لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القسم الادبي > البحوث الاكاديمية > التاريخ والاساطير
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

التاريخ والاساطير التاريخ والاساطير


إليزابث الأولى

إليزابث الأولى (بالإنجليزية: Elizabeth I) عاشت (گرينيتش 1533- ريتشموند، إنكلترا 1603 م) هي ملكة إنكلترا وآيرلندا (1558-1603 م)، ابنة الملك "هنري الثامن" و"آن بولين". تنتمي إلى أسرة التيودر ذات الأصول

إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 05-03-12, 05:20 PM   المشاركة رقم: 1
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2011
العضوية: 224965
المشاركات: 17
الجنس ذكر
معدل التقييم: معتصم غزال عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدJordan
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
معتصم غزال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

المنتدى : التاريخ والاساطير
Post إليزابث الأولى

 

إليزابث الأولى (بالإنجليزية: Elizabeth I) عاشت (گرينيتش 1533- ريتشموند، إنكلترا 1603 م) هي ملكة إنكلترا وآيرلندا (1558-1603 م)، ابنة الملك "هنري الثامن" و"آن بولين". تنتمي إلى أسرة التيودر ذات الأصول الويلزية.
تولت إليزابيث الحكم بعد شقيقتها ماري الأولى، والتي كانت كاثوليكية المذهب، فيما تبنت هي المذهب البروتستانتي المعتدل. عاشت الملكة عزباء طيلة حياتها، عُرفت بحيويتها الدائمة، كما تميز حكمها بالطابع الاستبدادي، كان لها الفضل في ترسيخ العقيدة الوطنية في إنجلترا: الإنجليكانية. بعد أن أقرت مرسوم السيادة (1559 م)، ثم وثيقة البنود التسعة والثلاثين (1563 م)، واجهت جماعات البيوريتانيين (التطهريين)، والذين انشقوا عن الحركة البروتستانتية وأخذوا يطالبون بتطبيق تشريعات أكثر تشددا. إلا أن أخطر خصومها كانوا الكاثوليكيين، والذي أرادوا أن يعيدوا المذهب الكاثوليكي إلى رأس الدولة، وجهت لهم الملكة ضربت حاسمة عندما ألقت القبض على قريبتها ملكة اسكتلندا المخلوعة: "ماري ستيوارت" (والتي لُقبت بـ حامية العقيدة الكاثوليكية)، تورطت الأخيرة وبمعية بعض الكاثوليكيين النافذين في البلاط في مؤامرة لإسقاط نظام الحكم، فوُجِهت إليها تهمة الخيانة ثم أعدمت عام 1587 م.
كان من عواقب مقتل الملكة ماري ستيوارت أن اشتعل فتيل المواجهات بين إنجلترا وأسبانيا (حامية الكاثوليكية). كانت الأخيرة تعتز كثيرا بقوتها البحرية، فدفعت بأسطولها القوي لمحاصرة الجزيرة البريطانية، إلا أن الإنجليز حسموا الموقف لصالحهم وانهزمت الأرمادة التي لا تقهر (كان هذا لقب الاسطول الإسباني).
كرست هزيمة أسبانيا بداية حقبة جديدة عرفت هيمنة إنجلترا على البحار، فأخذوا بعدها يتوسعون وينتشرون في أرجاء المعمورة (تأسيس شركة الهند الشرقية، 1600 م). عرفت إنجلترا أثناء فترة حكم الملكة إليزابيث نهضة علمية وفنية كبيرة (شكسبير في الأدب، مالرو في الشعر وغيرهم). كانت الملكة آخر الحكام من أسرة التيودر. خلفها على العرش "جيمس الأول" ابن "ماري ستيوارت".
