كاتب الموضوع :
حلمْ يُعآنقْ السمَآء
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: أبرياء حتى تثبت إدانتهم
إنهار على احدى درجات السلم ، جالسا بـ ذهول ، يده الحاملة للهاتف تهاوت قربه ، مرت عليه برهة من الزمن وهو شارد الذهن تماما ، لا يرى سوى الضحكة الشقية المرسومة بإتقان على ثغر تلك المشاكسة النابضة بالحياة ، يا الله
هل غادرتهم فعلا ؟
أ جاء عمر مع زوجته لأجل تخليصها من خطر الموت ليفقد شقيقته هناك ؟! سبحانك ربي ، و رحمتك
شعر و كأن جسده رغم ضخامته يفتقر لطاقة تمتلكها نملة ! متخشب الظهر غير واع لجلوسه الغير منطقي هنا " من وجهة نظر سكان هذه العمارة " فهو ليس سوى غريبا في عقر دارهم ، ظل على حاله لفترة ، لا يحس بشئ من حوله ، يحاول رسم خطط مختلفة لكيفية إخباره عمر !
يا رب ، كيف ستؤاتيه الشجاعة لفعلها ، أنى له أن يذبح قلب رفيقه ؟! فرك وجهه مستغفرا بمرارة ، بغداد تحتضر ، فـ يا طبيب الكون هل لك بدواء سريع ؟ تستجديك أراملها و اليتامى و من ثكلت ، فإرحمهم يا ارحم الراحمين
احس بصعود احدهم ، و لم يهتم فعلا بتغيير حاله ، ليفاجئ بـ عديله واقفا امامه ينظر اليه بإستغراب و لهاث عجل يفصل بين كلماته اللا واعية : ها شبيك علي ؟ خير يمعود خوما صار شي وية عمي ؟
أدرك الأخر بكون من قدم جاء على اثر طلب خاص ، و لم يحتاج لتفكير عميق فيدركه المرسل ، زوجة قاسم و من غيرها !
بـ حشرجة انفاس اجابه و هو يستقيم بـ وقفة مائلة مستندة على الدرابزين : اخت نسيبي توفت
: لا إله إلا الله ، انا لله و انا اليه راجعون
البقاء لله اخوية
: و نعم بالله
هز رأسه متمتما بـ خفوت ، بعد ان حمل هاتفه ليبدأ عمله شاحنا نفسه بطاقة " منتهية " ، بغياب ذهني واضح .. صار يلامس صفحة هاتفه ، من دون ان يدرك ما يتوجب عليه فعله ، و الاخر يراقبه بكثير من إهتمام و قلق ، ليقدم على قول : ابو حسين شمحتاج ؟ إعتبرني اخوك
رفع رأسه نحوه ، ليهزه بـ خفة ، و كأنه يود إسترداد ذاته ، فيتحدث بعد حين : متقصر ابو ليث
بس وصلني لمستشفى .... إذا عندك مجـ ـ
: صدق كذب تأمر أمر ، يللا السيارة بباب العمارة ، و اذا تحتاج اي شي ثاني لتتعطل بطلبه
: إلقيلي حجز طيارة اليوم ، لشخصين
: بعيني
؛
لا يدري كم ظل هنا يرافق المنكوبين الباحثين عن ابناءهم ، و أجزائهم ، كم ود لو أنه يشاركهم البكاء و العويل ، لكنه لم يفعل ، فيعلم جيدا بأن لا كف ستطبطب على كتف فقده ، فبكل الأحوال مجبر اخاك لا بطل .. بعد حين من الموت ، إستطاع العثور و " لملمة " ما تبعثر ، و لا يدري أنى له أن يتعرف ، و لكنه فعل !
قال أن الدموع اللبقة لن تعتب عينيه ، لكنه كذب ، فهاهو نشيجه يعلو لتلتقطه الأسماع ، و هو يخفي بقايا الصغيرة في الملاءة ، حاملا اياها بعناية ، و متوجها بها حيث سيارته التي ما إن وصلها و فتح بابها هاجمه العطر و ذكراه الدموي ، لم يمنع نفسه من الإستسلام لرغبته ، و الجلوس خلفا قربها ، واضعا رأسها في حجره ، ماسحا ملامحها للمرة الأخيرة بهذه الحرية ، يحاول إختزان صورتها ، و عطرها ، و الإبتسامة !
