7
" فَلتكن بخير من أجلي " ..
كانت تلك آخر رسَالة أرسلتُها
له أثناء الغياب , حاولت بعد ذلك
الإعتيَاد على طعم الصباحَات المُر ,
وعلى صوت دقَات الساعة الذي يبدو
صَامتَا وبطيئا حد الإزعَاج في الليل
لمَ يكن الأمر يتعلق بالنسيَان كما ظننت ,
كُل ماكنت احتاجه هو قليل من الأجوبـة ..
أكنُت مغفلة ؟ ام كُنت متكتمة حد ابعاده ؟
لمَ اكن لأشفى منه لولا الإجابات ..
أجابات لم أكن لأحصُل عليها على أي حَال !
أشهُر اخرى تمُر .. بين إعتيَاد على الغياب ..
وبين إنخراط زائد في إمور الحيَاة ..
كُنت امارس ملئ يومَي ,
بما قد لا أستطيع تحمله أحيَانا ..
فقط لأصَل غرفتي منهكة ولا أجد فُسحة للتفكير ..
من نحبهم يحتلون دومَا جزءا
قصيَا من الذاكرة , يطلون على الأشياء معنَا ..
نحن لا ننسى من أحببنا ..
نحن نخبئهم في أكثر بقع الذاكرة ضبابية ..!
- وَطن ,
نظرت إليك بصَمت منتظرة جملتك التَالية ,
- أتعلمين أن في الصَمت إعترافات أعمق من الكلمات ..
- والله ؟ لماذا ؟
أمسَكت بيدي .. أدرت كفي
للناحية المُقابلة لوجهك ..
تواصُل فعل هذه العادة الغريبة في إشتمَام يدي ,
- الذي أعرفه أن الرومنسيَة تكمن
في تقبيل اليد , او الإكتفاء بإمسَاكها ..
- لي طقُوس تخصني فيما
يخص كفيك ياوطن ,
يحق لي الإحتفاظ برائحتك على ما أظن ..
- مابَال الجدية اليوم ؟
- عندَمَا تعودين , أعني .. أممممممممم
- أتريد الحديث مجددا عمَا سيحصُل عند عودتي ..
- لا .. لالا لمَ اقصد ذلك ..
ما أردت قوله .. سأعود بصحبتك ..
- ماذا!!
- إنتهت رحلتي , وجدت الوطَن
الذي ظللت أبحث عنه لسنوات ..
لاشيء يبقيني في الغُربة بعد الآن
أمَارس معه لعبة الإستغباء إرضَاء بغروري ,
بالرغم من علمه بذلك ..
يصر على منحي ما أُريد ..
- للتو أحسست بالوَطن يا خالد ؟
- وطني هُنا – مُشيرا بسبابته على كفي – في
هذه الخطوط تُربتي ..
في هذه الرائحة هوائي ..
وهذه الأصابع الصغيرة طريقي ..
أُبعد يدي لا إراديَا ..
خجل يتملكني بسبب طريقتَه
العشوائية في إلقاء الكَلمات ,
يستعيد كفي .. يقبلهَا , يتبع ذلك بقبلة على جبيني ..
- تُصبح على خير إيها الوطن ,
كَم أحب هذا الرجل تركي معلقة
في كلماته والمضَي .. اسهر الليلة
أُفكر في عودتَنا سويـَا , في الإحتمالات ,
السعيدة منها والشقية ..
ذكريَات تجدد التساؤلات في عقلي ,
أيكُون كارهَا للعودة , ام يكُون كارهَا لي !
ام أن هُناك شيء آخر لا أعلمُ به ..
وصلت بي الأفكَار حد إختراع زوجة
وهمية له لايستطيع التخلي عنها ,
كُل ذلك من أجَل ان اشفى منه ..
اجزم بسبب مَا لهذه الليلة
فأعود لتكذيبه في الصبَاح ..
الى أن اعتدت الرحيل ..
أن تعتَاد فُقدان أحدهم ..
يعني أن لايهُمك وضع رنين هاتفك بعد اليَوم ,
أن لايهُمك التأكد من عمَل
جرس منزلك , ان لا تلفت في خُروجك أملاَ بصدفة كُنت
ترجي حدوثهَا , أن لا يعني لك الإنتظَار شيئَا ..
لمَ أمُت ياخَالد كما كُنت تظن ,
لم أمت ..
- لو إفترقنَا انا متأكد بأنكٍ لن تعيشي طويلا ..
- آه , صحيح جدا
- صدقيني .. لا أتحدث بغرور ,
أعلم بأنك تحبينني حد المَوت
أحيانا , الصنف " الكَتوم " مُضاعف المشاعر دومَا ..
