" أنت قاتل أبي "
جفل فؤادي وأرتعدت أوصالي
أنحبست أنفاسي بداخل صدري وأنا أحدق بها
بت غير قادراً على الحراك , وأكاد أسقط
في شفيرة هاوية مظلمة موحشة ليس لها قاع
دموعها , أنينها , نحيبها , أختناق أنفاسها
جمد الدم في أوردتي
وأفقَدَ جسدي إتزانه
هويتُ أرضاً
من هول المفاجأة
ومن هول الحقيقة
بُهِتُ وصُعِقتُ وقيدتْ الحقيقة قلبي بسلاسل من لهب
صمتت,محدقةً بي وأجفانها مكتنفة بغلافٍ من الدموع
وهي تراني جاثماً بجانبها أحاول حبس دموعي المراقه
عضت شفتها السفلية حتى تمزقت ونزفت بالدماء
قفصها الصدري يتصاعد ومن ثم يهبط سريعاً
لا يسمع منه الا هدير أنفاسها المتلاطمةِ
رفعت كفيها هائجةً لتهبط بهما على الأرض مزلزلةً ماتحتها
صارخةً , ناحبةً
هزت الآوجاع جسدي حتى بات يرتعش بغصاتٍ موجعه
تركزت عيناي عليها بضباب يكسوها وبمرور تموجاتٍ هوائية منقبضةٍ من رئتي
صمت
حتى بات الصمت أصعب من الكلام
عتَقَ لساني فتكلمت :
" إنــــي"
" أســــف"
تحشرجت أنفاسي بجوفي حتى بت أختنق بها
أرتفعت أناملي إلى خصلات شعري وبحت لها بصوتٍ مبحوح
" تَــرفه "
" سامحيني أرجوكِ"
" لقد كان خطأً غير مقصود , لم أكن لأقتله إن أتبع أوامري "
أبتلعتُ أنفاسي المرتعشة مضيفاً :" كان من الممكن أن أُقتل "
أمام سكوتها المفاجئ وإتساع حدقي عينيها اللتان تفيضان بالدموع
نظرت إليها بعيون تقطر حزناً , ألماً , مرارة
أضفتُ فيما حركت كفيّ إلى الأعلى
" سأفعل أي شيء تريدينهُ "
أهتز صوتي بموجاتٍ عنيفة
فيما طعنات الخناجر المسمومة تكاد تخترق صدري
" أعرف أن الذي فعلته لا يغتفر "
" ولكنني أسف"
" أسف , أسف "
"أرجوكِ أغفري لي "
همست بهمساتٍ أخترقت طبلة أذني وأوجعت روحي
" لماذا!!"
" لماذا!! "
وضعت كفيها على أذنيها وباتت تصرخ
" كــذب, كــــــذب"
أهتز جسدها الصغير مع نزول كفيها إلى الأرض
وكأنها تحاول التشبث بالأرض التي تقطن تحتها ملتجأةً إليها
وعينيها تجرف دمعة تلو الأخرى
تابعت تمتماتها بأنفاسٍ مختنقةٍ وكفيها ترتطمان بقبضة على الأرض
" لماذا!! لماذاا"
صارخةً تارةً , بايكةً أخرى
ملتقطةً لأنفاسها الهاربة المتبخرة
حتى إستحال وجهها زرقةً قامته
أنهارت أرضاً مختقنةً ودموعها تبصم وجهها بخطوطٍ قانيةٍ متعوجة
أنقطعت أنفاسي من شدة الرعب فهويتُ بجانبها صارخاً بجنون
ممسكاً بجسدها النحيل الخامد وكأن روحها إتنزعت منه هاربةً من الأوجاع
" ترفه , مابكِ ؟ ترفه أستيقظي أرجوكِ"
أستحال الكون أسوداً من حولي
أنجرفت دمعةً تجر ورائها سيلاً من الدموع
حارقةٍ لقلبي , لاكمةً لوجهي
غطت عيني ستائر الظلام وانقطعت التيارات الهوائية عن الوصل إلى أوردة فؤادي
فأصبحت خالي الجوف منزوع الروح
وياليتني أكون مدفوناً تحت أطباق الثرى
صحتُ حتى تقطعت حنجرتي, مناجياً بأسمها
وكفاي ترتطمان بوجنتيها بصفعاتٍ متتاليةٍ
لماذا !!
