3 ـ كيف يعامل الرجـل المــرأة ؟
ســألت روزي غارد , وهي تنهض وتسير لتقف عند نافذة المكتبة .
ـ هل من المفروض أن يكون احتفالاً كنسياً ؟
كانت قد فوجئت بحضوره منذ نصف ساعة . ذلك أن الساعة
التاسعة من صباح يوم السبت ليست وقتاً معتاداً لاستقبال الزائرين .
ـ زائرين ؟
قال غارد ذلك بلهجة مطاطة عندما أخبرته بذلك . وبسرعة ,
تخللت شعرها الجعد بأصابع إحدى يديها , بينما حاولت خلسة أن
تلعق ما سال على أصابع اليد الثانية من المربى .
في حياة جدها , كانت وجبة الفطور , خصوصاً أثناء عطلة نهاية
الأسبوع , أمراً شبه رسمي , يقدم في غرفة الطعام . ولكن , منذ أن
أصبحت وحدها , تعودت أن تأكل في المطبخ الواسع . كما أصبحت
السيدة (( فرينتنون )) تأتي مرة واحدة في الأسبوع بدلاً من الحضور
يومياً للتنظيف و المطبخ . ذلك أن روزي أخذت تشعر بالذنب
لاستخدامها امرأة في أعمال الطبخ والتنظيف بينما تستطيع أن تفعل
ذلك بنفسهـــا .
ـ عزيزتي روزي , نحن على وشك الزواج , والمفترض في نظر
الناس أننا غارقان في الحب . ليس الغريب زيارتي الباكرة , بل عدم
قضائي الليل بطوله هنـــا .
تملك روزي الضيق عندما شعرت بحمرة الخجل تصبغ وجهها .
قــال :
ـ برنامجي مليء بالعمل , وهناك أمور معينة علينا أن نناقشها قبل
أن يعلم سائر الناس خبرنا .
سألته غاضبة وهو يتبعها إلى غرفة المكتبة :
ـ ولماذا على الآخرين أن يهتموا بما نفعل ؟ أم أنك تعني بسائر
الناس صديقاتك العزيزات ؟
لكن النظرة التي رمقها بها سرعان ما أسكتتها .
كان غارد , مثلها يرتدي ثياباً عادية . لكن مشيته كان لها تأثير
مغناطيسي غريب . شعرت بالارتياح عندما جلس أخيراً على إحدى
كراسي المكتبة .
أجابها الآن عن سؤالها الأســاسي :
ـ نعم , هذا يهمُّهنَّ ! ما هو اعتراضك ؟ .
ـ حسناً ذلك فقط . . .
وهزت كتفيها بضيق , لا تريد أن تعرض نفسها للمزيد من
سخريته . فهي تشعر على نحو ما بأن من الخطـــأ , إجراء الزواج في
الكنسية , بينما يعلمان تماماً أن زواجهما هو مجرد مصلحة . قال يلح
عليها :
ـ ذلك فقط مــاذا ؟
ـ إنه فقط . . . أن العرس في الكنسيــة مربك , بــالغ الضوضـــاء
والتعقيد و . . .
احمر وجههــا أمام نظرته الباردة . في وضوح هذا النهار الصــافي
المــشــمــس , بدا مستحيلاً أن تكون هاتان العينان الباردتان هما نفس
العينين اللتين رأتهما الليلة الماضية تتحرقان رغبة وشوقاً . حولت
عينيها عنه بسرعة . كانت حدثت نفسها الليلة الماضية , بعد ذهابه ,
بأن مـا حدث بينهما من عناق لن يتكرر , غارد فعل ذلك بسبب
إدوارد , وبإمكانها أن تشكره على عمله . . . لكنه أمر لا ينبغي أن
يتكرر على الإطلاق .