ويل لقلبه كيف سيصبر ؟ إنحنى على جبينها يقبله مجددا ، ليهمس بـ رعشة بادية شاعرا بطعم دموعه الممتزجة بشئ من دمها : حبيبتي ، الله يرحمـ ـ ـج ، شقد جنت أحبج ميس ، هواية ، ما أدري شراح اسوي بنفسي وراج ، ما اريدها و الله ما اريد نفسي ، فهميني شلون اصبر ؟
ميس جنتي تدرين ؟ تدرين صديق اخوج المسيحي المخبل يحبج ؟ اصلا مصار مخبل الا لما حبج ! حبج حب مـ حبه بيوم لأي انسان حتى اهله ، بت عمه الي المفروض جانت خطيبته ، أمه .. و هسة ما رح اتعذب من شي بقد ما راح اتعذب من حبج
حبيبتي ، صغيرة ، الله يرحمج
و أسسسف ، أني أسسسف لأن خليتج تروحين .. حيييل أسف ميس ، أسسف يا قلبي لأن ذبحتك بنفسي
قليلا و طرق بذهنه مطرق الإستيعاب ؟ مالذي يفعله ؟ أليس من الأكرم لصغيرته أن تكون تحت رعاية طبية ، فهي تستحق ذلك بعد كل شئ !
تركها مستلقية على المقعد الخلفي ، ليترجل و من ثم يتخذ مكانه خلف المقود ، فض بقايا الدمع من على وجهه ، و تحذير علي يرن بأذنه ، لا أحد عليه أن يعلم بأن قلبه يحتضر و من ثم ترسم له خيالاته ما لن يرضاه بحقها ، لن يسمح ابدا أن تمس الشقية بسوء
.
.
.
الترقب المتوتر هو الوحيد السادي بغلظة فوق بقية المشاعر الساكنة به و هو يتبع علي خارجا من غرفة زوجته .. تاركا إياها متخبطة في الحيرة ، وهو ليس بأفضل منها حالا ، فحتى الآن ، رفيقه لم يفصح عما هنالك ، قلبه يعتصر بالقلق ، يخاف أن تصدق مخاوفه و يكون هنالك شر قد أضمر لأهله !
وجود عديل رفيقه معه شتت رعبه نحو عائلته لبرهة ، فلو كان فعلا ما دخل هذا ؟ لربما المشكلة تعود لعلي ، و إبنة قاسم !!
لم يتوان علي عن الإفصاح بعد أن صار الثلاثة خارج بناية المستشفى ، واقفين بإحدى الحدائق ، تصفعهم الريح الباردة ، و تجمد حركات جسدهم بـ قوة غريبة ، متقابلان بوقفة مهيبة ، أحدهما ينبعث من نظراته القلق ، و الأخر الشجن ، ليكون صوته مسجى بالوجع و هو يبادر بالقول : ابو خطاب ، إنتة مؤمن بقضاء ربك و تدري كلشي مكتوب ، و كلنا على هالطريق
قفز قلبه حتى الحلق ، ليرفع يمينه فوق رأسه ، ضاغطا على جمجمته بقوة ، ليصيح بـ رجفة لم تدعه وشأنه : أمي ؟
تقدم الأخر حتى وضع كفيه فوق كتفي رفيق دربه ، باثا به شئ من تماسك ، هامسا بحرارة مشاعر تتلظى ، و لا يدري لم عصره قلبه على ألن ، فهو من واجه المصاب الأول بمفرده ، لا شئ يتمزق معه سوى وشائج قلبه و حنايا روحه
: ميس ... استشهدت بإنفجار
لا يدري كيف فلت من تحت يديه ، ليخر راكعا بلا طاقة ، جلس علي القرفصاء قربه ، ليتناهى له همساتها الضعيفة المذهولة ، المنهارة : لا إله إلا الله ، لا إله إلا الله ، إنا لله و إنا إليه راجعون ، يااارب لا
اختي
اختي
يارب رحمتك
يارب اختي !
