كاتب الموضوع :
نيو فراولة
المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
أمعنت النظر في مظهرها بعد مرور أربع وعشرين ساعة مرة اخرى ، فشعرت بالإرتياح التام ، قامت بتقصير بنطالها قليلا ، وإرتدت قميصا مخططا واسعا لأخفاء أي دليل أنثوي ، وقصت شعرها الأسود الطويل ، ووضعت فوق عينيها البنفسجيتين نظارة ذات إطار يوحي بالجدية ، ثم لصقت شاربين فوق شفتها العليا ، وخاطبت نفسها قائلة:
" كولن لارسن ، إنك رجل جذاب ، والويل لمن يخالف رايك ".
كان جون لاتيمر قد ذهب الى المدينة عندما خرجت القامة الهيفاء من المنزل متابطة مجموعة من الصور ، وتوجهت الى المرآب ، حددت موعد خروجها بدقة لا تقل عن إختيارها للباسها فهي لن تبوح بشيء الى والدها حتى تكون حصلت على عملها الجديد.
قادت السيارة ببطء عبر منعطفات الجبل الملتوية الشديدة الإنحدار ، ثم ضاعفت سرعتها عندما بلغت الطريق العام المؤدي الى البراري ، وما هي سوى لحظات حتى خلفت المدينة وراءها ، وحتى جبل تيبل ، بقممه المغطاة بالضباب ، إختفى عن الأنظار.
حاولت الإسترخاء وهي تقود السيارة ، لم تكن المزرعة قريبة ، بل تبعد نحو مئة ميل شمالي المدينة ، وكانت قبل مغادرتها أجرت مكالمتين بالهاتف ،مكالمة الى الوكالة التي تعمل معها لتقول انها لن تكون هناك ذلك اليوم ، والأخرى الى فريزر ملوري ، لتتاكد من وجوده في مزرعته بعد إجتياز كل هذه المسافة.
ومع إبتعادها عن مدينة الكاب إزداد إدراكها للاسباب الكامنة وراء تكيّف الرجل الذي ستقابله مع قساوة الصحراء وخشونتها ، كانت في توغّلها شمالا تشاهد عالما آخر ، إذ لا بحر ، ولا خضرة ولا شواطىء ذهبية حالمة، إنها الآن في منطقة شاسعة منبسطة ، جافة حارة ، وملائمة لتربية الأغنام ، أنها شبه بادية ، فكرت كوري ، وفهمت كيف يصبح الناس الذين يعملون هنا أشد خشونة وقوة من سكان المدن.
وها هي الآن تبحث عن منعطف يؤدي الى بلد يدعى ميوفونتين ، أي ينبوع الجمال ، وأدّى بها طريق جانبي يكسوه الغبار الى بوابتي حديد كبيرتين ، ترجّلت كوري من سيارتها لفتح البوابتين ، ومرت عبرهما ثم أوصدتهما قبل ان تتابع طريقها ، وشعرت بيديها ترتجفان وهي تمسك مقود السيارة مرة أخرى .
لم تكن المزرعة تبعد أكثر من ميلين عن البوابتين ، ووجدت نفسها فجأة أمام مزرعة تحيط بها أشجار الصفصاف وساقية صغيرة ، ورات المنزل الرئيسي بهندسته الهولندية الجميلة وبنائه الضخم ، مما اثار دهشتها ، لم تكن تتوقع ان يكون منزل المغامر صاحب الوجه الصارم بهذا الجمال الفائق.
بدت مذهولة ومضطربة الأعصاب ، وهي تواجه هذا اللغز ، وإذا بثقتها تتضاءل وتتلاشى مدركة أن فريزر ملوري سيكتشف أمرها ، وسيلعن خدع النساء الخسيسة ، وكادت ان تعود الى سيارتها وتقفل راجعة ، وهمّت بإدارة محرك السيارة ، عندما عبرت مخيلتها صورة والدها ، رأته جالسا على كرسيه قرب موقد النار ، تحدق عيناه في البعيد بحزن وترقّب وامل شاحب ، وبلمح البصر ترجلت من سيارتها ومشت صوب المنزل.
قابلها فريزر ملوري في حجرة المكتبة ، حيث جلس وراء مكتب كبير نتن الأخشاب ، كان منكبا على الكتابة ، فلم يرفع راسه لتوه ، مرت لحظة مشحونة بالتوتر ، ثم راته ينظر الى قامتها الفارعة بعينين متفحصتين ، إنتصب واقفا وإتجه نحوها مرحبا :
" أهلا سيد لارسن".
ظلت كوري جامدة في مكانها ، وأحست بشلل غريب يغزو أوصالها ، لا تدري ماذا تفعل امام رجل غامض تقابله للمرة الولى ، وكرر كلماته :
" سيد لارسن؟".