لماذا , علمت بالحقيقة المدفونة
لماذا يحدث هذا !!
يا إلهي أرجوك أرحمني
أنتشلني صوتٍ خافت مرتعب من عالمٍ تكاد فيه الأرض تتشقق مبتلعةً إياي
ترآت صورة أمي أمام أشعة ضوء المصباح المنبعث من باب الغرفة المفتوح
بتجاعيد تشق وجهها بإنحائات متعوجةٍ منثنيةٍ
صاحت أمي " مابها الفتاة؟ "
بكيتُ مذعوراً " لا أعرف يا أمي "
" لا أعرف"
صرخت ودموعي تتساقط إلى وجهها الخالي من الحياة
"تـرفه أستيقطي أرجوكِ , لا تذهبي عني "
***
جو من الكآبة يحل على ذلك المكان العفن والمتراكم بالغبار
صورة ذياب المبتسم الناظر إليه وهو يقف أمام الباب متكىء عليه
أبي المرتعش والدماء تقطر منه
والذي يهمس بفحيحاً حاراً حارق : "أنه هو !!"
" القاتل"
هززت رأسي , في محاولة لتكذيب مايقوله أبي
محدقةً في ذياب
أنحفر الذعر على وجهي وأنا أراه يصوب بالمسدس نحوي
أزدادت ضربات قلبي جرياً ,حتى بت أرتعش فزعةً , مرتعبةً
لم يكن ذياب إنما شخص أخر مكشر عن إبتسامة مرعبةٍ , سوداء , مظلمة تحاول أفتراسي
هويتُ أرضًا وصحتُ حتى تقطعت أحبالي الصوتية
فصوتي أبى أن يخرج
وكأنني أصبحت خرساء, بكماء , صماء
بات السكون أشبه بصراخ القبور
أهتزت أوتار حنجرتي من شدة الصراخ الصامت
أستيقظت مذعورة , مرتجفةً وزخات العرق تبلل جسدي
أرتفعت كفاي لتحطان على وجهي ماسحة إياه
لأجهش ببكاءٍ مرير
أنه مجرد كابوس , ما بي!!
ولكن !!
" علي"
يا إلهي أرجوك
صوتُ أنفاسٍ خافتةٍ متراكضةٍ وصلت إلى مسامعي
رفعت بصري إلى أرجاء الغرفة
كانت الغرفة شبه ما تكون غارقة في الظلام والسكون
همست :" أمــي "
كانت أم ذياب مضطجعةً على المقعد القاطن بجانب سريري
ورآسها يتأرجح كأرجوحةٍ تحركها الرياح بكل أريحيه
أصواتُ أنفاسها تزداد ثم تنخفض بنخيراً صامت
أتسعتا حدقتا عيني هولاً
لتذكري " تلك الفاجعة "
أنطلقت من جوفي صرخة مخنوقة , وغزت الدموع جفني
رفعت كفي إلى شفتي في محاولة لكتم صيحات حنجرتي وضجيج روحي
" لا أريد التصديق ولا الإستيعاب "
لماذا , يكون هو
ما الذي سأفعلة الآن
صوت أمي الخافت المنادي لي , زاد من أنحدار وفيضان وشق دموعي لوجنتي وإنحباس شهقاتي التي تأبى إلا أن تخنق رئتيّ وتقتل روحي
جاني صوتها الخائف المهتز بتردادت تكاد تخترق طبلة أذني مفجرةً إياها
" أبنتي أأنتِ بخير "
هززت رأسي ململةً رماد روحي المحروقة
أختنقت أنفاسي وتقلص جوفي مع خروجها من غرفتي
أنهرت على فراشي صائحةٍ , باكيةٍ
حتى كادت تتشقق وتتقطع عيني وتنزف قطرات الدم وتنجرف إلى قعر بحيرة دموية موحلة
" لماذا يكون هو "
يالتني مت قبل أن أعرف هذا