ـ كفى مراوغة يا روزي . إنك لا تريدين الزواج في الكنسية لأنه
زواج غير حقيقي . هذه هي شخصيتك ومفاهيمك المشوشة عن
الحياة . حاولي أن تفكري في الأمور بمنطق , أنا وأنت , على اختلاف
طبعينا , لدينا مكانة معينة في المجتمع , سواء أحببت ذلك أم لا .
إدوارد لن يكون مسروراً لما ستقوم به , ونحن نعلم ذلك , ولا فائدة
من زيادة شكوكه . تفضلين احتفالاً صغيراً بسيطاً , ولا ضـــرورة لأن
يكون كنسياً , أليس كذلك ؟ أما بالنسبة للضوضاء والتعقيدات , دعي
ذلك لي . من الأفضل أن تطلبي من السيدة فرينتون أن تأتي إلى هنا
للعمل في البيت طوال النهار .
ـ لماذا ؟ إنني لا أستعمل سوى بضع غرف و . . .
ـ هذا صحيح . ولكن بعد الزواج علينا القيام بواجبات الضيافة .
لدي شركاء في العمل يريدون أن يتعرفوا إلى عروسي . فإذا لم تكوني
مستعدة لترك عملك في الملجأ لتبقي في المنزل طوال النهار . . .
تترك عملها في الملجأ ؟ وقالت بعنف :
ـ لا ! بكــل تأكيد ! .
ـ اتصلي إذن بالسيدة فرينتون أخبريها بأننا سنتزوج وبأنني
ســأنتقل إلى هنا واطلبي منها أن . . .
ـ تنتقل إلى هنا ؟
فقال ســاخراً :
ـ من الطبيعي بالنسبة إلى زوجين أن يعيشا تحت سقف واحد .
إلا إذا كنت تريدين الانتقال إلى شقتي . بالرغم من . . .
شقته ؟ أخذت روزي تحدق فيه . عندما عرض عليها بيتر في
البداية فكرة الزواج من غارد لم يخطر ببالها سوى ذاك الحرج من
مفاتحته في الأمـــر .
قالت بذعر :
ـ لكننا لا يمكن أن نعيش معاً !.
ـ لا يمكننا ماذا ؟ آه , هيا , يا روزي , كم تبلغين من العمر ؟ لا
يمكنك أن تكوني بهذه السذاجة ! لا يمكنك أن تقنعي الناس بأن هذا
زواج حقيقي إذا كنا نعيش في منزلين منفصلين . كوني عاقلة !
قالت بضعف وهي تسمع نبرة السخط في صوته :
ـ لم يذهب تفكيري , في الواقع , إلى ذلك الحد . أردت فقط
أن . . .
قاطعها بلهجة لاذعة :
ـ أرادت فقط إنقاذ البيت من إدوارد . أعلم هذا . إنك في الثانية
والعشرين من عمرك تقريباً , يا روزي . ألم يحن الوقت بعد لكي
تكبــــري ؟
أجابت ساخطة :
ـ إنني كبيرة . وأنا راشدة الآن , يا غارد و . . .
ســألها بنعومة :
ـ و . . . ماذا ؟ امرأة ؟ .
ـ نعم !
قالت ذلك بعنف وهي تنظر إليه يروح ويجيء في الغرفة , ثم
يرمقها بنظرة آمــرة :
ـ استديري وانظري إلى نفسك في تلك المرآة , ثم أخبريني بما
ترين .
منتديات ليلاس
فكرت في أن ترفض , لكنها عندما تذكرت مبلغ السرعة
والسهولة التي قهرها بها الليلة الماضية , امتنعت عن ذلك . وهكذا
اضطرت للقيام بما طلبه منا , وأخذت تحدق , ليس في صورتها في
تلك المرآة الضخمة , بل فيه هو .
كم هو طويل بالنسبة إلى قصر قامتها ! ومــا أقوى عضلاته
الواضحة من تحت قميصه الصوفي الرقيق ! أما هي فكان قميصها
فضفاضاً وفتحة عنقه واسعة , ما كشف بوضوح عن رقة عظامها
الهشة . أبرز القماش الصوفي الأسود الناعم , بشكل ما , بياض
بشرتها الشفاف , واستدارة صدرها .
