المنتدى :
الارشيف
روايتي الاولى:عندما تبزغ فتيات كالنور من جِدة!...( غير ممكتمله)
السلام عليكم..أنا عضوة جديدة وأتمنى ان ارى تفاعلكم مع حلمي الادبي الكبير والذي قد بدأته منذ اكثر من عامين " وحتى من قبل ان تفكر بنت الصالح في كتابة روايتها المنحلة بنات الرياض مثلما تدعي"
اترككم مع الرواية
الفصل الأول
ابتسامة القمر تُبدد الهدوء والسكون،فتطرب النجوم،ترقص الكواكب،ويصفق النسيم،ويعلو حفيف الأشجار..
ويُرسل القمر شعاعه الفضي ليعبر الفضاء,ويُصافح الماء ,يُقبل الأزهار النائمة,ويُضفي على الكون جمالاً بلا حدود!
وهناك تمايلت المياه المتدفقة من النواعير التي تزين الحديقة مع مصافحة ضوء القمر لها، فاهتزت بنشوة وأرسلت خريرها لتُسمِع كل من حولها هذه السيمفونية الخلابة...
سيمفونية الطبيعة التي منحها الله لها..
بقي الماء يسقط في جمال تحسدها عليها باقي الجمادات، إلى أن امتزج خريره بصوت الأكواب الزجاجية وهي تُعاد إلى أمكانها وصوت أوراق الجريدة وهي تُقلب من حين إلى آخر في رتابة تُضفي على المكان لطاقة ورونقاً معتادا..
حيث كانت (أم معاذ)تجلس على الكرسي البلاستيكي وقد وضعت بجانبها إبريق الشاي على الطاولة وراحت تتأمل الأزهار والأشجار المغروسة في حديقتهم المنزلية..
وبجانبها زوجة ابنها(لؤلؤة) تتصفح الجريدة وتقرأ باهتمام..
سألتها (أم معاذ) وهي ترتشف الشاي:(أراكِ منهمكة في قراءة الأخبار يالؤلؤة..) فأجابت وهي تبتسم:(أوه..نعم ياعمتي فإنني في الواقع شغوفةٌ بالقراءة ومعرفة مايجري في العالم كل يوم)
ثم صمتت بضع لحظات وقالت:(هلا سكبتي لي فنجاناً آخر من فضلك ياعمتي!؟)
_(ها أنت تعودين مجدداً إلى شرب الشاي بكمية كبيرة على الرغم من أن طبيبتك منعتك من شربه وشرب القهوة)
فضحكت لؤلؤة وألقت بالجريدة جانبا وقالت وهي تتحسس على بطنها المتكور:(نعم يا عمتي ،صحيح أنها منعتني ولكنها قالت لا بأس من فنجان أو اثنين، تصوري! إنها تقول بأن الشاي والقهوة يمنعان امتصاص الحديد وهو غير جيد للمرأة الحامل، لكنني في الواقع لا أستطيع مقاومة شربهما إن وجدتهما أمامي)
فناولتها الفنجان وهي تقول:
(حسناً، ولكن لا تكثري من كمية شربه، وذلك كي تحافظي على صحتك وصحة جنينك, فنحن لا نريد لكِ سوى الصحة والسلامة يا ابنتي..)
تناولت لؤلؤة الفنجان وشكرتها ثم أخذت ترتشفه ببطء..
ثم سألت:(أما من تخطيط جديد بشأن إجازة هذا الصيف؟)
_(قد نسافر إذا شاء الله إلى المدينة المنورة نمكث فيها ماشاء الله ثم إلى الطائف لنستكمل الإجازة،، ولكن بحسب الظروف،فلن نسافر خارج المملكة فأنتِ على وشكِ الولادة ياعزيزتي)
وكان (معاذ) قد وصل في هذه اللحظة فسلم عليهما وقبل جبين أمه وجلس بجانبها يسأل عن حالها ،ثم استدار نحو زوجته وقال مداعباً
:(كيف حال طفلنا المنتظر يالؤلؤتي؟)
فضحكت في مرح وقالت:(أوصاني أن أقرؤك السلام منذ أن وصلت..)
فرفع أحد حاجبيه واصطنع الدهشة قائلاً:
(حقاً؟! وكيف علِمَ أنني قد أتيت؟هل هو يسمع صوتي أم ماذا؟!)
فأجابت وهي تمسح على بطنها:
(كل مافي الأمر ياعزيزي أنه يحس بما تحس به أمه،فيفرح لفرحها ويحزن لحزنها)
عندها ضحك (معاذ) وقال:
(ها...قولي ذلك منذ البداية، فلا فائدة من اللف والدوران، لقـــد كُــشــفتي)
فاحمر وجه لؤلؤة وابتسمت في خجل وقالت:(ومـــــا في ذلك؟!إنني زوجتك وقد أصبحتَ تنشغل عنا كثيراً في هذه الأيام)
_(اعذريني يا عزيزتي فهي استعدادات الفترة الصيفية القادمة وأعمالي تكثر فيها كما تعلمين..) ثم سكت لبضع ثواني وتابع يسأل أمه في مرح:(بمناسبة الحديث عن الصيف، إني لا أرى (شهد)فمتى يحين موعد إجازتها الصيفية وتنتهي من امتحاناتها؟ لقد اشتقنا لها كثيرا، ولا نراها إلا في أوقات الوجبَات،وليس هكذا فقط بل وهي ممسكة بكتابها أيضاً)
_(أنت تعلم أنها على باب التخرج إذ لا بد من قوة العزيمة..)
_(ولمَ كل هذا التعب وهي فتاة لا تسعى للوظيفة؟) قالها رافضاً
_ (إن أختك مجتهدة وتحب العلم كثيراً)فهز رأسه مبتسماً ووقف وهو يقول:
(سأصعد إليها أُشاكسها وأمازحهما حتى تترك الكتاب وتأتي معنا لتناول الشاي وتنتعش قليلاً..)
_(لا تُتعب نفسك، اجلس، فهي عند مروج)
_(أوه..مروج مرة أخرى، ياللحب والصداقة التي تتمتعان بهما)
ضحكت الأم وقالت:(إنها صديقتها المفضلة والمقربة لها منذ الصغر، ولا تنسى بأننا جميعا متصادقون مع أهلها، فأمها فاطمة صديقتي من قبل أن نتزوج حتى.)
فسألتها لؤلؤة في اهتمام:(منذ متى وأنتما صديقتين ياعمتي؟)
فأجابت أم معاذ وهي تسترجع الذكريات الجميلة:(لقد كان بيتا أهالينا متجاورة،درسنا الابتدائية سوياً ثم سافرتْ مع أهلها إلى المنطقة الشرقية نظراً لظروف عمل والدها رحمه الله،واستقروا هناك ،ثم عادت متزوجة وعندها جواد وقد كان عندي معاذ، وعدنا كما كنا صديقتين حميمتين)
_(غريب! فبالرغم من مرور ثلاثة أعوام على وفاة زوجها الذي بسبب نمط عمله عادت إلى جدة ،إلا إنها بقيت مع ابنها وابنتها وحيدون فيها) قالتها بتعجب واضح
_ (يصعب عليهم ياابنتي أن يتركوا الأرض التي عاشوا فيها سنين حياتهم، وخلفوا الذكريات الجميلة، إنهم يحبون جِدة وقد ألِفوا العيش فيها..)
_(ولكن ألا يشعرون بالوحدة؟! خاصةً بعد سفر جواد لدراسة الطب في بريطانيا؟!)
_(وأين ذهبنا نحن يا لؤلؤه؟ إنكِ ترين كم نحن على قدر كبير من التقارب والصداقة التي فاقت قرابة الأهل بالنسب، إني اعتبر فاطمة أكثر من أخت ،فليس لي أخواتٌ كما تعلمين،ثم إنه لا يمر يومان إلا ونحن عندهم أوهم عندنا،وبالأخص شهد ومروج..)
فعلق معاذ ضاحكاً: (إنهما بحق "لصقتين طبيتين" و احذرا! لأنهما ليستا أي لصقتين!،هما من ماركة "جونسن" الأصلية التي تعرفون!)
فضحكوا جميعاً وتلألأت عيني لؤلؤة بالدموع من شدة الضحك ،وقالت ملوحةً بيدها:
(صحيح..صحيح، إنهما لا تنفكان عن بعضيهما البتة، سبحان من وهبهما القلوب اللطيفة والروح المرحة التي يملكون)
فقال معاذ لزوجته محاولاً إغاظتها ومداعبتها:
(آآآه...روح مرحــــه..في الواقع هو الذي احتاجه،فقد تكون مروج زو....) ولم يستطع إكمال جملته إذ تلقّى على وجهه كومةً من الجرائد،فأزاحها وهو يضحك ليرى لؤلؤه بوجهها الغاضب المحمر..
_(متى تكف عن سخافاتك هذه؟) ..
فأجاب معاذ_ ويبدو أن موجة الضحك تأبى أن تنفك منه_:(مهــلاً..كنتُ أمزح ليس إلا يا أحلى لؤلؤة في العالم!)
_( تمزح هاه! كف عن مزاحك الثقيل إذن!) ثم نظرت إلى بطنها المتكور وهي تحسس عليها وتقول مخاطبةً جنينها :
(حبيبي..أبوك منافق ولا يُطاقُ أبداُ)
فجاء إليها معاذ وحسس بدوره على بطنها بحركة تمثيلية وقال كما فعلتْ:(وليََّ عهدي..أمك غيورة ولا تُعطى وجه)
وأمه ترقبهما ضاحكة من تصرفاتهما وتقول في نفسها:
(ياإلهي...من يفكني من مشاحناتهما اليومية التي يبدوان فيها كالأطفال )
ثم تذكرت شيئاً وقالت وهي تنظر إلى ساعة يدها:
(دعك يامعاذ من هذه المشاجرة الشبه يومية ،فبعد نصف ساعة اِذهب لإحضار أختك كما طلبتْ مني)
هز معاذ رأسه وجلس يتابع شرب الشاي والحديث مع والدته وزوجته.
************************************
تنهدت مروج وهي تجلس على أرض غرفتها وبجانبها شهد وقد نثرتا العديد من الكتب والملازم التي تستذكران منها سويا، وألقت بالقلم في ضجر وراحت تتحسس على شعرها في عصبية واضحة،
فنظرت إليها شهد وقالت:
(لمَ كل هذه العصبية يا رورو ؟ فلم يبقى لنا سوى ورقتين وسنحاول الانتهاء منها بإذن الله خلال الوقت المتبقي لنا)
_(لن أحاول إتعاب نفسي أكثر مما فعلت،لأني أتوقع أن آخذ تقدير مقبول في امتحانِ الغد،فهذه المادة صعبةُ المراس و قليلة الذوق والإحساس..)
ضحكت شهد من كلام مروج وقالت لها:
(ياه..يالكِ من شاعرة، لِمَ أنتِ متشائمة لهذه الدرجة ياعزيزتي؟! ثقي بإن الله معنا وسنحقق أعلى الدرجات بإذنِه تعالى)
_(أوه يا شهووده..إننا نضحك على نفسينا منذ البداية، أنسيتِ أن هذه درجات دنيوية ونحن نتعب في الحصول عليها؟)
_(ربما أنكِ على حق ولكنكِ أنتِ من نسيتِ أن طلبنا لهذا العلم إنما هو من أجل الله، وللتفقه في أمور ديننا وعقيدتنا ولتطبيقه في حياتنا العملية، والشهادة إنما هي شيءٌ ثانوي يأتي في المرتبة الثانية بعد الأولوية التي قلت) قالتها بابتسامة مهذبة
فطأطأت مروج رأسها وقالت في خفوت:
(صدقتِ..ولكنني أفقدُ أعصابي من طولِ المذاكرة، لقد بدأتُ أشعر بالمللِ والإرهاق)
فألقت شهد بما في يدها والتمعت عيناها في جذل..
وقالت مبتسمة:(هذا ما نريده..)
نظرت مروج إليها في حيرة، فتابعت شهد:(شيئاً ما نحنُ في حاجةٍ إليه في الوقت هذا، فمنذ متى لم نأخذ قسطاً من الراحة!)
فتهللت أسارير مروج وقالت وهي تضع راحة كفها على جبينها:
(يااااه..كيف لم تخطر على بالي ذلك؟ إذن هيا)
وسحبت يد شهد وخرجت بها من الغرفة مسرعة،
_ (إلى أين أيتها المشاغبة؟) قالتها شهد وهي تضحك..
_(لأكافئكِ على الذي اقترحتيه!)
_(ومن أي أنواعِ المكافآت تبدو مكافئتك؟؟)
_ (طبعاً من النوع الشهي الدسم!)
وكانتا قد وصلتا إلى المطبخ فوجدتا أم مروج تُعد العشاء مع الخادمة، ولمّا رأتهما تهللت أساريرها وقالت:(أرجو أن تكونا قد أخذتما قسطاً من الراحة تتناولان خلالها العشاء برفقتي)
فأجابت مروج وهي تحسس على بطنها في حركة تمثيلية:(نعم..إننا في الواقع بحاجة إلى شيءٍ كهذا منذ زمنٍ طويل فقدتُ فيه أعصابي من الجوع..)
فناولتها أمها صينية العشاء قائلة:(حسناً خذي هذا)
وناولت شهد العصائر المثلجة ومشت خلفهما إلى حيث غرفة الطعام..
وهناك وضعت مروج صينية الطعام على الفرشة وتربعت جالسةً على الأرض وبجانبها جلست شهد ووالدتها في الجهةِ المقابلةِ من الصينية..
قالت مروج وهي ترتب الأطباق على المفرش:(عذراً يا شهودتي، فنحن كالعادة نجبركِ على الطريقة الشعبية في تناول الطعام بعد اهتراء الطاولة التي كنا نأكلُ عليها)..
فضحكت شهد وهي تتناول الخبز من يد أم مروج، ونظرت إليها مروج في دهشة، فقالت شهد: (أنتِ تُضحكينني يا رورو في كلِ مرةٍ أتناول فيها وجبة طعامٍ معكم،فهذه المرة العاشرة بعد المائة التي تقولين فيها ذلك).
لوّحت مروج بيدها حتى احمرّ وجهها من شدة الضحك وقالت:
(لا تكوني مُبالِغة ياشهد...لكني سأخبرك بأن هنالك مفاجأة ، فسوف تُشرفنا عمّا قريب الغائبة المنتظرة بعد طولِ غياب دام شهور.. وذلك قبل قدوم الغائب المنتظر الآخر طبعا!)
ثم سكتت برهة وتابعت بنفس الحماس:
(سوف استقبلها بالقُبلات والتأنيب العنيف لقاء الهجران ونكران الجميل ونحن في أشد الحاجة إليها، وسوف أعدكِ بأنني سأذلل ناصيتها وأجلس متربعة فوقها)..ثم قطبت جبينها وتابعت تقول في إشفاق:
(لكني سأحزن لأجلها أحياناً، فأُخفف من وزني الثقيل عليها وأفرش عليها مفرشاً جديداً من الساتان!..)
ضحكت شهد من القصة الطويلة العريضة التي عرضتها مروج بشأن طاولة الطعام القادمة وقالت:
(ولِمَ كلُ ذلك..إنني في الواقع أُحِب الراحة والجلسة على الأرض اقتداءً بسنةِ الرسول صلى الله عليه وسلم، وما الأكل على الطاولة إلاّ عادة غربية أتتنا من الغرب..)