الفصل الأول: الملكة العظيمة 1558 - 1603:-
مزايا المحنة
في السابع عشر من نوفمبر 1558، ركض أحد الرسل إلى فناء القصر الملكي في هاتفيلد-على مسافة 36 ميلاً إلى الشمال من لندن- وأعلن إلى اليزابيث تيودور أنها أصبحت ملكة على إنجلترا. أن أختها غير الشقيقة، الملكة ماري ذات السمعة التي يرثى لها، قد وافاها الأجل المحتوم في غسق الصباح في ذاك اليوم. وفي لندن عندما تلقى البرلمان هذا النبأ هتف: "حفظ الله الملكة اليزابيث! فليطل أمد حكمها علينا!"-ولم يكن يدور بخلده أو يحلم بأن حكمها سوف يمتد إلى خمسة وأربعين عاماً. وعلى الرغم من أن الكنائس كانت توجس خيفة فأن صليل نواقيسها هز أجواز الفضاء. ومد الناس في إنجلترا موائد الأفراح في الشوارع، كما فعلوا من أجل ماري من قبل، وصبغوا السماء في ذلك المساء بأضواء المشاعل التي تشف عن الأمل الخالد.
وفي اليوم السبت التاسع عشر من نوفمبر، احتشد كبار اللوردات والسيدات وأعضاء مجلس العموم من جميع أنحاء المملكة في قصر هاتفيلد، ليقسموا يمين الولاء للملكة، ويتلمسوا في هذه المناسبة غنماً، وفي اليوم العشرين خطبت فيهم اليزابيث في أسلوب ملكي حقاً، قائلة.
أيها اللوردات: أن قوانين الطبيعة لتثير في نفسي لواعج الأسى والحزن على أختي، وإن العبء الذي ألقى على كاهلي ليذهلني، ولكني بوصفي من عباد الله، يتعين عليّ الامتثال لاختياره إياي لهذا المنصب. أني فوق ذلك سوف أخضع لمشيئته، تحدوني الرغبة في أعماق قلبي، في أن يهبني العون، بفضله وكرمه، علي تنفيذ إرادته سبحانه وتعالى في المهمة التي وكلت اليوم إلي، وما أنا، من الناحية المادية إلا بشر، ولكني بإذنه تعالى بشر سياسي عليه أن يحكم. فهل لي أيها اللوردات، وخاصة النبلاء منكم، كل على قدر مرتبته وسلطته- هل لي أن أطمع في أن تكونوا عوناً لي، حتى أستطيع أنا بحكمي وانتم بخدماتكم، أن نقدم لله سبحانه وتعالى عملاً مقبولاً، ونترك لأعقابنا على الأرض شيئاً من الرفاهية والراحة(1)."
وفي اليوم الثامن والعشرين من نوفمبر، اخترقت إليزابث، مرتدية ثوباً من القطيفة القرمزية، شوارع لندن في موكب عام، إلى نفس "برج لندن" التي كانت سجينة فيه منذ أربعة أعوام؛ تنتظر الموت. وفي طريقها، أخذ الأهالي اليوم يهللون ويهتفون لها والمنشدون يتغنون بمجدها وعظمتها، والأطفال يتلون عليها، وهم يرتعدون، ما حفظوه من عبارات الولاء والإجلال، ورحبت طلقات المدافع والبنادق التي لم يسمع لها نظير من قبل، بحكم قدر له أن يكون أزهى وأحفل بالرجال والعقول من أي حكم سبقه في إنجلترا.
