5 ـ امرأة لا طفلة !
ـ لكن هذا ليس فندقاً !.
قالت روزي محتجة عندما صعد غارد بسيارتهما المستأجرة في
طريق خاص ثم أوقفها أمام مدخل قصر مهيب مبني بالحجر .
منذ أعلن غارد أنها ستذهب معه إلى بروكسل , أخذت روزي
تحتج وتجادل , ولكن من ون جدوى . ذات مرة انفجرت فيه
غاضبة :
ـ وما المفروض أن أقوم به أنا أثناء وجودك في الاجتماعات ؟
ـ لم يخطر ببالي قط أنك أنانية إلى هذا الحد !
حملقت فيه آنذاك بارتياب , وساورتها شكوك في دوافعه الخفية ,
وخيل إليها أنها تعلم جيداً ما هي . إنها ليست حمقاء . . . وكان
ردهـا :
ـ لست ذاهبة معك , يا غارد ! ولا أريد الذهاب ! .
ولكن , بطريقة أو بأخرى , لم تنفع كل احتجاجاتها . وها هي
ذي الآن هنا تنظر إليه بقنوط , ساخطة لقدرته على البقاء هادئاً في
حين كانت مشاعرها تضطرب اضطراباً شديداً .
لم تكن معتادة على أن لها زوج , وكرهت افتراض غارد بأنه هو
الذي يقرر ما يجب أو لا يجب عمله .
أجاب الآن بهدوء :
ـ لا , إنه ليس فندقاً . إنه بيت خاص . و (( المدام )) صاحبة القصر
هي سيدة فرنسية . وبدلاً من أن تبيع البيت بعد وفاة زوجها , قررت
أن تزيد دخلها بتأجير غرفه . ومثل أكثر الفرنسيات , هي ليست
طاهية ممتازة فحسب , وإنما مضيفة ممتاز وماهرة جداً في توفير
أسباب الراحة .
قطبت روزي جبينها . شيء ما في صوت غارد وهو يتكلم عن
صاحبة القصر ضايقها . ومن دون حاجة إلى مزيد من الوصف ,
تصورتها روزي على الفور إحدى تينك الفرنسيات الأنيقات دائمات
الشباب اللواتي تشعر , هي شخصياً , بالخوف منهن .
ـ لكن , قلت إن لديك عملاً في بروكسل , وهذا المكان يبعد
عنها أميالاً ! .
ـ ليس أكثر من ساعتين بقليل في السيارة . و هذا كل شيء !
وإقامتي هنا تعطيني عذراً لئلا أتورط في أحداث بروكسل السياسية .
فكرت في أنك ستحبين هذا المكان . كنت تقولين دائماً إنك تفضلين
الريف على المدينة .
ابتعدت روزي بنظراتها عنه . كان صحيحاً أنها تفضل الريف ,
وربما كانت ستستمتع بهذه الرحلة في أحوال عادية . لكنها , في
العادة , ما كانت لتأتي إلى هنا مع غارد , زوجة له .
في هذه الأثناء , كان غارد قد نزل من السيارة واستدار ليفتح لها
الباب . ورغم تفضيلها الكنزة والبنطلون عادة , إلا أنها كانت ترتدي
تنورة صوفية طويلة وصداراً مناسباً تحته قميص حريري بني اللون ,
وفوق كل ذلك سترة مناسبة أحضرتها معها تحسباً للبرد . كانت
ارتدت هذه الملابس لعلمها أنها تُظهرها نحيفة , ما جعلها مسرورة
عندما انفتح باب القصر وبرزت امرأة غارد الفرنسية .
كانت ترتدي السواد . . تنورة سوداء من الكريب اشتبهت روزي
في أنها من إحدى دور الأزياء , فوقها قميص بسيط من الساتان
ووشاح من الكشمير حول كتفيها . عقد اللآليء الذي كان يتألق حول
عنقها , والمؤلف من ثلاثة حبال , لا بد أنه حقيقي , وكذلك الخواتم
الماسية في أصابعها والقرطان في أذنيها . ولكن ليست أناقتها هي التي
أذهلت روزي , التي أخذت كارهة تصعد السلم خلف غارد , وإنما
عمرهـا .
منتديات ليلاس
لم تكن المرأة , كما توقعت روزي بين الخمسين والستين من
عمرها , وإنما أقرب إلى الأربعين . إنها أقرب إلى غارد في العمر
منها هي . أما لماذا شعرت بمثل هذا العداء نحو (( المدام )) فلم يكن
لديها جواب . وأما أنه شعور متبادل , فالأمر واضح !