فسألتها مروج:
(أوَ تمر عليكم أوقات تأكلون فيها على الأرض؟)
فأجابت:(كلا، فهم لا يُحبون ذلك، لكنني أفعل ذلك بنفسي من فترةٍ لأخرى عند تناولي للخفائف والمكسرات كسراً للروتين)
_(في الحقيقة يا شهد نحن عندما نحضر الطاولة فلن نستخدمها كثيراً، وإنما للضيوف وإقامة الولائم والبوفيهات..ولا تنسي أنها أيضاً لأجل الغائبِ المدلل والذي امتص كثيراً من عادات الإنجليز التي تعجبه و التي يقول فيها بأنها حضارة مرتبة ومنظمة، فهل تتوقعين بعد كلِ ذلك أن يأكل على الأرض بعد اعتياده على الأماكن المرتفعة؟!)
فشاركتهم أم جواد الحديث وهي تقول لابنتها بنبرة عتاب:
(لِمَ تقولين ذلك يا بنيتي عن أخيكِ؟..جواد سيعود لبلده وأصله العربي والإسلامي، وهو شاب عاقل لا تبهره الأشياء البراقة ولا يتخلّى عن مبادئه وقيمه)
فعارضتها مروج قائلة:
( كلا يا أمي لقد عاش هنالك فترةً طويلة، فستة أعوام تكُفيه لنسيان الكثير)
تنهدت الأم وتابعت أكلها وعقلها يفكر في ابنها
وساد الصمت للحظات على المكان إلا من أصوات الملاعق وجهاز التكييف، وأحسّت شهد بجو القلق المسيطر على الاثنتين"مروج ووالدتها" فأحبت تلطيف الجو بقولها لأم مروج:
(ما هي مشاريعكم بشأنِ هذا الصيف يا خالة فاطمة؟ هل ستذهبون إلى المنطقة الشرقية حيث أهاليكم ككلِ عام؟)
_ (إن قدِم جواد في هذا الصيفِ يا بُنيتي فسنذهب، أما غير ذلك فلستُ واثقة من السفر إذ أن النفسيةٍ الجيدة لها دور مهم في نظري...)ثم تنهدت في حزنٍ وفكّرت شهد بأن الأفضل لها أن لا تبقى حبيسة البيت فذهابها إلى اخوتها هناك قد يخفف كثيراً من نفسيّتها المتدهورة!.. وتابعت أم مروج:
(لقد مضى عليه عامان وهو هناك، لم يأتي العامَ الماضي كما كان يفعلُ في كلِ صيف، وإنما اكتفى بمحادثتنا عبر الهاتف..إنني لستُ أدري لم فعل ذلك، أتمنى أن يكون بخير..)
فقالت مروج في محاولة للتخفيف عنها:
(لا تقلقي ياأمي الغالية فأنا واثقة بأنه يخبئ لنا مفاجأةً ما)
_ (أية مفاجأة يا مروج؟؟ هل أخبركِ بشيء؟)
فأجابتها مروج مازحةً كعادتها:
(أمم..ربما سيأتي معه بعروسٍ شقراء فاتنة ليُفاجئنا بها،إنه دائماً يغيظني بمدحه لهن فيُقارن بين لون بشراتهن اللؤلؤية كما يدّعي ،وبشراتنا القمحية)
فغضبت والدتها من ذلك وهددت قائلة:(لو فعلها لا يلومن إلا نفسه) وضحكت مروج لتأثير الدعابة على والدتها وانتبهت فجأة إلى اندلاق الكأس من يد شهد وانسكاب محتوياته على الفرشة في نفس الوقت الذي أطلقت فيه دعابتها..
واحمرّ وجه شهد خجلاً مما حصل منها دون قصد..فقالت أم مروج:(دعيه يا بنيتي فستنظفه الخادمة بعدما ننتهي)ثم نظرت إلى مروج وهي تقول مؤنبة:(وأنتِ، ألا تكونين يوماً جادةً فيما تسألك عنه أمك؟كُفي عن دعاباتك التي ليس لها أيُ مبرر)
فضحكت مروج قائلة:
(آسفة يا أمي كنتُ أمزح ليس إلاّ، ألا تريدين خلْق جو مرح!) فأجابت والدتها في لا مبالاة وهي ترتشف عصيرها:(كلا..وفريها لوقتٍ آخر ومع غيري فلكلِ موضوع مايناسبه من طرق العرض يامتعلمة!)
_ (حسناً ياأمي أكرر اعتذاري، لقد أخذ محاضرات اضافيه في فترة الصيفِ الماضية_ كما تعرفين_ ليُعجل الانتهاء من دراسته، لقد مضت خمسة أعوام صبرت خلالها ولم يبقى سوى القليل ياغاليه فاصبري) قالتها مبتسمة..
فهزت الوالدة رأسها في استسلام, أما شهد فقد كانت تفكر مضطربة في الذي حصل منها قبل قليل، ثم طردت الأفكار من رأسها وانتهت من عشائها وتمنت لهما نوماً هادئاً و مريحاً فلقد جاء أخوها معاذ لأخذها..
**********************************
مرّت الأيام المتبقية من اختبارات شهد ومروج بسرعة، لكن تلتها أيام سبع بدت لهما وهما تنتظران خلالها نتيجتيهما كسنين يوسف العجاف التي مرّت على مصر أيام حكم العزيز لها..
وجاء اليوم الموعود..وتسابقت مروج وشهد تقفزان درجات سلم الجامعة وهما في شوقٍ بالغ..
ووجدتا نفسيهما ضمن قائمة الناجحات واستلمتا ما يلزم من الإداريات،بعدها تعانقتا في سعادة وهما تحمدان الله على هذه النتيجة التي_ ماكانت على البال_ كما وصفتها مروج!
ثم هبطتا من السلم في هدوءٍ وروية تتبادلان الابتسامات والأحاديث الودية..والذي ينظر إليهما ماكان ليصدق بأنهما نفس الفتاتينِ اللتين كانتا تركضان في درجاتِ السلم منذ قليل..وبعد وصولهما إلى الساحة قالت مروج:
(لقد تلقينا خبراً رائعاً يا شهد!)
فسألتها شهد عنه، فأجابت مروج:
(جــــواد...قادم بإذن الله بعد الغد)
"فتوقف قلب شهد عن الخفقان للحظة، وليست تدري لماذا يحصل لها ذلك كلما ذُكِر جواد أو ذُكِر موضوع عودته؛ ربما لأن ساعة الصفر قد حانت إذ أن عائلتيهما قد حددوا مصيرهما سوياً منذ صغرهما! "
فقالت وشبه ابتسامة حاولت جلبها وهي تطرد مادار في ذهنها منذ قليل:
(حمداً لله.. تهانيا لكما بقدومه،أعاده الله لكما سالماً بإذنه تعالى..)
وصمتت بضع لحظات ثم سألتها:(وهل أنهى دراسته كما أشرتِ سابقاً؟)
_ (نعم.. أخيرا والحمد لله ً،سنُعِدُ حفلةً متواضعة بمناسبة قدومه وبمناسبتين أخرتين تخصني فأرجو أن لا تتأخري مع عائلتكِ في الحضور..)
_ (مناسبتان تخصك؟ وماهي!..حسناً دعيني أخمِن، لأني أعرف الأولى فهي بمناسبة نجاحكِ والتخرج
..أما الثانية فلا عِلمَ لي بها،إلا إذا أنتِ قد خبأتِ شيئاً عن صديقة طفولتكِ وأسرارك) قالتها وقد توقفت عن السير..
فضحكت مروج في مرح وقالت:
(ألا تعرفينها؟! كنتُ أعتقد أنكِ أول إنسانة تتذكر ذِكرايَ المؤلمة،وفي الحقيقة إني أجدها أهم من مناسبة نجاحي..)
فقطبت شهد بحاجبيها الكستنائيين وراحت تفكر في كلمات مروج وعن ماذا ترمي إليه،ومرت عدة لحظات كانت مروج ترقب فيها شهد مبتسمة..وأخيراً...
_ (غير معقول يا مروج!..غير معقول وأنتِ الفتاة العاقلة المحافظة) فاجأتها شهد بعبارتها تلك وقد استنتجت ما كانت تقصده مروج بخصوص المناسبة الأخرى التي تخصها..
فداعبت مروج خاتماً في إصبعها وقالت في لا مبالاة وهي تتجنب نظرات شهد:(وهل عرفتيها؟)
فاقتربت شهد منها وأمسكت بذقنها ترفعه إليها:(نعم لقد عرفت، إن كنتِ تقصدي ذكرى طلاقك و...) فقاطعتها مروج :(نعم هو ذاك،لقد مرّ العام الرابع على تحرري من طليقي السابق،قد تتعجبين لأن ذلك منذ فترةٍ بعيدة،لكن صدقيني أني لا أنسى من قد حطمني وآلمني بتصرفاته التي لا تُطاق منذ أن تزوجنا،وبالرغم من أنه عام هو الذي عشته معه إلا أنه مرّ عليّ طويلاً كالدهر بقدر ماعانيت فيه)
وأُصيبت شهد بالدهشة فلم تكن تعلم من مروج صديقتها الحبيبة كل هذا الحزن،حتى أن تاريخ إصدار ورقة طلاقها لم تنسها،إنها دوماً بشوشةُ مرِحة كما عرفها الجميع بذلك،لدرجةِ أنها قد أطلقت زغاريدها تعبيراً عن فرحها بانحلال عقدتها المؤلمة مع طليقها وحياة الجحيم التي عاشتها معه تحت سقفٍ واحد،والآن هي متعجبة كثيراً مما ستقوم به في حفلة قدوم أخيها جواد!فما هذا التناقض!
فقالت مروج وكأنها قد قرأت أفكار شهد ورأت مدى دهشتها وتأثرها بألمها البادي على ملامحها:
(لِمَ أنت مندهشة هكذا ياعزيزتي شهد؟..ربما تظنون أنني آسفة وحزينة لأني لُقبتُ بالمطلقة، ولم يبد ذلك في شيء من تصرفاتي لأنني أدفنه في قلبي،إنني على علمٍ بنظرة المجتمع لي وللمطلقاتِ عموماً ، وفي الواقع أن من ينظر بتلك النظرة الدونية المتهمة والظالمة فهم أغبياء أنانيون لأنهم لا يعرفون أبعاد قصة سبب الطلاق قبل أن يحكموا عليها، وكأنهم لم يقرؤوا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم..
إن الطلاق حتميٌ لأجل مصلحة الطرفين إن انعدمت المفاهمة والثقة والاحترام..فبالرغم من أنه أبغض الحلال إلى الله إلا أنه رحمة منزلةٌ من عنده سبحانه عندما تضمحل تلك الأمور..)
ثم سكتت وهي تنظر إلى تعابير وجه شهد وأردفت تقول:
(إني لسعيدة حقاً لأني حرة، فلقد كان ذلك العام بمثابة السجن لي بل كجهنم والعياذ بالله، وطلاقي كالجنان والبساتين، لذلك لا تتعجبي يا عزيزتي من تصرفي السعيد في الحفلِ فهو يوم تاريخ طلاقي..أرجوكِ لا تعاتبينني!)
ثم خفضت رأسها صامتة..
بقيت شهد صامته لعدةِ لحظات تسترجع كلمات أغلى صديقة لديها وترتب الكلمات المناسبة فقد عزمت على الحديث معها بهذا الموضوع بالرغم من رجاء مروج بعدم معاتبتها..
وقالت وهي تمسك بكتفي مروج وتبتسم ابتسامة تشجيعية و هادئة:
(غاليتي رورو..إني أحس بك وبما تعانين منه وأقدر ماقلتيه..فكلامك صائب وإن لم يكن كذلك! لما اهتم المشايخ وطلبة العلم بتوضيحه في حدود الشريعة لتصحيح أخطاء العامة من الناس، وتفقيه نفس الزوجين قبل الإقدام على الطلاق، وذلك إن كانت مشاكلهما بسيطة وبسبب هفواتٍ طائشة من كليهما أو أحدهما ولا تسبب عقبة أمام استمرار حياتهما وعشهما الذي قد بنياه بكلمةٍ من الله..لكن!. أنا
متعجبة من رغبتكِ بالاحتفال في هذا العام بالذات دون الأعوام التي فاتت؟فهلا أوضحتِ لي يا عزيزتي؟)
فرفعت مروج رأسها وقد أعجبها أن صديقتها الغالية متفهمة لموقفها دوماً وابتسمت قائلة:
(خطأ يا شهودتي؛ لقد كنت أقوم بذلك عند أهالينا بالمنطقة الشرقية،وقد لا تصدقينني عندما أحكي لكِ أن خالتي وأخوالي كانوا يقومون بمداعبتي فيحضرون لي الكعك والمعجنات ويقوموا أيضاً بتزيين الطاولة التي يقوم عليها الاحتفال بالشمع والشرائط الملوّنة..)
فقطبت شهد حاجبيها وقالت معترضة:
( مروووج!! ما هذا الكلام الذي أسمع؟ أنت فتاة محافظة وخريجة قسم الدراسات الإسلامية..فكيف تحتفلين بهذا في كل عام وأنت تعلمين بأنها عادات للنصارى محرم علينا إتباعهم، وأن نجعل لكل ذكرى أو مناسبة احتفالاً سنوياً؟!)
فابتسمت مروج في حزن وخفضت رأسها قائلة:
(أعلم أن ذلك محرم _ غفر الله لي_ لكن صدقيني أنا لا أستطيع كبح مشاعري كلما تذكرت ذلك _كما أخبرتك_ إني لأتنفس الصعداء في كل مرة فما عساي أن أقوم به بعد ذلك وقد وُصِمتُ بلقب "المطلقة"؟)
وأحست شهد بالألم، لم تكن ترى مروج صديقتها المقربة بمثل هذه الكآبة والسوداوية تجاه وضعها وحالها..ربما أن مشاعرها قد انفجرت في هذا الوقت بالذات لأنها قد تخرجت ولم يبقى لها مايشغلها ويُلهّيها عن تذكر تلك الذكرى المؤلمة بخلاف السنوات الدراسية الماضية..وقيامها بالاحتفال ماهو إلا ردة فعل عكسية لما يدور في قلبها من أحاديث وذكرى، وحلم العيش مع من يسعدها ويقدرها، فقام الإيحاء بدوره في إملاء ما تصنعه تبعاً لوجدانها وتفكيرها المضني ليس إلاّ، وذلك دون أن تلتفت أو تعير أفعالها الاهتمام..
وأرادت شهد أن تُنهي حزن مروج ببضع كلمات قد تكون بلسماً لها فالكلمة الطيبة صدقة..فأمسكت بذقنها ورفعته برفق وقد كانت مروج مطرقةً صامتة..
(حبيبتي مروج..لا أريد أن أراكِ حزينةً بهذا الشكل..لا تدعي الهم والكدر يُخالج قلباً لطالما عرفناه مرحا و بشوشاً،إنكِ إنسانة مؤمنة وعلى علم أن ما حصل لك إنما هو من قضاء الله وقدره من قبل أن تكوني"ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطئك لم يكن ليصيبك"وكل مصيبة بأجر إن صبرتِ واحتسبت ،ونحن نراه ملموساً فيك والحمد لله،، ثقي بالله الذي لا يضيع عباده الصالحون و بالسعادة من عنده تحفكِ وتحيط بكِ من حيث لا تدري أوتظني..إن النصر مع الصبر يا مروج!..وأنا واثقة بأن الله سيرزقك بالزوج الصالح الذي يعينكِ في أمر دينك و دنياكِ..)