ميس
صغيرة
ربي ، بعدها طفلة
يا رب ،
حسبي الله ونعم الوكيل ، حسبي الله و نعم الوكيل
إنا لله و إنا إليه راجعون
ظل يكرر عبارات المواساة لنفسه حتى هدأت روحه المذبوحة ، و تقبل ذهنه فزع المصاب ، لتنساب دموعه بـ فراسة أب ، والد فقد قرة عينه ، ميس صغيرته ، مدللته ، إنها الأقرب لقلبه ، أكثر شقيقاته ملئا له ، الشقية المشاكسة نبض الجنون في المنزل
سيموت ، منزلهم سيموت بـ ....... غيابها !
يداه المتهاويتان ارضا ، ارتفعتا لتتعاونا على عصر رأسه ، بعقل مغطى بملاءة الصدمة القاتلة صار يردد : شلون ؟ وين جانت ؟ الله ياااخذهم ، الله ياااخذهم شلووون ميخافوون ربهم ، علي أختي شلون ماتت ؟
شد أزره بضغطه الحاد على كتفه ، ليهمس بتفهم ليس من طبعه : أصبر عمر ، إنما الصبر عند المصيبة الأولى ، اذكر الله حتى يقل وجعــك
صاح باعتراض و الحرارة تشع من كل انش من جسده ؛ شاعرا باللهيب الداخلي يترك علاماته على اجزاءه : يقل وجعععي ؟ لك شلعت قلبي من مكانه انتة ، لك هااي مييس ، شدتقوول ، تعرف شنو يعني ميس ؟ ضحكة البيت هاي ، لو مو هية .. كلنا ....
. علي ، احلف والله راحت ؟ لك مدا اصدق ، الصبح خابرتني قلتلي حتروح للشركة ، الصبح تشاقت وياية علمود لين و رزلتها على استهتارها بالحجي ،، سديت التليفون بوجهها .. قلتلها ولي بعد ماريد اسمع صوتج و سديته
أخر شي سمعته صوت ضحكتها و هي تقول " لتحاول ،، متقدر على فراقي " ، تدري ، هية تدري بغلاها ، تدري ما اقدررر ما اسمع صوتها ، علي فدوة لربك انتة متأكد ؟
تلكأ متشبثا بـ امل مدرك بكونه لا يتجاوز كونه سرابا : زين
زين ، زين بلكي بس مصابة ، يعني مو ميتة بس .... إصابات ؟ دخيلك قول احتمال ، قشمرني و قول إحتمال
: عمرررر قول يا الله شبيك ، شنوو هالحجي ، هاي عود انتة الرجال لعد امك وخواتك شراح يصير بيهم
بصدمة لم يستطع تجاوزها نطق : راح يموتون
ليستطرد بـ ألم باد : حقك ركضت ورة قاسم تريد تطفي حرقة قلبك
اختي حرقت قلبي ! حرقته
بأسف حقيقي كرر علي ، و هو يحاول ان يكون عونا حقيقيا في هذه اللحظات : عموري حبيب قلبي
ليبتر مواساته المفرغة من النتيجة بقول : أني لازم اروح ، امي .... هية ، أرييد أشووفهاا
تجلى القلق على ملامحه التي شحبت ، على وصف ألن ، رؤية عمر لها ستؤدي بعقله ، رغم إيمانه الشديد " و الذي يغبطه عليه فهو ما جعله متماسكا حتى هذه اللحظة " ، إلا إن رؤيتها كـ بقايا ستطارده كعفاريت حمراء حتى تفلت منه خيوط اعصابه : ان شاء الله اليوم نروح اني وياك .. وصيت ابو ليث يحجزلنا
فرك وجهه بقسوة ، ماسحا بقايا الدمع .. متمتما بشرود : أمي درت ؟
كان يراقبه بمبالغة في الاهتمام و قلبه ينتفض بصدره مذكرا إياه بحاله عند كل فقد ، والده ، مصطفى و الصغيرتين : لأ
كاد أن يأن بحاجة للإنتحاب ، صورتها طبعت على جدار قرنيته لتراه يهمس متوجعها : لتقولولها ، خلي ارجع
حاكاه علي بتماسك ، محاولا أن يتشبث بالواقعية : مترهم عمر ، منو يقول نحصل حجز اليوم ، واكيد هسة بالاخبار علنوا عن الانفجار يم الشركة و رح ياكلها الخوف
تحرك بتخبط ، ذات اليمين و ذات الشمال ، تارة يفرك شعره ، و أخرى ذقنه ، يليها عنقه النابض بحرارة ، و غم ، بإختناق تسللت الحروف من بين فكيه فخرج صوته غريبا لا يمت له بصلة : أحسن مما تاكلها الحقيقة
