوطن .. والبعض الاخر جلس هادئا في انتظار طائرته .. نظرت له طفله صغيره تحملها امها .. عينين كبيرتين لامعتين تحدقان به في اندهاش كعادة الاطفال وكأنه كائن خرافي من عصور ما قبل التاريخ .. كانت أمها تمسك بيد رجل يبدو انه زوجها .. كانت تضغط على يده بقوه وفي عينيها نظره مترجيه وكأنها تطلب منه الا يتركها وحيده .. وكأن هذا الشعور انتقل الي الرجل فأشاح بنظره بعيدا والتمعت في عنيه دمعه سعى جاهدا لكتمها .. وان فضحها احمرار وجهه .. والطفله تنظر له من جديد .. عيونها اخذته بعيدا هذه المره أخذته عشرون عاما الى الوراء ربما لاول الحكايه ..
- شابا صغيرا كان هو.. شابا لامعا متقوق في دراسته تخرج من كلية التربيه وتخصص في اللغه الانجليزيه .. زميلة الكليه هناء تلك الفتاه الرقيقه الهشه .. والتي لاتخلو عينيها من ذكاء واضح .. احبها من اول نظره .. ربما احبها من قبل ان يراها .. كيوبيد كان ينتظر هناك حاملا سهامه.. منتظرا ضحيتين جديدتين يوقعهما في شباكه .. وحين رأها تضحك كاشفة عن اسنان بيضاء كاللؤلؤ .. وحين رأى الغمازتان الموجودتان على جانبي فمها عرف ان قدره تحدد .. أحبها حب بريء طاهر وطلب يدها من ابيها وتزوجها بعد ان انتهى من دراسته .. وبعد الزواج انتهى العسل سريعا وبدأت مسؤليات جسام .. لم يتخيل لحظه ان الزواج يحتاج الى مليونير .. لم يتخيل لحظه ان يكون هناك هذا القدر من الطلبات ورقه مليئه من المشتريات تكتبها زوجته له كل يوم .. ولم تسعفه وظيفته كمدرس في بلد يسقط فيه المدرس سقوطا مريعا في درجات السلم الاجتماعي .. مرتب قد لايكفي لسد الرمق .. وجاءت النجده من السماء ( او على الاقل هذا ما اعتقده ) في شكل اعاره الى واحده من دول الخليج .. اخبر زوجته التي كانت تحبه بجنون .. ورغم علمها ان الحياه ستغدوا افضل الا انها رفضت وبشده ..هي لاتطيق ان يبعد عنها يوما فكيف ترضى ان يعيب عنها سنين طويله لايزروها فيها الا مره كل ستة شهور .. ترجيته باكية ان يبقى .. ولكنها أخبرها انه لن يستمر كثيرا أربعة سنوات تمر سريعا ثم يعود لها ويبقى معها للابد .. بعد ان يضمن لها ولابنهما الوحيد حياه كريمه .. وافقت مضطره وذهبت لتوديعه في المطار حاملة ابنهما محمد .. حانت لحظة الوداع يتذكر كيف غرقت عيني زوجته في الدموع دموع غزيره حاره تكاد ان تحرقه .. وكأن غددها الدمعيه قد أتصلت بقلبها مباشرة .. ومن اجل مزيد من التراجيديا فوجيء بابنه الذي لم يتجاوز عامه الثاني بعد يمسك بطرف قميصه بقبضته الصغيره ويتمتم بصوت خفيض .. بابا ..
- يتذكر تلك اللحظات جيدا .. كم شعر فيها بالضياع .. وان كل شيء بلاقيمه المال والمركز الاجتماعي .. وكل ما سعى لاأجله سقط في تلك الحظه وفكر في عدم اللسفر .. لحظات عابره انطلق عقله يعمل باقصى قوته حتى حافظ على رباطة جأشه وتذكر مسؤلياته وواجبه تجاه زوجته وولده .. وكأنه خشى ان يرجع في قراره قبل زوجته قبله سريعه وحمل ابنه واحتضنه ثم تركهما وقلبه يتقطع .