وكانت خمس وعشرون سنة من المحاكمات قد هيأت إليزابث لتسيطر وتتفوق. وفي 1533 بدا أن من حسن طالعها أن يكون هنري الثامن أباً لها، ولكن كان خطراً عليها أن تكون أمها آن بولين. إن العار الذي لحق بأمها ثم إعدامها، وقعاً في وقت لم تكن الطفلة فيه تعي أو تذكر شيئاً (1536)، ولكن مرارة هذا التراث الكريه لازمتها وما إنجابت عنها طيلة شبابها، ولم تبرأ منها إلا بفضل بلسم الملك. ونص قرار أصدره البرلمان في 1536 على أن زواج آن باطل، ومن ثم صارت إليزابث ابنة غير شرعية، ولاكت اللسنة موضوع أبوة البنت، واختلفت الأقوال فيه بشكل قاس، وكانت في نظر معظم الإنجليز، على أية حال، ابنة زنى. ولم تعد الشرعية إليها قط بحكم القانون، ولكن قراراً آخر من البرلمان (1544) ثبت حقها في تولي العرش، بعد إدوارد أخيها من أبيها، وماري أختها لأبيها. وفي أثناء حكم إدوارد (1547-1553) تمسكت إليزابث بالبروتستانتية ولكن عندما اعتلت ماري الكاثوليكية العرش، آثرت إليزابث الحياة على التمسك بمذهبها، فتحولت إلى الطقوس الرومانية الكاثوليكية. ولما أخفقت ثورة ويات Wyatt (1554) في خلع ماري، اتهمت إليزابث بالاشتراك في المؤامرة، وأرسلت إلى برج لندن (السجن)، ولكن ماري قررت بأن التهمة غير ثابتة على إليزابث، وأفرجت عنها لتعيش في وودستوك Woodstock تحت المراقبة. وأقرت ماري قبل وفاتها أن تخلفها أختها على العرش، وأرسلت إليها مجوهرات التاج. وإنا لنعزو حكم إليزابث إلى شفقة ماري "السفاحة".
وكان التعليم الأكثر منهجية لإليزابث واسعاً، وكان معلمها الخاص المشهور-روجر أسكام-يتيه فخوراً "بأنها تتحدث بالفرنسية والإيطالية بمثل ما تتحدث بالإنجليزية، وأنها كثيراً ما تتحدث معي في يسر وطلاقة باللاتينية، وإلى حد ما باليونانية(2)"، وكانت تتلقى في كل يوم لمحة من اللاهوت، وتضلعت في العقيدة البروتستانتية، ولكن يبدو أن معلميها الإيطاليين نقلوا شيئاً من مذهب الشك الذي رضعوه وتأثروا به من بومبوناتزي ومكيافللي وروما في عصر النهضة. ولم تكن إليزابث مطمئنة على تاجها وعرشها قط. وأكد البرلمان من جديد في 1553 عدم شرعية زواج أمها من أبيها، واتفقت الحكومة والكنيسة على أنها ابنة زنى، واستبعد القانون الإنجليزي-متجاهلاً وليم الفاتح- كل أولاد الزنى، من ولاية العرش؛ واعتقد العالم الكاثوليكي-وكانت إنجلترا لا تزال كاثوليكية إلى حد كبير-أن الوريثة الشرعية للتاج الإنجليزي هي ماري إستيوارت، إبنة حفيدة هنري السابع، وقد أشير بأنها لو سالمت الكنيسة، لمحا عنها البابا وصمة بنوة الزنى واعترف بحقها في الحكم. ولم يكن بها ميل شديد إلى هذا. فإن آلافاً من الإنجليز كانوا قد وضعوا أيديهم على أملاك انتزعها البرلمان من الكنيسة في عهد هنري الثامن وإدوارد السادس، وكان هؤلاء الملاك ذوو النفوذ يخشون العودة إلى الكاثوليكية، ومن ثم تفرض الكنيسة استعادة أملاكها. ولذلك كانوا على استعداد للنضال من أجل ملكة بروتستانتية، كما أن الكاثوليك في إنجلترا آثروا الملكة البروتستانتية على الحرب الأهلية. وفي 15 يناير 1559، وسط هتافات لندن البروتستانتية، توجت اليزبيث في كنيسة وستمنستر "ملكة على إنجلترا وفرنسا وأيرلندة، وحامية للعقيدة". ذلك أن ملوك إنجلترا منذ عهد إدوارد الثامن طالبوا، بانتظام، بحقهم في عرش فرنسا، إنهم لم يقصروا في شيء يثقل كاهل الملكة بالمتاعب.