التفتت (( المدام )) إلى غارد , متجاهلة روزي تماماً , لتقول له
ببرودة :
ـ آه , لم أدرك أنك ستحضر معك . . . صديقة !
قال غارد بحزم وهو يقدم روزي :
ـ روزي هي زوجتي .
أكانت صديقة أم زوجة , لم يشكل ذلك أي فرق بالنسبة إلى
(( المدام )) كان واضحاً أن وجود روزي لم يسرها .
ـ وضعتك في جناحك المعتاد .
أخبرت غارد بذلك وهي تقف بينهما بشكل جعلها تواجه غارد ,
مديرة ظهرها لروزي , ثم أخذت تتحدث إليه بلغتها الفرنسية .
لكن روزي تتحدث الفرنسية بطلاقة . كان لديها موهبة تعلم
اللغات , نمتها سنوات إقامتها في ألمانيا مع والدها . وفرنسيتها , في
الواقع , أكثر طلاقة من فرنسية غارد بكثير . كانت (( المدام )) تقول :
ـ وعلى كل حال , إذا كنت تفضل غرفة أخرى . . .
غرفة أخرى ! . . وخفق قلب روزي بضيق . كانت تفترض أن
إقامتها ستكون في فندق كبير , وفي غرفتين منفصلتين . كما
افترضت أن رغبة غارد في مشاركتها غرفة واحدة ستكون ضعيفة مثل
رغبتها هي .
قال غارد للمدام :
ـ لا ! جناحي المعتاد مناسب تماماً !
الردهة الواسعة , المعرضة لتيارات الهواء , جعلت روزي
مسرورة بتنورتها الطويلة .
كان منزلها (( مرج الملكة )) أكثر دفئاً بسقفه المنخفض والخشب
السميك الذي يغطي الجدران . لكن هذا المكان , بغرفة العالية
السقوف , وجدرانه الحجرية العارية , لا بد أنه يسكون كابوساً . . .
بالنسبة إلى الدفء . هكذا أخذت روزي تحدث نفسها , فيما كانت
المرأة تتقدمها صاعدة السلم الحجري .
كانت السجادة التي تغطيه , رغم أنها بالية تقريباً , مطرزة بما
افترضت روزي أنه شعار أسرة الزوج الراحل . وقفت تتفحصها عن
قرب , متسائلة عما إذا كانت ترجمتها صحيحة لما قرأته في ناحية
منها . ومفاده أن إحدى سيدات القصر كانت في وقت ما عشيقة
للملك وولدت منه طفلاً .
كانت (( المدام )) تصعد الدرج مع غارد , جنباً إلى جنب , معربة
بالفرنسية عن أسفها لأن وجود زوجته معه يعني أنهما لن يتناولا
العشاء بمفردهما . أجابها هو بالانكليزية بكياسة بالغة :
ـ مع الأسف ! لكنني واثق من أن روزي ستستمتع بتذوق طعامك
اللذيذ .
قوله هذا جعل روزي تحملق فيه . لم يكن ثمة حاجة لأن يتدرب
هنا على تمثيل دور الزوج المحب .
كادت تقول أن بإمكانهما , هو و المدام , أن يستمتعا بالجلوس
وحدهما قدر ما يشاءان من المرات , دون أي مانع من ناحيتها .
لكنها بدلاً من ذلك , قالت للمدام بابتسامة باردة ولغة فرنسية طليقة
بأنها , في الواقع , تتشوق إلى طعامها اللذيذ .
لم تقل المدام شيئاً , بل نظرت إليها بعينين ضيقتين , وزمت فهما
المصبوغ باللون القرمزي . ولم تعد تتحدث إلى غارد بالفرنسية , وهي
تقودهما خلال الممر ثم تقف أمام باب من الخشب الثقيل قائلة
لروزي بتكلف ودون قناعة :
ـ أنا واثقة من أن كل شيء سيكون حسب رغبتكما !.
وهذه المرة , جاء دور روزي لتكون شاردة الذهن غير متجاوبة .