- ( على الساده ركاب الطائره المتجهه الى دبي التوجه الى للصاله رقم 23 ) .. تردد النداء اكثر من مره فأفاقه من ذكرياته .. انها طائرته .. نظر حوله فلم يجد الطفله ولا امها .. يبدوا انهما قد غادرا .. قام سريعا حتى يلحق بالطائره وأن لم ينسى لحظه نظرات الطفله ولا عينيها الواسعتين .
- سنوات طويله من السفر وركوب الطائرات جعلت ركوب الطائره بالنسبه له اشبه بركوب سياره لايثير في نفسه ادنى رهبه.. وفي مقعده كان ينظر للشاشه الموجوده امامه وقد وضع السماعات في اذنه وان كان لايسمع او يشاهد شيء .. في تلك الحظات كان مشغولا بتذكر فيلم اكثر مأساويه ولكنه واقعي للاسف .. انه الفيلم الخاص بحياته .
- تذكر كيف كانت الغربه في بدايتها موحشه قاسيه لها طعم الحمض ومذاقه .. ولها ملمس الثلج وبرودته
- تذكر كيف بدأ التغيير الذي طال كل شيء .. هووحيدا يعيش غربه نفسيه واجتماعيه فقد اهتمامه بكل شيء ... القراءه .. الموسيقى .. الفن .. تحولت اهتمامه الى اشياء اخرى .. التدبير والتوفير وجمع القرش على القرش ثم ارساله لزوجته .. تحولت اهتماماته الى اسعار العملات وفرق السعر .. أسعار الشقق والاراضي في مصر .. اعلانات البيع والشراء .. تغير فيه كل شيء ملامح وجهه .. طريقته في اللبس .. حتى نبرات صوته ذاتها تغيرت صار صوته مجهدا مكدودا متعب طوال الوقت ..
- وهناك في القاهره كانت هناك تغيرات اخطر ولكنه لم يعلم عنها في وقتها .. واجهت الزوجه صعوبات كبيره في التكيف في اول عام .. افتقدته هناء بشده وخصوصا في ليالي الشتاء البارده احتاجت للدفء الذي كان يتركه وجوده حتى ولو لم يضمها .. اشتاقت للعلاقه الحميمه .. ولحظات من السعاده والمتعه تذوقتها واحبتها .. ولكنها تكيفت تعلمت ان تكبت تلك المشاعر وان تعيش وحيده .. وحين رأت المال والمتعه التي يجلبها لها ولاولادها .. تعلمت ان تنسى وجود زوجها اعتمدت على نفسها .. بالطبع انجبت اطفال اخرين من زوجها في تلك الاجازات التي كان ينزلها .. واكتسبت العلاقه بعد اخر .. انها ليست للمتعه انها للانجاب يجب ان ينجب منها في فترة الشهر التي ينزل فيه .. بالطبع افقد هذا العلاقه اي متعه .. شقه فاخره بالقاهره واخرى بالاسكندريه .. شاليه في الساحل الشمالي .. تعلمت هناء ان تحب النقود .. صارت علاقتها بزوجها انه خزينه للنقود .. كبر الاولاد وكثرت طلباتهم .. عانيت معهم في باديء الامر وخصوصا مع اولادها الذكور المتمردين الذين وصلوا الى فترة المراهقه .. بالطبع الاربع سنين الذي اعتقد انه سيعود بعدهم للوطن صاروا ثماني ثم اثنى عشر سنه حتى وصلوا لعشرين سنه .. كلما ار اد العوده طلبت منه زوجته وابناءه المزيد فيضطر الى مد اعارته .. في وقت من الاوقات شعر ان زوجته غير قادره على السيطره على اولاده .. وكان محق .. كان الاولاد يطلبون كثيرا من المال مع فشل في الدراسه واصدقاء سوء .. وعقوق لوالدتهم .. فعاد ولكنهم تعلموا ان يخفوا مشاكلهم وخلافتهم في وجوده حتى يرجع مره اخرى .. لم يتصوروا لحظه ان يتوقف نهر النقود
- ولكن في تلك المره قرر العوده نهائيا .. حياته في الغربه امتدت كثيرا ولم يستمتع بها .. شعر انه قام بواجبه على اكمل وجه .. وأنه حان الوقت للعوده والاستقرار العائلي