إن إليزابث الآن في سن الخامسة والعشرين، وفيها كل الفتنة التي تقترن بنضج الأنوثة. وكانت متوسطة الطول، حسنة المظهر، مليحة القسمات، ذات بشرة تميل إلى السمرة، وعينين وضاءتين، وشعر أسمر يضرب إلى الحمرة، ويدين جميلتين عرفت كيف تظهرهما للعيان(3). ويدا ضرباً من المستحيل أن تتمكن مثل هذه الفتاة من أن تواجه بنجاح الفوضى التي تحيط بها، فقد مزقت المذاهب الدينية المتصارعة أوصال البلاد، جرياً وراء السلطة، مستخدمة السلاح، وكان الفقر المدقع داء متوطناً، وكان التشرد قد بقى على حاله بعد العقوبات الرهيبة التي فرضها عليه هنري الثامن. وعوقت العملة الزائفة سير التجارة الداخلية، وانتشرت هذه العملة الزائفة لمدة نصف قرن، وكان لهذا أثره في هبوط رصيد الخزانة، ومما جعل الحكومة تدفع 14% فائدة على القروض، واستغرقت العقيدة الدينية كل تفكير ماري تيودور. إلى حد أنها لم تول شئون الدفاع الوطني أية عناية، وقبضت يديها عنه، فأهملت الحصون وبقيت الشواطئ دون حماية، ولم تعد البحري صالحة، وساءت رواتب الجيش وطعامه، وشغرت الوظائف فيه. وباتت إنجلترا-التي كانت أيام ولزي وتحتفظ بميزان القوى في أوربا- باتت الآن كسيحاً سياسياً مشلولاً تتقاذفه كل من أسبانيا وفرنسا. ودخل الجيوش الفرنسية إلى إسكتلندة، وكانت أيرلندة توجه الدعوة إلى أسبانيا. وكان الحرمان من الكنيسة-حرماناً مطلقاً أو جزئياً- سيفاً مصلتاً على رأس الملكة يهددها به البابا، كما كان يهددها بغزو الدول الكاثوليكية لبلادها. وبدا الغزو وشيكاً قطعاً في 1559. وكان الخوف من القتل يساورها دوماً، ولم ينقذها إلا دبيب الشقاق بين أعدائها، وحكمة مستشاريها، وشجاعة روحها. ولقد صعق السفير الأسباني "بروح المرأة..... أن بين جنبيها شيطاناً يتملكها، ويقودها حيث يريد(4)". ولم تكن أوربا تحسب أنها ستجد روح إمبراطور وراء ابتسامات فتاة.

حكومة إليزابث
برزت قدرة إليزابث على التمييز وحدة ذهنها، على الفور، في اختيار معاونيها. أنها مثل أبيها الذي كان يستعد دوماً للمعركة. وعلى الرغم من خطابها السياسي في هاتفيلد، اختارت رجالاً ليسوا من أصل عريق أو محتد كريم، ذلك أن معظم قدامى النبلاء كانوا من الكاثوليك، وحسب بعضهم أنهم أصلح منها لتولي العرش. فعينت وليم سيسل سكرتيراً ومستشاراً أولاها، وهو الذي أصبحت عبقريته في انتهاج سياسة حكيمة وفي ملاطفة وتدبر الأمور عاملاً بارزاً في نجاحها، إلى حد خيل معه إلى الذين لا يعرفون الملكة، أنه هو الملك. وكان جده من صغار الأعيان الميسورين، ثم أصبح سيداً من سادة الريف، وكان أبوه موظفاً في خزائن الملابس في قصر هنري الثامن وهيأ صداق أمه للأسرة ضيعة مناسبة. وترك وليم جامعة كمبردج دون الحصول على درجة جامعية، ودرس القانون في Gray's Inn (أحد أجهزة العدل التي تمنح إجازة الاشتغال بالقانون في لندن). وقضى شبابه الداعر يعيث فساداً في مواخير لندن(5). ودخل مجلس العموم في سن الثالثة