المعانقة الثالثة عشر
لطمتُ الحاسوب المحمول بيدي لأغلق جزءه العلوي بقسوة
سيطرة موجة من الغضب عليّ
فوضعتُ كفي اليمنى على جبيني أغرس أناملي فيها , سحقا ! ما الذي يحصل لي !
ليس هذا ماخططتُ له
مَالَ تلك المشاعر تنتاتبني في كل مرة أراها فيها
وتجعلني انفس عن غضبي عليها
وأحاول استغلالها , بجبروت وإجبارها على الانصياع لي بأي وسيلة كانت
مع أنني فاقمة المشكلة بمبالغة مني
من أجل أن أجعلها تستفيق من غبائها , وإهدارها لحياتها
أن أجعلها ترى الأمور على حقيقتها , وتبذل جهدها لتحقيق حياة أفضل لها
بدل إستهتارها في مهنتها
عندما التَمَستُ منها الخوف , خطر لي أن أستغلها بعد معرفتي القصيرة بأنها ابنة أخ راشد
بعد رؤيتي لهم في مركز الشرطة , الذي ذهبت إليه مع مروان لمعرفة مجريات ما يحدث لجدته هناك !
لقد دهشت لرؤيتها هناك , وقد تبين لاحقاً .. أنها قضية حادث سير حدثت لها
إكتشافي لحقيقة علاقتها براشد زاد من بغضي له , وغضبي عليها
فما إستغلالها الآن... إلا لتحطيم راشد ومن معه
بكائها الآن... جعل جسدي يقشعر بالإضافة إلى حمى تواجدها تعاودني ثانية
حمى تلتهمني
فما تأثيرها عليّ في الآونة الأخيرة , إلا لإحساس الذنب المنطوي في أعماق نفسي البشرية
ولكن كيف لي أن لا استغلها... فأقربائها من حطموني واستغلوني بوسيلة قذرة
سرقة كل شيء مني
والإستهزاء بتعب أيام قضيتها معتكفاً لأصل إلى مبتغاي بجهد استنزفت معهُ طاقتي
فمنذ سنة مضت... تم إختيار راشد فيها بروفيسور بدلا مني
تبا لهم !
فأنا من يستحقه بجدارة أكثر من ذلك الحشره الغّبي
الذي لم يتعب نفسه في إختراع مضمون يوصله إلى أعلى المراتب
لم يقم بالدراسة في ليالي طويلة, فهو ليس بالعبقري فقد كان بصعوبة ينجح في أيام الدراسة
فبفضل أخيه استطاع أن يصبح بروفيسور ... وهو ليس جدير بذلك!
بعد أن سرقت بحثه واطلعتُ عليه كان مهترئ المحتوى , ولا يناقش مضمونً جيدا
اشتدّ غيْظي للأنتقام منهم , والتقلب على نجاسة افعالهم
وقمت بنشر بحثيّ في المجلة الأسبوعية الخاصة بالمستشفى
ولكن ذلك لم يجدي نفعاً
فإنتقامي منهم بجعل الكل يرى بحثي وجهدي, لم يردعهم من وضع راشد في القائمة الرئيسية ومحاولة سحقي من قبل البروفيسور خالد بعد اكتشاف مافعلتهُ ..
انتهى عملي عند الثامنة مساءً .... خرجت حينها راغبا في استنشاق بعض الهواء النقي
فضيق صدري قد زاد اضعافا
أشعر بالإرهاق بعد هذا اليوم الحافل بعمليات تتوالى عليّ بشكل متواصل
بخطوات تضرب بلاط من الأحجار مشيت خارجا من المشفى
دَسَسْتُ يديّ في جيوب جاكيتي الجلدي.. ناشدا إغاثته لي و حمايتي من لسعةِ برودة شهر شباط
تسللت أَضَواء مصابيح الشوارع .. لتعكس خطوات خيال أجساد المارة في ظلال الليل
المباني تعوم بصخبها الليلي بأضواء تراقصت على أوجهها
توقفت قدماي على بعد خطوات من جسد طويل القامة , نحيل , يحيط بوجهه حجاب تلون بالسواد
ويكشف عن نصف وجهه أعرفه جيداً .. أنها " أمــل "
أعين تغطت بأهداب كثيفة , ووجه حمل لون مميز لامع
نمت على ثغرها ابتسامة صغيرة اظهرت غمّارةٍ زينت خدها
تقوست شفتيها إلى الاسفل , وهي تطرق برأسها هاربة من النظر إلى واجهة المحل
مسحت أناملها النحيلة دمعة خانتة انسلت من عينيها
وهي تدير ظهرها وتتحرك بخطواتٍ عكست مدى تعبها
حبست أنفاسي للّوحتها التي تلاشت عن مرأى عينيّ
تجرد عالمي من أحاسيسه.. لمنظرها الذي حرّك مشاعري
تاهت روحي في جسدي ... وأنا أمشي وراء شبح جسدها المنهمك بـأفكاره
ضاقت عيناي بذنب اختزنتها نفسي ... وأنا افكر بها , كم بكت اليوم !
أظن أنها بكت الكثير ! بسببي أنا !
بين وشاح الضباب , وظلام الليل تبعتها بالخفاء
انصت لضوضاء صمتها , لأحاديثها المتقطعة والغير مفهومة وهي تمشي
اراقب حركات رأسها الذي يرتفع في كل مرة إلى الأعلى .. لأرفعه أنا الأخر
أنظر إلى ما تنظر إليه.. فلا أرَ غير زخارف النجوم المنقوشة على سماء اجتاحها ظلام الليل
وفي آن اخر أرَ رؤوس المباني العالية
ارتخت عضلات صدري المشدودة , ورحل عني التوتر الجاثم على صدري
مد الدفء حرارته في جسدي
ونبتت ابتسامة واهنة على شفتيّ , وعيناي ترقبان ذلك الجسد الذي انزوى واختفى إلى داخل المبنى
اتسعت عيناي عند أختفاء طيفها من أمامي , بأفكار طفت في دماغي
ما الذي أفعله !