قال ســاخراً :
ـ امرأة ! إنك تبدين فتاة صغيرة ! قد تصبحين امرأة بعد سنوات ,
يا روزي , لكنك ما زلت مختبئة خلف طفلة بمظهرها وسلوكها .
( ومد يده محاولاً ملامسة فمها , لكنها أمسكت بمعصمه تبعد يده
عنها , وقد أظلمت عيناها غضباً وذهولاً ) . لا أحمر شفاه , ولا أي
نوع من مواد التجميل .
أجابت باحتجاج :
ـ إنه صباح السبت .
أما ما لم تخبره به , أو ما لم تستطع أن تخبره به , فهو أنها
غادرت سريرها للتو , وأنها لم تستطع النوم في الليلة الماضية . . .
لأنها . . وأحست بأثر لمسته تحرق شفتها , فعضتها بحركة غريزية .
تابع غارد يقول بقســوة :
ـ لا زينة على الوجه ! وتتعمدين بملابسك هذه إخفاء معالم
الأنوثة . هل سبق لرجل أن لمســك ؟
ـ ليس علي أن أعتذر لك أو لأي شخص آخر لعدم رغبتي في
إطلاق العنان لنفسي في علاقات عابرة . وهذا لا يعني أنني غير
ناضجة , أو أنني أقل من امرأة .
ـ هذا صحيح . لكن احمرار وجهك , وهربك مني , وجهلك
الواضح بالجنس الآخر . . . كل هذا يقول إنك لست امرأة , يا
روزي . وسيقولون بالتأكيد إنك غير متزوجة .
قالت بحدة وهي تشيح بوجهها لئلا يرى احمرار وجهها أو الألم
الذي خلفته كلماته :
ـ حسناً , لا يمكنني فعل شيء بالنسبة لهذا الأمر . أليس كذلك ؟
إلا إذا اقترحت علي أن أخرج وأفتش عن مغادرة طائشة كي لا
أحرجك بنقص . . أنوثتي وخبرتي ! .
ـ يا إلهي ! لو رأيتك . . .
شهقت وهي تراه يمسك بها يهزها بعنف , ثم يتركها فجأة . لم
تجد وقتاً لتفتح فمها احتجاجاً على خشونته هذه , وهو يقول غاضباً :
ـ إننا لا نقوم بلعبة , يا روزي ! بل هي حقيقة . . . وحقيقة خطرة
للغاية ! هل فكرت في ما قد يحدث لي ولك إذا ما أقام علينا إدوارد
دعوى احتيال ؟
ـ إنه لن يفعل . . . لا يستطيع أن يفعل هذا .
ـ لقد رأيت مظهر وجهه , كما رأيته أنا عندما علم بأنه لن يرث
المنزل . أي تلميح إلى أن هذا الزواج زائف , يجعله يسرع إلى إرسال
محاميه إلينا . . .
قالت وهي ترتجف :
ـ لكنه لن يستطع أن يعلم . لا يمكنه إثبات شــيء .
ـ نعم , هذا صحيح إذا تمسكنا بالحذر , وطالما تتذكرين أننا
أصبحنا تقريباً زوجين , وغارقين في حب بعضنا البعض .
ابتلعت روزي ريقها متوترة . إن لديها مخيلة جيدة . . . مخيلة
جيدة جداً . . . لكن أن تحاول تخيل نفسها غارقة في حب غارد . . .
ثم تحاول أن تتصوره يبادلها نفس ذلك الحب !
ـ هل ثمة انتقادات أخرى ؟
قالت روزي ذلك بتحدٍ , مقاومة اليأس الذي أخذ يتملكها . ألقى
عليها غارد نظرة هبط لها قلبها , وهو يقول محذراً :
ـ لست في موقف أحسد عليه .