عندما تركتهما المرأة , خطر في ذهنها أن العلاقة بينها و بين غارد
هي أعمق بكثير من تلك التي بين المضيفة والنزيل . لكن من الغريب
أنها لم تفصح عن شكوكها هذه , علماً أن تسرعها كان على الدوام
مدار مزاح في أسرتها . كانت تعلم , آسفة , أنها تميل إلى الكلام قبل
التفكير , ولكن بالنسبة إلى حياة غارد الشخصية , وخبرته مع النساء ,
لم يكن الإدلاء بتعليقات غير حذرة من شأنه أن يمنح غارد الفرصة
لتعييرها ببراءتها وجهلها .
منتديات ليلاس
لم تكن تشعر بمثل هذا الضيق مع الرجال الآخرين , وإنما
العكس تماماً . عندما تجاوزت غارد داخلة إلى غرفة الجلوس في
الجناح , شمت على الفور رائحة عطر المدام في الجو . أخذت
تتفحص ما يحيط بها بصمت . الأثاث المذهب , المرآة الضخمة
المذهبة فوق المدفأة , الأغطية المطرزة باليد , والستائر الحريرية
القديمة الطراز . كما أضفت زهريات تحتوي على زنابق بيضاء أناقة
على الغرفة .
أدركت روزي ذلك وهي تنظر إلى البساط (( الأوبيسون )) الذي
بهت لونه , مقطبة الجبين , شاعرة بالرهبة من هذا الجو القديم
المحيط بها .
ـ أنا عادة أستعمل غرفة النوم هذه .
سمعت غارد يقول هذا من خلفها وهو يفتح أحد البابين اللذين
يؤديان إلى خارج الغرفة .
ـ إن لها حمامها الخاص خلافاً للغرفة الأخرى . ولكن إذا كنت
تفضلين . . .
ما تفضله هو أن تكون الآن في بيتها وحدها , كما يعلم جيداً .
ـ هذا لا يهمني . ولكن أليس الأفضل لك أن تنام في الغرفة ذات
الحمام ؟ وبعد , أنا واثقة من أن المدام تتوقع أن تكون مستعداً
تماماً حين تنضم إليها لعشائكما المنفرد! .
ـ أتغارين ؟!
هذا اللوم الرقيق غير المتوقع , جعلها تصمت ذاهلة .
تغار . . . كيف يمكن أن تكون كذلك ؟ إن غارد لا يعني لها
شيئاً . المشاعر الوحيدة التي بينهما هي سخريته منها وبغضها العقيم
له . تغار . . . هذا مستحيل ! . . . إن غارد يعلم ذلك , فلماذا إذن
يرميها بالغيرة ؟
هزت رأسها غير قادرة على الإنكار . ولماذا تفعل وليس هناك ما
تنكره ؟ بدلاً من ذلك , أشاحت بوجهها عنه وهي تقول بغضب :
ـ لم أكن أريد القدوم إلى هنا , يا غارد .
ـ ربمــــــا هــــــذا صحيــح , ولكنك هــــنا الآن . أنت هنــا , وأثناء
وجودنا . .
عندما أخذت تبتعد عنه , توجه نحوها ساداً طريقها إلى باب غرفة
النوم .
ـ انظري إلي يا روزي . إنك لم تعودي طفلة لكي يُسمح لك
بالهرب من النقاش لإنقاذ ماء وجهك حين تعرفين أنك خاسرة .
فنظرت إليه بمرارة :
ـ النقاش ؟ وهل هناك من هو مسموح له بأن يناقشك , يا غارد ؟
إنك كُلي القدرة . . كلك رأي . . وكلك معرفة . استمر إذن . . ماذا
عن (( أثناء وجودنا هنا ))؟ يمكنني الجلوس كطفلة مطيعة بينما أنت
و المدام . . .
قال متجهماً :
ـ لا شيء بيني وبين الكونتيسة !
ـ ربما كلامك صحيح . لكنها تحب أن يكون ذلك .
استمر يقول متجاهلاً تعليقها :
ـ أكرر أن لا شيء بيننا . ولو كان هذا موجوداً . . .
فساعدته على إتمام كلامه , ساخرة :
ـ لكان ذلك ليس من شأني .
ـ ربما هذا صحيح . ولكنه ليس ما كنت أريد قوله . ما كنت أريد
قوله يا روزي هو أن عليك أن تحاولي وضع عداوتك لي جانباً ,
وتستخدمي المنطق والتعقل بدلاً من إطلاق مشاعرك . إن سبب
إصراري على إحضارك معي في هذه الرحلة هو أن نمنح نفسنا وقتاً
نعتاد فيه على وضعنا . . . الجديد . هل من التعقل إذن أن أفعل ذلك
ثم أحضرك إلى منزل عشيقتي ؟ ليس عليك أن تقلقي , يا عزيزتي ,
عندما ألح عليك بالمجيء معي في رحلة عمل , وإنما عندما أبداً
باصطناع المعاذير لئلا آخذك معي . . .