كيف لي أن ألاحق الفتاة إلى هنا ! كيف لي أن أتجرد من الأدب !
لأتبعها إلى هنا ! ألاحقها كالمراهق الأبله , الأحمق , وكأنني من هذا الصنف القذر !
صحيح أنني أستغلها بطريقة مستفزة من أجل تحقيق ما اصبو إليه
للإنتقام من أقرابها الذي يحاولون زحزحتي , ولكن أن افعل هذا !
ان انزع رداء مبادئي وأخلاقيّ , أن أحاول إيذاءها بأي طّريقة كانت
فأنا لم افكر بذلك ... ولا أسعى إليها
ولكنني أشعر أنني قد بدأت في الانحدار إلى هاوية طموحي للرقي لأعلى المناصب واثبات نفسي بكل قوة
ومعاملتها على نحو قاسي جدا يوصلها لحد البكاء , ايقظت مشاعري ... بكائها جعلني ....!
وكأنني تلقيت صفعة ألهبت وجهي , ونفضت جسدِي
لا يمكن أن يحدث هذا ... أنهُ جنون !
كيف لي أن أفكر في امرأة
امرأة تقودها مشاعرها , تفكر بنفسها وتتخلَّى بكل سهولة عن من يحتاجونها
ولا تتقاعس عن رمي أطفالها والتخلي عنهم في أرذل الظروف وأسخفها
كيف لي أن أدخل واحدة إلى حياتي, فجحيم من تسمى التي انجبتي يكفي
يكفي وجودها الكريهه في حياتي , يكفي رميها لي وأنا في أشد حاجتي إليها
لتجعلني أعيش تشرد يراودني ككوابيس إلى الآن!
فأنا لن أدخل بما يسمى بالمرأة إلى حياتي
فحياتي لن تهدر بالتفكير فيها حتى
تخدر جسدي... وأنا أمشي بقدمين تلطمان بساط الأرض بشدة
أختفى كل ما كنت أشعر به منذ دقائق
فذلك الشعور المخادع الذي يحاول ربطي بأنواله الشائكة قد تلاشى الآن تماما
بإنهاك رميت جسدي في زاوية اقحمت بالسواد واستنشقت الغبار
رميت رأسي بين يديّ بغضب تفجر بصدري , يالِ من غبي , أحمق لكي تلعب مشاعري بي !
فما هي إلا استغلال مؤقت وارميه بعد ذلك بلا ضرر قد يقع عليه , بلا جرف يهْوي بي إلى قاعه
لأنها امرأة من نصف أكرههُ ولا تجذبني بشكالتها المستهترة , والمتهورة , وكأنها كتلة من الحمق
ضربت ظهري على الجدار... وأنا أرفع بصري إلى الأمام أحدق بالمارة
تجهم وجهي لرؤية امرأة شابة تقود طفلها معانقة اصابعه بأصابعها كان الصبي الصغير يبتسم وباليد الأخرى يحمل الحلوى بها, قائلاً : " ماما أريد هذا , أشتريه لي ! "
اخفضت بصري أحدق بالحجارة الرمادية المصفوفة والمتراصة تحتي
تبا !
لِمَ هذا الموقف يتجسدُ الآن امامي!
ويعيد شريط جحيم حياتي البائسة !
اغمضت عيناي ... مرت ذكرى تسكنها الكآبة ومزقت بها رزمة أيام تكنزت أوجاع ماضي مضى بحقبة سنين انحدرة لتكسر حاضر رسم آمال زائفة ..
كنت في العاشرة من عمري , أجلس على أرضية تغطت بأحجار حُفر غطائها بالندوب وزخرفتها التشققات
كنت مدثرا بمُلاَءَةُ نقشت بالأوساخ البنية
لقد كنا نعاني شظف العيش , نعيش في بيت يكاد سقفه ينهار على رؤوسنا
فكم كنت أنام بالعراء في ليالي شتوية قارصة
بجسد يرتعش من برودة طقس غشىَ ليله فحيح هواء لا يرحم
عويلهما و صراعهما لم يكن يكف عن ضجيجه ابداً
أبي يبرح جسد أمي بالضرب , وهو سكير ويرميها بكلمات قبيحة المعنى
ضمت ذراعيّ جسدي النحيل بكتاب احتضنه حجري بلهيب شمعة تراقصة راسمة ظِلَالها على جسدي
رسمتُ هلالاً عليها بكفي لعلي أحميها من الإنطفاء
ومن تساقط حبات الندى عليها
حاولت قرأت كتابي المدرسي بوضع سدادة من القماش بداخل أذنيّ
ولكن ذلك لم يجدي نفعاً , فصخب أصواتهم أقوى مما تحتملهُ هذه الخيوط
فجأه ... هب حفيف هواء بارد وأطفاء نار الشمعة
انكمشت ملامحي برعب لاح به وجهي
لرؤيتهما يخرجان معا في صراع عنيف
ضربت قدماي الأرض والهواء معاً وأنا أحاول ابعاد جسدي والإختفاء عن مرائهم
اصطدم جسدي بالحائط الخشبي والتصقت به , بذعر اعتلته روحي
ضربت يديّ أمي صدر أبي وهي تصرخ بشدة عليه , وتشتمه , وتندبُ حظها الذي رماها عليه
فحياتها كانت جميلة قبل زواجها منه وانجابي , فما نحن إلا ظلمة قبر كفنتها الأيام في صدري سنين حياتها المراقة بسببنا, فشبابها قد ضاع هباءً معنا
صرخت عليه بصوت شق سكون الليل : " تبا لك.. فما أنت إلا أرذل خلق الله, لا تعرف عن الحياة الا
الخمر , أتمنى أن يعجل الله بموتك ونرتاح منك , يارب انتقم منه , وخلصنا منه "