ثم سكتت بضع لحظات وتابعت تقول بنفس الهدوء وهي ترقب مروج التي بدأت ابتسامة ضئيلة بالارتسام على ثغرها علامة الموافقة على حديث شهد:
(أرجوكِ..اجعلي ذكرى سعادتك بتحررك في قلبك وليس في هذا اليوم بالذات،هذه نصيحة مني لكِ فأنا أحبكِ يا مروج إن لم تكوني تعلمي..)
_(بلى أعلم..أبعد كل تلك السنوات تتشككي في عدم علمي؟! أنا أيضاً أحبكِ يا شهد من كل قلبي..وكلماتك كإسمك "شهد"..ووعداً مني بأن لا أفعل، وقبل ذلك لقد عاهدت الله)
ابتسمت شهد وأرادت أن تغير وجهة دفة حديثهما الذي قد بدآ به ،لكن هاتفها المحمول قد ارتفع رنينه معلناً قدوم والدها لأخذهما ..
فأجابت ثم بدأت بارتداء عبائتها وهي تقول لمروج:(هيا ماذا تنتظري؟! ارتدي عبائتكِ)
فأجابت مروج وهي ترتدي عبائتها:(أوه يا شهد يبدو أنني سأثقل عليكم فكما تعلمين أن السائق قد انتهت مدة إقامته فسافر، وزوجته العجوز لم تشأ المكوث بدون زوجها..ياله من دلال! لقد تركانا وحيدتين، والحمد لله أن جواد قادم بعد غد فما كنا فاعلين وهو في الخارج والسائق والخادمة قد ركب برأسيهما الشيطان وسافرا؟)
فابتسمت شهد وقالت وهي ترتدي جوربيها وقفازيها و خرجتا من البوابة:
( ماهذا يا مروج لا تقولي ذلك فأنتِ من أهلنا وقد تعودت أسرتي وأسرتك على الخروج سوياً، وبيتكم قريب من بيتنا وفي صحبتك "وناسه" كما يقول أبي إنه يحب نكاتك وحديثكِ المرح)..
وركبتا السيارة وألقتا السلام ثم بشرتاه بنتيجتيهما التي فرح لأجلها وقالت مروج مداعبة:
(مالذي ستقدمه لنا يا عمي بهذه المناسبة ياترى؟)
فضحك والد شهد وقال:(آه.. إنني أعرفكما!،إن لم أستجيب لمطلبكما فستتسبان لرأسي بالصداع من كثرة الإلحاح ودلال البنات!)
فقالت شهد مبتسمة:(وهل لك فتاتين حبيبتين إلى قلبك سوانا؟ يا أحلى أب في العالم كله..)
)_حسناً يافتاتين..كفى نفاقاً، فسأخذكما يوماً بأكمله في جولة جميلة ومكلِفة أيضاً إلى أشهر وأمتع المعالم الترفيهية بجدة ..فما رأيكما)
فضحكتا وأجابتا معاً بالموافقة وسعادة طفولية بريئة قد أخذتا في تمثيلها كعادتهما عندما تكونان مع والد شهد..
وقالت مروج:(إذن.. هل تجعلها في الأسبوع القادم ياعمي من فضلك؟ لأن جواد سيأتينا من بريطانيا بعد غد بإذن الله)
_(ماشاء الله..إني سعيدٌ بهذا الخبر فلقد اشتقنا له بعد غياب طويل..وهل انتهى من دراسته أخيراً؟!)
_(نعم.. لقد تلقى سنة التدريب هناك، و قد أعدّت أمي لهذه المفاجأة :حفلة بسيطة فأرجو أن تكونوا أول القادمين..)
_( ابشري يا ابنتي وهل هذا طلب؟! سنكون مسرورين بذلك حتماً..من سيأتيكم أيضاً؟)
_(خالتي أنجال وخالي فؤاد باصطحاب ابنتيه الصغيرتين طبعاً...أوه !لم أخبركِ يا شهد بأن الله قد رزقه بتوأم بنات)
_ ( ياي.. ياللمفاجأة الجميلة..لم أرى زوجته سوى وهي عروس..)
_(وهل نسيتِ يا ابنتي أن أخيك سيطل علينا مولوده عما قريب) قالها والد شهد وهو يبتسم..
_(أووه..بقي للؤلؤة شهر كامل حتى تلد)
واقتربت مروج من شهد وقالت مُداعبة وهي تهمس في أذنها:
(عندما حدثني جواد بالهاتف قال لي بأن أبلغكِ سلامه وتحياته الحارة) ثم ضحكت..واحمر وجه شهد خجلاً وحمدت الله أن العباءة منعت مروج من رؤية وجهها المحمر ولم يمنعها ذلك من قرص مروج في فخذها وهي تشتمها من داخلها على المواقف المحرجة التي تفتعلها في أوقات غير مناسبة..
*******************************
في العاصمة الضبابية"لندن":
كان جواد يسير في شوارع لندن المزدحمة بالمشاة، وبرفقته صديقه مصعب، يسيران وأعينهما تحتضن السماء التي لا تعرف لها موعداً في هطول أمطارها الغزيرة بعد أن تكون خالية تماماً من الغيوم!
والبساتين الوارفة المنتشرة في كل مكان، والمنازل والقصور المتميزة بتصميماتها الحجرية والكلاسيكية و قد بُنيت من قديم الزمان إلا أنها لا زالت تحتفظ برونقها الباهر!.. و البارات اللاتي تُعرض مختلف الكحول في بساطة عادية!،و الحوانيت التي تكتظ بمختلف البضائع الفارهة والمرتبة من الثياب والعطور.. يتجولان بأعينهما وكأنهما أرادا توديع هذه المناظر الرائعة والمفردات التي قد ألفوا العيش في أكنافها خلال سنين دراستهما..!
قال مصعب وهما يسيران:
(سنفتقد هذه المعالم الجميلة بعد عودتنا إلى الوطن...) ثم سكت وهو يلقي بنظرة عابثة وخبيثة على جواد وقد أراد بها أن يستشف ردة فعله إزاء ما سيقول، ثم أردف في خفوت: (وبالأخص فاتناتهم!)وأشار خلسةً إلى فتاة تجتاز الرصيف..
فألقى عليه جواد نظرة متهكمة ومحتقرة ثم أشاح بوجهه وهو يتمتم:
(لا يُعجبه شيْ في بريطانيا سوى النساء!)
وانتبه مصعب لكلماته فلم يُعره أي اهتمام فهو يعلم بأنهما صديقين لكنهما يختلفان في كثيرٍ من الطباع والأخلاقيات..
ثم قال جواد وهو يُشعل سيجارته:
(ليس أمامنا سوى اليوم لكي نتجول ونروِّح عن نفسينا، فغداً سنكون في" الهيثرو" من الصباح الباكر بإذن الله فمالذي تقترح أن نصنع خلال هذه الفترة؟)
فأجاب مصعب وهو ينظر إلى سيجارة جواد:
(أولاً..ألم تقل لي منذ زمن بأنك ستقلع عن التدخين قبل العودة إلى الوطن؟!)
فزفر جواد في ضيق وقال:(بلى..لكن لست أدري كيف سأفعل ذلك!؟ففي خلال الأيام الماضية كنت أحاول تركها لكن بلا فائدة..يبدو أنني سأعود كما أنا الآن وأضعهم في الأمر الواقع فأنا الآن شخص آخر أستمتع بالحياة..)
فضحك مصعب بشدة وقال:
(نعم نعم..هكذا تعجبني ياجواد وليس كما كنت سابقاً إنساناً متشدداً ورجعيا) فلكزه جواد في كتفه وقال:
(أنا لم يُفسدني سوى صحبتك، فبريطانيا لم تلوِّثني بقدر الصحبةِ الفاسدة أمثالك!)وابتسم ناظراً إلى ردة فعل مصعب الذي قال:
(طبعاً طبعاً..ولي الشرف،إلا في شيءٍ واحد لا زلتَ تتشدق بحرمته وأنا أتشبث به ولا غنى لي عنه) وغمز له بإحدى عينيه..
فهز جواد برأسه وقال وهو يلوي شفتيه في ازدراء:
(لم يعد لي كلام معك بشأن هذا الموضوع ،فأنت من سيحاسبك الله على لذائذك المحرمة و ال********************************ة وليس أنا...يا زيـــــر النسـاء)
تجهم وجه مصعب في غضب وظل صامتاً،حتى دخلا إلى مقهى وطلبا القهوة وشيئاً من الكارسون..
أخذ يفكر جواد في حاله وهو يتناول فطوره في بطأ والموسيقى تخترق أذنيه و تجبر كل من في المكان على سماعها لشدة ارتفاع صوتها وانتشار أمثالها في جميع الحوانيت والأسواق حتى المطاعم..
لقد تغير خلال العامين الأخيرين والتي لم يسافر خلالهما إلى أهله بسبب الدروس الإضافية التي أخذها وفشله في إحدى المواد..
ومن أوائل هذه التغيرات التي طرأت على حاله مؤخراً انقطاعه الدائم عن المركز الإسلامي للجاليات المسلمة في البلد، حتى أنه لم يعد يذهب إليه إلا في صلاة الجُمعة وأعياد المسلمين!
وهذا الذقن الحليق الذي قد كان فيما مضى مكتظاً بلحيةٍ منظمة أصبح كصحراء قاحلة بلا أشجار!
ثم عاد يفكر بأن هذا جميلٌ عليه كما قال الجميع بما فيهم البريطانيون فهي تٌظهر عمره الحقيقي بخلاف اللحية التي تضيف إلى رصيد عمره عشرة أعوام أخرى، هذا هو الذي دار في رأسه الذي فيه قد تغيرت المبادئ والقيم التي نشأ عليها !..
وبعد أن انتهيا من فطورهما توجها إلى حديقة Regents Park ثم إلى Park Road يتجولا ويتذكرا ذكرياتهما في تلك الأماكن وبالأخص عندما مرا على حديقة Hyde Park المشهورة في لندن والمعروفة بجمال أشجارها وأزهارها،فوجدا رجالاً ونساءً يتنزهون بصحبة أطفالهم في يوم عطلتهم، و بصحبة كلابهم أيضاً والتي لا تنفك عنهم البتة وكأنها فرد من أفراد عائلتهم إن لم تكن أكثر!!
واستمرا في السير حتى رافقهما "نهر التايمز" وهناك عجلة لندن العملاقة المشهورة ب London eye لضخامتها وتمكن الراكب فيها من رؤية مدينة لندن بأكملها من ارتفاعها الشاهق..
قال جواد لمصعب:
(هل ستشتري لأهلك بعض الهدايا؟!)
فأجاب بالموافقة وانطلقا إلى الأسواق في منطقة اكسفورد وتبضعا بعض الأغراض من هناك، ثم توجها إلى Slelfridges و Louis واشترى جواد حقيبتين نسائية من Gucci
وبعض الإكسسوارات النسائية وأحذية "الأبوات" الفاخرة والمريحة ،ومصعب اختار لأخته المتزوجة بعض الثياب الملائمة واحتار فيما سيأخذه لأمه وأخواته الصغيرات،إلا أنه في النهاية أخذ لأمه حقيبة نسائية كالتي أخذ منها جواد،ولأخواته الصغيرات فساتين ذات طراز أوروبي أنيق مع "القبعات" الخصفية..
وبعدما انتهيا ذهبا إلى حجراتهما ووضعا أغراضهما ثم خرجا إلى "متحف الشموع" المعروف..
وتفاجأ جواد بامرأة تلوح له من بعيد، وما لبث أن تعرف عليها حيث كانت إحدى زميلاته في الدراسة والتي كانت تستذكر عنده بعض الدروس برفقة الزملاء الباقون التي تصعب على جواد وعلى بعضهم..
(هالو "زواد"!..) قالتها بمرح فأجاب:(هالو كاتي!)
وعبرت عن مدى سعادتها بلقائهما من جديد ،ثم التفتت إلى مصعب وحييته هو الآخر،ثم سألتهما عن دراستهما، وعندما أجاب جواد بأنهما قد انتهيا منها وسيسافران في الغد، تلألأت عيناها بالدموع وأصبح الناظر إليها لا يستطيع الإشاحة عن النظر إلى تلك العينين الزرقاوتين والأهداب الشقراء الملفوفة بنعومة فائقة!
وبات من المحتم أنها ستنفجر بالبكاء وهي تقول في حزن مرير وبصوتٍ أبحٍ رقيق:
( لا أستطيع تصديق بأنك ستترك بريطانيا يا "زواد") وأمسكت بكفه التي سحبها بعد إحساسه بشحنة كهربائية تأتي من صوب هذا الكف الرقيق البض..ولم يستطع أن يقول شيئاً إزاء هذا الموقف المفاجئ والصعب ،فلكزه مصعب وقد أحس بحرج جواد البادي عليه وتعلُق الفتاة به وقال بالعربية هامساً:
(يبدو أنها معجبة بك..فلا تفوتها على نفسك وهذا آخر يوم لنا هنا.. إنها فاتنة بمعنى الكلمة!)
فتجاهل جواد قول مصعب الذي أغضبه وقال لكاتي:
(هذا هو مصيرنا ياكاتي فلكل شيء نهاية ،ونحن لدينا أهل هم بحاجةٍ إلينا)
فسألته ووجنتيها قد زاد احمرارهما:(هل سنراك مرةً أخرى؟)
ماذا سيجيب عليها فهو يعلم بأنه قد لا يعود البتة فيكفي تلك السنوات التي مضت، لكنه أراد أن يحسم الموضوع معها وأن تخرجه من قلبها وتيأس من عودته لتراه..فقال:
(لا أعتقد أني سأعود لأنني في شوق إلى وطني، وسأبقى هناك بعد أن أتوظف)
وسكت مشيحاً بوجهه عنها... إلا أنه تفاجأ بجسمٍ بشري ناعم يرتمي في حضنه ويجهش بالبكاء..فاضطرب في خجل من هذا الموقف المحرج..
لقد كانت كاتي تبكي على صدره ورائحة عطرها وشعرها تخترق أنفه، هو يعلم بأنها لا تعتبره أكثر من صديق فهذا هو حال البريطانيات والغربيات عموماً عندما يودعن أصدقائهن أو حتى زملائهن كما تعلّم مما يحيط به..
وأزاحها برفق عنه ومصعب يرقبهما وهو يضحك في قرارة نفسه على جواد ويقول" أتاك اليوم الذي كنتُ أتمناه لك يا مغرور"..!
ورأى جواد وجهها وقد استحال إلى لوحة فنية فاتنة لا تصدق.. وأحس باضطراب في معدته" يا إلهي أخرجني من هذا الموقف وارحمني!"
وأخيراً قال لها وهي تكفكف دموعها بمنديلها القاني:
(كفـــى يا كاتـــي!.. إنكِ تؤلمينني ببكائك، فليس لديّ أي خيار! )
فقالت وهي ترمي إليه بنظرات مجروحة ومتألمة:
(بلى لديك.......أنظر إلي!)
فنظر إليها مستفهماً فتابعت:
(لقد جرحت شعوري تجاهك ومشاعري التي أكنها لك، أنت شخص عديم الإحساس يا مستر "زواد"!!) قالتها بغضب، وتفاجأ جواد بما قالته لكنه علم بما تخبئه كلماتها من معنى وحاجة شديدة..فازدرد ريقه في توتر وقال بعصبية:
(أنا آسف يا كاتي..لم أكن أقصد جرحك صدقيني)
فلم ترد عليه وظلت واقفة تشيح بوجهها الغاضب وتعقد ذراعيها أمام صدرها..فقال جواد وقد أحس بنظرات عدّة تصوب نحوهما:(ألن تقبلي عذري يا..عــ..زي..زتي!)