وقف قليلا ، و معه مراقبة علي و عبد الله ، اذ تابعا نظراته التائهة و هو يهمس بلا تركيز : ألن .... صار بيه شي ؟
زم شفتيه على ذكر ذلك الاخرق ، ليجيب و كل ما به ينبض بالقلق : لأ
عاود حركته المريبة ، و هو يهمهم بأشياء غريبة لم يتوقعا ان يفهما منها شيئا ، بأخرها توقف مطرقا رأسه نحو القاع ، رافعا كفيه نحو وجهه ، لينطق بتشنج و نبرة البكاء باتت واضحة بصوته : هسة منو يمها ؟ هية وين ؟
إنفطر قلبي الرجلين ، أن يرى رفيقه على شفا الإنهيار محاولا التمسك بقشة لئلا يتكوم ارضا لهو أمر شديد ، يدمي الوريد و ربكم ، تحدث بـ حنو متذبذب : ألن حياخذها للمستشفى ، و خابرت ابو مينا و هوة خابر محمد و راح يروحون وراه
ليزفر بقوة ، ثم يتسمر مكانه و كأنه تذكر توا ، ليحاكي رفيق صباه و الطفولة بترنح بين الشرود و الصحو : إنتة لترجع ، لينا مو مال تبقى وحدها ، و عمليتهـ ـ
ليقاطعه الأخر بثبات لا يرجو النقاش : لازم ارجع ، معليك بلينا عمليتها سهلة ان شاء الله
تغضن جبينه و طنت أذنيه بأصوات متفرقة ، مرعبة ، ضغط صدغه محاولا التخلص من هيمنتها : شنو سهلة ؟ منو يبقى يمها ؟ أختـ ـ ـك تخـ ـاف
كم توجع للفظة " أختك " ، كاد ان يخر راكعا ، ساجدا ، متوسلا رب البرية ان يكون علي كاذبا ، أن يكون ألن ممازحا ، أي شئ ، فقط أن لا يفقد أخته الحبيبة ، مدللته ، مالذي بإستطاعته نسيانه ؟ أي موقف و أي مشاكسة و أي قبلة خد او ضربة على الكتف مباغتة ؟
أنى له أن يبصر نورا بمنزلهم و يسمع دويا للفرح ؟ فرح ؟ و أي فرح سيزورنا بعد فراقها ؟ الحزن وحده من سيرافقنا كـ ظل ظليل ؛ وفيا مخلصا لا يبتعد عنا حتى في أسرتنا ، يحتضننا حتى العصر ، يهشم أضلاعنا الواحد تلو الأخر ، و لا يهتم : خابرت رسل ، و فهمتها الوضع و محجت البنية ، تبقى هية و امها يمها لحدما ارجع اني
ليأتيهم صوت عبد الله متدخلا بتوتر و الألم مرسوم على ملامحه بدقة : علي لتخاف على اختك ، اني هم هنا ، و ان شاء الله يومية اجيب ام ليث تبقى يمها ، إنتو توكلوا على الله ، لتشيلون همها هسة ،، المهم نلقالكم حجز
هز رأسه موافقا ، و ممتنا لـ رجولة عديله ، لينقل بصره حيث المنكوب ، يحادثه بتأني : عمر لتقلها و لتبينلها شي للينا ، نقلها ألن متأذي و رايحين علموده
رفة جفن خفيفة دلت على سماعه ، و موافقته ، ليتحرك بخطى مترنحة متجها نحو إحدى المصطبات ، راميا فوقها جسده الواهن ، المريض بالفقد ، لم يكادوا يهنئوا ، و يسلوا عن فقدان شهيدهم الأكبر ، حسين ، لتتبعه صغيرته
يا إلهي إنها ميس ، كيف سيتصبر بفراقها ؟ أنى له ان يتجرع قارورة العلقم و يلوك الصنوبر بين فكيه دون أن يختنق ؟ هل عانت ذات الوجه الضاحك ؟ هل تألمت و هي تستسلم لقدرها ؟ مالذي كانت تفكر به في اللحظات الأخيرة ؟
أأدركت بأن فقدانها يعني فقدان منزلهم لكل معاني الحياة ؟ سنتضور بعدك بؤسا ، يا صغيرة ، يا حبيبة
: عمر ، رايح اشوف لين
لم يبدي أي إنفعال ، فقط رفع كفيه لوجهه ، فاركا ملامحه بـ رتابة ، صدره يشتعل ، يكاد يستنشق دخان احتراق الاضلع ، يا رحمن ، إرزقنا صبرا و سلوانا ، يارب
أيان مرسى الحزن ؟ أ سيجئ يوما تنطفئ به إنارات المآتم ؟ يتلكئ به الدفانون عن عملهم ؟ هل سنبصر يوما من دون دم ؟ أم إن أراضينا أدمنت السقيا بالدماء ، ما عاد الماء كافيا لها لـ تنبت !