لأمر ما , كان يبتسم , وهذا ما أثار غضب روزي فصعد الدم إلى
وجهها . قال ساخراً وهو يلمس وجنتها بأنامل باردة :
ـ كثير من المشاعر المتوقدة وقليل من المنافذ لتصريفها !
أمرته قائلة بحرارة :
ـ كفى استعلاءً يا غارد ! أنا لست طفلة !
اختفت ابتسامته ليحل مكانها نظرة تقييم هادئة :
ـ لست طفلة ؟ ليت هذا صحيح !
ـ لا , شكراً , لا أريد مزيداً من الشراب !
رفضت روزي ذلك وهي تهز رأسها محاولة كبت تثاؤبها .
لم يبالغ غارد في مدح موهبة (( المدام )) في الطهي . لكن روزي لم
تستمتع حقاً بالطعام . فالطريقة التي تعمدت فيها المدام استبعادها من
الحديث , مقتصرة على غارد , جعلتها تشعر إزاءها بالتسلية أولاً , ثم
بالضيق بعد ذلك . وتوخياً للإنصاف , كان عليها أن تعترف بأن غارد
بذل وسعه لكي يوقف سلوك المدام السيء , محاولاً إدخال روزي في
الحديث , لكن روزي تعبت من هذه اللعبة وتمنت لو تعتذر ثم تهرب
إلى سريرها . قالت بهدوء :
ـ في الواقع , إذا لم يكن هناك مانع , أريد أن أذهب إلى النوم .
ثم وقفت قبل أن يتمكن غارد من قول شيء . حيت مضيفتها
بتكلف , مادحة الطعام . قال غارد بصوت هادئ غير متوقع :
ـ أظنني سآتي معك .
قالت باحتجاج :
ـ كلا , بل إبق هنا !
لكن غارد كان سبق وأمسك بمرفقها , مضيفاً شكره إلى شكرها ,
وهو يسير معها نحو الباب . عندما أصبحا في الردهة , قالت له بحدة :
ـ ما كان يتوجب عليك ذلك . كان يمكنك البقاء .
قال ساخراً :
ـ وأترك عروسي وحدها ؟
حملقت فيه مزمومة الشفتين وقالت غاضبة :
ـ لا حاجة للسخرية بهذا الشكل ! لست حمقاء على الإطلاق , يا
غارد ! أنا أعلم جيداً أنك . . .
عندما سكتت , قال بسرعة :
ـ أنني ماذا ؟
لكن روزي رفضت الجواب مكتفية بهزة من رأسها . ما الفائدة
من قول ما يعرفانه , هما الاثنان؟ أنها آخر امرأة كان غارد سيفكر في
الزواج بها , كما أنه آخر رجل كانت تريد الزواج به .
عادت تكرر اعتراضها السابق , وبانفعال هذه المرة :
ـ لا أدري لماذا أحضرتني إلى هنا ! ما المفروض أن أفعله بنفسي
حين تكون في بروكسل ؟ أطلب من المدام أن تعلمني الطهي ؟
ـ إنك لن تبقي هـنا , بل سترافقينني .
ـ مـاذا ؟!
ـ أظنك ستجدين السيد (( ديبوا )) على شيء من الأهمية . وحيث
أنه لا يتكلم الانكليزية , وفرنسيتي ضعيفة نوعاً ما , سأكون شاكراً
مساعدتك .
ماذا يعني غارد بقوله إنها ستجد السيد (( ديبوا )) مهماً ؟ إن عمل
غارد يتضمن تفاصيل معقدة جداً وبرامج على الكمبيوتر , وهو
موضوع لا تعرف عنه روزي إلا القليل , كما يعلم غارد جديداً . تابع
غارد يقول وكأنه يقرأ أفكارها :
ـ السيد ديبوا عالم خبير بالبيئة . وهو المتحدث باسم مجموعة
بالغة النفوذ في السوق الأوروبية المشتركة تطالب بمزيد من السيطرة
على فساد البيئة في الأرياف . وحيث أنني أعلم اهتمامك بهذا الأمـر ,
ستجدان الكثير لتتحدثا عنه .