فنظرت إليه وقالت:(سأتقبله إن قبلت عرضي الذي أقدمه لك فلم يسبق لي أن رفضني أي أحد!)
وتوقف قلبه عن الخفقان لأنه خشي مما ستعرضه عليه..ولما تحدثت مرة أخرى موضحة له عرضها في خفوت..ترك جواد المكان في غضب وخرج من المتحف..
وتعجب مصعب من خروجه الذي باغته كالعاصفة فلم يسمع ما قالته كاتي لجواد، وحاول تصحيح الموقف فقال عدة كلمات مهدئة ومعتذرة لكاتي التي تحوّل وجهها إلى شرارة ملتهبة من الغضب وقبّلها في بساطة لأنه ليس كجواد فمسحت قبلته في قرف لأنها لا تريده !
وخرج مصعب يتبع جواد في سرعة..
وفي اليوم التالي عندما كانا في طريقهما إلى الهيثرو عن طريق القطار Under Ground" " كان جواد صامتاً ولم يستجب لمحاولات مصعب في سحبه إلى الحديث..
كان يفكر في الموقف الذي حصل معه ليلة البارحة،إنها المرة الأولى التي تحدُث معه خلال كل تلك السنوات،لم يتوقع أبداً شيئاً من هذا القبيل بالرغم من زمالاته المتعددة من الشبان والفتيات بالجامعة..لم يكن يعلم جواد أن حاله التي آل إليها مؤخراً هي سبب تجرأ كاتي عليه أو غيرها، بتلك الوقاحة التي تراها هي شيئاً معتادا! لقد كان امتحاناً من الله له،ويا لكثرة الامتحانات والابتلاءات على الطلبة المسلمون و التي من هذا النوع في تلك الدول الغربية و المتحررة!
وركبا في الطائرة..وبدأت ذكرى الوطن تزدحم في ذهنه، فتذكر أمه وأخته مروج ومواقف جميلة قد حصلت معهما..
لسوف أعودُ يا أمـي أقبل رأسكِ الزاكي
أبُثُك كل أشواقــي وأرشف عطر يُمناك
أمرغ في ثرى قدميكِ خدي حينَ ألقـاك
أُروي الترب من عيني سروراً في مُحيّاك
ثم لم ينسى شهد عندما كانا صغيرين وأخوها معاذ صديق طفولته من قديم الزمان..
وبعد ستة ساعات لاح البحر الأحمر وعروسه جدة فخفق قلبه في حبٍ وشوق بالغين..
وعندما نزلا من الطائرة لفحته سخونة الجو فابتسم ! لأنه قد اشتاق إليها أيضاً..ومن ذا الذي يعاتب الآتي إلى وطنه أو يتعجب منه؟!
وطني حبك كل مرادي تسكن في أعماق فؤادي
أنت درة فـوق التـاج أنت صخـرة للأمـواج
أنت الغالي ياوطني
حب الأوطان سأنشـده سهماً في صدر العدوان
ليدمر أوتـار البــلوى ويزلزل ركن الطغيـان
حب الأوطان نسيم كصباح قد هب يداعب أجفـاني
يا وطني جلّ دينك بالقرآن عزّ وجهك بالإيمـــان
دمتَ ورداً في الأوطــان يا وطنـــــــي
وعندما كان في طريقه إلى البيت الذي نشأ فيه واشتاق إليه، تمنى تقبيل الرمال والأشجار المغروسة على جانبي الطريق وتقبيل أي شيء هو من مدينة جدة الحبيبة إلى قلبه، ويكفي فخراً أنها مستنقع طفولتــــه وشبابه!، لقد اشتاق إلى رطوبتها التي قد كان في يوم من الأيام يتضجر منها!!..
واستُقبِل بالعناق الحار والضحكات السعيدة من قِبَلِ أمه ومروج، لكنه لاحظ بعض الدهشة والشحوب على وجه أخته مروج بعد الفرحة التي أبدتها للقائه..وحاول معرفة السبب، وبعد فترة.. عرف عندما سألته بحزنٍ مرير:(أين ذهبتْ لحيتك الجميلة يا جواد؟!)
ولم تكن إجابته سوى أن ذقنه قد أُصيب بحكة جلدية وبعض الحساسية فحلقها من أجل ذاك،وقبل أن تزيد من استفهاماتها قام إلى حقائبه وأخرج هداياهما التي قد أحضرها لهما من لندن..
وأفلِت بذلك من أسئلتها المتعجبة والحائرة وفي قرارة نفسه:(إنها كذبةٌ بيضاء!) وما علم أن الكذب لا يعرف الألوان أو التفنيد إلى مباحٍ وحرام، لأنه محرم بأجمعه..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل الثاني
الأشجار المغروسة على جانبي الطريق تزيد من بشاشة الجو وجمال المكان..كما أن الأضواء المنبعثة من الأعمدة المرصوصة بعناية على سائر الطرق تعطي إحساساً جميلاً للمساء..
والنسائم اللطيفة في مداعبتها للوجنات لها وقع الانتعاش والارتياح في نفوس الجميع في ذلك المساء بالذات..!
حيث وصلت سيارة عائلة شهد إلى منزل أم جواد ومروج..
وهناك..كم كان الاستقبال حاراً ومهنئاً وسعيداً!..
وعانقت الخالة"نوال" صديقتها أم جواد "الخالة فاطمة"
وفيضٌ من التهاني والتبريكات تنساب من فمها في سعادة..
وعندما عانقت أم جواد شهد قالت لها:
(وأخيراً..لقد آن لحلمي الجميل أن يتحقق بإذن الله و أراكِ عروساً لابني جواد..)
فسحبت شهد نفسها خلسة من بين يدي أم جواد وقد تخضب وجهها بحمرة الخجل التي اعتادت عليها خلال هذه الفترة الأخيرة! وقالت في نفسها: "هذا ما كنتُ أخشاه، عادت ريما لعادتها القديمة!"
وتداركت موقفها بسرعة وقالت بلباقة:( حمداً لله على سلامة ابنكِ جواد يا خالتي ولتنعمي بنومٍ هاديء بعد الآن إن شاء الله)
وأردفتها بابتسامة عذبة..
وتقدمت مروج فسلمت على أم شهد ولؤلؤة وشهد..ثم جلسوا في صالون الضيوف ومعهم خالة مروج و زوجة خالها بابنتيها التوأم..
قامت شهد بملاعبة الطفلتين في حنان ومرح، لكن مروج لم تنضم إليها، ولاحظت شهد أن مروج تبدو وكأنها ليست على مايرام!
فكتمت شهد تساؤلاتها في نفسها..وجلست مع النساء يتبادلن الأحاديث، لكن عيونهما كانتا تلتقيان في بعض الأحيان فتتحدث بلغة العيون، عرفت شهد من خلالها مدى الحزن الذي يعصف بمروج وأنها تخفي شيئاً لم تخبرها به!
وسرى القلق والتوتر في أوصال شهد وبدت الحيرة على تقاسيم وجهها الرقيق وهي تقلب الأفكار في رأسها..
أيكون ذكرى اليوم الخاص بطلاقها سبباً في حزنها!؟
كلا فلقد وعدتْ أن لايبدر منها أي شيء أو تهتم بالأمر ! حتى وإن أرادت إبداء الاهتمام فالمفترض أن تكون سعيدة مثلما أرادت هي ذلك..
إذن ماذا يكون عساه؟!
أهو شيء أخر يتعلق بأخيها جواد لم تخبرها به؟!
وأخيراً..لم تستطع شهد الصمود فالفضول قد غلبها..
وأشارت لمروج بعينيها أن تدخلا في حجرة الأخيرة وتتحدثا على انفراد..
ولما صارتا وحيدتين بالحجرة..بادرت شهد بقلق:
(مروج؟!..ما بكِ؟ أشغلتِ تفكيري وألهبتِ عقلي!؟)
فأطرقت مروج برأسها في صمت..واقتربت منها شهد وضغطت على كفها تستحثها على الحديث..
وأخيراً قالت:(شهد.. إنه جواد أخي..لم يعد بعد!)
فقطبت شهد بجبينها وقالت بحيرة بالغة:
(ماذا تقولين يا مروج؟... إنه كلام أشبه بالأسطورة؟ وكيف نحن هنا ولماذا؟) وأحست مروج بالخطأ الفادح الذي ارتكبته في اختيار كلماتها، فقالت موضحة في أسى:
(أقصد أنه قد عاد،ولكنه ليس الذي نعرفه، لقد قدم إلينا في هيئة رجلٍ آخر قد فاجأني أكثر من أمي، التي ما لبثت أن اعتادت على الشخصية الجديدة التي انتحلها..)
وازدادت ضربات قلب شهد وراحت الأفكار تطاردها في بضع ثواني.."ماذا به جواد؟! إن أم جواد تبدو في غاية البهجة والسعادة؟!
فما لذي يهُم مروج من أمر أخيها الذي تعتز به دوماً؟؟
وسألت مروج:(ما به جواد يامروج؟! وضحي لي فأنت تُلقي بالكلام كقنبلة مبهمة) فألقت مروج بزفرةٍ حارة وقالت بنبرة آسفة:
(لقد تغير كثيراً فهو الآن إنسان آخر غير الذي كنا نعرف ونحب...) وسكتت قليلاً ثم تابعت:
(أخبريني يا شهد..هل سيؤثر فيك أمر أخ شقيق ووحيد قد كنتِ بانتظاره السنين،وكنت تفتخرين به لأنه عاقل ومحافظ جداً على أمور دينه وعاداته، إضافةً إلى أنه سندك وعزوتك بعد الله خصوصاً وما من أحدٍ معنا بعد خلو البيت بوفاة أبي وطلاقي..هل تعرفين؟! أجـيبيـني!)
ومع آخر كلماتها التي بُحّ لها صوتها تساقطت دمعتين ملتهبتين صحبت أغلى مشاعر أخوية تكنها مروج لأخيها الوحيد، وقد صُدمت الآن بما لم تتوقع أو يكن في الحسبان..
لم تستطع شهد أن تفعل شيئاً لصديقتها الحبيبة فالموقف كان كبيراً متوتراً.. ومحيرا..لكنها بعد فترة تحاملت على نفسها وطردت التفكير وأمسكت بكتفي مروج في حنان دافق وحسن تفهم..فألقت مروج بنفسها بين ذراعيها وبكت كثيراً وهي تقول من بين نشيجها المتقطع:(هل تعرفي مثَل "كل فتاة بأبيها معجبة؟" وفي حالتي أنا، قد توفي والدي فيُصبح أخي هو البديل القوي والمحور المهم في حياتي مع أمي)
ووسّدت شهد على شعرها في حنان و قد بدأت عينيها تتلألآن بالدموع وما أرادت لها بالهطول فهي تريد أن تكون قوية فمروج في حاجةٍ إليها الآن..
وبعدما خَفُت بكاء مروج مسحت دموعها بالمناديل وقالت لها شهد :(ألا تلاحظين أنكِ لا زلت لم توضحي الأمر لي؟)
فابتسمت مروج خجلاً من نفسها ثم بدأت بسرد ما وجدته على أخيها من تغيرات واضحة لم تطرأ عليه طوال تلك السنوات إلا في الفترة الأخيرة"السنتين" والتي انقطع عليهم فيها كما هو معلوم!
وانقبض قلب شهد واعتصرته قبضة باردة ومؤلمة من الذي تسمع!،إلا أن ذلك لم تحاول أن تظهره على ملامحها ،وحاولت مدارة أمرها فربتت على كتف مروج وهي تشيح بوجهها إلى الجهة الأخرى في حزن يملأ قلبها..
وتضاربت مشاعرها؛ فلقد علمت أنها بداية للنهاية الغير موفقة بين عائلتيهما..وبداية النهاية لهما و لفصول القصة التي لم تبدأ بعد "وإن كان قد بدأ بعضها من زمن، منذ أن كانا صغيرين!" ولم تكتمل حتى الآن..
****************************
مرت الأيام بعد ذلك متتابعة ورتيبة.. حاولت فيها مروج أن تبدو سعيدة ومرحة وِفق ما يتطلبه كل موقف ،أما شهد فقد كانت مصدومة لما تقوله لها صديقتها مروج من أحاديث عن أخيها وحاولت التناسي وعدم لفت الأنظار إليها بصمتها وشرودها،وجاء اليوم الذي لم تشأ أن يأتي إلا إذا كان من دون تواجد جواد معهم!.. إذ أن والدها اصطحبهما للتنزه والتجول في أمتع الأماكن الجميلة بجدة كما وعدهما بذلك كهدية جميلة وفريدة بمناسبة تخرجهما، وأصرّ على مرافقة جواد لهم في سيارتهم فهو يكنُ له الحب؛ ولا عجب في ذلك إذ أنه ابن رفيقه الذي قد توفي وترك أسرته الوحيدة في مدينة جدة ، وركبوا السيارة جميعاّ، والد شهد عند المقود وبجانبه جواد وفي الخلف شهد ومروج!..
والمضحك في الأمر أن والدتي شهد ومروج أرادتا الحضور معهم إلا أن والد شهد منعهما بقوله"إنها نزهة شبابية خاصة وليس للعجائز مكان عندنا..!"
عندها ضحكت مروج بشدة وابتسمت شهد للنكتة التي فجرها والدها بينهم وقد كان فيما يبدو جاداً فيما يقول ، ووالدة شهد بدا وجهها وكأنه سينفجر في أية لحظة إن لم يطيب خاطرهما أيُ أحد كمواساة للمزحة الثقيلة التي ألقاها عليهما زوجها، وعدم مبالاته لشوقهما في التنزه..
وجاءت المواساة من شهد الرقيقة والتي تحوي الجميع بخُلقها الجم وإحساسها بالغير:
(أمي..خالة فاطمة: الأفضل لكما أن لا تأتيان مع أبي إذ يبدو بأنكِ يا أمي غاضبة منه، أنا سأتصل على معاذ ليصطحبكما برفقة لؤلؤة وتتنزهان بمفردكم إذا شئتم..)
وبذلك حلّت شهد المشكلة والتي قد تتفاقم إن تواجهت والدتها مع والدها فهما بلا شك سيتشاجران وستُجبر هي على الضحك كثيراً إن حصل شيْ من هذا القبيل كما تعودت منهما!،إذ ستنطلق الشتائم "الجداوية " والبدوية القديمة والمصرية والإنجليزية حتى!
وكل الذي يخطر على بالهما!.. و ستتمنى مروج وقتها"إذ ستحضر كل ذاك" لو كان في مقدورها تدوينها في مفكرتها والتي تصحبها معها عادةً داخل حقيبتها، و بلا شك ستستلقي على ظهرها من شدة الضحك فهذه الأخيرة مُحبة للنكات وحساسة تجاه الضحك و الذي تكون له مستعدة في أي وقت!
" كل ذلك هو ما تخيلته شهد وهي تبتسم!"..
وبدايةً.. كانت شهد متضايقة لوجود جواد بينهم،إذ تشعر بإحراجٍ بالغ تجاهه إضافةً إلى أن قلبها يتفطر كلما نظرت إليه خلسة وهو بجوار والدها، وحاولت إقناع نفسها بأن جواد الذي عرفته وأحبته وانتظرت قدومه طوال تلك السنين لم يعد بعد!