يايلتني لم أكتشف هذه الحقيقة ولم ألتقي بعلي
غطت أجفاني مقلتاي وطيف ذكرياتٍ ضبابية أجتاحت خلايا العصبية مرسلة تذبذات كهربائية إلى عقلي
أقسمت إلى أبي طوال سنيني الماضية أن أقتل قاتله أو أن أنتقم منه
أن أثأر لهُ بأية طريقة
أرتفعت كفاي لتحتضن جسدي وكلمات علي تتشاجر في ذهني بضجيج يكاد يرمني أرضاً
" أقتليه , أنتقمي لأبي منه "
زحفت كفي إلى مايقع في خزانة سريري , ففتحتها مخرجة
ذلك الخنجر الذي أعطاني إياه علي قبل أن يوصلني إلى المنزل
يريدني أن أطعن ذياب به وأرديه صريعاً , وأهرب فيما بعد إليه لنعيش بسعادة
ولكن كيف لي أن أقتل ذياب! من أين لي بالسعادة ! لو كان غيره لما ترددت لثانية واحدة
ولكنه ذياب " ذياب الذي أحبه "
نعم أحبه " لأنه حياتي , لأنها لاتوجد حياة من دونه "
أرتفعت أصابعي إلى خصلات شعري وأنا أهزه رأسي بحركةٍ متواصلةٍ , لا!!
أنه قاتل أبي , ولقد أستغلني, يجب عليه قتله مثلما قال علي
لآنه عدونا وقاتل أبي
قاتل أبي
أرتفع هدير أنفاسي مع أختناقها بداخل صدري
تدفقت دموعي ممطرةٍ على وجنتي شلالاً من الدموع المتمردة
هوى رأسي على وسادتي لأبكي بتهيج , بكآبةٍ , بتعاسة
****
مرت الأيام طامسة بأقدامها رسوم تلك الأعوام , ناثرةً رماد أغصان تلك الذكريات
أرتفع رآسي عن الوسادة بعد نومي المتقطع الذي بت أعيش عليه
جلست على سريري محتضنة جسدي وعيني تتجولان في الغرفة العابسة ,المظلمة ,الكئيبة
أستحالت الحياة كحبس في زنزانة ضيقةٍ تكسوها خيوط العناكب ولا يسمع من جوانبها إلا دبيب الحشرات
وكأن هذه الزنزانة مع مرور الأيام تزداد ضيقاً وتنكمش على بعضها , مشققةً جدرانها المتصدية حابسةً أنفاس حياة القاطنين ..
أصبحت غير قادرة على بلع لقمةٍ واحدة لأيامٍ عديدة, حتى أستحال وجهي أصفراً وتهالك جسدي بعظام تكاد تشقق مايغطي سطحها ..
تحركتُ بخطواتٍ تكاد ترميني أرضاً, وخرجت من غرفتي ومن المنزل في ليل يغطيه ضوء القمر
متخطيةٍ ذلك الحاجز الذي يفصلني عن الأسطبل ... أرتميت إليها بايكةً ودموعي تفيض بحرقة جارفةٍ أفراحي وأمالي الزائفة , وإبتسامتي التي طمرت بين الأقدام ... تشبثتُ بها مناديه :" دانه أني متعبة,
دانه أني خائفة , أكاد أموت , أكاد أدهس بين العجلات, لماذا يكون ذياب!! .. أتمنى أن يكون مجرد حلم أستيقظ منه الأن , إن كانت حقيقة فأنا لا أريد أن أعيشها, دانه... أرجوكِ أسعفيني "
أحاطت ذراعي برقبتها حتى بت أعتصرها آملة أن أدخلها إلى جسدي , أن أشعر بالحنان ,أن أروي عطش روحي المراقة , بحنجرةٍ تنتحب وتكادُ تتشقق من شح المياة ...