وفجأة , شعرت روزي بأنها نالت ما يكفي . فقالت :
ـ لا يتوجب عليك القيــام بــذلك , كمــــا تعـــلم . ليس هناك من
يرغمك على الزواج بي , كما أنني أنا أيضاً لا أريد الزواج بك .
إسمع , لماذا لا تنسى كل شيء , يا غارد ؟ لم لا . . . ؟
فقاطعها بعنف :
ـ لماذا لا تحاولين التفكير قبل أن تفتحي فمك الصغير الحلو
هذا ؟
ولسبب ما , بدا أكثر غضباً من ذي قبل , كما لاحظت روزي ,
بينما تابع يقول :
ـ هل نسيت شيئاً ؟ إدوارد يعلم جيداً أننا سنتزوج .
ـ ماذا في ذلك ؟ يمكننا الادعاء بأنه شجار بين عاشقين . وهذا
يحدث كثيراً . وكان عليك أن تعلم ذلك .
من الغريب أن تأثير تهكمها هذا عليه كان أقل من كلامهــا السابق
عن عدم الزواج . قال بجفاء :
ـ العاشقون يعودون فيتصالحون , على الأقل حتى ينفصلوا نهائياً
عن بعضهم البعض . كلا يا روزي , إننا ملتزمان الآن . فات وقت
تغيير الرأي .
ـ كان بيتر على صواب في شيء واحد على الأقل . وهو أنك
تريد هذا المنزل بأي ثمن , وهذا ما يجعلك تقدم على هذا الأمر في
سبيله .
وهزت كتفيها مقهورة وهي تدير له ظهرها , محاولة تجاهل
خيبتها عندما لم تفكر في مستقبلها المباشر . سمعته يقول برزانة :
ـ نعم , هذا صحيح ! وبالمناسبة , تحدثت مع الكاهن , واتفقنا
على أن احتفالاً بسيطاً وسط الأسبـــوع هو الأفضل .
ـ لماذا فعلت ! ولكن . . .
ـ أنت التي عرضت علي الزواج .
كــبحت روزي صرخة أوشكت أن تفلت منها . مهما قالت أو
فعلت , بإمكان غارد أن يتغلب عليها حيلة وخداعاً . حسناً , يوماً
ما . . . يوماً ما ستكون هي التي تتغلب عليه . تعهدت لنفسها بذلك .
ســألته بتهكم لاذع :
ـ هل عينتما يوماً , أنت والكاهن ؟ أم أنه مســموح لــي برأي في
ذلك ؟
قال متجاهلاً تهكمهــا :
ـ نعم , يوم الأربعاء الذي يتلو الأربعاء القادم .
ـ بهذه السرعة ؟ ولكن . . .
ابتلعت روزي احتجاجها وكبحت إحساساَ ثوياً بالخشية
والارتياب .
ـ لا فائدة من تأخير الأمور . ليس أمامنا سوى شهرين نحقق
فيهما شروط وصية جدك , وأمامي عدة رحلات عمل . وفي الواقع ,
علي أن أعود إلى بروكسل في اليوم التالي للزفاف , ما يعني أننا ,
لسوء الحظ , لن نتمكن من القيام برحلة شهر العسل التقليدية .
وعندما رأى ما ارتسم على وجه روزي , ضحك ساخراً وقال :
ـ نعم , فكرت في أن هذا قد يعجبك . كوننا سنتزوج بسرعة ,
يعني أننا لسنا بحاجة إلى دعوة أناس كثيرين , وليس منا من له أسرة
كبيرة . أما حفلة الاستقبال فسنقيمها في ما بعد . وكما قلت لك ,
يمكنك ترك كل الترتيبات لي , عدا شيئاً واحداً . . ثوب زفافك . .
نظرت إليه بارتياب , متكهنة بما هو آت :
ـ ثوبي ؟ إنني لن أضيع نقودي على ثوب زفاف .