شظايا ، يشعر بروحه انقصمت لشظايا تناثرت و اضاعها ، طعنات غدارة تشق جيب صدره لتساهم في مذبحة القلب و نثر دماه ، يا الله
مالي سواك نصير ، فـ قوني بك
هنالك من تحتجنني ، و أنا أحتاجك ، فـ كن عوني يا رب
حسبي أنت و نعم الوكيل
حسبي أنت و نعم الوكيل
حسبي أنت و نعم الوكيل
.
.
.
: وهسة ؟ نروح لعمتي نقوللها ؟
: ما أدري ، والله ما ادري ، هية قلبها ديلعب .. أني وصيت ام مينا متخليهم يشكون بشي ، بس ما عندي ثقة ميعرفون ، خصوصا هية كل دقيقتين تخابرني
: إنتة الله يسلمك ، لو قايللها الصدق
: محمد صعبة .. خليها عبالها حالتها خطرة احسن
: قولولها لام عمر
إلتفت الإثنان نحوه ، صهرا رفيقه ، قابلهم بنظرة باردة ، مهمهما بـ فتور مهيب " أحسن " ، و هالة الرعب توسعت بـ لطخات الدم المالئة وجهه و ملابسه ، و كأنه قد سبح في وريد الحوت الأزرق !!
تحدث زوج الكبرى بـ تعقل : لا خلينا ننتظر عمر ، وجوده ضروري بالنسبة لأمه
ليقاطعه محمد : بس اخاف يتأخر
فيجيبه الاخر بهدوء ، و نظراته مصوبة نحو المسيحي " المحتضر " : لا جايين بالطريق ، مو مال نقوللها وهية وحدها ، أعرفها متتحمل
توجس الاصغر من نظرات عديله ، ليعلق قاصدا الغريب بينهما : ألن ليش متروح ترتاح ؟ إنتة من الصبح على وقفتك هاي ، على الاقل بدل هدومك اغسل ، و بعدين من يجي عمر إرجع
تغضن جبينه لـ ثانية ، مطرقا رأسه لينظر لـ قميصه المغموس ببركة حمراء ، شاعرا بإلتصاقه على جسده ، حاميا له من اي لفحة برد قد تعصف بالجالسين من حوله ، زفر بضيق ليكبت رغبة ملحة تسكنه للذهاب لمنزل عمر ، يرغب برؤية والدتها ، إحتضانها ، الانتحاب بين ذراعيها ، فهي الاقرب لحزنه ، و الأمثل لـ وجعه منهم جميعا
لم يعير قول محمد إهتماما ، إكتفى بـ تكشيرة خفيفة ، فهذا جل ما إستطاع جسده التعبير عنه ، إنه مرهق ، مرهق حتى الموت !