رميت جسدي بجانب المهرة الصغيرة النائمة وأخرجت الخنجر من بين ملابسي نظرت إليه بعينين تجرفان الدموع ... أأقتله... لكي أريح أبي في قبره ... وأزهق روح قلبي ...
أسندت جسدي على الجدار الخشبي ودموعي تنحدر من مقلتي مبللةً كتفي بحرارة لاسعةٍ
لا أستطيع........ كيف لي أن أقتله !!!
همست نفسي " أقتليه أنه قاتل والدك , مزهق روحه بدون ذنب, أنه مجرم , قاتل , لايحمل ضميراً "
أرتفعت كفي إلى وجهي ماسحة دموعي الساخنة البذخة ... تقوست شفتي إلى الأسفل وأنا أحدق بدانه هامسة : قلبي يؤلمني !!
أنحبست أنفاسي بداخل صدري عند رؤيته يقف أمام الباب, فعانقة عيني عينيه غامرة قلبي بأوجاعاً وبغصاتٍ تعلقت في حنجرتي ..
حركت جسدي إلى الخلف إلى أن إلتصقتُ بالجدار , أرتعشت شفتي المقوستان إلى الأسفل بدموع تكاد تفيض من مقلتي ... لمعت عيناه متشحةً بضباب الزوال وظلمة الليل ... وقد أصطبغ الجلد الذي يقع تحت عينيه بلونٍ داكن .. ذلك الوجه الوسيم الحنون بدا شاحباً متألماً..
نطق بإسمي بسكينة الدجى وصفائح الغم والهم تكسوى وجهه:" تـرفه "
أغمضت عيني بتصادم أنفاسي الأهثة بجوفي الزوال
وصرخت : " لااا "
رفعت وجهي إليه بعينين دامعتان وأنطلقت من جوفي سيول من الكلمات المخنوقة : " أرجوك أصمت لا أريد سماع المزيد ... أجل أنت قاتل أبي لقد قلتها لي "... أزدادت حدة صوتي : "ولا أريد سماعها لمرة أخرى أبدا "
أنحفر الذعر على وجهه وهو يحدق بي بعيون متلألأة
أبتلعت أنفاسي صارخة بشدة حتى تقطعت أحبالي الصوتية : " أيها القاتل لا أريد رؤية وجهك أبداً "
أخفضت رأسي إلى الأسفل لتفيض الدموع من مقلتي ثم تنحدر غامرة وجنتي بسيولٍ من الدموع الساخنة .
جائتني همساته الحانية , المتعبة والمتألمة : " تـرفه , ما الذي يجب عليه فعله ؟! أعرف أنه ليس هنالك حل ولكن أرجوكِ لاتفعلي بنفسكِ هاكذا , لا تزهقي روحكِ , لا تؤلمي قلبكِ, لا تتعبي جسدكِ , أرجوكِ لاتعذبني بتعذيب روحك , سأفعل كل الذي تريدنه ولكن كفي عن هذا !!"
أرتفعت كفاي إلى شعر رأسي المكشوف والمنتشر حول وجهي , إني متعبة , وأكاد أموت من الطعنات التي تخترق صدري ...أمسكت بالخنجر ونهضت رافعةً إياهُ أمام وجهي ...
أتسعت حدقتا عيني وتطاير الغضب منهما
صرخت بجنون " سأقتلك نعم سأقتلك أنتقاماً لأبي "
نهاية المعانقة الرابعة