ـ ماذا ستلبسين إذن ؟ لا أظنك سترتدين هذا الذي عليك الآن ؟
حملقت فيه تقول :
ـ لا تكن سخيفاً . سوف . . .
ـ اسمعي يا روزي . لن أضيع وقتي في الجدل معك . كــــان
لأسرتك , ولا يزال , مكانة جيدة في المجتمع , هي تعني الكثير جداً
بالنسبة لجدك . يعجبني فيك أنك فتاة عصرية تنفقين ثروتك الموروثة
في سبيل مبادئك . ولكن علينا أحياناً أن نصل إلى حل وسط بين
مبادئنا ومتطلبات الآخرين .
ـ أتعني أنك تريدني أن أرتدي ثوب الزفاف التقليدي كيلا أسبب
لك الخجــل ؟
ـ لا . ليس هذا ما أعنيه .
جعلها غضب صوته تنظر إليه مباشرة . رأت أنها أغاظته حقاً .
كان وجهه مكفهراً وشفتاه متوترتين تنذران بالشر . وحتى اقترابه منها
كشف عن نفـــاذ صبره .
ـ لا أهتم مثقال ذرة إذ أنت وقفت في الكنيسة مرتدية كيس
خيش , إذ يبدو واضحاً تماماً أن هذا ما تريدين . ما بك يا روزي ؟ هـــل
تخشين أن بعض الناس , شخصاً ما , لن يفهم تماماً الدافع وراء هذا
الزواج ؟ وأن ذلك الشخص قد لا يدرك التضحية الكبرى التي تقومين
بها ؟ حسناً , دعيني أحذرك الآن , يا روزي , حتى إذا أنت فكرت فــي
أن تخبري رالف ساوثرن بالسبب الحقيقي لهذا الزواج . . .
رالف ؟ ما هذا الذي يتحدث عنه غارد ؟ ولماذا تخبر هــــي رالف
بشــيء من هذا القبيل ؟ إنها تعرف مسبقاً ردة فعله إذا هي فعلت .
والازدراء الذي سيشعر به نحو رغبتها في حماية وحفظ المنزل . . .
تابع غارد يقول متجهماً :
ـ إذا ظننت أنــني . . .
منتديات ليلاس
هزت روزي رأسها وقد تبددت من نفسها كل رغبة في القتال :
ـ لا بأس , يا غارد . ســـأرتدي ثوب زفاف حقيقي .
قالت ذلك بجفاء . كانت تعلم أن عينيها امتلآتا بالدموع , ورغـــم
محاولتها لإشاحة وجهها , إلا أن غارد لاحظ دموعها . سمعته يشتم
بصوت خــافت ثم يقول بخشونة :
ـ لا بأس ! آســف إذا كنت سببت لك ألمــاً بــشيء قلته . إنما عليك
أن تدركــي أن . . .
قالت بغضب وهي تغالب دموعها :
ـ لا , إنه ليس . . . ليس بسبب شيء قلته . أنا أعلم مسبقاً رأيك
بي يا غارد . المسألة هي أنني كنت دائماً أتصور .
ورفعت رأسها غير مدركة مبلغ الضعف البادي عليها والتردد فــي
صوتهــا .
ـ أتصور أنني عندما أتزوج . . . عندمـــا أختار ثوب زفافي . . .
سيكون ذلك . . . ( وغصت بالدمع ) سيكون لرجل يحبني . . . لرجل
أحبــه .
رأت وجه غادر يتوتر . لعله ليس كما كانت تظن وتتصور . . .
ربما هو أيضاً , في أعماقه , تصور ذات يوم أنه سيتزوج لأجل الحب .
وعادت تقول , محاولة التظاهر بعدم الانفعال :
ـ ومع ذلك , أظن بإمكاني أن أفعل فــي . . .
أكمل غارد كلامها بخشونة :
ـ في المرة القادمة .
لم تعرف روزي ما الذي قالته فأغضبه بهذا الشكل الواضح .