و زاد الأمر سوءا نوبة الربو التي عصفته ، لتجعله تحت رحمة الأوكسجين المضغوط لأكثر من ساعة ، ليتهم لم يسعوا لإسعافه .. يا ليت
يغمض عينيه بين لحظة و اختها ، يمينه تضغط من فوق القميص على ميدالية السلسلة التي يرتديها ، يشعر بحرارتها تلسع جلده الأبيض ، فتترك عليه وصماتها الحارقة
مر حين من الوقت ، لا يدري إن كان طال او قصر .. لتنتشر ضجة في الانحاء ، جعلتهم الثلاثة يديرون رؤوسهم حيث مصدرها ، إستنفرت وجوه المسلمين ، أما هو ، فـ كأنه وجد الجنة ! استقام من على مقعده ، متابعا الحركة البطيئة لـ تلك الأرملة ، الثكلى ، كان أنانيا لدرجة مرعبة ، فتراه تقبل وجودها بـ راحة ، كان ينتظرها ، فـ أتت !
لحظة فقط و تحولت الأنانية تلك لكومة من رماد ، سرعان ما هبت عليها ريح الإنسانية ، لتتناثر و كأنها لم تكن ، النظرة التي ظهرت في احداقها المتوسعة الزائغة كانت كافية لتجعله يتمنى لكم وجهه بقوة ، ماذا كان سيخسر لو إنه غير ثيابه ؟ تبا له !
تقوس قلبه بجزع ، و هو يتابع ترنحها الأخير ، قبل أن تتهاوى فاقدة للسيطرة ، لكن وجود ابنتيها قربها منعها من الإرتطام بالأرض ، ليتقدم الرجلان بسرعة نحوها ، فيتحركا بها نحو احد المقاعد ، ما إن اجلساها ، حتى صاحت بالجميع بـ رهبة و وجهها الشاحب أخافهم : بتي وييين ؟؟ ميييس وييين ؟ و ديروووا باالكم تكذبوون علية ، قولولي الصدق ، أتحمل ، بتي شصار بيها ؟
وصل سمعه زمجرة الاكبر التي القاها بغضب على قلب زوجته المنتحبة ، يلومها على عدم انتظارها عودة شقيقها للإدلاء بما تعرف ، و مالذي تعرفه من الواقع ؟!
اهتز جسده حينما حل الصمت كجواب للمرأة المثقوب قلبها ، لتفزعه و هي توجه توسلها اليه هذه المرة ، متمتمة بـ ذهول مرتعد : عزة بعيني ، ألن لتقول هذا دم بتي ، أبووس ايدك لتقول دمها
أجفل ليرتد خطوة الى الوراء ، همسها المذبوح خوفا ادماه ، لم يعلم ما الاجدر لفعله ؟ منذ دقائق فقط سألهم أن يخبروها ، و الآن هو من يقف بوجه المدفع مطالبا بإجابة من قبلها و ابتتيها رغم صمتهم ، آراق الحزن دماءه ، و دموعه التي فاضت بها احداقه رافضة النزول خشية على " نقاء صغيرته الراحلة " ؛ فـ وجد نفسه بلا أدنى تماسك يذبل أمام اصرارها ، ليتحرك هذه المرة بإتجاهها ، أشار لـ أية الجالسة جنبها بإنهيار أن تبتعد ، لتأتيها ذراع زوجها منقذة لها ، فيخلو المقعد له ، جلس قربها ، مقررا البوح ، لا نفع من التشبث بخيوط الوهم الشبيهة ببيت عنكبوت ، الألم ذاته بوجود عمر او دونه ، فـ ليتقبلوا خسارتهم الآن ، لن يدركوا عظيم إنكسار عمر لحظة عودته مبصرا الأمل في نظراتهم ، أن يذبحه بمقصلته سيكون ذبحا حادا على قلبه ، أما هو ، فقد إعتاد الوجع ، و اعتاد طعمه
و لن يجد نكهة أكثر مرارة مما يتذوقه الآن ، لا شئ .. فليكف عن يدي رفيقه الجريمة ، ما إن سكن قربها ، رفع كفه ليثبتها على كتفها ، يشيح بنظره دونا عنها ، لا يستطيع ذبحها و ابصار دمعة الموت في مقلتيها الكئيبتين ، سينهار !
ضغط على كتفها ، ليصله صوتها المرتعش ، متوسلته بـ دمع لم تقسو على نفسها و تمنع انحداره على الوجه المفجوع : بس قلي عايشة ، كلشي ما اريد من الدنيا ، بس قلي عايشة الـــن
: خـ ـالة
: بتي عايشة مو ؟ بعدها صغيرة ألن ، فدوة اروحلك لتحرق قلبي
وجد نفسه بلا ادنى شعور ، مائلا نحو رأسها ، بفيض اشجانه الآكله لحم صمته إعترف ، أدلى بما دأب شهورا على إخفاءه و كتمه بل و خنقه !