بلعت كوري ريقها ، لمحت تعبير عينيه الفضولي ، ويده الممتدة لمصافحتها ، إستعادت بعض رباطة جاشها ، ومدت يدها وقالت بصوت عميق تلك الكلمات التي طالما تدربت على تلاوتها:
" سيد ملوري ، اشكرك على إستعدادك لمقابلتي".
صافحت يده يدها ، كانت قبضته قوية ، متينة ، قبضة رجل يصافح رجلا آخر ، سرت في كفها وذراعها قشعريرة غريبة دون سبب واضح ، وصافحته بقبضة ثابتة ، قوية ، ثم سحبت يدها ومشت وراءه نحو المكتب ، شاعرة بالإرتياح لتمكّنها من الجلوس والسيطرة على أوصالها المضطربة ، خاصة وأن المكتب العريض يفصل بينهما الان ، كان بالغ الجاذبية ، باهر الشخصية، وأدركت ان ردة فعلها ربما عبّرت عن غريزة طبيعية يصعب كبتها بسهولة ، وأخيرا سمعته يسالها:
" هل تتناولين شرابا باردا؟".
كان حلقها جافا ، وتمنت لو يقدم لها عصير برتقال بارد ، لكنها عدلت عن رأيها لكي لا تثير شكوكه ، فإبتسمت:
" شكرا لا أريد شيئا".
قال بلهجة جازمة ، باسطا يديه المسمرتين فوق مكتبه :
" حسنا لنبدا الحديث ، أنت تريد الإنضمام الى الرحلة الصحراوية ".
" نعم ، كمصوّر".
" هل جلبت نماذج من صورك معك؟".
" نعم".
ناولته الصور ، وبدت أكثر هدوءا وثقة ، إنكب على الصور يقلبها واحدة تلو الأخرى ، فراحت هي بدورها تتمعن في ملامحه ، عجبت لمدى إضطرابها وتلعثمها منذ لحظات قليلة ، مع أنها كانت رات صورته ، وعرفت مسبقا ماذا تتوقع ، كان يشبع صورته.... شكل الفم وسخرية العينين السوداوين وعنقه الغليظ الأسمر ، لكن الصورة تظل مجرد ظل على الورق ، ورغم دقتها ، فهي لا تكشف الرجولة التي يتمتع بها، ولا تبرز هذه الهالة من القوة والسلطة والصرامة التي لمستها وراء مظاهر الكياسة والتهذيب.
طالما حدّثها والدها عن فريزر ملوري ، ووصف لها كل الصفات التي لمستها خلال دقائق معدودة ، ولكن والدها رجل يصف رجلا آخر ، وعرفت كوري ، بعد فوات الأوان ، ان للمرأة موقفا آخر من ذلك تمنت لو تستطيع سحب طلب العمل... ليس لأنها لا تتقن مهنة التصوير ، أو تعجز عن تنفيذ خدعتها .... بل لخوفها من أمر أعمق واشد تعقيدا ، انه شعور بالخوف فهمت مغزاه لكنها رفضت سبر اغواره السحيقة.
ألقى فريزر ملوري بالصور جانبا ، ونظرت اليه كوري تتوقع رايه ، فقال :
" يبدو انها صور جيدة".
وعندما شكرته على إطرائه ، سالها:
" ما هي مدى معرفتك بالجانب الفني من هذا العمل ؟".
" أعرف ما يكفي يا سيد ملوري".
صرفا بعض الوقت يناقشان جوانب التصوير العملية، غمرت كوري غبطة منعشة وهي تسهب في الحديث عن كيفية إلتقاط الصور ، وإتخاذ الإحتياطات اللازمة في المناطق الصحراوية ذات الوهج الكثيف ، والحصول على العدسات الملائمة ، وتحميض الصور وإستخراجها ، وتأكدت الآن أن مشاركتها لوالدها في بعض رحلاته الشاقة لم تذهب سدى ، وان تفكيرها في التخلي عن عالم الأزياء لتصبح مصورة محترفة خطوة طبيعية جدا.
وفجاة سالها فريزر:
" هل تعتقد انك تستطيع تحمّل أوضاع الصحراء؟".
لاحظت تغيرا في لهجته ، فسارعت الى طمأنته ثم إستفسرت :
" لماذا تسألني هذا السؤال سيد ملوري؟".
حاولت قدر إمكانها الإحتفاظ بمظهر هادىء ،وحدقت في عينيه معلنة:
" إن المظاهر خداعة( وإستطردت بصوت منخفض) أستطيع تدبّر امري يا سيد ملوري".
أجاب بلهجة جافة:
" هذه مسألة هامة ، إن الصحراء تضطرنا للإعتماد على انفسنا".
تنفست كوري بإرتياح وهي تسأله:
" هل توافق على عملي معك سيد ملوري؟".
فإبتسم بلطف:
" لا حاجة للرسميات ، خاطبني بإسمي الأول ، فريزر ، إذا كنت ترغب في العمل ، يا كولن ، تبدأ الرحلة في غضون ثلاثة أسابيع".
|