لقد كان يرتدي بنطالاً من الجينز أسود اللون وثوباً من قماش القطن المرِن يُظهر ذراعيه القويتين، وقد امتزج في الثوب لون الأسود مع لون الطوب!
ولم يكن في ذلك أي انتقاد أو تعجب من جهة شهد وإنما انتقادها وحزنها كان على وجهه الحليق والذي صار أشبه ما يكون بالصحراء القاحلة!
والدها كان طوال الرحلة يناديه بالدكتور فقد أصبح بالفعل يحمله، وشهد لن تستطيع إنكار ذلك أو تجاهله مطلقاً، لكن في اعتقادها أن اللقبٌ الذي قد كابد الشخص لأجل الحصول عليه وتعنّى السنين الطويلة ،وبسببه تغيّرت حاله ومعتقداته ومدى تدينه لهوَ لقب وضيع لا يستحق الاحترام لأجله "فالاسم له متعلقات مهمة ترافقه وليس مجرداً من القيم والأخلاق!" وكذلك العلم _إن كان من العلوم الدنيوية وليس الشرعية_ وتغير حال الشخص بسببه !
كان كلامه قليلاً، واعترفت هي في قرارة نفسها بأنه شخصٌ دبلوماسيُّ التعامل وراقي في أسلوبه، وسيكون أفضل وأجمل إن عاد كما كان وأكمل من شخصه بما فقده خلال الفترة الأخيرة..
واستيقظت من سهوها على صوت والدها وهو يقول لهم: (إلى أين تريدانِ أن نذهب بكما يا بناتي؟)
فحمدت الله على مداخلة والدها المفاجئة لها والقاطعة لحبل أفكارها، فهي لا تدري كيف انجرفت لتلك الأفكار وتركت لنفسها العنان في التأمل!.. وتنهدت قائلة في نفسها" آهٍ من طبيعة النفس البشرية التي لا تترك حتى الإنسانة المحافظة وآهٍ من وسوسات الشيطان اللعين"..
وسمعت مروج تقول مازحة: ( بالنسبة لي ياعمي سأضع عدة خيارات واختاروا منها ما يناسبكم: أنا أحب الجزر البحرية إذ تبدو لي رومانسية للغاية أمثال"جزيرة الشراع و شاطئ لاكوستا والجزيرة الخضراء وركوب الأبوات الرائعة لأنها تذكرني بالطفولة الآزفة فهي بالنسبة إليّ كالمغامرات تماماً"!)
ولم تقل شهد شيئاً فسألها والدها: (هييْ شهد هل أنتِ معنا؟!...)
فابتسمت في خجل من تحت نقابها وقالت:
( آه..نعم..نعم يا والدي لقد..لقد كنتُ أفكر في الأماكن التي سنزورها)
_ (إذن مالذي تودين زيارته من الأماكن ؟)
_(أمم..هل من الممكن أن نذهب إلى الأماكن التي أحبها كعادتي بعد ذهابنا إلى الذي اقترحته مروج ؟؟)
_ (وما هي الأماكن التي تحبينها يا عزيزتي المهذبة!)
فضحكت مروج لما قاله والد شهد وقالت: (إنها تحترم رأيي لأني أكبر منها..!)
فلكزتها شهد في كتفها وقالت بصوتها الناعم معاتبة:(أنتِ تذلينني بفارق الأسبوع الذي بيننا، إذن سأرد لكِ الصاع بصاعين فأنتِ من جلبتِ ذلك لنفسك"أنا أطول وأرفع منك يا عزيزتي الفحلة!") وضحكت بنعومة ..و مروج ضحكت هي الأخرى وانتبهت شهد لضحك جواد وذلك في اهتزاز كتفيه،وعلّق والدها كمداعبة ومجاراة لما بدآه من مشاكسات طفولية متعمدة:
( حسناً..بما أن شهد هي الأطول كما تدعيان فهي الأوْلى بالأماكن التي تشتهيها وذلك حسب منطق الأطفال وليس ظلماً مني!)
وضحكت شهد واحتجت مروج بشدة قائلة:
(ياعمي لا تصدقها فهي أطول بثلاثة أنامل و هي فخورة لأجلها كثيراً)
وهنا أجاب جواد بدلاً من والد شهد: (وأنتِ أكبر منها بأسبوع ليس أكثر !)
فقالت: (وإن يوماً عند ربك كألف سنةٍ مما تعدون!)
فقال والد شهد وهو يضحك لتلك المشاغبات: (لكن جواد صائب، وما قلتيه هو عند الله في يوم القيامة وليس عندنا....حسناً يا شهد مالذي تريدينه قبل أن تقفز النمرة رورو علينا وتعارضنا بشدة؟...)
فقالت شهد بنبرة حاولت أن تبديها وكأنها متعاطفة مع صديقتها:
( ياحرام..سأحزن لأجل صديقة روحي مروج ولا أرضى الهزيمة لها، فالذي أريده قد لا يناسبها..)
_ (حسناً ماهو؟)
_ (أحب الذهاب إلى المركز التعليمي الترفيهي مرةً كل عام حيث أرى إبداعات الطلبة الجديدة، إذ أن التعليم فيها بالترفيه وهو جميل ،ثم المتاحف الجميلة كالمتاحف الموجودة داخل بعض الحدائق والتي تتميز بعرض تراثنا العريق ثم نتناول العشاء في "تشكي تشيز"في الشرفة المطلة على البحر فما رأيكم؟..)
فقالت مروج: (أوب أوب ..كل هذا تريدينه في ليلةٍ واحدة..إ...)فقاطعها والد شهد:
(نستطيع يا مروج أن نقتصر على مكانين من مقترحات شهد ومقترحاتكِ، فالوقت لا زال عصراً وأمامنا الكثير من الساعات نستمتع بها..)
ومرةً أخرى قال جواد مازحاً: (وأنا يا عمي أين ذهبت؟ ألن تنظروا إليّ ماذا أريد؟ أم أن الفتاتين قد أخذتا الجو عليْ؟..)
فضحك والد شهد وهو يوقف السيارة أمام مدخل شاطئ لاكوستا:
(بلى بلى يا دكتور..قل لي ماذا تريد ياحبيبي؟)قالها بمزاح..
_ (أريدُ يابابا لعباً وحلوى..)
وانفجر الكل ضاحكاً لخفة دم جواد التي أبداها فمنذ زمن لم يستمتعوا بنكاته..وكانت مروج أول من سكت لأنها لم تضحك بل ابتسمت فقط فقلبها لا زال حزيناً وغاضباً من أخيها..
وكانت شهد ضحكتها ناعمة وهادئة كعادتها وبالرغم من ذلك استطاع جواد تمييز صوتها من صوت والدها الذي قد طغى على أجواء السيارة!
وقالت مروج وهي تلتفت يمنةً ويسرى حيث قد تعجبت من وجودهم عند الشاطئ وليس في أماكن شهد التي أرادتها فقال والد شهد: ( سنركب الأبوات أولاً كما أرادت مروج ونأكل الآيس كريم ونبقى حتى أذان العشاء ثم نذهب إلى ما تريده شهد..فما رأيكم؟) ووافقه الجميع واستمتعوا بنزهتهم وعندما ركبوا الزورق البحري"البوت" حاولت شهد أن تبتعد عن مكان تواجد والدها وجواد وراحت هي ومروج تتحدثان وهما مسرورتين..
ثم ذهبوا إلى المركز التعليمي التي أرادت شهد، وشاهدوا الأعمال العلمية الرائعة وأبدت شهد إعجابها بأشياء عدة لفتت انتباهها بدقة صنعها والطريقة الذكية في فكرتها..
وعند تناولهم العشاء في شرفة مطعم تشكي تشيز في حوالي الساعة الثانية عشر في منتصف الليل دُهشوا لدى رؤيتهم لمعاذ وزوجته ووالدة شهد ووالدة مروج،وضحكت مروج وشهد، أما والدة الأخيرة فقد سحبت ابنها معاذ وكأنها لا تعرفهم وجلسوا في طاولة بعيدة عنهم فهي لا تزال غاضبة من زوجها!..
وابتسم جواد وغمز لمعاذ من بعيد والذي أشار له بأنها غاضبة على الآخر...!
وتناولوا العشاء ثم انصرفت شهد ومروج إلى حيث طاولة والدتيهما وأخذتا تتحدثان معهما وتُضاحكانهما..
وفي طريقهم إلى المنزل قال جواد مخاطباً أخته:
(مروج..لا أراكِ تطلبين حديقة الألعاب الكهربائية العملاقة كما كنتِ سابقاً تطلبينني، فجدة على ما أذكر مكتظة بهذه الأشياء..)
فأجابت: (لا حاجة لنا بما يفسد علينا أمر ديننا حيث لا تخلو تلك من الاختلاط المحرم، فلو كان هنالك منتزهات خاصة بالنساء لكنّا أول من يذهب إليها..)
_ (لكن هنالك بعض الألعاب التي تهتم بعمل لفّة خاصة بالرجال ثم التي تليها خاصة بالنساء..أنتن منغلقات على أنفسكن تماماً..)
فقال والد شهد: (قد يكون من الصعب عليهن أن يتقبلن الفكرة يا دكتور، وهما عندما تريدان ذلك نذهب بهما إلى مكة حيث يتوفر منتزه واحد له أياماً محددة للنساء وأخرى للرجال، وجدة لا يوجد فيها ذلك كمدينة الرياض التي يعجبنا فيها توفر مثل هذه الخصوصيات النسائية الجميلة،فالمرأة المسلمة والسعودية خاصةً لها تدينها وتقاليدها التي تحتم عليها الانعزال عن الرجال، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالقبائل..)
وابتسم جواد ولم يقل شيئاً...
وذهب كلٌ إلى بيته وهو سعيد..
**********************************************
أغلقت شهد المصحف وهي على سجادتها، ثم تنهدت بعمق وأسبلت جفنيها في تراخ وقد ركزت رأسها على مرآة خزانة ثيابها..ثم استسلمت للتفكير..والتوتر يعصف بها وكثرة الأفكار تشوشها في عنف..
لقد كانت أمام قرارٍ صعب وقد طالت مدة انتظار أهلها وأهل جواد للرد عليهم بإجابتها وهي تقول لهم في كل مرة يسألونها عن رأيها بأنها لا زالت تستخير الله..
لقد كانت مترددة حقاً في اتخاذ قرارها ومصير حياتها،على الرغم من إصرار والدتها عليها واتهامها بالتلاعب بكل خاطب يتقدم إليها ،وتأكيدها بأنه إنسان طيب وصالح وأهله طيبون، وشهد _ في الحقيقة_ في غير حاجة لمعرفة ذلك فضلاً عن التأكيد لأنها تعرفهم أكثر مما يجب!
ربما الوحيد الذي قد فهم ما يدور في عقلها ويعتصر قلبها في حيرةٍ كبيرة هو صديق جواد المقرب إليه منذ زمن:"معاذ" أخوها..
لقد تحدث معها ذات مرة وترك لها الخيار في اتخاذ القرار بعد أن وضّح لها كيف هو جواد الحالي وليس كما كان في السابق! وشعرت بأنه حزين لأجله ومتعجب في نفس الوقت "فهذه العائلتين ملتزمة ومحافظة كثيراً وقد كان فيها جواد ذا شأن عظيم"..
مُعاذ يعلم كم أخته متدينة ومحافظة ولها مقاييس ومواصفات خاصة في شريك الحياة حتى أنها رفضت الكثيرين بسبب اختلال شيئاً من هذه الشروط التي يوافقها عليها معاذ، فشهد قبل أن تكون أخته هي صديقته المقربة والمتفهمة..
عادت شهد ونفضت عنها الأفكار واستعادت بالرغم منها شريط الذكريات القديم عندما كان جواد ذلك الشاب الملتزم والخلوق،صاحب اللحية الصغيرة والمتناسبة مع سنه ، والسواك والمصحف اللذان يلازمان جيب ثوبه والتي بسبب ذلك يخفق قلبها في انبهار لتلك الطلعة البهية والمحترمة، وتتذكر قول عائشة رضي الله عنها في شأن جمال الرجال في لحاهم !
والآن.. لقد فارق جواد ذاك الجمال وتلك الطلعة بعد عودته من بريطانيا ولا زالت أحاديث مروج وقصصها عنه عالقة في رأسها..
هي تريد أن توفق بينه وبين صديقة روحها شهد بالحلال قبل أن يريد الجميع ذلك" فجمال خُلقٍ ودين، وجمال خِلقةٍ جذابة!" لكن مروج شعرت بحيرة شهد في هذا الموضوع ومدى تشتتها والصراع الذي تعاني منه، ولم تشأ معارضتها أو الإلحاح عليها فلن تقف موقف أهل الخاطب أمام شهد فهذه الأخيرة أصبحت أهم لديها من أخيها!
ومن جديد اقتحمت مواقف طفولية آتية من بعيد إلى عقلها، وأجبرتها على المكوث في نهرها..نهر الذكريات الجميلة..
تمثلت لها مروج بفستانها اللطيف ذا اللون السماوي والذي تصر دوماً على ارتداءه بالرغم من شراء أمها العديد من الثياب الحديثة،وبشعرها الأسود الفاحم والذي تقوم بتضفيره إلى ضفيرتين جذابتين تنساب على وجهها البيضاوي..وجواد بطاقيته الشبابية ونظارته الشمسية التي يرتديها دوماً حتى في الليل!
ومعاذ هو الآخر بخفة دمه وحركاته المرحة، وهي بشعرها الكستنائي والذي تأبى رفعه بالشرائط والبكل المطاطية وتتركه مفتوحاً بلا شيء لأنها تحب مداعبة الهواء له كما سندريلاّ!، وبفستانها الوردي الحريري أو الأحمر القطيفة واللذين كانت تُغضب أمها في ارتداءه أثناء اللعب بالرغم من غلاء سعره وعدم مناسبته للعلب مقتديةً في عنادها الطفولي عناد صديقتها مروج لأمها..وبعينيها الخضرواتين والتي قد ورثتها من جدتها التركية،و اللتان تجعلان جواد في حيرة دوماً إزاء لونيهما الفاتن!
وابتسمت لتلك الذكريات التي لم تنسها على الرغم من مرور السنين الطويلة عليها..ذكريات الطفولة البريئة خصوصاً عندما كان معاذ وجواد شديدا الغيرة على شهد ومروج لأنه في اعتقادهما قد أصبحا رجلين يخافان عليهما..
وانحدرت دمعة عاصية من عينيها الناعستين تأبى إلا الخروج كمشاركة وجدانية لتلك الذكريات الممتعة والجميلة..
ومسحتها بخفة وابتسمت!
ثم وقفت وخلعت غطاء الصلاة وفتحت خزانتها لتضع المصحف فقابلتها دمية قماشية صغيرة أهداها جواد لها عندما كانا في الابتدائية ففرحت بها واحتفظت بها دوماً تغسلها كلما اتسخت،وعلّق عليها كرتاً من الورق المقوى كتب عليه"خاص لأغلى الناس" وابتسمت لرداءة الخط، وتعجبت كيف أن الذكريات هاجمتها في وقتٍ واحد وبلا رحمة بالرغم أنها ترى هداياه دوماً كلما فتحت الخزانة..