انفجرت فيه تقول متحدية , متجاهلة الغريزة التي أوحت إليها بأن ما
تفعله هو شيء خطير :
ـ ربما تظنني غبية مثالية للغاية وشاعرية ساذجة . نعم أنا كذلك
حقاً , يا غارد ! ربما عندما أصبح في مثل سنك , سأشاركك الرأي بأن
الحب المتبادل ليس مهماً , وأنه شيء يثير السخرية . . . لكنني لا
أستطيع الآن منع نفسي من هذه المشاعر . ولأنك لا تشعر بالشــيء
نفـســه . . .
قاطعها بلهجــة لاذعة :
ـ أنت لا تعلمين شيئاً عـــن مشاعري الحالية , وعما سبق أن
شعرت به واختبرته . . .
أحست بحرارة تحرق جلدها وهي تلمس الحقيقة في ما يقول
وما لم يقل . كان غارد رجلاً بالغ الخبرة والجاذبية ومحترم المشاعر ,
ولا بد أن هناك نساء . . أو امرأة . . . في حياته , جذبته روحاً
وجســـداً . وبشــكل مــــا , نبههـــــا تجاوبه هذا , إلى هذه الحقيقة .
طوال مدة معرفتها به , كانت تشعر بأنهــــا مرغمة على محــــاربته
ومقاومة رغبته في السيطرة , لكنها الآن تراه مختلفاً . وبدلاً من أن
تسأله لماذا , بعد خبرته بتلك المشاعر , لا يزال عازباً , كبحت تلك
الرغبة في التحدي . سمعته يقول بعد أن أشاحت بوجهها عنه :
ـ دعيني أحذرك , يا روزي ! لا أريدك أن تبحثي عن الحب
الشاعري المثالي أثناء زواجك بي ! عليك أن تؤجلي هذا , مع
الأســف .
نظرت إليه غير واثقة . هذا النوع من الكلام كان يقوله عــادة
بسخرية لاذعة . إنما الآن لم يكن ثمة أثر للهزل أو السخرية في
عينيه . نادراً ما كانت تراه رزيناً إلى حد التجهم , كما هو الآن , ما
جعلها تتمسك بالحذر
ـ لاستمرار هذا الزواج , أمام الآخرين , أنا عاشقك وحبيبك بكل
ما في هاتين الكلمتين من معنى .
إن فتور صوته وبرودته سلبا كلماته كل إحساس . ومـــع ذلك ,
شعرت روزي بجلدها يلتهب , وتحركت مخيلتها , عدوتها اللدودة
عندما تصل إلى غارد , تستعيد الكلمات التي استعملها . . . العاشق ,
الحبيب . ارتجفت فجأة , محاولة أن تنبذ تلك الصور التي خلقتها
مخيلتها البالغة النشاط , صور شخصين , عاشقين , متعانقين بلهفة
بالغــة .
نبذت روزي تلك الصور من ذهنها بسرعة , وقالت غاضبة :
ـ لا حاجة بك للقلق . لن أعمل شيئاً يشوه صورتك المعروفة في
مجتمعك . أليس كذلك , يا غارد ؟ العاشق الأسطوري الشهير يتزوج
امرأة لا تريده . . .
رد عليها متجهمــاً :
ـ ليس صورتي , كمــا تسمينها , هي ما يهمني , وإنما سمعتي
المهنية وكذلك سمعتك . أنت تدركين أن ما نقوم به , أنا وأنت , جل
عملية غش واحتيال , أليس كذلك ؟ أما بالنسبة إلى زواجي من امرأة
لا تريدني كما تقولين . . . فأنت لست امرأة , يا روزي , بل طفلة ,
وأشك في أنني سأجد صعوبة في العثور على سلوى في مكان آخر ,
أليس كذلك ؟
لم يكن يضاهيه أحد في الغطرسة , كما أدركت ثائرة وهي تبتعد
عنها ويمـد يده إلى جيب سرته الداخلــي . قال بلهجة واقعية وهو
يناولها علبة مجوهرات صغيرة .