والعشرين (1543). وتزوج زوجته الثانية ملدرد كوك Mildred Cooke، وقد ساعدته بيوريتانيتها القاسية على التزامه المذهب البروتستانتي والتمسك به. وخدم الوصي "سومرست" ثم غريمه نورثمبرلند. وأيدليدي جين جراي لتخلف إدوارد السابع، ثم تحول في اللحظة الحاسمة إلى ماري تيودور، وأصبح كاثوليكياً مطيعاً بناء على اقتراح منها، وندبته للترحيب بمقدم الكاردينال بول إلى إنجلترا. وكان رجل عمل ومصلحة، لا يسمح لتقلباته اللاهوتية أن تخل بتوازنه السياسي، وعندما عينته إليزابث سكرتيراً لها تحدثت، بفطنتها المألوفة، إليه قائلة:-
" لقد عهدت إليك بهذه المهمة، وهي ان تكون من بين أعضاء مجلس شورى الملكة، وترتضي أن تبل أقصى الجهد من أجلي ومن أجل مملكتي، وإني لآنس فيك أنك لن تفسدك أية منحة أو هدية مهما يكن نوعها، وأنك ستكون مخلصاً للدولة، وأنك ستمحضني ما ترى أنه خير الرأي والنصيحة، دون اعتبار لإرادتي الخاصة، وانك إذا رأيت أن ثمة شيئاً ضرورياً يجب إبلاغي إياه سراً فستفضي به إلي وحدي، وتأكد أني لن أعجز عن التزام الصمت في مثل هذه الحالة، ومن ثم فأني أعهد إليك بهذه المهمة(6)". واحتفظت به سكرتيراً لمدة أربعة عشر عاماً، كانت بمثابة امتحان لأمانته وكفايته، عينته بعدها وزيراً للخزنة لمدة ست وعشرين عاماً أخرى، حتى وفاته. ولقد رأس مجلس شورى الملكة، وأدار دفة العلاقات الخارجية، والشئون المالية العامة والدفاع الوطني، وقاد خطى إليزابث في تدعيم المذهب البروتستانتي في إنجلترا. انه، مثل ريشيليو، اعتبر أن سلامة بلاده واستقرارها يتطلبان الحكم الملكي المطلق الذي يعمل على التوحيد، في مواجهة النبلاء المتناحرين والتجار الجشعين، والعقائد التي يحاول بعضها القضاء على بعض، وكل أولئك يعمل على التفريق والتمزيق. واتبع بعض أساليب مكيافيللي، وقليلاً ما كان قاسياً، ولكنه أخذ المعارضة بلا رحمة وبلا هوادة(7)، وفكر مرة في قتل ارل وستمورلند(8)، وكان ذلك في لحظة نفد فيها الصبر، حانت في نصف قرن من التشبث الصابر والاستقامة الشخصية. وكان له عيون وجواسيس على كل شيء ولكن اليقظة الباطنية هي ثمن السلطة والقوة. وكان مقتصداً مولعاً بالكسب، ولكن إليزابث غفرت له ثراءه لقاء حكمته، وأحبت فيه التقتير الذي أعد الوسائل لقهر الأرمادا، ولولاه لكان من المحتمل أن تضللها المظاهر البراقة والمغرورون المبذرون مثل ليستر وهاتون واسكس. وقال السفير الأسباني في تقرير له: "إن ذكاء سيسل يفوق كل ذكاء سائر أعضاء المجلس مجتمعين، ومن ثم فهو موضع حسد الجميع وكراهيتهم(9)". وأصغت إليزابث أحياناً إلى ما يقوله عنه أعداؤه، فعاملته من حين لآخر في خشونة وجفوة إلى حد أنه كان يخرج من حضرتها محطماً باكياً، حتى إذا هدأت سورة غضبها أدركت أنه أثبت دعامة ملكها. وفي 1571 عينته "لورد برجلي "Burghley، أي زعيم الأرستقراطية الجديدة التي وقفت في وجه النبلاء المعادين، فدعمت عرشها ورفعت من شأن مملكتها.