قالتها وهي ترفع كفيها متضرعة إلى السماء
جاءتها لطمة قوية من جانب أبي ليسقطها طريحة على الأرض تنتحب بشدة.. تبكي دموع من دم
تقدم بإتجاهي فرميتُ الكتاب من بين يديّ
وأنا أحدق به بأعين طبعت الرعب
شددتُ ذراعيّ حول جسدي في محاولة لحماية نفسي من وسوم سياط ضربه المبرح
وهو في سبات سكره ركلني إلى أن انفتكت جُروح جسدي القديمة
ضربني حتى أدمى جسدي , وطلاءهُ بالكدمات
صحت متوسلاً.. ببكاء قطع حنجرتي بيدين تلتصقان ببعضهما وتطلبان الرحمة تترجيان
روح قد زرع الشيطان بذوره فيها , وقلب قد نزعت الرحمة منه
يشتمني بجسد لا يعي أين موطنهُ
بصق علي.. وهو يمشي مترنحاً بمشيته , راحلا إلى الخارج
رفعت أمي جسدها المنَّكْوب , والمنطوي على الأرض بضجيج نحيبها
صاحت لاعنة حياتها العقيمة , والبائسة معه
حدقت بها من بين دموع أغرقت وجهي
ضربت جسدها وهي تغرز اظافرها في شعرها المتقصف الطويل
وتتقدم نحوي صارخة بي : " إلى ما تنظر , و ماذا تفعل ! سحقا لك ولوالدك "
انطلقت نحوي تجر خطواتها لتنكب على جسدي صافعة إياهُ
ممُسْكة بي من ملابسي الوسخة , والممزقة تشتمني , وتلعنني
وهي تبكي باِلْتِصاق الغبار على وجهها الأبيض الشاب, الجميل
رمتني على الأرض وهي تمسك الكتاب الذي احتضنته أصابعي منذ ثواني
وتقوم بتمزيقه بغضب رامية اوراقه على الأرض
امتصت عيناي دموعها بوجع , وأنا أحملق بكتابي الممزق الممري على الأحجار المختلطة بالمياه والأتربة , اثنيتُ جذعي منكبا على ركبتاي متحركا بسرعة نحو كتابي مجمَّعا لأوراقه
تدفقت الدموع من عينيّ , وأنا أبكي صائحاً : " أمي لِمَ مزقته , لِمَ فعلتِ ذلك , سيضربني الأستاذ ! "
لم تأبه بي إنما صرخت عليّ
اندسستُ في زاوية معتمة بالظلام , محتضناً اوراقي باكيا بصوت مخنوق
منذُ أن ولدت.. لم أكن احظي باهتمامها !
لم أكن إلا مصدر بؤس وازعاج لها, فهي كانت تتمنى عدم وجودي!
تتمنى إختفائي من هذا العالم , وكم وَدِدْتُ أنا ذلك !
طردت ذكراها المأرقة عن ملامح روحي التي استحضرت ذكرى انطوت خلف ستار النسيان
سحبت جسدي لأقف منتصب القامة
بقسوة كست تقاسيم وجهي , ضربةُ الجدار القاطن أمامي لمرة , وعشر
في محاولة لتنفيس غضب اخترنه جسدي في جعبته
مسحت تكتلات العرق المتصبب من جبيني , وأنا أمشي عائدا إلى المشفى
تمزقت انسجتهُ ونزفت بالدماء لتلتحف أصابعه باللون الأحمر
مشى بخطواتٍ نطقتَ الحقد المشبع بالرثاء
تساقطت قطرات الدم لترسم لونها على طريق حوى بصمات ماضي تركهُ ورائه
***
اضطجعتُ على سريري , معانقة ملأءته الملتفة حول جسدي
قاضمة قماشه بعقل تاهّ في دهاليْزه
أنه اليوم الثالث من بعد التقإي بذياب
اقضي وقتي متدثرة بملاءتي
أفكر وأفكر بلا توقف
فلقد جفت دموعي من كثرة البكاء , وأرهق عقلي من التفكير
ما الذي يجب علي فعلهُ !
لِمَ طيفه يسيطر عليْ , ويأتني في أحلامي
لِمَ أشعر بإن عقلي يخوض حربا طاحنة مع نفسي
يا روحي انْتَشِلني من غياهب أفكاري المرهقة !
فأنا متعبة جدا , بجانب اني بت تائهة في عالم لا أعرف أين أقع فيه
أين مكاني أنا !
هل هو عند أمل , وهل من الممكن أن اقضيه معها
بطبع , لا !
كيف لي أن أفعل ذلك... فـ أمل في يوما ما ستستقل ..
وستتزوج .. وستعيش حياتها فما أنا إلا معكر لها ان بقيت لديها
تقوست شفتي في محاولة لمنع إنسكاب دموعي أكثر
النوم هو ملاذي الوحيد للتخلص من كل هذه الفوضى التي تعتمل حياتي
لنسيان حاضر يحيك خيوطه الشائكة عليّ
استيقظت على صوت أمل المنخفض , لأفتح عيناي على اتساعهما
ابتسمت أمل وهي ترسم وجها قلقاً, خجلاً , قائلة : " أسفه لإيقاظك هكذا , ولكن هيا استيقظي لأنني قمت بإعداد عشاء لذيذ واريدك أن تأكلي منه "
رفعت جسدي مستندة على كفاي
أحدق بها من وراء وجه استعاد حاضرهُ , وانتهى من عالم أحلامه, وطوى صفحة كان يغرق في محيطها
هززت رأسي بالرفض , فأنا لا ارغب في أكل آي شي
أريد النوم فقط , أريد النوم إلى أن ينتهي كل شيء !