- أنت مغرور
- هههههههههههههههههههههههههههههه
لم أمت ياخَالد , أصبحت جثـة تتحدث
وتعمل وتأكل ..
وتبَالغ في إظهار تعاطفها أحيانا .. جُثه !
أذكر بأن سائقي أراعٌه منظر
دموعي الغزيرة لدى رؤيتي لسيارة
إسعاف تتجه بإتجاه حادث سير كُنا
قد مررنَا به سابقَا .. كُنت أبكي كمن كانت على
معرفة بصاحب السيارة ..
لم يكن أحد يعلم – ولا حتى أنت – كم
ترهقني الفراقَات , لطالمَا كُنت
إمرأة تعايش الفراق بصمت ..
وتحترق بإبتسَامة اللامُبالي ,
بداية بوالدة لم أعرفهَا .. ثم أخوة لم يأتو يومَا ,
وإنتهائـا بوالد أحببته كما تحب الأميرات في أفلامنَا الكرتونية ..
لكنه في النهاية لم ينقذني من غابة شائكة او ملكة شريرة ..
رحَل وتركني في تلك الغابات والشرور تتآكلني من الداخل ..
وبعد إلتزام طويـل بعهد مضمونه
الا أبكي فراق أحد .. الا أحٍب أحدَا لحد البكاء ,
تأتي أنت بلسَانك السليط ,
و شخصيتك الحازمة حينَا الضاحكة حينَا آخر ,
بنكتك السخيفة , وكمية سجائرك القاتلة ..
تأتي فقط لتهدم الجزء المتبقى
من البيت الخرب الموجود في الداخل ,
كان جدارُ أستند عليه ليذكرني بأني من بني آدم ..
وليس آلة تتحرك وتتزود بالوقود لتؤدي وظيفة مَا ..
بقدومك أخبرتني بأنسانيتي
.. والآن برحيلك تنفيهَا عني ..!
- أنفترق يومَا ياسماء ؟
- مادامّ هُناك قطرات مطِر تهطل , لن يكون هُناك موت ياوطن ..
- ماذا لو مللت !
- لسَت صغيراَ لأمارس الألعاب ..
- ليست ألعَابا .. أعترف : قد أكون مملة ..
- يجدر بي أن أحُب الملل إذن ..
- لن نفترق ؟!
وضعت كفي على قَلبك ,
- مادامت هذه الغيمـة تمطر .. سأكون هُنا ..
لم تكُن يومَا لتتركني , ذلك ماوعدتني بـه دائمـا ..
لذا تحتم علي العودة ياخَالد
بعد فُراق إستمر لعَـام عُدت لأسئل عَنك , ل
تلك الأمَاكن .. وذلك الطريق .. تمنيت لو تحققت صدفَتك ..
لكَن ,
يبدو أن لم ترحَل عني فقط ,
كَانت كُل الأشياء في مدينتنَا ترثيـك ,
سألت كُل من أعرفهُم ويعرفوننا سويَا ..
أخبروني بأنك لمَ تعد منذ ان كُنا سويـا ..
- حسَنا .. ربمَا كان هذا المكَان وداعُ احتاج إليه لأمضي ..
أمضيت إسبوعين في مدينتـا , أذهب في كُل يوم للأمَاكن ذاتها
لأ أعلمَ مالذي يجعلني بكُل هذا الوفـاء
لـ رجل بادر بفراقي و نقض وعد قطعه على
قلب صغير لايتحمل الحياة ..
الكُل يخبرني بأن النسيان سهَل , مسألة اعتيَاد ..
لكن كلماتك ماكانت تنفك عن الظهور
في الذاكرة , كُل شيء يعود دفعة واحده
في لحظة انشغَال , نظرتُك المحبة ..
إقترابـك بطريقة مُخيفة مٌضحكة ,
نبضات قلبك كلمـا وضعت كفي عليه ,
كل شيء كان يعود في أكثر اللحظَات انشغَالا ياخالد ..
لَم يعُد لي إهتمَام سوى أن اغلق هذه الحكَاية ,
دفنت كبريـائي عميقَا واتجهت لمسكنك ,
بالرغم من أني كُنت قد
عاهدت نفسي في الطائرة ان لايصَل
بي اليأس حد لقائـك قصَدا والسؤال ..
لم أستطعَ ..
ثلاث دقَات على بـابك , ثلاث إهَانات بلا إجابة
كنت تسكن بعيداً عن كُل ماكان يربطُنا ..
كنا ننتهي دومَا بمسكني لتعود أنت مشيَا كُل تلك المسَافة ..