ثم أخرجت صندوقاً أحمر اللون تزينه الشرائط الذهبية ووردة صفراء ذابلة، فابتسمت لدى رؤيتها لها؛ فالأصفر له دلالة خاصة كما تعتقد! وفتحت الصندوق وهي تجلس على سريرها، فإذا بها زجاجة عطرية فارغة و فاخرة النوع كانت قد استهلكتها منذ زمن وقد أهداها لها جواد أيضاً بواسطة مروج في آخر مرة قبل سفره لبريطانيا!،
وأخذت الكرت الذي بجانب الزجاجة والذي تزينه الورود الحمراء والصفراء أيضاً!
وقرأت:"ألف مبروك على النجاح ياعزيزتي شهوده وعقبال الثانوية والدكتوراه،توقيع:جواد المحب لكِ"وقد تخرجت وقتها من الصف الأول ثانوي بنتيجة مذهلة إذ أنه كثيراً ما كان يسمع من مروج أخته أنها من أصعب سنين دراستهما..
وقطع حبل أفكارها طرق والدتها للباب وأسرعت شهد تُعيد الزجاجة مكانها وتقفل باب الخزانة ولكنها قد نسيت دون أن تعلم أمر الكرت، فتُرك مُلقى على السرير..
وأذِنت لأمها بالدخول فألقت السلام وأقفلت الباب خلفها في هدوء ثم جلست فوق السرير..ونظرت لشهد بضع لحظات..
وبدأ قلب شهد بالخفقان وأخذ التوتر في مزاحمة عقلها وتفكيرها، لأنها علمت مسبقاً سبب مجيء أمها..!
ولا مناص من الهروب إذ لا بد من معرفة الحقيقة إن عاجلاً أو آجلا..
وبادرتها والدتها قائلة:(يا ابنتي كفى مماطلة، فأم جواد في شوق لزيارتنا والتنسيق معنا بشأن الموضوع، وجواد _كما أخبرتني ـ يودُ رؤيتك رؤية شرعية، فما الداعي لما تفعلينه وهم يعلمون مسبقاً بموافقتنا؟!)
فنظرت شهد إلى أمها ثم أشاحت بوجهها قائلة:
(أنتم موافقون أما أنا فلا..)
فدهشت الأم لما قالته ابنتها وسألتها:
(ماذا تقولين يا شهد؟!)
فخفضت شهد رأسها وأخذت تداعب خاتماً في إصبعها في محاولة للإمساك برباط جأشها من الانفعال وقالت:
(أمي..بكل صراحة لم يعد يعجبني جواد ، ومروج سبق وأن علمت بموقفي الحالي منه)
فقالت أمها بصوت متقطع يغالبه التعجب:
(لماذا يا ابنتي تفعلين ذلك؟ ما سبب رفضك له وقد كنا موافقون عليه من قبل؟!)
فأجابت وقد عزمت على طرد الحياء و أن تقول حديثاً منظما ومقنعا! :(لقد كنا في الفعل الماضي يا أمي، وكنت وقتها صغيرةً يُعجبني أن أكون مرغوبة ككل الفتيات ليس إلا، أما الآن فلست بالصغيرة التي لا تقيم وزناً للأمور،ولا المتهاونة التي ترفض كل خاطب يتقدم لها وذلك لإحساسها بالنشوة والمتعة من كثرة الخاطبين لها _ كما تظني_، إنني يا أمي أدرك كل حرفٍ أنطق به وأفكر جيداً قبل أن أقول نعم أو لا في كل مرة تقدم فيها أحدهم،فأستخير الله فالأمر كله بيده سبحانه وقد قسّم الأقدار والأرزاق، مكتوب عنده زوجي من سيكون وزوجة جواد من ستكون أيضاً!..) ثم أمسكت بكف أمها وتابعت تقول وهي تنظر في ستائر النافذة:
(أمي..كل الذين تقدموا لي ليسوا كما أريد من حيث قوة الدين والاستقامة على النهج السليم )
فردت أمها وقد بدأ شيءٌ من الغضب يتسلل إلى نبرات صوتها:
(إذن أخبريني بالله عليكِ مالذي لا يعجبك في جواد وقد كنتما في السابق وأنتما صغيران صديقان تحبان بعضيكما وتلعبا سوياً وهذا مالا يخفى علينا..أنت لا تعلمين قدر ما تثيرينه من ضجة بين عائلتينا!)
وقبل أن تفتح شهد فمها لتجيب على تساؤلات أمها والتي ألقتها دفعة واحدة، لاحظت الأخيرة الكرت المُلقى على السرير فتناولته وفتحته ، وبدأ قلب شهد بالخفقان من جديد وبعض القطرات تعلو جبينها..وقرأت أمها الكلمات ثم نظرت إلى شهد التي تفرك يديها في توتر ملحوظ وأعادت النظر مجدداً إلى الكرت وكأنها أرادت الاستيعاب والتفكير في الأمر..
وأخيراً قالت:(إن كان قولكِ صحيحاً فما سر هذا الكرت؟! لابد أن الذكريات قد طافت بكِ وها أنتِ تتمردين عليها وعلى قلبك!)
فقالت شهد متسائلة:(قلبي؟!)
إلا أن الأم بقيت صامتة لبضع ثواني أمسكت بعدها بكف شهد وقالت:(إنني لا أجد تفسيراً لما تقولي وتفعلي من تناقض! فهل أخبرتني بما يجول في خاطرك وتتضارب له مشاعرك؟)
وبقيت شهد صامتة لفترة،تنظر إلى الأرض أو النافذة ثم استجمعت قوتها وقالت متنهدة:
(أمي..جواد هذا.. ليس الذي أريده زوجاً وشريكاً لي، إنني أرضى بجواد السابق قبل سفره وتبدل حاله، أحضروه إليّ كي أوافق عليه من دون تفكير!)
وقضبت أمها بجبينها قائلة:(إنني لا أفهم، جواد شخص واحد فأنّى لنا بالزمن الماضي؟)
فتابعت شهد حديثها:(أمي ..لا يخفى عليكِ كيف كان جواد في السابق، وكيف هو الآن بعد تلك الفترة التي انقطع فيها عن المجيء، يكفي أنه قد صار يحلق لحيته ويشرب "الدخان" ويطيل ثوبه علامات عدم الصلاح، مروج يا أمي أكثر إنسانة متأثرة من حاله فتجدينها تحدثني آسفة عليه بما يقول ويفعل والعبرات تخنقها بشدة..أمي صدقيني إنني لو علمتُ بأنه قد عاد لما كان عليه سابقاً لعدتُ ووافقت عليه،وربما لطلبت منك إعلامهم بالأمر).. قالت جملتها الأخيرة في محاولة لتطييب خاطر أمها ليس إلاّ!..
وفكرت أمها في ابنتها وما قالته منذ قليل،إنها تعلم في قرارة نفسها مدى ماعلى ابنتها من صلاح وتُقى حتى أن الذي يعرفها ليجزم بأنه لا يستحقها إلا من هو مثلها ليسيران على الدرب الطويل سويا..
وقالت في محاولة لإقناعها لأنها تعرف أهل جواد وقد عاشتا سوياً_ هي وأمه_ منذ الصغر:
(يا ابنتي ..المعدن الطيب يبقى من الداخل نظيفاً حتى وإن علته بعض الأتربة والأغطية فلا بد أن يعود ويطهر نفسه من جديد إن سار معه شخصاً يسدي إليه النصيحة ويوجهه برفق نحو الخير(( ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)) فإنكِ إن تزوجتيه يا ابنتي ستقومين عليه خير قيام من النصح والتوجيه خصوصاً وهو يكنُ لك إعجابه وحبه كما هو واضح ومعروف لدى الجميع،، ثم أنها فترة لا بد منها أثناء السفر و تستمر بعد العودة بفترة وجيزة وبعدها سيعود كما كان بإذن الله،يعود لعاداته وتقاليده لأنه قريبٌ منها والقريب من العين قريب إلى القلب، وبعيد في نفس الوقت عن بريطانيا التي أثرت به حضارتها الزائفة..)
فقالت شهد:
(لقد فكرتُ في أمر أنها فترة ويعود بعدها كما كان،ثم وجدتُ أن هذا ليس بمضمون فهو ليس بمراهق يختار أسلوب عيشه وتصرفاته وفقاً لما تمليه عليه طبيعة سنه ونفسيته وفسيولوجية جسمه في تلك المرحلة، ثم ستتكون شخصيته فيما بعد وتتبلور وتتضح أفكاره وينضج عقله ليسير على هداها طيلة حياته الباقية،إن جواد يا أمي إنساناً ناضجاً وراشدا بل دكتوراً أيضاً وهذا ما يخيفني، فلن يتغير بسهولة إلا أن يشاء الله...)ثم سكتت وتنهدت متابعة حديثها:
(وبخصوص فكرة أن الزوجة تستطيع تغيير زوجها بالحكمة والموعظة الحسنة فهو كلام غير مقبول لديّ فنحن لا نعلم الغيب،والمرأة ضعيفة على كل حال ولن تستطيع أن تؤثر في الأزواج إلا القليلات ممن وفقهن الله وأراد قبل ذلك أن يهدي أزواجهن بقدر مقدّر ومعلوم، إن ما تقولينه يا أمي كمن تتفاءل بزوج مدخن وتقول إنه ليس بسيئ ولا زاني أو يشرب المخدرات وتعزم على نصحه بعد الزواج و ما علمت أن العلماء قد حرّموا التدخين وفقاً للأدلة القرآنية والسنة النبوية،وتفاجأ المسكينة بعد ذاك بعدم قدرتها على التغيير وقد تتأثر بطريقة أسلوبه وعيشه لأنها تريد المحافظة على بيتها، إنني يا أمي أتحدث من واقع ملموس وجاري في أواسطنا وأنا أعرف الكثير من القصص التي على هذا المنوال..إن الزواج حياة طويلة تنشأ فيها الأجيال وأنا لا أستطيع المجازفة بمستقبلي يا أمي ، فاعـذروني أرجوكـم!)
ومرّت عدة لحظات لم تتحدث فيها أياً منهما، وأحسّت شهد بالضيق وإطالة الحديث في هذا الموضوع الذي لا تدري كيف ستنساه!
وقطعت أمها الصمت بقولها كالمستسلم للمصير بعد طول المحاولات:
(إني لا أستطيع إجبارك على ما لا تريدين، لكني سأوضع أمام موقف حرجٍ للغاية،فما الذي سأقوله لأم جواد بعد طول السنين والعِشرة وتلميحاتها المستمرة خلالها بشأنكما بل وتصريحاتها حتى؟؟ أخشى أن تغضب منا أو تقاطعنا ..)
فاقتربت شهد منها وربت على كتفها قائلة:
(لا تخشي شيئاً يا أمي الغالية،إن خالتي أم جواد عاقلة ورزينة وستقدر موقفنا، وأنا لا أتصور قيامها بهدم كل الذي كان بيننا ببساطة نتيجة للقسمة والنصيب التي لا دخل لنا بها، ثم إن حال جواد وسلوكه إن لم يكن قد أدهشها كثيراً فيكفي أنها صارت تقول له"يا دكتور إن الثوب عليك أذوق وأجمل من هذا البنطال الضيق" وتلميحاتها له بأن الدخان مضر فهو بطبيعة وضعه الحالي أعلم بذلك أكثر منها.. كما أخبرتني بذلك مروج) فنظرت الأم إلى وجه شهد ثم وقفت واتجهت إلى النافذة تنظر من خلالها إلى الحديقة في تفكيرٍ عميق..وقالت شهد وقد أحسّت بمعاناة أمها:
(ادعي الله له يا أمي بالهداية..أرجـــوكِ)
فسألتها أمها بعفوية:(وأنتِ هل تفعلين ذلك ؟)
فخفضت شهد رأسها وقد تخضب بحمرة الخجل المعتادة وقالت هامسة:
(ولِمَ لا؟! إني أعتبره أخٌ في الله وأخته أغلى صديقة، ونحن يجب أن نكون كلنا معه في التصدي للإنحراف الذي أتى به من دولة لا تمت لنا بصلة في معتقداتها وأفكارها وحتى ديانتها..)
قالتها ودمعتين متمردتين تكوّرتا في عينيها وتمنت في قرارة نفسها أن تبادر أمها بالخروج قبل أن تنحدرا رغماً عنها وتُفتضَح في مكنون قلبها الرقيق!
وخرجت أمها من الحجرة ولم يكن في مقدورها إلا التوجه إلى الهاتف لتحدد الخطوط الأخيرة..
*****************************************************
توظف جواد في إحدى مستشفيات جدة الحكومية المعروفة، وسارت أموره على نحوٍ ميسّر وممتاز..
ودخل إلى المنزل وهو سعيد، يغني أغنيةً غربـية يبدو أنها تعجبه لأنه يُصرُ على غنائها دوماً أو أنه لا يُتقن غيرها! ثم بدأ بإطلاق صفيراً منغوماً ومميزا عندما رأى مروج قابعة في الردهة خلف مجلةٍ تقرؤها!
فقال يحييها بابتسامة واسعة من شخص قد اشتاق لأهله وإلى الابتسام لهم!:
(هاي رورو..)
فنظرت إليه في لا مبالاة ثم أشاحت بوجهها عنه وتابعت قراءتها وكأنه غير موجود..
فغضب من داخله لفعلتها هذه فهي تتجاهله طيلة الوقت منذ أن قدم من سفره..
وجلس بجانبها ثم انتشل المجلة من يديها يريد أن يتحدث معها بهذا الشأن ،إلا أنها لم ترفع عينييها إليه علامة التضجر منه وقالت:
( ناولني مجلتي لو سمحت!)
فألقى بالمجلة بعيداً وأمسك بكتفيها يجبرها على النظر إليه لكنها لم تفعل أيضاً فقال لها بنفاذ صبر:
( عندما أحدثك أنظري إليّ لو سمحتِ!)
فنظرت إليه وهي تزفر في ضيقٍ وضجر وقال:(جئتُ من بريطانيا وأنا في شوقٍ إليكِ وإلى أمي وأنتِ تقابليني بالجفاء والهجران يا مروج ماذا هناك؟!)فقالت:(فكّ يديك عني أولاً كي أُجيبك)
فتركها وعاد بجسده إلى الخلف ينتظر إجابتها،فتحسست يديها لأنها قد أحسّت بالألم من قبضتيه اللتين لم يدرك أنهما قد آلمتاها..وقال:
( ألن تُجيبـي على سؤالي؟) فوقفت وقالت:
(إن كُنتَ لا تدري فتلك مصيبةٌ....وإن كنتَ تدري فالمصيبةُ أعظمُ..)
فامتعض وجهه وقال في شيءٍ من الحدة:(لا زلتُ لا أفهم، كـلامك وتصرفاتك غريبة، قولي لي ماذا دهاك، أوَ لا أعجبك؟!)
فأجابت وهي تحِلُ ربطة شعرها وتوسده بيدها في لا مبالاة:
و(مالذي يعجبني فيك يا جواد؟ ثيابك الشاذة أم ترانيمك الغربـية الصادحة أم قصة شعرك الحريري أم سيجارتك التي لا تنفك عن أناملك؟؟ أم ماذا أقول فيك بالله عليك؟!)
فوقف وقد أدرك السبب وقال:(هكـذا إذن!)، ثم أخذ يُعرِض نفسه في حركات مسرحية مستفزة وكأنه أراد أن يُوصل إليها أن لا دخل لهذا في كلِ الذي تفعلي وتقولي، و مروج تنظر إليه في تعجب، وقال ونصف ابتسامةٍ قد وجدت طريقها إلى ثغره:
( ماذا في يا مروج الغريـبـة؟ عريسٌ يحتاج إلى عروس!)