واستيقظ بعدها ليكون كل ما حدث مجرد كابوس لا حقيقة له !
ابتسم الواقع لي .. هادما لاذات أحلامي البائسة , المستحيلة
جرتني أمل من ذراعي مجبرة إيايّ على النهوض من عشي
مشيتُ متخبطة بخطواتي إلى أن وصلت إلى المطبخ
لتجلسني على المقعد.. وأمامي على الطاولة " صحن باستا بالكريمه " حاولتُ الأكل فطعمها لذيذ ..
ولكن شهيتي كانت معدومة , ومعدتي تطالبني بالتوقف عن الالتهام
أكلتُ ملعقتين مجبرة نفسي على الأكل من أجل أمل
كيف لا آراعيها وهي من تحاول إخارجي بأية وسيلة كانت , من وكر تعاستي السحيقة , والمظلمة
مر الوقت .. وأمل تحاول الحديث معي إلى أن تأقلمت قليلا مع طباعها المرحة
كانت الساعة تشير للتاسعة مساءً عندما جاء لأمل إتصال
ووقفت تتحدث وهي تمشي بعيدا عني
عدتُ إلى كآبتي الخرساء , عدت إلى هواجسي المتوجعة
وكأنني مرمية على قارعة طريق, وقد هجرتني الحياة , لتحيط بي هالة من السوداويه بجسد تذروه الرياح
فروحي تتألم عند اختلائها بنفسها فأمل منذ دقائق قد انستني بدعابتها شيء من الحقيقة
فكم أتوق لنسيان يطمر حقيقة الحاضر ليعود بي إلى ماضي تقبر فيه الحقائق بلا نبش يوقظها
رفعتُ رأسي عند سماع همس أمل المُنادى لي
حدقت بها بدموع غلفت غشاء عيناي
لتتحرك شفتاي بهمس : " نعم "
أقتربت مني ووجهها يغوص في القلق
حاولتُ رسم ابتسامة ناقضت حقيقة توترها لتزفر هواءً حبستهُ رئتيها
لتقول بشفاه احتوت قلقاً : " الرجل "
أغمضت عينيها .. وهي تضيف بسرعة : " أقصد ذياب ... أنــ أنهُ يريد رؤيتك الآن , أنه في الخارج مع عمي راشد "
اتسعت أجفاني دهشة... ليتلوها خفقان ضج به صدري
ذياب... يريد رؤيتي الآن !
وقفت من على المقعد لينطرح على الأرض مصدرا ضجيجا صاخباً
ارتعشت أوصالي.. لتدّفق الدموع من عينيّ
وأنا أهمس , وقد تجرد صوتي من الحياه : " ما الذي يريده ! "
حرّكت أمل كتِفيْها بعدم معرفة
قوست شفتاي متألمة , فكيف لي أن أراهُ الآن ! من المستحيل أن أفعل ذلك !
لهُو صعب على نفسي الهائجة في أمراضها النفسية
قد انهار إذا رأيته لمرة أخرى
واسحق نفسي أمامه أكثر لضعف تحملي لحقيقته
فالقوة التي احتوتها نفسي من قبل قد شيعتها جنازة أسقام الواقع المرير
نطقت شفتاي المرتجفتين بــ : " لا "
وانا أشيح بوجهي عنها و احثى الخطى نحو الغرفة
صارخة من بين دموعي بصوت غمره البكاء : " لا أرغب برؤيته أخبريه بذلك , أخبريه أن لا يأتي لمرة أخر ليراني , أخبريه انني لا اعرفه , أخبريه أنني أكــــــــــــرهه , أخبريه أنني مت "
اِنْخَرَطْتُ في البكاء ..وأنا أركض إلى غرفة أمل لاطمة الباب ورائي
مشيتُ وأنا اتخبط بخطواتي , بدموع أغرقت وجهي واختنقت بها أنفاسي
هويتُ في منتصف الغرفة على الأرض الصلبة , انتحَبَ ورأسي يضرب البلاط البارد من تحتي
وقبضتيّ تضربانها بشدة , لِمَ يحدث معي هذا !
أنني متعبة , أني أكاد أصل إلى حافة الجنون !
كم أتمنى الموت ! لماذا يريد رؤيتي الآن !!! لِمَ لا أريد رؤيته !!
أشتدَّ ضربي لقبضتيّ وأنا أصرخ
جاءتني أمل راكضة وأنا في قمة انهياري النفسي والجسدي
أحتضنتيِ بقوة وهي تحاول تهدئتي , لم استطع ذلك !