ويستحق صغار معاونيها أن نلم بهم في بضعة سطور في هذه العجالة التاريخية. لأنهم خدموها بكفاية وشجاعة، ولم يجزوا الجزاء الأوفى، حتى أفنوا حياتهم في خدمتها. منهم سير نيقولا بيكون-والد فرنسيس بيكون- وكان حامل الخاتم الملكي منذ بداية حكم إليزابث حتى وفاته 1579. وسير فرانسيس نولليس Knollys الذي كان عضواً في مجلس شورى الملكة منذ 1558، ورئيساً للخاصة الملكية حتى وفاته (1596)، كما كان سير نيقولا ثروكمورتون Throckmorton سفيرها البارع في فرنسا، وتوماس رندولف سفيرها في إسكتلندة وروسيا وألمانيا، وكان في المرتبة الثانية، بعد سيسل، من حيث الإخلاص والدهاء، وسير فرنسيس ولسنهام الذي تولى منصب الوزارة من 1573 حتى وافته المنية (1590)، وكان رجلاً دمثاً مرهف الحس، قال عنه سبنسر "إنه ماسيناس العظيم في عصره"، روعته المؤامرات المتكررة على حياة الملكة حتى أنه أقام لحمايتها شبكة من الجواسيس، امتدت من أدنبرة إلى القسطنطينية، وأوقعت في شراكها ملكة إسكتلندة المنكوبة الحظ. وقلما حظي حاكم بمعاونين على مثل هذا القدر من الكفاية والقدرة والولاء، مع هذا القدر من الرواتب الضئيلة التي كانوا يتقاضونها.
وكانت الحكومة الإنجليزية نفسها فقيرة. وزادت الثروات الخاصة على الاعتمادات العامة. وبلغ مجموع الدخل 500.000(10) جنيه في 1600، وهو ما يعادل المبلغ التافه 25 مليون دولار. وقلما فرضت إليزابث ضرائب مباشرة، ولم تحصل من الرسوم الجمركية إلا على 36.000 جنيه، واعتمدت عادة على دخل ممتلكات التاج، وعلى منح من الكنيسة الإنجليزية، وعلى قروض من الأغنياء، كانت من الوجهة العملية إجبارية، ولكنها كانت تسدد بانتظام(11). وأقرت الديون التي خلفها أبوها وأخوها وأختها، وتمتعت بسمعة طيبة في الوفاء بالدين إلى حد أنها استطاعت أن تحصل على القروض من أنتورب بفائدة قدرها 5% على حين أن فيليب الثاني ملك أسبانيا لم يستطع في بعض الأحيان أن يقترض قط، وكانت الملكة مسرفة، على أية حال، في الإنفاق على ملابسها وحليها، وفي المزايا الاقتصادية التي تغدقها على ذوي الخطوة لديها.