ـ ستكونين بحاجة إلى هذا .
فتحتها روزي بأصابع مرتجفة , وإذا بشهقة صغيرة تفلت من بين
شفتيها وهي ترى الخاتمين داخلها . خاتم الزواج كان عادياً بسيطاً من
الذهب . أما خاتم الخطوبة الذي يتلاءم معه . . وأخذت تحدق فــــي
حجر الياقوت الأزرق المحاط بأحجــار مربعة متألقة من الماس ! قالت
بدهشـــة :
ـ إنها . . . رائعــة .
كان حجر الياقوت كثيفاً داكن الزرقة , بنفس لن عينيها مـــا
أدهشها وهي تتأمله , قالت بتردد :
ـ لا أستطيع لبسه , يا غارد . . . إنه . . . إنه باهظ الثمـــن .
أجــاب بحـــزم :
ـ بل يجب عليك ذلك . إن هــذا ما يتوقعه الناس . . . ويتطلعون
إليه .
أخــذت تتساءل عمــا إذا كان اختيار لون الياقوت متعمداً , أم أنه
قرار عشوائي توصل إليه بسرعة وضيق دون أن ينتبه إلى الشبه بين لونه
ولون عينيها .
ـ أعطيــني يدك .
فعلت ذلك كــارهة , وهو يدخل الخاتم في إصبعها بحزم , ثم
قالت بأدب :
ـ إنه . . . إنه رائع جــداً . شكــراً لك .
ـ هل هذا أحسن ما بإمكانك صنعه ؟ صوتك أشبه بصوت صبي
يشكــر رجلاً يمنحه مزيداً من مصروف الجيب . من المتعارف عليه أن
تشكـر الخطيبة خطيبها على مثل هذه الهدية بطريقة أكثر حرارة .
كان ينظر إلى شفتيها وهو يتكلم . شعرت بالضيق للخجل الذي
تملكها . كان يتعمد ذلك , طبعاً . حسناً , إنها ستريه . رفعت رأسها
إليه مذعنة وهي تشد على أسنانها مغمضة العينين , ثم انتظرت . .
وانتظـــرت .
عندما لم يحدث شيء , فتحت عينيها وحملــقت فيه بغــــضب .
فقال ســاخراً :
ـ إذا كان هذا غاية ما يمكنك عمله , فالأفضــل إخفاء زواجنا عن
الأنظار . لمعلوماتك الخاصة يا عزيزتي روزي , المرأة المخطوبة
حديثاً , والمفروض أنها غارقة في نشوة الحب , لا ترفع وجهها
وتنتظر قبلة خطيبها وكأنها مرغمة على تناول ملعقة دواء .
قالت غاضبة :
ـ لكننا لسنا غارقين في الحب .
ـ ولكل الأسباب التي تحدثنا عنها , كم من المهم جــداً ألا يعلم
أحد بهذا الوضع . إدوارد ليس أحمق , يا روزي ! إذا اكتشف أن لديه
فرصــة , مهمــــا كانت ضئيلة , لمنازعتك حقك في هذا المكان , لن
يتردد في انتهازهـــــا .
فقالت بحدة :
ـ ماذا علي أن أفعــل إذن ؟ آخــذ دروساً فــي كيفية عناق رجـــل
وكأنني أحبه بينما لست كذلك ؟ كلا , شكراً , لست بحاجة ذك .
ـ لا , ليس هذه ما أريد ! عناق بين عاشقين ملتزمين لا يشبه
بشيء تصرفك العشوائي المرتبك !.
حملقت روزي فيه بمزيج من الغضب والارتباك . أرادت أن
تخبره بأنها تعرف تماماً ما هو الشعور الذي يرافق عناقاً مع رجل
تريده , لكنها كانت تعلم أن هذا غير صحيح . ذك أن الرجال الذين
عرفتهم حتى الآن , لم يحركوا فيها أي عاطفة . قالت له بدلاً من
ذلك :
ـ أنا لست ممثلة , يا غارد! لا أستطيع إظهــار عواطف محمومة
عند الطلب . . .