- وحين عاد الى مصر في تلك المره وسأله أولاده وزوجته عن موعد عودته .. قال انه لن يعود تذكرته هذه المره في اتجاه واحد هي ذهاب بلا عوده .. وكانت الصدمه والمفأجأه التي زلزلت حياته .. تفأجأ الاولاد واصابهم الاضطراب .. اما زوجته فقابلت الخبر بفتور وبرود كبير .. حتى حين طلبها لفراش الزوجيه بعد تلك المده تعللت بعلل واهيه .. وحين سلمته نفسها اخيرا فوجيء بها بارده ممله بلا اي تجاوب .. لم يعرف انها معزوره وان سنين قامت فيها بكبت رغباتها ومشاعرها لن تمحى ابدا بتلك السهوله .. كان يجب عليها ان تفعل ذلك حتى لاتجن او تتجه للخطيئه .. لذا كيف يطلب منها ان تعود كما كانت ؟؟؟
- والطامه الكبرى اولاده لم يستطع ان يحدد مدى الفشل الذي اصابهم الا حين رجع اليهم ومكث معهم .. فشل دارسي واخلاقي ونقود تصرف بلا طائل .. وكانت صدمة عمره حين قام بصفع ابنه حين رأه يشرب سجائر .. فلم يتحمل الابن ذلك واسمعه مالم يطيق .. كلام كثير عن اين كان طوال تلك الفتره .. وكيف لم يتذكر مسؤلياته كأب .. وكيف يريد ان يعود ببساطه ليكون جزء من تلك العائله .. وبلهجه ساخره قضت عليه قال له ( لقد تأخرت كثيرا ابي ).. كانت كلمة ابي الاخيره هذه بمثابه خنجر مسموم انغرس في صدره حتى المقبض .. وحين راى الوجوم والصمت المؤيد من زوجته وباقي اولاده علم انه لامكان له هنا وقرر العوده .
- ( سيدي .. هل هناك ما يضايقك )... بهت لحظة ثم نظر امامه فوجد المضيفه .. ولم يفهم معنى السؤال الا حين تذوق المذاق المالح في فمه .. كانت الدموع تملا وجهه .. دموع غزيره لم يعرف متى ولاكيف نزلت .. فاستجمع انفاسه واخبرها انها لامشكلة هناك .. فطلبت منه ان يربط حزام المقعد لان الطائره على وشك الهبوط
- حين نزل اخير متجها الى سكنه في الغربه شعر ان الجو حار خانق .. والمدينه ممله كئيبه .. شعر ان وجوه الناس كالحه سمجه .. دخل الى غرفته التي فاحت منها رائحة العطن ففتح النافذه التي تطل على الخليج ونام على سريره التي غطته الاتربه شعر انه متعب جدا ووحيد لم يكن يمللك القدره على نفض السرير حتى قبل ان ينام عليه .. أغمض عينه وتمتمت شفاهه بدعاء ما.. لم يرجوا من الله امر ما مثل ما اراد ان يحقق له هذا الدعاء .. دعا الله ان يميته ليستريح .. ثم اغلق عينيه شاعرا ان الفرج قريب .
- اتصلت به زوجته في الصباح .. فأخبرها المجيب الالي انه ليس موجود .. كان صوتها مضطرب به كثير من الندم .. اخبرته انهم جميعا نادمون على مافعلوه في حقه .. وانهم يريدون عودته اليهم ليبدأوا حياه جديده تأخرت كثيرا .. وختمت حديثها بكلمة احبك .. ترددت الكلمه كثيرا في فضاء الغرفه حملتها نسمة هواء دخلت من النافذه المفتوحه الى حيث كان جسده مسجى هناك على الفراش .. ترددت الكلمه كثيرا وكأن لها الف صدى وما من مجيب .
- هناك على شاطيء الخليج كان هناك طائر يطير وحيدا .. طائر مهاجر هو من طيور الخليج .. قطع الاف الامتار حتى اخذ منه التعب وضل الطريق عن اترابه .. سقط على الشاطيء حاول ان يرفرف بجناجيه بعيدا .. ولكنه عاود السقوط .. لم يكن يريد ان يموت وحيدا بعيدا عن وطنه .. ولكن القدر كان له رأي اخر .. انتفض جسده انتفاضه اخيره ثم كف عن الحركه وساد السكون ...
|