وقل أن دعت إليزابث البرلمان، وعلى مضض منها، لمساعدتها من الناحية المالية، لأنها لم تكن تطيق المعارضة أو النقد أو المراقبة، ولم تؤمن قط بنظريات سيادة الشعب أو البرلمان. وآمنت مع هوميروس وشكسبير بأن رأساً واحداً هو الذي يجب أن يتولى الحكم-ولم لا يكون رأسها هي، الذي جرى فيه دم هنري الثامن وتألقت كبرياؤه؟ وتمسكت بحقوق الملوك والملكات الإلهية. وأودعت بعض الأفراد السجون بمحض إرادتها هي دون محاكمة، أو سبب واضح، وكان مجلس الشورى ينعقد على هيئة محكمة عليا لمحاكمة المجرمين السياسيين، يعطل، دون استئناف، حقوقهم في المعارضة وفي قانونية حبسهم، أو في محاكمتهم أمام المحلفين(12). وعاقبت أعضاء البرلمان الذين اعترضوا سبيلها في تحقيق أهدافها. وأوحت إلى الأقطاب المحليين الذين يديرون شؤون الانتخابات النيابية ويؤثرون فيها، أنه مما ييسر الأمور أن يختاروا مرشحين ليس لديهم نزعات صبيانية في حرية الكلام، إنها طمعت في الحصول على المال دون أن يناقشها أحد الحساب! واستسلمت برلماناتها الأولى إلى هذا الوضع بلباقة، وخضعت البرلمانات غاضبة في أواسط عهدها، أما بعد ذلك فقد قاربت البرلمانات أن تثور. وتغلبت إرادتها لأن الأمة آثرت حكمها المطلق الحكم على عنف الأحزاب التي تتنافس على السلطة، ولم يفكر أحد في أن يدع الشعب يحكم، وكانت السياسة-وهي كذلك دائماً-صراعاً بين الأقليات، على أيها يحكم الأغلبية. واستاء نصف إنجلترا من سياسة إليزابث الدينية، واغتاظت كل إنجلترا تقريباً من عزوبتها، ولكن الناس في جملتهم، وهم يحمدون الضرائب المنخفضة والتجارة المزدهرة، والنظام في الداخل، والسلام الذي طال أمده، بادلوا الملكة حباً بحب. لقد أقامت لهم المهرجانات، وقامت بجولات ملكية بينهم، واستمعت إليهم دون أن يظهر عليها أي امتعاض، وشاركتهم ألعابها العامة، وبمائة أسلوب آخر تصيدت قلوب الناس(13)". وكتب السفير الأسباني، وهو يذوب حسرة على اعتناقها البروتستانتية، إلى الملك فيليب يقول: "إنها أشد التصاقاً بالأهالي، وهي على ثقة من انهم جميعاً إلى جانبها، وهذا هو الحق بعينه(14)". وزادت المحاولات التي بذلت القضاء على حياتها من شعبيتها وسلطانها، حتى أن البيوريتانيين الذين اضطهدتهم دعوا لها بالسلامة، وأصبحت الذكرى السنوية لارتقائها العرش عيداً قومياً للشكر وإقامة الاحتفالات.
وهل كانت إليزابث هي الحاكم الفعلي، أو مجرد واجهة محبوبة للطبقة الدنيا من النبلاء في إنجلترا، والأقلية التجارية في لندن؟ وكثيراً ما صحح معاونيها أخطاء سياستها، على الرغم من خوفهم من انفعالها، ولكنها بدورها، كثيراً ما صححت أخطائهم كذلك. لقد أبلغوها حقائق مرة، وزودوها بنصائح المعارضة لرأيها، وامتثلوا لقراراتها، انهم حكموا ولكنها ملكت. وقال السفير الأسباني: "إنها تصدر الأوامر، وتفعل ما تريد، تماماً كما كان يفعل أبوها(15)". وقلما أدرك سيسل نفسه ماذا اعتزمت أن تفعل، واضطراب واغتاظ من رفضها المتكرر لمشورته التي وصل إليها بعد جهد شاق وتمحيص دقيق. وعندما حثها على عدم التفاوض مع فرنسا، والاعتماد فقط على تأييد البروتستانت، انتهرته في قسوة وحدة "أيها السكرتير، أفهم أني انتهيت من هذا الموضوع، ولسوف استمع إلى مقترحات ملك فرنسا، ولن أكون بعد اليوم مربوطة إليك وإلى اخوتك في المسيحية(16)".