قال بنعومة :
ـ ربما حان وقت تعلمك هذا .
كان ما يزال ممسكاً بيدها . . . وقريباً منها بحيث أن كل ما عليه ,
لكي يملأ الفراغ الذي بينهما , هو التقدم خطوة واحدة . أجفلت روزي
متوقعة أن يأخذها بين ذراعيه , عالمة بأنه من القوة بحيث لا يمكنها
تحرير نفسها منه . لكنه لم يفعل سوى أن رفع يده ببطء وأخذ يزيح
شعرها عن وجهها برقة وهو يقول بهدوء :
ـ هكذا يعامل الرجل العاشق المرأة التي يريد الزواج بها , يا
روزي, إنها تبدو له من الضعف والهشاشة والرقة بحيث يخاف تقريباً
من لمسها . يخاف تقريباً من أن مجرد لمسها سيشعل فيه من العاطفة
ما لا يستطيع السيطرة عليه . إنه يريدها من كـــل قلبه وبشكــل طاغٍ ,
لكنه في نفس الوقت يريد أن يسير معها ببطء بالغ . . إنه مــوزع بين
هاتين الرغبتين , لهفته إلى امتلاكهـا , و رغبته في . . أن يمنحها كل مـا
يمكنه من بهجـة . . . وهكذا يلمس بشرتها برقة وربما بيـد غير ثابتة .
وأثناء ذك , ينظر في عينيها , يريد أن يرى فيهما أن عواطفه , رغبته ,
حبه , كل ذلك متبادل بينهما . يريدها أن تعلم وتفهم مبلغ الجهــد
الذي يبذله للسيطرة على نفسه .
بدت كالمنومة مغناطيسياً حتى إنها لم تطرف بعينيها عندما رفع
غارد يدها اليسرى إلى ذقنه . تحررت لحظة من مغناطيسية عينيه حين
لامست أناملها خشونة ذقنه الــخفيفة .
شعرت بحرارة أنفاسه تلفح وجهها . وانفتحت شفتاها قليلاً
لحاجتها إلى المزيد من الهواء . أذهلها ما شعرت به من فارق بين
خبرته وخبرتها .
كان عناقه من الخفة , كأنه غير موجود , وكان ينبغي له مثل
هذا التأثير عليها . . . ثم فجأة ازداد ضغط ذراعيه بقوة كادت تشلها .
هكذا يعانق الرجل إذن ؟ أخذت روزي تفكر في ذلك ورأسها
يدور . . .
كانت صدمتها أشبه بألم جســدي سرى في كيانها جاعلاً عينيها
تغرورقان بالدمع .
. . . ابتدأت ترتجف عندما غمرت كيانها المشاعر . . . تملكها
الحرج وهي تحاول أن تفهم السبب في أن عناق غارد له القدرة على
خداع حواسها . . . فاندفعت إلى الخلف مبتعدة عنه بذعر . لم ترَ من
قبل عيني غارد بهذا الشكــل . . . ثم بصوت ممزق :
ـ لا .
وما لبثت أن تنفست بارتياح عندما حررها ووقف بعيداً عنها . بيد
أنها ما زالت تشعر بالاحمرار يصبغ وجهها رغم جهودها في كبح
ذلك . حــاولت أن تقول شيئاً . . أية ملاحظة عابرة . . . لكن عقلها
رفض أن يفكــر .
حين ابتعد متجهاً نحو الباب , وجت نفسها تتساءل بصمت كم
من النساء مررن في حياته ليبعثن فيه حقيقة هذه المشاعر العنيفة التي
لمستها لديه . ولما وصل إلى الباب , استدار نحوها محذراً :
ـ لقد فات أوان تغيير الرأي الآن , يا روزي !
نهاية الفصل الثالث