إلا بعد أن ربتت بذراعيها على ظهري
وهي تعانقني متمتة بعبارات المواساة
وأنني بخير.. ويجب علي أن أهدأ , لأنها بجانبي , ولن تتخلى عني مهما حصل
فهي تحبني كثيرا
شعرت بالراحة , وصوتي يهتز بأنين خافت تخلل بين دموعي المنهمرة على كتفها
صمتت شهقاتي عن ضجيجها , وهدأت نفسي عن صخبها المتلعثم بعويل روحي
عناق أمل أراحني قليلاً , وجعلني أخرج مكنونات قلبي لها : " أمل ما الذي يجب عليّ فعله ! كيف لي أن أعود إليه بعد الذي فعله ! أمل أني تائهة ومتعبة وأكادُ أصابُ بالجنون! "
لم تكف عيناي عن ذرف دموعها , وأنا أتشبثُ بها أكثر
همست أمل في أذني برقّة رنة بالحنان : " لِمَ تشعرين بهذا , وما الذي فعلهُ لتكوني هكذا ! تَرفه ياحبيبتي أني بئرك , وصديقتكِ وساعطيك النصائح , سأبذل جهدي من اجلكِ ! "
تقوست شفتاي.. بأصابع غَرَستُها في ظهر أمل
لقد اكتفيتُ من الكتمان , وأكتفيت من كبت تعاسة حياتي
أرغب في إشراك أحد ما في أشباح أحزاني ليخفف عني
ليعانق روحي , وينصت إلى ضوضاء نفسي المبعثرة
فلقد بت أجزع من الوقوع في قعر تعاستي المؤديةٍ إلى الانتحار
صحت من بين دموع حملت الألم : " أنــه أنــ .. أنه من قتل أبي ! "
تصلبت أطراف أمل , وأنا دفنتُ رأسي في كتفها أكثر , ببكاء اشّدّة حدّتهُ
لم تنطق بحرف فهي بقيت ساكنة, متجمدة الأطراف لمدة دقائق طويلة
كيف لها أن تصدق الأمر.. فهو إلى الآن بالنسبة إلي غير قابل للتصديق !
ابتعدتُ عنها ... بقدمين اختبأَتا تحت جسدي
احتضنت كفاي بعضها , وأنا أحدق بأناملي المرتعشة التي تنقرها قطرات دموعي
رفعتُ بصري نحوها... لأرَ وجههَا المبهوت والمصعوق المحملق بي
ارتفعت كفها اليمنى لتحل على وجههَا , بشفاه انفتحت ناطقة بدهشة : " ماذا ! "
لطمت أصابعها خدها , وهي تضيف بهلع رسم غمائم الرعب على وجههَا : " ما الذي تقولينهُ ! ما هذا الجنون الذي تهذين به "
اتسعت عينيها بفزع احتلهما , وهي تضرب بكفيها على الأرض
قائلة بصوتٍ كساهُ الذهول : " تَرفه , كيف هذا ! لم أفهم ماتقولينه ! كيف يحصل هذا , يا إلهي ! "
طرحتُ غطاء الكتمان, وأسرار الأيام
ونبشت وحل سنين أثقلت كاهلي
أسررت لها بماضيّ من وراء تعاسة خبأتها ثنايا روحي المرتعشة
تجردتُ من مخبأي المتجمد بجفاء حياة ارهقت نفسي
انهمكت أسرد لها كل شيء
فـربتت أصابع الرثاء على أكتفّي مكفكفة مسرح أحزان نفسي , وقد أزاحت ثقل سنين كفنت ثنايا روحي الثكلى
الذهول غطى تقاسيم وجهها
تجرعت مياه ريقها لمرات عديدة , بخرس ألجم لسانها عن البنس
صمتت تستمع إلي من وراء وجه حمل الألم
و أمسكت أناملها أناملي لتعتصرها مخففة من أعصار إرتجافها
ارتعشت ابتسامتها .. وهي تحدق بي ببحيرة من الدموع طفت في عينيها الواسعتين
استعدت انفاسي المرتجفة
وانا أحاول كتم صيحة بكاء حُبست في صدري , وعامت اوجاعها على وجهي
طليتُ شفتاي بابتسامة كاذبة , عكست صورتها على حدقتيها اللامعة
ابتسامتي لم تكن بإبتسامة , إنما هي إرتعاشة شفاه
فمالِ بتُ لا ابتسم منذ رؤيتي لهُ
فلقد باتت الآن الابتسامة مجرد خيال أحلم به
حتى اني نسيتُ طعمها كيف يكون , فتواجده ايقظ سكون روحي , وازعج نوم ذكرياتي
حتى استيقظ من سباته المتدثر بظلمة القبر
****
مرت الأيام.... كغربة روحي التي نزعت عن جسدها رداء الحياة , بصد كل محاولاته المستميتة لرؤيتي
لن أذعن له !
فجروح قلبي لم تندمل ولن تندمل أبدا
بجانب أن أمل تقف بجانبي في صمتها المنعزل
لم تتفوه بشيء ... منذ أن اسررت لها بالحقيقة
فقط ماتقوم به هو تخفيف جروح قلبي النازفة
الطبطبة على ظهري , تحتضن جسدي , ترويني بحنانها
***
في صباح يوم شتوي خرجتُ من غرفة أمل برداء نومي الابيض
أخطو بخطواتي البطيئة نحو المطبخ , لأصنع لي كوباً من القهوة
جلستُ أحتسي قهوتي بهدوء ناقض صخب الصباح
طال التفكير , وسهى عقلي في دوامة أحزانه
ما الذي يجب عليّ فعله !
فهو لا يكف عن الإلحاح , ولا يتقاعس عن حضوره اليومي من أجل التحدث معي
ذياب !
لاتؤلم قلبي أكثر , أتوسل إليك ابتعد عني , وأرحل عن حياتي لتصبح هادئة فما تواجدك فيها إلا موجع
ويخلّف في نفسي ندوب يصعب شفائها
امتلأت عيناي بسحابة من الدموع , لتهطل قطراتها على وجنتي
رفعت أناملي المرتجفة , وكفكتُ دموعي ولملمت شظايا روحي
كفى ....يا دموعي !
ما لكِ تزهقين أمطارك ببذخ وترف
وتمرضين قلبي معك !
صاح عقلي عليّ :" هو لا يستحق ذلك, لا تنسي أنه قاتل والدك ! أنه مجرم ! وغد ! يجب أن لا يرق قلبك له "
تأوه قلبي : " لا , لا استطيع القسوة عليه.. انه من أعطاني الحنان واحتضنني, فسنين حياتي كانت جميلة معه !"