ليس من عادة غارد أن يعطيها رأياً لا يتضمن نوعاً من السخرية ,
ما جعلها , لأول مرة , لا تعرف ماذا تقول .
ـ وطبعاً , وجودك معي سيوفر علي أجر مترجم .
نظرت إليه ساخطة . للمرة الأولى تخدع به فتظنه يعتبرها نداً
له . . . امرأة راشدة . تملكها حنق كاد يدفعها إلى رفض الذهاب
معه . لكن البقاء في القصر وحدها لم يكن شيئاً ساراً .
قال لها وهو يفتح باب جناحها :
ـ لدي بعض الملاحظات أريد قراءتها . إذا كنت تريدين استعمال
الحمام أولاً . . .
أدركت أن عليها أن تشكر لباقته هذه , لكنها بدلاً من ذلك ,
شعرت بالانزعاج والارتباك كطفل أرسل إلى النوم لئلا يزعج وجوده
الكبار . هل ادعاء غارد بأنه سيقوم ببعض الأعمال , ليس إلا عذراً
للعودة إلى الطابق السفلي لموافاة المدام ؟
لو كان غارد يريد البقاء مع المرأة الفرنسية , لما كان بحاجة إلى
الكذب ! هكذا فكرت روزي بغضب , إنه حر تماماً من هذه الناحية ,
أو هما الاثنان كذلك .
لماذا إذن شعرت بالضيق حين رأيت فم المدام القرمزي يهمس
شيئاً في أذن غارد ؟
منتديات ليلاس
سبب ذلك , كما أخذت روزي تفكر باستياء , ليس سلوك المدام
المريب , و إنما هو استياءها من طعامها الدسم في معدتها .
عندما وافقت بيتر على القيام بمحاولة إنقاذ المنزل , لم تدرك
بالضبط ما عليها أن تواجهه . فكرت في هذا باكتئاب وهي تخلع
ملابسها وتنزل في حوض الحمام الضخم . كان ضغط أحداث
الأسبوعين الأخيرين أكثر مما توقعت . . ومما تريد أن تعترف به .
مضت لحظة , أثناء تناولها فطور يوم الزفاف , نظرت فيما حولها
إلى الوجوه المألوفة . فشعرت فجأة , بلهفة قوية إلى أبيها وجدها
ليخففا عنها . وإذ ملأت الدموع عينيها وخنقتها , أكبت فوق صحنها ,
آملة ألا يكون أحد قد لاحظ ذلك . كان غارد مستغرقاً في حديث مع
زوجة إدوارد , أو هكذا ظنت , ما جعلها تشعر بمزيد من الخجل
عندما دس في يدها منديلاً كبيراً نظيفاً , قائلاً بهدوء :
ـ أنا أيضاً أفتقدهما , يا روزي ! إنه , على الأقل , شعور مشترك .
اغرورقت عيناها الآن بالدموع , على غير توقع منها . أخذت
تغالبها غاضبة . ماذا حدث لها هذه الأيام ؟ لم تكن قط من النوع
الذي يبكي بسهولة .
قد تكون المدام سخية بالنسبة للطعام , لكنها بخيلة بالنسبة للماء
الساخن . أخذت روزي تفكر في ذلك وهي تغتسل بسرعة وتقفز إلى
خارج الحوض , لتلف نفسها بمنشفة كبيرة بيضاء ثم تبدأ بتنشيف
جسمها بسرعة لتبدد بذلك ذكرياتها غير المرغوب فيها .
عندما ارتدت قميصها القطني بالصورة الكاريكاتورية المطبوعة
عليه من الأمام , نظرت في المرآة وعبست .
اعترفت بأن أحداً لن يصدق أنها عروس سعيدة إذا ما رأى
صورتها على هذا النحو .
عندما يتزوج غارد , أو إذا تزوج , لا يمكن أن يكون ذلك بفتاة أو
امرأة ترتدي ليلة عرسها قميصاً قطنياً وملابس داخلية عادية , التقطت
ملابسها التي كانت خلعتها , ثم توجهت إلى غرفتها منادية عندما
دخلتها :
ـ انتهيت من الحمام الآن , يا غارد ؟
سكوت ! أتراه سمعها ؟ قطبت جبينها وهي تعض باطن شفتها ,
ناقلة نظراتها بين باب غرفتها المغلق وبين السرير . . . آخر ما كانت
تريده هو أن يوقظها طرق غارد على بابها ليعرف أين هي .