فأجابته فوراً بطريقة مستفزة أيضاً:(وأي عروس تقبل بك وبهيئتك المزرية هذه)
فأجاب وهو يقف أمام المرآة التي تزين جدار مدخل البيت ويسرح شعره الفاحم :
(شهد طبعاً..ومن غيرها عروسة الأحلام،هل نسيتِ أم تريدين إغاظتي فحسب؟!)
عندها أطلقت مروج ضحكة ساخرة، فنظر إليها فقالت:(ولا في الأحلام يا جودي..لا تحلُم بها كثيراً فلن يفيد!)
ولم يتحدث جواد بأية كلمة لأنه قد غضب فعلاً هذه المرة..ووجدتها مروج فرصة ثمينة وجيدة لمناقشته بشأن حاله فتابعت:
(جواد..لا تكن مغروراً..فأنت تعرف شهد،فهي فتاة ملتزمة ولن تتزوج رجلاً قد استهتر بقيمه الدينية وعاداته البلدية لمجرد أنه قد درس الطب في بريطانيا!)
فقال:(تتحدثين وكأنهم قد أجابوا علينا، كفى يا مروج أنتِ تهوين حرق أعصابي ونظرتكِ للحياة متزمتة بحتة لا تجدُ طريقاً إلى التطوير ومواكبة متطلبات الحياة التي لابد منها سواءً سعينا لها أم لم نسعى..)
فقالت:(ألم تسأل نفسك لماذا تأخروا في الرد؟؟)
فقال:(هذا حقها وليس من شأني تعجيلها..)
وقطع حديثهما رنين الهاتف فاتجهت نحوه وهي تقول لجواد:
(لا بد أنها ستكون أم شهد، وستُصعق عند سماعك للخبر فأنا على علمٍ بموقف شهد)
ثم أجابت على الهاتف وكان توقعها صائباً حيث كانت أم شهد على الهاتف و التي سألت عن أحوالهم ثم طلبت والدتها فقامت مروج لتنادي أمها من حجرتها وتنظر إلى جواد بنصف عين وتقول:(الآن سترى..) فجلس على الأريكة وعقد ساعديه العريضتين أمام صدره وفتح التلفاز وهو يستند على الوسائد وكأنه أراد تمضية الوقت بدلاً من التفكير في الموضوع قبل حينه..
وجاءت أمه وجلست على الأريكة بعد أن سألت عن ابنها جواد فلم تكن تعلم بوصوله إذ كانت تقرأ القرآن في حجرتها..
وابتدرت أم شهد بالحديث:
(أهلاً أهلاً يا أم معاذ كيف حالكم؟؟ منذ متى لم تحدثينا أو نسمع صوتك..آه.. يبدو أنكِ قد اطمأننتِ لعودة جواد ووجوده معنا......لا بد أنه لم يحملك على محادثتنا إلا البشارة بإذن الله أو ليسَ كذلك؟؟....)
سكتت أم شهد عدة لحظات قالت بعدها:(ليس كذلك ياعزيزتي فاطمة...)
وتفاجأت أم جواد وتملكتها الدهشة وألقت بنظرة خاطفة على جواد الذي اعتدل في جلسته في محاولة سماع ما يدور بينهما..
(ماذا هناك يا أم معاذ ؟ خيرٌ إن شاء الله...)
(يا عزيزتي فاطمة..لستُ أدري ما أقولهُ لكم...)
(ماذا هناك يا نوال؟!...أمكروهٌ لا سمح الله؟...)
(كلا يا أم جواد..كلنا بخير والحمد لله..إلا أن شهد...) فقاطعتها أم جواد وقد تسلل الشك والقلق إليها وبدا على وجهها الشحوب:
(مـــاذا بها شهــد يا نوال؟؟؟....)
(هدئي من روعك يا فاطمة إذ يجب أن تتفهمي الموضوع برمته،فإن القضاء والقدر مكتوبٌ من عنده سبحانه والزواج قسمة ونصيب ورضا من كِلا الطرفين...ونحن لا نستطيع إجبار الفتاة على مالا تريد، فإن كانت من نصيبه سيأخذها ولو بعد حين وإن لم تكن كذلك فلا معارضة على قضاء الله وحكمته............هل أنتِ على الخط يا أم جواد؟!..)
لم تجب أم جواد فلقد تغيرت ملامح وجهها وأُذهِلت من كلام أم شهد ، ولم تستطع أن تقول سوى:
(هل الرفض جاء من شهد أو من أبيها؟؟...)
ووقف جواد مشدوهاً وشاداً على قبضته المستجمعة وهو يقول بغضب لم تريناه فيه"أمه ومروج" من قبل:
(كلا...من غير المعقول..شهـد موافقة عليّ منذ أن كنا صغيرين فلقد وعدتْ بذلك..) قالها وهو يتذكر موقفاً كان يجمعهما منذ الصغر عندما تعاهدا "كأبطال مسلسل كرتوني" أن سوياً حتى يكبرا ..
وأخذ السماعة من يد أمه وكانت هذه المرة الأولى التي يتعامل فيها مع أمه بهذه الطريقة الغير لبقة، ومروج تنظر إليهما في صمت فهي تعلم بعدم موافقة شهد من البداية ولكنها لم تكن تعلم بردة فعل أخوها هذه فقد أحزنتها في الصميم وحاولت أن لا تبديها لهما..
(خالتي أم شهد..لماذا ترفضني شهد؟؟..قولي شيئاً غير ذلك فلا أريد فتاةً غير شهد..)
وبدا الحزن والتأثر على صوت أم شهد:
(لا تغضب أرجوك يا بُني، أنت جديرٌ بالمحبة والثقة..لكننا لا نستطيع الضغط عليها فإن ما قالته لي غريب، و هو أنها تريد رجلاً اسمه"جواد السابق" بهيئته وجمال خلقه وليس "جواد الحاضر" كما تدّعي ولستُ أدري وكأنك لست بشخص واحد!....)
عندها ألقى بسماعة الهاتف بجوار أمه واتجه نحو باب البيت ليخرج..فنادته أمه:(جــواد..جـواد..إلى أين أنت ذاهــب؟؟)
فأدار إليها وجهاً ممتقعاً يشوبه الحزن وأجاب:
(إلى أرض الله الواسعة..فلا مكان لي عند من لا يريدني..) فصاحت أمه في توسل:(ماذا تقول؟؟ إننا نريدك يا بُني..) فقال وهو ينظر إلى مروج في حدة:(لا أعتقد أن مروج تريدني مثلك يا أمي..) واستدارت الأم نحو ابنتها في تعجب فتابع وهو يخاطب مروج بنفس الحدة وقد فتح الباب:
(أنتِ لا تريدين استيعاب أن الأحوال و الأزمان تتغير فيتغير تبعاً لها علم الفقه المعاصر أيضاً، قد أكون قد أخطأتُ كثيراً و في نظرك قد انحرفتُ وتلذذتُ في بريطانيا لكن الواقع يشهد أنني لم ألمس أي فتاة ولو من باب المصافحةً أو الصدفة فطالما أن صديقتكِ التي رفضتني تلازم تفكيري، وديني يردعني فأنا بخير ولله الحمد..) وخرج وقد صفق الباب خلفه في حدة، ومروج تنظر في دهشة فلم يخطر ببالها أبداً مثل هذا التفكير عن أخيها، فإنه في نظرها شريف ومحترم، وإن تغير فلن يقوم بفعل شيءٍ من هذا القبيل..
وسار جواد بسيارته يقطع شوارع المدينة إلى حيث صديقه مصعب في صمتٍ وغضبٍ شديدين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل الثالث
لم يعد جواد إلى المنزل خلال الأربعة الأيام التالية وإنما اكتفى بالرد على والدته عبر الهاتف المحمول والتهرب من إلحاحها عليه بالعودة لأنه في اعتقاده أن ذكرى شهد ستلاحقه إن عاد وسمع مروج تتحدث معها عبر الهاتف، وصار يتغيب عن العمل كثيراً وهو يمكثُ خلال هذه الفترة عند مصعب صديقه العزيز !
ومن جهة شهد تناست الموضوع فلا زال بصيص أمل عودته إلى الصواب يملأ قلبها ويداعب تفكيرها ،وحاولت الاشتغال بما يفيد والتحقت برفقة مروج إلى دار تحفيظ للقرآن الكريم تذهبان إليه في كل يوم بعد صلاة العصر ولا تعودان إلا بعد صلاة المغرب..
وهناك التقتا بصديقة قديمة لهما اسمها(شذى) وهي فتاة متدينة وطيبة، فالابتسامة تلازم شفتيها دوماً بالرغم من معاناتها إذ أنها مصابة بشلل نصفي ولا تتحرك إلا بواسطة العكازين أو المقعد الكهربائي المتحرك..
وبعد انتهاء الدوام تقف جميعهن(شهد ومروج وشذى) يرتدين عباءاتهن ويتحدثن حتى موعد قدوم سياراتهن..
سألت مروج شذى:
(كيف حال نرجس وعبير يا شذى؟ ولِمَ لم تأتيا معكِ إلى الدار؟)
فتنهدت شذى في أسى ثم قالت:(لأنهما مشغولتين في نفسيهما حتى النخاع!)
فقالت شهد:(ربما لو أتتا يوماً معكِ في زيارة سريعة ورأتا ما نحن عليه فستتحمسان للتسجيل!)
فأجابت شذى بعد أن هزت رأسها:(لا فائدة، لقد حاولتُ معهما مراراً ليس في هذا الموضوع فقط بل في كل شيء،لكنهما لا تستجيبان إلى حديثي أو حتى نصائحي بالرغم من أنني أختهما الكبرى..)
ونظرت إليها شهد ومروج بنظرة متعاطفة في مشاركة وجدانية لما تقول فتابعت:
(للأسف..في بيتنا لا يوجد نظام ولا ترتيب أو حتى رقابة في الدخول والخروج فالكل مشغولٌ بشؤونه الخاصة، أبي قد توفي منذ زمن بعيد يرحمه الله وأمي مشغولة بأعمالها وخروجها المستمر بصحبة رفيقاتها على الدوام،وأخوايَ مشغوليْـن بزوجتيهما والأطفال، وأنا..أقع تحت وطأة ضجرهم مني لأنني عاجزة عن المشي إلا بالعكازين فلا من مجيب لنداءاتي بل أُواجه عادةً بالسخرية والنقد المستمرين وهم لا يدرون عني أصلاً!)
فربتتا مروج وشهد على كتفها في حنان ومواساة وقالت مروج :
(كان الله في عونكِ يا عزيزتي شذى، لكن لا تيأسي على هذا النحو لأنه بالصبر يهون كل عذاب ونصب توذقتيه في هذه الحياة الفانية، ويوم القيامة تتمني لو بُليتي أكثر وصبرت على تلك المحن والآلام عندما ترين ثوابك وجزائك الذي أعده الله لكِ بإذن الله...)
ثم سكتت وتابعت تلطف الجو بشيءٍ من مرحها المعتاد بعد تمتمات من شذى وشهد _موافقةً على ما قالته_:
(شوشو لا تهتمي لنظرتهم أو سخريتهم فلك حسناتهم ولهم سيئاتك، ورُب قاعدٍ مثقف يخاف الله خيرٌ من ألفِ ماشٍ قادر لا يخافُ الله..)
قالت جملتها الأخيرة بطريقة مرحة تُوحي بأنها مثلاً حقاً لمن لا يعرف بأنها مجرد دعابة!
وابتسمت شذى لدعابتها اللبقة وضحكت شهد قائلة:
(أهيَ حكمة من حكمِ مروج الفيلسوفةُ العظيمة؟!)
وضحكت مروج بدورها ثم قالت موجهة حديثها لشذى:
(شذى..كثيرةٌ هي البيوت التي لا تخلو من المشاكل والتي لا يعلم بها سوى الله..) ثم أخذت نفساً عميقاً وتابعت تقول:
(أنظري إليّ يا شذى ..مطلقة مظلومة وجميع النفسيات التي تخطر ببالك أطلقيها علي!، فهذا بيتنا قد عاش وحدةً طويلة في غياب جواد ثم لما عاد ولم تطل فرحتنا به غادر البيت من جديد وهو غضبان ولا نعلم أين مقره..)
وأرادت شهد أن تقطع الحديث بقول أي شيء حتى لا تسأل شذى عن سبب مغادرته فتوضح لها مروج بدورها عن الذي حصل
فاستدركت قائلة:(كلنا تحيط به المشاكل حتى وإن كانت قليلة لا يُلتفت لها!)
فسألتها مروج في دهشة وحيرة كبيرتين:(أنتِ يا شهــوودة؟!.. وأنا صديقتكِ المقربة ولا علم لي بها؟ قولي مالذي تعانين منه)
وشعرت شهد أنها قد ارتكبت خطأً فادحا وتخضب وجهها بحمرة الخجل فلن تستطيع أن تخبر مروج أو أي أحد بما في قلبها ،لأن مروج هي أخت الذي قد شغل تفكيرها في الفترة الأخيرة وتعتبر موضوعه مشكلة لا تستطيع حلها حتى بمشاركة أطرافها المتنازعة(القلب والوجدان والعقل والتدين!)
وشعرت شذى بأنها لا تريد الحديث عما أطلقته قبل قليل لسبب ما ..
فنظرت إلى مروج تسألها:(بل أنتِ يا مروج لم توضحي ما فجرتيه قبل قليل وتركتِ الأمر مُبهماً..فما لداعي لهجر أخوكِ لكما أنتِ وأمك في وقتٍ أنتما في حاجة إليه بعد سفر السائق و الخادمة..)
فلكزت مروج شهد في كتفها وغمزت لها بإحدى عينيها قائلة: (السر يكمن خلف شهوودة الحلوة..)
فغضبت شهد وزوت مابين حاجبيها قائلة:
(مروج..! ألم نتفق على عدم مفاتحتكِ لهذا الموضوع أمامي مرةً أخرى؟!) ثم أشاحت بوجهها..
فأجابت مروج وهي تهز كتفيها وتبتسم: (حسنٌ..من أجل هاتين العينين الخضراوتين سأحفظ الاتفاق..لكن شذى ليست بغريبة عنا فهي صديقتنا منذ الطفولة لذلك سأخبرها ثم أغلق فمي بعدها..)
وزفرت شهد في استسلام وضيق فلا مناص من هذا الموقف الحرج وتابعت مروج وهي توجه نظراتها إلى شذى:
(أولاً جواد سيعود بإذن الله فهي حالة غضب مؤقتة ليس إلا، ثانياً لقد كنا وحيدتين فعلاً من قبل، وشهد وأهلها من أقرب الناس إلينا والحمد لله...وبالنسبة لسبب غضب جواد وخروجه المفاجئ منذ أربعة أيام ، ذلك لأنه مصدوم وغاضب من رفض شهودتي له وكأنه متجاهل ما آلت إليه حاله مؤخراً..)
_ (ومالذي حصل له؟!)