بنبرة لم تخلو من النشيج الرجولي الأجش نطق هامسا ، حيث لا أذن تستطيع تلقف ما اطلق لسانه المرهق غير أذنها : خالة ..... بتج حرقت قلبي .... حرقتني ....... أخذت روحي وياها و راحـ ـ ـت .... عافتناااا و راااحت
بهت لونها أكثر ، تهدل كتفاها بـ جزع ، تمتمت مرددة خلفه بلا إستيعاب لكل ما قيل : راحت ؟
ليثبت جبينه على كتفها ، تماما كما فعل مع فراشته الشهيدة ، تلك التي كرمت بالطيران نحو الحياة الأنقى ، الحياة التي تستحقها !
عمق الحزن يدفعنا للبوح ، و الفعل الخطأ ، وهي الآن غير مدركة لكل ما يحدث ، فقط وجع ، يداها ، كتفاها ، قدماها ، حتى العينين ، كل ما بها يتلوى وجعا ، دماغها يؤلمها لشدة التفكير ، و لشدة الترهات الكاذبة التي يوهمها بها !
فالقلب كان صريحا ، منذ أن تلقت الخبر من بكرها بكون الصغيرة ' اصيبت ' في إنفجار اليوم ، بل قبل ذلك ، منذ الصباح عندما غادرتها الشقية ، لتعود فتقبل وجنتيها و تعض يدها بـ مشاكستها الدائمة ، إحتضانها كان غريبا ، مخيفا وهي تقول بـ ضحكة لذيذة بعد إن أرغمتها على الخروج من المطبخ " إي إي طرديني ، بس مو من اروح و بعد ما اجي تموتين نفسج تريديني ، ترة اذا راحت ضحكة البيت تبقون بكآبتكم ويييع ، محد يتحملكم ! صدق عموري مكانه خالي ، خابرته داأقله مشتاقتله رزلني الخبيث ، ما أدري شبيكم علية إففف ، يللا بيباي كفوحة خانوم "
لتخرج راكضة و دعوات كفاح خانم تشيعها
هكذا فقط ، هذا كان اللقاء الأخير !!
لا ، لم يكن الأخير ، فقطعة القلب لم تمت ، ألن يكذب ، يهذي ، لابد إنه مخمور ، نعم ، قد يكون سكرانا
حاولت ابعاده عن كتفها و هي تستحلفه بـ بدن يختض : امي لتلعب بأعصابي ، أني حيل ما بية ، ألن خالتك مريضة ، قلي بتي وين اريد اشوفها
ولكم شبيييكم ساكتين ؟ محممممد ؟ عبد الكرييم .. إحجوووا بتي ويين ؟ ولكم مييس وييين ؟ لييش ساكتين ؟
: ألن قلناالك انتظر عمر ، ليش حجيت ، شبيكم انتو لخاطر الله
كانت زمجرة عبد الكريم ، رافضا بعنف ما يحدث من حوله ، ليقف ألن بضياع ، مراقبا بوادر العزاء البادية على وجوه الجميع ، أية منهارة بين يدي زوجها ، و ملك تجلس على مقعد بعيد تكتفي بالعويل الصامت ، عادت انظاره لتحط على الخالة كفاح ، ليراها متشبثة بـ طرف قميصه المنسدل فوق البنطال ، تصرخ به بجزع : لتقووول بتي رااحت ، لتقوول هذااا دمهااا ؟ لك لييش تريد تحرق قلبي ؟ ولك شمسويتلك اني خاالة ؟ قلي شمسوييتلك
هبط رأسه ليحط فوق رأسها مقبلا إياها بنشيج باكي فوق حجابها الأسود ، مكملا سيل الاعترافات الخرقاء ، الماجنة بحق براءة ملاك : خالة عذريني ، عذريني ، قلبي مات وية بتج ، اخذته و راحت ، ما اقدر ، راح اروح ، ادعيلي اصبر ، يمكن اموت ، لازم اموت !