تأوهت بصوت خافت ثم سارت إلى الباب تفتحه . كان غارد
جالساً إلى المكتب أمام النافذة , ورأسه فوق أوراق منشورة أمامه .
أخذت تراقبه لبضع ثوانٍ. كان شيئاً نادراً , بالنسبة إليها , أن تتمكن
من مراقبته دون أن يلحظها . يا له من رجل بالغ الوسامة ! اعترفت
لنفسها بذلك وقد خفق قلبها . رجل تتمنى معظم النساء الزواج منه .
لكنها ليست واحدة منهن . . عندما تتزوج . . .
ـ ماذا حدث , يا روزي ؟
ألقى بهذا السؤال الهادئ من دون أن يرفع رأسه أو ينظر إليها ,
موضحاً بذلك أنه لم يكن غافلاً عن وجودها . وأضاف متجهماً :
ـ إذا كنتِ ستخبرينني بأنك لا تستطيعين النوم من دون دميتك ,
إذن فأنا آسف . . .
أظلمت عيناها غضباً . إنها لم تنم مع دميتها منذ سنوات . حسناً ,
فقط أثناء الأسابيع الأخيرة , عندما حطمها فقدها لأبيها وجدها .
قالت له بكبرياء :
ـ جئت لأخبرك بأنني خرجت من الحمام .
ـ أتريدين فنجان قهوة قبل النوم ؟
فاجأها سؤاله . اتسعت عيناها قليلاً واحمر وجهها عندما وضع
من يده الأوراق التي يدرسها ثم التفت إليها . شعرت بأنها تحب
أن تتناول فنجان قهوة , لكنها كانت خجلى من كونها في قميص
النوم .
قالت بضيق :
ـ الأفضل . . . الأفضل أن أذهب لألقي علي رداء آخر . . .
أنا . . .
أجفلت عندما وقف , رافعاً حاجبيه الأسودين بسخرية وهو يتقدم
نحوها .
ـ هذه حشمة بالغة يا روزي ! لكنها غير ضرورية . أظن لدي ما
يكفي من السيطرة على مشاعري فلا أستسلم لإغراء منظرك بقميص
النوم . ثم إن قميصك هذا ليس شديد الإغراء , أليس كذلك ؟ إنه ليس
قميص عروس , بالضبط كما . . .
ـ أظنك عندما تذهب إلى سريرك ستلبس بيجاما حريرية .
دافعت روزي عن نفسها بهذا القول متذكرة رواية كان البطل فيها
يرتدي تلك الملابس . وتابعت تقول :
ـ ولكن لمعلوماتك الخاصة . . .
سكتت فجأة عندما أخذ غارد يضحك . لم تكن رأته يضحك من
قبل إلا نادراً . ولأمر ما , سبب ضحكه هذا , لها , طعنة مؤلمة في
صدرها .
سألته بارتياب :
ـ ما هذا , ولماذا تضحك ؟
قال يهز رأسه والمرح بادٍ في عينيه :
ـ لا يا روزي ! أنا لا أرتدي بيجاما حريرية . أنا , في الواقع لا
أرتدي شيئاً على الإطلاق .
قال جملته الأخيرة , وهو يحدق فيها بإمعان .
لم تستطع روزي منع وجهها من الاحمرار خجلاً وارتباكاً . ليس
فقط لما قاله , حتى ولا لضحكه هذا , وإنما للصورة المفزعة التي
تمثلته فيها عارياً .
غصت بريقها , وقد منعتها صدمة مشاعرها من ملاحظة كيف
تحول الهزل في عيني غارد إلى تفحص دقيق . قطب جبينه لما بدا
على وجهها من شحوب وألم .
سمعته يقول لها فجأة :
ـ اذهبي إلى سريرك , يا روزي ! لقد عانيت كثيراً من التوتر
والإجهاد , مؤخراً تصبحين على خير . . .
شعرت روزي بأن كل هذا كثير عليها , فقالت بصوت خنقته
الدموع :
ـ أنا لست طفلة , يا غارد . أنا امرأة . . راشدة , وقد حان
الوقت لأن تدرك هذه الحقيقة وتعاملني على أساسها .
غالبت بغضب دموعها التي كانت تحجب عنها الرؤية , وإذا بها
تسمع صوت غارد يقول محذراً :
ـ لا تغريني , يا روزي ! لا تغريني ! .
نهاية الفصل الخامس