_ (يبدو أن جواد قد أعجبته بريطانيا بما فيها من عادات وأشكال وأنماط ،فعاد وقد اصطحب معه شيئاً من تلك الغرائب علينا، وأنتِ قد لا يخفى عليك كيف كان سابقاً ، وباختصار لقد رفضته شهوده لهذا السبب لكنه لم يصدق فهو لا زال يحبها ويظن أنهما في الزمن الماضي عندما كانا صغيران يلعبان سوياً ولا يريدان غيرهما في التدخل بينهما! ويبدو أنه قد أخذ الموضوع من باب نقض العهد والخيانة، وهو في الواقع لا يعلم أنها مفتونة بشخص اسمه جواد الملتزم وليس الآن وهو يمسك بسيجارته، ولو علم بها لعاد بلهفة كبيرة..)
قالت جملتها الأخيرة بصوت منخفض وهي تبتسم وتنظر إلى شهد التي أشاحت بوجهها فلا زالت غاضبة مما جرى من حرج..
_ ( لكن شهد لا بد أنها لا تريده أن يعلم لأنها لا تريده أن يعود لسابق التزامه لأجلها فقط بل من تلقاء نفسه وبتوبةٍ وندم..هذا ما أظنه)
ثم نظرت إلى شهد مبتسمة وسألتها: (أليس كذلك يا شهوده!)
فهزت شهد رأسها موافقة فهي مجبرة على الإجابة..
وقالت لها شذى مرةً أخرى: ( أنتِ محظوظة يا عزيزتي شهد بحبه لكِ وتثيرين بسبب ذلك العواصف!!)
وضحكت مروج أما شهد فقد تخضب وجهها بحمرة الخجل وشردت ببصرها بعيداً وهي تقول في نفسها:
(ربما شذى محقة..لكنه الآن ليس الذي افتخر بحبه لي..)
************************************************************
( من غير المعقول يا أمي أن يترك جواد البيت لمدة خمسة أيام دون أن يعود، وهو يعلم أن أمه وأخته في حاجةٍٍ إليه..إن هذا لغريب من جواد الذي كنتُ أعرف!!)
قالها معاذ لأمه وهما في طريقهما إلى منزل أم جواد، فلقد أرادت أمه أن تخفف عن صديقتها فاطمة وترأب الصدع الذي قد حصل مؤخراً..
- (لقد علّق الآمال الوردية والعريضة في أختك، ثم بعد ذلك حطمتْ هي تلك الآمال بتفكيرٍ لا أدري من أين أتت به ونحن نعرفهم منذ زمنٍ طويل، فحتى وإن تغير قليلاً يا بُني سيبقى أفضل من الغريب الذي لا نعرفه..)
- (لكن يا أمي "اعذريني" فأنا لا أوافقكِ فيما قلتيه، لأن جواد حقاً قد فاجئني، وشهد صائبة فيما فعلت، والله أعلم! ربما يكون في رفضها الخيرٌ له فيعود إلى الصواب إن كان حقاً يحبها..)
فتنهدت أمه، وتابع هو يقول:
(لا تحملي هماً يا أمي فأنا واثق من أن الله سيرزق شهد زوجاً كفؤاً وصالح..وبالنسبة لجواد فقد كنّا مقربيْن من بعضنا في السابق، لذلك فأنا متفاءل من عودته لأمه لأنه طيب السريرة حتى وإن أثر عليه رفقاء السوء..)
وعندما وصلا إلى منزل أم جواد قال لأمه كمواساة و تطييباً لنفسيتها :(هل تذكري يا أمي عندما كنا نذهب سوياً إلى المسجد ونحفظ كتاب الله ونذهب للرحلات بصحبة الأساتذة أم أنكِ قد نسيتي؟)
فابتسمت ابتسامةً خفيفة وأحست بأنها علامة الخير..
واستقبلتها أم جواد بالشحوب وعندما دخلتا إلى المجلس أخذت أم معاذ تواسيها ببعض الكلمات..
وقدِمت مروج وهي تحمل صينية بها أكواب العصير فسلمت على أم معاذ ثم جلست وهي تسمع أمها تقول مخاطبةً أم معاذ:
(مالذي حصل لشهد لترفض ابني وقد كنتُ أخالهما متحابين، فأبني ليس ممن يسكر ويضرب أو يكثر خروجه!)
فهزت أم معاذ رأسها بتفهم وأجابت:
(اعلمُ أنكِ غاضبه وحزينة، وقد يحقُ لكِ ذلك،ولكن كل شيءٍ مكتوب ومقدر، ولا تغضبي مني ان قلت لكِ أن الخطأ قد كان منا منذ البداية إذ ربطناهما ببعضيهما وهما لا يزالان صغيريْن ونحن لا نعلم عما سيحصل في المستقبل..)
فقالت مروج وهي ترتشف العصير: (وأنا في صف خالتي نوال إذ قد ساهمتُ كثيراً في ذلك الخطأ..)
فهزت أم معاذ رأسها بالإيجاب وهي تتذكر ذلك الكرت الذي قد رأته عند شهد..أما أم جواد فقد نظرت إلى مروج في تساؤل.. فتابعت مروج تشرح: (لقد كان جواد يصر عليّ أن أوصل هداياه إلى شهد فكم أهداها من كتب دينية وذات مرة مصحفاً جميل التجليد وزجاجة عطر وغيره..)
فقالت والدتها في غضب: (كل ذلك يحصل وفي النهاية يُرفض؟! ..لكَأني أشعر بأن مصيبةً واقعة لا محالة من تحتِ اتصالاتكما وهمساتكما..)
فضحكت مروج حتى كادت تختنق بالعصير فأخذت تكح ثم قالت:
(مصيبة؟!..ياللكارثة يا أمي كيف وصلت أفكارك إلى هذه الحدود؟!)
_ ( قولي الحقيقة يا مروج..أشهدٌ جادة فيما قررت أم ماذا؟)
_( ان كانا لبعضيهما فسيكون، حتى وإن طال الزمان..فلا تتعجلوا أو تغضبوا، أم تريدون أن تقع فيما لا يحمد عقباه كما حصل لي؟؟)
_ (كيف تقولين ذلك يا مروج؟! وهل تعجلنا في تزويجك أو كنا نعرف بواطن طليقك؟! أم تقصدي مقارنة أخاك بطليقك؟)
_( كلا يا أمي.. كل ما قصدته هو أن الفضة ليس كالذهب في نفاسته..وأنا في الحقيقة أفضل صديقتي شهد على جواد بعد أن تغير، ولا أرضاه لشهد حتى يعود..)
وتذكرت أم معاذ شهد في كلمات مروج المشابهة لها..
_(إيّاكِ أن تتحدثي عن أخيكِ بهذه الطريقة وفي حضرتي،فأنتِ بهذه الطريقة تقبحين منه ومن أوصافه وتمنعينه من الزواج من أي فتاة..)
_( حاضر يا أمي..سامحيني ان أغضبكِ ما قلته، ولكنه سؤال قد سألتينيه وقد أجبتكِ عليه..)
وحاولت أم معاذ تغيير دفة الحديث فسألت مروج:
( كيف حال دار التحفيظ الذي التحقت به برفقة شهد؟)
فأجابت بحماس: (الحمد لله على خير حال..نحن مسرورتان به فهو رائعا ويُشعِرنا بأننا لم نتخلف عن الجلسات الإيمانية التي قد كانت في الجامعة..فهنا نشعر بنسائم الإيمان تلاطف بشراتنا وبروح التقوى تسري في وجداننا ويسقينا زاداً نحن في حاجةٍ إليه طالما أننا نتنفس فوق هذه الأرض، إن قلوبنا متعطشة لذلك على الدوام ونتمنى أن تلتحقي برفقة أمي إلينا فهناك حلقة كاملة لكبيرات السن وستُسران كثيراً..)
فقالت: (ياه..يبدو أنه رائع ومؤثر فكلام الله من أعظم العلوم، ثم إنني أفكر في ذلك فلقد طلبت مني شهد أيضاً وحدثتني كثيراً عنه..)
_ ( وعندما ترينهم يا خالتي ستُسعدين أيما سعادة فالسماحة والوضاءة تعلو وجوههن...) وسكتت بضع لحظات ثم تابعت بعدها وهي تتضحك في سرور: (وهل أخبرتكِ شهد مؤخراً بأننا قد صرنا أستاذتين كما يطلق الأطفال علينا نساعد أستاذتهم في التدريس؟!)
فأجابتها: ( نعم يا عزيزتي..ولِمَ التعجب فأنتما جديرتين بالثقة، فيكما روح النشاط وحب الخير وفقكما الله لفعل الخير دوماً )
فابتسمت مروج ثم أحضرت صينية القهوة وأخذن يتبادلن أطراف الحديث حتى قدم معاذ لأخذ أمه..
****************************************************
( حسناً يا صغيرتي..اختاري كرتاً ثم افتحيه لنرَ ما به..)
نطقت بذلك شهد وهي تخاطب إحدى طالباتها الصغيرات في نفس الوقت الذي قد كانت فيه أمها عند أم جواد ومروج..
فسحبت الصغيرة كرتاً من مجموعة الكروت المبعثرة داخلة سلة الاختيار ثم انفرجت أساريرها وهتفت قائلة في سعادة:
(سورة البلد..) وابتسمت شهد لسعادة الطفلة وقالت : (هيا استعيذي بالله و بسملي ثم اقرأي ماحفظتيه..)
وبدأت الطفلة ترتل وتحبر صوتها رغبةً منها في نيل الدرجة العالية والجائزة المتميزة للطفلة المتميزة، وبعدما انتهت قالت لها شهد: ( بارك الله فيكِ يا"تسنيم" وكثّر الله من أمثالك) ثم قامت من كرسيها واتجهت إلى لوحة حائطية ذات جيوب متعددة معلقةً على الحائط وقد صنعتها برفقة مروج، ووضعت كرتاً وردي اللون قد كتب عليه"ممتاز 10 درجات" في خانة خاصة باسم تسنيم ثم دعت الطالبات بتهنئة صديقتهن لنجاحها في اختبار اليوم.. فقلن جميعاً بصوتٍ واحد وبترنيمٍ عذب:
"يا حافظ القرآن بُوركت من إنسان * من عنده الرحمن حلاّك بالإيمان
يا خير إنســان اعملْ بقــرآنِ * نهجاً ودستورا في كلِ أزمـان"
ثم تابعت شهد تسميع بقية الطالبات ومع كلِ واحدة كانت تصنع لها مثل تسنيم ، وذلك بحسب الدرجة التي استحقتها كل واحدة..
أما نشيد التهنئة والشكر فقد كنّ ينوعنه كما علّمتهن شهد فمرة يقلن"يا حافظ القرآن...." ومرة يقلن:
" جزا الله خيراً من سمعتْ * ولها ولنا من الله جنةً
ت ش ك ر تشكــري تشكــري
ت ش ك ر تشكــري تشكــري "
وبعدما انتهت من جميع الطالبات قالت لهن في حماس: (من يا ترى ترونَ أنها تستحق لقب الملكة المتميزة لهذا اليوم وترتدي التاج الذهبي هذا؟؟) وتناولت من الرف تاجاً معدنياً مطلي باللون الذهبي و منقوش بالورود الحمراء، وكانت قد اشترته خصيصاً للطالبات لكي يتحلين بالأدب والهدوء ويجتهدن في الحفظ، فتحظى به في كل يوم طالبة تعترف جميع الطالبات بتغير سلوكها نحو الأفضل وتميزها عليهن!
فرشحت عدة طالبات طالبة واحدة، وأخريات أخرى..أما شهد فقد قالت: ( حسناً...كلكن مهذبات ومُجدات فما رأيكن بـ"رؤيا"؟ ألا ترون معي أنها أصبحت مؤدبة وتلتزم بالهدوء وعدم التغيب بعد أن كانت تفعل عكس ذلك في السابق؟؟)
فوافقنها غالبية الطالبات" وكانت شهد قد غرست فيهن مع الأيام المحبة والإيثار والبعد عن الشغب والغيرة والتعاون فيما بينهن وذلك بإشراكهن جميعاً في أعمال جماعية كمسابقة بين مجموعات ،والمجموعة التي تكون متعاونة فيما بينها دون مشاحنة أو حسد هي "الفائزة" حتى وإن كان نشاطها ليس بممتاز لكن يكفي أنهن صرن كالخلية الواحدة والجسد الواحد.."
و أخيراً توجت شهد الطفلة بالتاج وقبّلتها مُشجِعة ومُهنئة..
إلا أن طالبة في آخر الصف ارتفع صوتها بالبكاء وهي تقول: (متى أصبح أنا الملكة ؟ إنني مؤدبة متى أصبح..هييي..هيييي..) وتعود للبكاء مرة أخرى..
فرقت لأجلها شهد واقتربت منها قائلة : (لمَ تبكي يا نِهاد؟! لا بد أنكِ ذات يومٍ ستحصلين على التاج كبقية الطالبات، ولكن شرط أن تلتزمي بالشروط التي تستطيعين من خلالها كسب اللقب والتاج، وأنا أراكِ لا تُنصتي لحديثي بكثرة حركتك و إزعاجك للطالبات..)
فقالت الطفلة ولا زالت دموعها عالقة في أهدابها: (لكني لا أتحدث و أحاول الهدوء، فلِمَ لا تُحبيني؟!)
فأجابت شهد وقد شعرت بمدى تأثر الصغيرة وحساسيتها: (ومن قال لكِ ذلك يا نهاد؟!..إنني حقاً أحبكِ كبقية الطالبات ولو كنتُ لا أحبك لعاقبتكِ جرّاء شغبك الذي لا تريدين الاعتراف به، ولما نصحتكِ بهدوء وغرستُ فيك حب الجد والهدوء كبقية صديقاتك.. ثم انظري إلى اسمك والشرائط تزينه في اللوحة الحائطية..)
فنظرت الصغيرة إلى حيث اسمها وكأنها تذكرت وقد بدأت بالاقتناع شيئاً قليلاً..
فتابعت شهد: (ان هنالك العديد من صديقاتك لم يحظين بعد بهذا التاج وليس أنتِ فقط..وسوف تحظَيْن به إن شاء الله إن رأيتُ منكن الذي تستحقونه ..)
ومرّ الموقف بسلام، ثم أعطتهن الدرس الجديد وقرأته لهن بالترتيل والتجويد ثم عن طريق الإنصات إلى شريط القرآن المجود، ثم فسرته لهن تفسيراً سهلاً يتناسب مع أعمارهن..
وعندما قرب موعد الانتهاء من الدوام في هذا اليوم دعتهن للوضوء والتأهب للصلاة بعد أن أخذت التاج من رؤيا وقد استمتعت به الوقت الكافي بين صديقاتها..
وانصرفت شهد إلى أستاذتها لتًسمع ما قد حفظته ، وسألتها عن مروج فقالت بأن ظرفاً قد طرأ عليها واعتذرت لها بالنيابة عن مروج..
وعادت إلى المنزل وفي رأسها العديد من الأفكار والإبداعات التي تود القيام بها في دار الحافظات لتفيد به الصغيرات والكبيرات أيضاً!...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل الرابع
في الأجزاء القادمة ستنضم شخصيات جديدة(شباب وشابات) على القصة فيها صراعات بين القيم وواقعنا المزري، ونشاط شهد ومروج بوسائل دعوية قد أعجبتني من صديقة خاصة!!، والصراع الداخلي لجواد، وبالنسبة لاسم الرواية لم أجد بعد في ذهني اسماً مناسباً به كلمة(جِدة) والتي أراها ضرورية كرد على من قد شوّهت صورة فتيات السعودية بروايتها الساقطة حيث قد وجدتُ نسخاً منها في الأردن! وفي البداية منذ أكثر من عامان أسميتها((ابتسام الفجـــر)) !
|