هززت رأسي في محاولة لطرد صارعي المتكرر العازف على أوتار روحي المنهكة باوجاعها
هب رأسي لزوبعة هرولت أمل الخارجة من غرفتها
وبيدها هاتفها النقال الذي يتأرجح بين أناملها النحيلة
وقفت أمامي وهي تلهث, وقالت بصياح ساخط : " سحقاً أنها الخامسة مساءً , كيف نمت إلى هذا الوقت "
صرخت عليّ وهي تقفز, فارتد وجهي إلى الخلف بخوف توشح به : سأقتل ! لا , بل سيبلعني عامر اليوم كحبة الدواء , سيحولني إلى فأر تجارب , لا ... بل سيقوم بصنع عجينة من لحمي "
أمسكت شعرها المجعد وهي لا تعي ماتفعل
تطوف حول نفسها كالمجنونة , تصرخ لاعنة غبائها ...
لحظه !
حدقتُ إلى ساعة الحائط بحاجبان تعلقان في جبيني, أنها العاشرة صباحاً
ما الذي تهذي به أمل !
وضعت أناملي على وجنتي , وقلت من بين شفاه داعبتها ابتسامة صغيرة غير واعية : " أمــل , أنها العاشره صباحا "
صرَّت مابين عينيها وهي تحدق بساعة الحائط
تجسد الذهول على وجهها ,وهي تحط بأناملها على شفتيها بشهقة صارخة : " تبــا "
نقلت بصرها إلى ساعة هاتفها النقال لتقول وقد غشِيَ صوتها القهر : " هاتفي اللعين "
تأوهت مضيفة : " لقد نسيت أن ساعته اصيبت بالخلل , وأنني لم أصلحها "
ضربت بقدميها الأرض, وهي تتقدم نحوي رامية بالهاتف على طاولة المطبخ المقابلة لها
مطت شفتيها .. وهي تجلس على المقعد المقابل لي فارشة ذراعيها على الطاولة
متثاوبة برأس هوى عليها
وهي تهمس بعباراتٍ مقتضبةٍ : " كادت تصيبني سكتة قلبية من الخوف , تبا له من هاتف فما رنينه في الوقت الغير مناسب قد أرق مضجعي وسلبني الراحة "
رفعت الهاتف المتكوم على وجهه بجانبها, وبشفاه حائره .. قالت : " أووه اتصال من راشد , ما الذي يريده مني في هذا الوقت "
عاودت الاتصال به مجددا وهي مسندة بذقنها على الطاولة
حركت شفتيها وهي ترد عليه : " السلام عليكم , بخير.. كيف حالك ؟ نعم ! "
فتحت شفتيها محدقة بي بعينين اخفيتا توتراً
رمت بنظراتها بعيدا عني , وهي تهم بالوقوف مدخلة اصابعها في شعرها
و تكمل حديثها على الهاتف : " نعم ... حسناً ... سأحاول ... ولكن لا أعدك بشيء ... نعم سأتصل .. حسنا .. إلى اللقاء "
وسوس قلبي بمضمون ماتحتويه هذه المكالمة , وحامت الشكوك حولي , ذياب , على الأكيد انه هو !
انكمشت ملامح وجهي , وقد رحل الهدوء عن نفسي بحرارة الدم الذي بدأ يطرق رأسي
أطرقت برأسي أحدق بسطح الطاولة امنع ضجيج نفسي المكروبة
جاءني همس أمل : " تَرفه "
رفعت رأسي بإتجاهها بوجهٍ تعاركة مشاعره به
حاولت اخفاء هشاشة مشاعري , وثوران أحاسيسي المهمومة
بللت أمل شفتيها بحزن ابتلعته عينيها
عضت شفتيها .. بكفين تقتربان مني لتمسكان أناملي المرتجفة المنطرحة على الطاولة
عانقة أناملها أناملي وهي تشد عليها , وقالت بإبتسامة حزينة : " ترفه أيمكنك سماعي ! "
اغمضت عيناي , وأنا أهز رأسي مشيرة إليها باكمال حديثها ..
أردفت أمل بصوتٍ متوتر شابته الجدية : " أنظري إلي "
فتحتُ عيناي الدامعتين محدقة بها , لتضيف هي : " لن أكذب عليك فلقد فكرتُ بالأمر طيلة الأيام التي
مضت , لم يرفّ لي جفن منذ ذلك اليوم , لم أكن بطبيعتي أبداً , فروحي قد اختزنت حزناً , صحيح أنه
بالنسبة لكِ ليس كما اشعر به أنا , فأنا لن أشعر بما تشعرينه أبداً , ولكن يا ترفه , انظري إلي .. وإسمعيني جيداً, كم سنة قضيتها معه , اظنك قلتِ أنها أكثر من 10 سنوات ؟ "
تقوست شفتاي لكلماتها , ولذكرى رسوم تلك الأيام الراحلة
التي غابت سطوتها عن حياتي , وباتت مغطاة بالضباب
كبحتُ تساقط دموعي , وأنا أنصت إليها
زادت ابتسامتها حزنا على حزن لتكمل : " ترفه ... هذه سنوات طويلة صحيح !
هو فيها احتضنك ,ودللك و لم يحرمك من شيء , فأنتِ قلتِ انه كان يعاملك كمعاملة الأب والاخ .
وكان كل شيء بالنسبة إليك
ولكنه أخفى عنك تلك الحقيقة.. ولكن عندما سقط غطائها.. توسل إليك لتسامحيه , لانه قتله بالخطأ
ودفاعاً عن النفس كما قال لك .. وكاد يقتل من أجل انقاذك , وعرض نفسه للخطر من أجلك أنتِ ! فهو
من حماك من العالم وأنتِ وحيدة يتيمة, هو من أخذك بسبب عقدة الذنب ليربيك ويكفر عن خطيئته ,
وضحى بالكثير من أجلك.. يا ترفه هذا تفسير كل ماقلتيه لي !