ليتركها فارغة الفاه ، متحركا بعيدا عن الجمع الملكوم قلبه ، مستقبلا صرخاتها المخترقة جسده من كل مساماته
.
.
.
لم يزل المفتاح الإضافي لهذا المنزل بحوزته ، و هذا من افعال الرحمة الإلهية ، فـ رفيقه على أتم إستعداداته لفعل أي شئ بنفسه الآن ، دلف الصالة الهادئة ، و منها الى بقية الأقسام ، ماسحا بنظراته المتوترة المكان ، فـ سيارته تقبع خارجا ، سيارته المذبوحة بالدم !
اثناء تنقيبه الباحث ، عن " جثة المسيحي " ، سمع نشيج باكي يصله من إحدى الغرف ، لم يطل الانتظار ، إذ تحرك مسرعا ، بعرجه المعتاد حتى وصل الباب المشرع ، و كأن السقف إنهد فوق رأسه ، ظل متسمرا لحظة مكانه يراقب ألن الجاثي أرضا ، مغسولا بالدماء الجافة ، العالقة على اجزاءه ، محتضنا شئ شبيه بالسترة فوق وجهه ، يبكي كـ طفل خسر والدته لتوه !
يا إله السموات !
هذه المرة الثانية التي يرى بها هذا الأخرق محتميا بـ جدران منزله ، مزلزلا لكل ثوابت العقل ، ناكثا لأقوى العهود الرافضة لجنون ما يفعل
ظل مكانه دقائق ، حتى إنتبه له ذلك المنتحب ، ليفز واقفا ، و بـ ظرف ثوان فقط ، كان قد تقدم ، ليستلم الجسد المرمي نحوه ، المنتحب بطريقة أرسلت القشعريرة على طول عموده الفقري ، لتجعله يهمس بـ ذبذبة صوت بين التماسك و الانفلات : يمعود ألن قول يا الله
: لـــــك علييييييي قلبييي احتررررق ، إحترررررق
وجد نفسه يشد من قبضة ساعديه حوله ، محاولا لملمة شتاته ، و خنق تأوهاته المنهارة .. و لكن ، باءت كل محاولاته بالموت ، فـ رفيقه من اليوم قد أعلن التحني بدماء الحبيبة ، و الإخلاص للحزن و لو كان نهايته .... شريان قلبه
.
.
.
' صدق الله العظيم '
أتم قراءة سورة ياسين ، ليرفع المصحف ضاغطا به على جبينه ، مواريا دمعته المسجاة على الخد الحزين ، يجلس بمفرده ' تقريبا ' ، في تلك المساحة الشاسعة المليئة بـ من رحلوا ، و غابت أرواحهم عن هنا !
أنزل الكتاب الكريم ليستقر فوق فخذه ، لتحط يمينه فوق البناء البسيط الذي يستقر أسفل منه جسدها الحبيب ، لكم إشتاقها .. إن ظن بأن الأعوام الثلاثة الماضية قد أفلحت برتق الجرح فهو مخطئ ، فـ ما إن يستقر وحيدا ، حتى يأتيه شبح الحزن زاحفا على ركبتيه ، مبتسما بشناعة ، مهددا إياه أن يطرده ، فهو ضيفه الليلي ، لا يغادره و لو ترجاه ليفعل ، بل صار صاحبه و خير الأصحاب !
استقام واقفا اخيرا ، بعد ساعة قضاها هنا ، يتنفس الهواء المهيب المحمل بعبق البخور ، و ماء الزهر الذي غسل به القبر الغالي ، ودعها على أمل اللقاء ، و القلب يشهق بإعتياد على الوجع المرافق للحظات الوداع القاتلة هذه
.
.
.
نهايات الإدانات
و ها قد أثبتت الأدلة إدانتهم ، و إقترافهم لجرم الهوى
ظنوا أنهم أعلى من القانون ،، و إستباحوا الظلم لأنفسهم
سأدعوكم من الآن إلى إصدار الحكم الذي تستحقه أياديهم
إنتهينا هنا
و سنبدأ ببداية جديدة ،،
بـ جلسات الحكم الأخير الصادر بحقهم
*
و ما زالَ الحُلمُ ينبضْ
|