- أتبحثين عن أحد ؟
- في الحقيقة أبحث عن شخص اعتاد السكن هُنا ..
يبدو أنه رحل على كُل حال ..
- أتقصدين خَالد ؟
تتسَارع نبضَات قلبي لدى ذكر إسمه , اطرق برأسي إيجَابا ..
- يذهب كُل فترة للمستشفى ,
أظن بأنه لم ينهي جلسَات العلاج بعد ..
- علاج!! أي علاج ؟!
- إنه يخضع لمعالجة كيميائيـة ..
يبدو أنه كعادته يتجنب إخبار الأصدقاء عمَا يسوؤه ..
اتصدقين بأني انا صاحبة المنزل لم اعلم حتى . . . . . .
أصبحت تهمهم بكلمَات لا أفهمهَا ..
لم اعد قادرة على تمييز الأحرف
والمقاطع فيمَا تنطقه ..
توقفت عن حديثها لدى رؤيتي اجثو على ركبتي تعبَا ..
لمَ أصَل يومـا
بالإفكَار حد فراق لا نلتقي بعده ,
لم تصل وسوساتي حد جعل خالد
ضمن الراحلين أبداً .. تتبع فوضَى حواسي هذه
تخيلات وصور لخالد وهو يوضَع في
قبره ثُم يتحلل .. – أظن بأنها العادة القديمة - ..
لم أكُن اعرف عن العلاجات الكيميائية سوى
نهاية واحدة وهي الموت ..
ساعدتني صاحبة المنزل في
الجلوس على إحدى العتبات .. ضممت ركبتًي لصدري ..
لم أكن افكر في شيء سوى اللون الأسود ,
وذلك الحَلم الذي رأيت فيه البياض يفارقني ..
بعد كأس من المَاء ..
أخبرتني السيدة عن كُل شيء ..
احد تلك الأشياء بأن سمائي ستعود صافية ,
بأن خَالد مايزال بخير وبأن كُل شيء سيكون على مَايرام ..
لطَالما اعتدت سمَاع تلك الكلمات ,
لاشيء يبدو بخير عندمَا يخبرك احد بأنه كذلك ..
- متى سيعود ؟
- رُبمَا اليوم .. وربُما في الغَد ..
- سأنتظره !
- هل أنتٍي مجنونة ؟ ستمطر عمَا قريب ..
سيصيبك البرد ولا أظنه عائدا قبل المسَاء ..
- لا بأس .. سأنتظره
- حسَنا .. يمكنك إنتظاره عندي ..
حماية لك من البرد على أي حَال ..
- أشكرك ..
ما إن نطقت عبارة الشُكر هذه حتى
شرعت في البُكاء ..
بكيت بصَوت عَالٍ كما لم افعل من قبل ..
بكيت خوفَا من المَوت ,
بكيت خَوفا من أن أُدمى مجددا ,
وأشياء أخرى لا أعلمها ..
صَارت كُل ذكرى سيئة تُحاصرني ..
ضربة تلك المعلمة التي لا أذكرهَا ,
إبن خالتي الذي يخبرني دومَا بأني
يتيمة وتعاملي مع هذه الكلمـة وكأنهَا اتهَام ,
اول درس في السبَاحة وغرقي ..
كُل ما اخبرت نفسي الا أبكي بشأنه
بكيته من أجلك ياخالد ..
أكتفت تلك السيدة بإحتضاني والمسح
على شعري , لم أزد على بكائي شيئاَ سوى بكاء
لا أعلم بعدَها كيف أصبحت في سريرهَا ,
نمت طويـلا .. لكن نومي لم يُكن عميقَا عمق الأرتيَاح ..
أسمع همهمَات في الخَارج , جزء من البَاب يضيء ,
ظل آخر غير ظٍل السيدة يطل علي ولا أتحرك ..
أصَحو فجأة و قلبي يخفق , أنتَ ..!!
أركض نحو البَاب الموارب , أفتحُه لأراك ..
أطيل النظر إليَك , أكذب كوابيس رحيلك , لم أفتعل
ضجة وصُراخَ إشتيَاق .. تقدمت أمَامك ببطئ حتى
أًصبحت أمَامي , ألامس بأطراف أصابعي وجهَك .. وأحس بقطرات
من المَاء تنسكب على وجهي .. أدخل رأسي
في صَدرك .. هي النبضَات ذاتهَا , شيء في نبضَك يجعلني أعرفُك ..
لم تفعل شيئَا وسط كُل تحركَاتي المثيرة للجنون ,
ولم أستطع أنا كتمَ صوتٍ البكاء الخَارج مني بلا إرادة ..
- وطن !
- أحبك
وإحتضنتك !