إلا يمكنكِ أن تسمعيه لهذه المرة فقط ..
ولكن أنا لا اقول لكِ أن تسامحيه , إنما لا تسامحيه فلأمر راجع إليكِ , ولكن أنظري لما يريده منك !
لمرة واحدة فقط استقبلي إلحاحه , أجعليه يتحدث إليكِ, أجعليه يطرح مافي جعبته وقد يكون ذلك لفائدة لكِ "
اطبق ستار الصمت علينا, وقد تعلقتا عيناي الممتصتين للدموع بعينين أمل
صحيح أنه قد فعل لي كل هذا.. ولكن أبي .... لا !
لا أستطيع ذلك , محادثته , ورؤيته قد يهشم جدار قوتي ..
انبثقت مني شهقة وقد انتهكتُ ستار الصمت...... وانتحبت
رفعت كفاي إلى وجهي أمنع انسكاب دمعاتي , ألملم تشتت قوتي المزعومة
همست أمل بترجي : " لا تبـكي تَرفه , ولكن فكري فيه "
هزمني قلبي
استعدتُ هوسي به
طفت مشاعري على عتبات قلبي وأنزلقت لتذكرني بلذة لقائه
بشوقي لرؤية وجهه , هاجت احاسيسي والتهفت للقياه
قرعت نبضات قلبي صدري , وأنا أقول لأمل: " حسنا قولي له أن يحضر "
انطفاء لهيب مشاعري , عندما أغلقت أمل الهاتف بعد مكالمة قصيرة
تهدج صدري بنبضات قلبي الخائفة من قراري المتسرع للقياه
أحل الجنون على عقلي... لأنسى ماحدث, لمجرد هوسِ قلبي به
انسلت التعاسة إلى روحي نازعة عني فرحتي, طامسة بها إلى قاعها الموحل
فعقلي لم يتوانى عن ازعاجي بحمق ارتكابي لجريمة التفكير للقياه
فأنا الغبية التي تنسى كل شي من اجل قلبها , فلقد تقلبت مشاعري على عقلي
من أجل رؤية ذياب فقط !
لم استطع مقاومة مشاعري الهائجة
ليست لدي المقدرة..
فلقد اشتقت إليه , فروحي عطشى لرؤيته تريد ان ترتوي من بحر عينيه
ارتعش جسدي رهبة ..
عند خروج أمل من الشقة منذ ثواني, ودخوله هو إليها بعد طرقا خفيفا على الباب
دخل بجسده الضخم
واغلق الباب ورائه رفعا رأسه نحوي
بشعر أسود لم يغطيه لحاف, ووجه لوحته أشعة الشمس , وذقن تناثرت عليه الشعيرات الخفيفة
حدق بي بحاجبان تعلقا في جبينه , وبعينين تلألأتا بالفرح المتموج فيهما
طفت ابتسامة دافئة على شفتيه الصلبة
إزدادت ابتسامته اتساعا , وقد طفح على وجهه الحنان الذي اطلق اشعاعاته نحو روحي
حثى خطواته بإتجاهي ببشاشة غطت ملامحه
هوى بصري يحدق بالأرض تحتي.. لقوة حضوره الذي زحزح قيود مشاعري
اختفت الإبتسامة التي اعتلت شفتاي منذ لحظات, ما الذي أفعله الآن !
أأشعر بالسعادة لرؤيته , كيف لي أن افعل ذلك !
رفعت بصري بقوة إليه , بدموع حبستها عيناي
قوة تسلّلت إلي ببرودة الصقيع المتجمد, لتذكري أنه قاتل أبي !
لإستعادتي شريط تلك الذكريات الموحشة والعابسة
تشربت تقاسيم وجهي الكرهه , وابتلعت الآلام
حدقت به بشفاه تقوست إلى الأسفل , فأنا لا استطيع الغفران له !
لا استطيع العودة إليه والعيش معه .. لا استطيع نسيان أنه قاتل أبي
منعت دموعي من الاستسلام لأوجاع قلبي المتضاربة بسببه , أني خائفة !
ولا استطيع الوثوق به ! لأنني جزعة من العاقبة !
مرتعبة من ما قد يحصل مستقبلاً !
تسربت إلى جسدي رجفة عنيفة ... لرؤيته وهو يحدق بي بحزن لمع في عينيه السوداوتين
التفت ذراعاي حول جسدي , وانغرست أظافري في زندي في محاولة لمنع أرتعاش جسدي وتدّفق دموعي
إرتجفت شفتاي , وأنا أقول بصوتٍ حمل الصارمة واهتز بموجة البكاء : " ما الذي تريده ! ولِمَ جئت ! "
قيدت عيناه عيناي السابحتا في صارعهما الهادم لجدار مشاعري
تأوهت مخفية بلْبلة مشاعري , وكأنه شعر بتخبطي في دوامة هواجسي المضطربة
فقال مغيرا دفة الموضوع : " صغيرتي, كيف حالك ؟ "
قالها بنبرة دافئة تموجت بالمشاعر المرهفة
أسكرتني , وافقدتني توازني , وترنحت معها مشاعري الملتهبة
استنشقتُ جزئيات الهواء بصعوبة , وأنا اهمس بسكون ألجم عقلي عن السيطرة على مشاعري المجنونة به : " بخير ! "
ابتسم برقة ارسلت الدفء إلى جسدي , واشبعتهُ بحرارة شوقه إليّ
ضغطت أصابعي أكثر حافرة لحمي , وأنا أحدق بوجهه المبتسم
تقدم مني أكثر ليجلس على الأريكة المقابلة لي
تراكضة نبضات قلبي بتوتر كسا جسدي المرتجف
وأنا اخفض بصري بكف عانقت اناملها بعضها
" ترفه "
نطق بأسمي بغتة .. فقفزتُ خائفة فاغرة الفاه , أحدق به
وأنا في الج هرج مشاعري المضطربة من جراء نداءه لي
قال بهدوء كهدوء الأجواء من حولنا : " أجلسي "
ارتفعت اصابعي نحو حجابي تعبث فيه بتوتر
تقدمت منه خطوة , ووقفت غير قادرة على الجلوس
متعبة من تدهور أنفاس صدري
توسلت عيناه لي , وأرسلت لهفتها إلي .. بأحتضاني , وتخفيف أحزاني
هجمة على وجهي تعابير متوجعة تاهت في أشجان قلبي
جلست مرتعشة متوترة , قلقة من تواجده
لاح وميض الألم في وجهه المحدق بي , ليقول بصوت حمل الوجع : " ترفه ... هل أنتِ بخير , كيف عشتي طيلة العام المنصرم , وما الذي فعله علي لكِ فلقد خفت عليك كثيرا , وأرهقت من البحث عنك حتى داهمني الخوف من حصول مكروهً لكِ "
زفر بعمق مخرجا بركان التعب المتربع على صدره
حاول رسم ابتسامة مطمئنة لي , ولكنها غرقت في بحرا من الأوجاع
جعلت دموعي تسبح في عينيّ , وتنذرني بالهطول
نطقتُ بشفتين عزفتا الألم : " بخير , لقد عشت حياة كريمة و... "
صمت متهتهة , فلقد بترت حنجرتيّ كلماتها , وابتلعتها
فرّتْ نظراتي بعيدا عنه, ورحلت إلى دهاليْز عقلي وارطمت بهواجسي وغمستني في بئرها الحزين
ذياب.... لِمَ تسأل !
فلقد عشتُ جحيما ادمنه عقلي , وعشقه جسدي
صراع ركل جسدي , وطعن قلبي
فقط لمجرد تصدقي انك قد مت.. ورحلت عني
فلقد باتت حياتي قاحلة من بعدك , ومن بعد معرفة حقيقتك !
فيا ليتك تعود ذياب الخالي من الأخطاء
ذياب الطيب , الحنون , الذي لم يؤذي احدا في حياته
إنما أفنى حياته من أجل راحتي , أخذني ليس لأنه قاتل أبي !
اجهشت روحي بعويلها الصامت
وانا امنع انفي من السيل وكشف ضعفي , ولكن دموعي سقطت عنوة !
وتوقفت عند سماعي لعباراته , لهمسه الجاد : " ترفه ... عودي إلي ... عودي للعيش معي فأنا لا استطيع ترككِ لوحدكِ أو العيش بدونكِ "
إِرتدى وجهي رداء الرفض , والصمت.. وضج صدري بخفقان قلبي المتواصل
لم انظر إليه إنما عبس وجهي بلوعة وحسرة , وأنا اقول : " لا ! "
شعرت بوقوفه المفاجئ , فرفعت بصري إليه ...
كان وجهه يشع بالتوتر , وهو يحدق بي بعينين حملاتا لوائح القلق والهم
قال لي بغتة , وقد ثقبت نظراته حدقتي وهي تقفز بقوة مفاجأة: " ترفــه .... تزوجيني "
فغرت فاهي , واتسعت أجفاني دهشة
وثبت من مقعدي محدقة به بهلع نخر رأسي , أخرسني ما قاله !
إنما كذبتُ أذنيّ , فصرخت : " ماااذاا !! " غير واعية به ليعيد كلماته عليّ لعلي اتوهم ما قاله
تموجت عينيه باللطف
وطبعت شفتيه شبح إبتسامة , ليقول بصوتٍ ثابت : " تزوجيني تـَرفه "
كاد يغشى عليّ ... من وقع كلماته على عقلي
فلست قادرة على استيعابها في هذه اللحظة !
يتزوجني ! يتزوجني أنا ! ذياب يعرض الزواج عليّ ! كيف يحدث هذا !
أهو جنون ... أو هي احدى هلوسات عقلي الفاقدة لحقيقة واقعها
التهمت الهواء بشهقة عبرت حويصلاتي الهوائية
وصحت بذهول ... وأنا اقفز إلى الوراء : " ما الذي تقوله ... لا يمكن ! "
اجتاحت الحرارة جسدي , وهاجت نبضات قلبي بعنفا في صدري
وانا استكين في مكاني , بعقل قد جن من تشتت أفكاره
أقترب مني خطوة .. بأصابع أرتفعت إليّ في محاولة لتهدئةِ صخب مشاعري
توقف للحظات.. وطرح يده بجانبه , ووجهه يغوص في إبتسامةِ شفتيه التي طوقتني بمشاعره الجياشة
اللامعة في عينيه : " صغيرتي , أنه الحل المناسب لي ولكِ ... فكيف لنا أن نعيش هكذا..فالبعد قد
أرهقني وسلبني راحتي , ترفه أنت بالنسبة لي كالجوهرة الثمينة إذا اذاها شيء تأذيتٌ أنا معها
ترفه أنا أريدك أنتِ كما أنتِ , ترفه نفسها ..روحها .. إبتسامتها .. طيفها .. شبحها المبتهج في منزلي
.. ترفه القافزة من مكان لأخر ... ترفه مدللتي .. التي لا تكف عن بذخ تدللها عليّ ... أريدك أمام
عينيّ محروسة..أريد حمايتك من كل شيء... أريدك أنتِ ولا أريد أي شي منك ... خذي كلّي لك .. خذي
روحي لكِ فأنها مرخصة لكِ "
نهاية المعانقة الثالثة عشر
نجلاء الريم
قرة عين أمي
الساحرة الصغيرة
أنها لكم