ودفعت تصرفاتها في شئون الدولة الأصدقاء والأعداء إلى البكاء، على حد سواء. فقد كانت متأنية مترددة إلى حد مثير، في البت في الأمور، ولكن ترددها عاد بالفائدة في أحوال كثيرة، لقد عرفت كيف تتحالف مع الزمن الذي يحل من المشاكل أكثر مما يحل الرجال، وكم هيأ تسويفها في البت، للعوامل المعقدة في موقف ما، أن تستقر وتتركز وتتضح. لقد أعجبت بالفيلسوف الأسطوري الذي ألحوا عليه في طلب الجواب، فتلا حروف الهجاء في صمت قبل الإدلاء به. واتخذت شعاراً لها: "أني أرى وأنا صامت". واكتشفت أنه في السياسة كما في الحب، من لم يتردد يضيع نفسه. وإذا تذبذبت سياستها في غالب الأحيان، فهذا هو شأن الحقائق والقوى التي يعمل حسابها. ولما كانت محاطة بالأخطار والدسائس، فإنها تحسست طريقها في حذر موسوم بالتسامح والصفح، محاولة آنا سبيلاً آخر، فهي لا تدعي الثبات في عالم مائع. وتعثر ترددها في بعض أخطاء جسيمة، ولكنها احتفظت بإنجلترا في سلام حتى بلغت من القوة ما تستطيع معه أن تحارب. ولما كانت قد ورثت أمة تشيع فيها الفوضى من الناحية السياسية، منهارة من الناحية العسكرية، فقد كانت السياسة الوحيدة التي يمكن انتهاجها هي الحيلولة دون اتحاد أعدائها ضدها، وتشجيع ثورة الهيجونوت ضد ملك فرنسا، وثورة الأراضي الوطنية ضد أسبانيا، وثورة البروتستانت ضد ملكة إسكتلندة الوثيقة الصلة بفرنسا. لقد كانت هذه السياسة مجردة من المبادئ الأخلاقية، ولكن إليزابث آمنت مع مكيافيللي بان الوسواس لا تلتئم مع الحكام المسئولين عن الدول. ومهما يكن من أمر فان ضعفها الموسوم بالحذق والدهاء يشير إلى أنها حافظت على بلادها من السيطرة الأجنبية، وحافظت على السلام لمدة ثلاثين عاماً- باستثناء فترات قصيرة، وتركت إنجلترا أغنى مما كانت عليه في أي وقت مضى، مادياً وفكرياً.
واستطاعت إليزابث الدبلوماسية، أن تلقن وزراء الخارجية في ومنها، دروساً في الإعلام النشيط السريع والوسائل اللبقة الماكرة والخطوات الكثيرة التي لا يمكن التنبؤ بها. وكانت أقدر أهل زمانها على الكذب. ومن بين النساء الأربع-ماري تيودور، ماري ستيوارت، كاترين دي مديتشي وإليزابث- اللائى ضربهن نوكس Knox مثلاً على "حكم النساء الرهيب" في النصف الثاني من القرن السادس عشر، تفوقت إليزابث عليهن بلا منازع في الفطنة السياسية والبراعة الدبلوماسية. وذهب سيسل إلى أنها "أعقل امرأة وجدت، لأنها فهمت ميول كل أمير في زمانها وما يولع به وما يستهويه. وكانت على علم تام بمملكتها إلى حد أن أياً من مستشاريها لم يكن لينبئها بشيء لم تكن تعرفه من قبل(17). وهذا بطبيعة الحال يتطلب الرقية من الحسد ببعض حصوات من الملح، وتمتعت الملكة بميزة التباحث مباشرة مع السفراء بالفرنسية أو الإيطالية أو اللاتينية، ومن ثم كانت في غنى عن الاعتماد على المترجمين والوسطاء. ويقول السفير الأسباني: "إن هذه المرأة يتملكها مائة ألف شيطان، ولكنها مع ذلك تزعم لي أنها تحب أن تكون راهبة، تعيش في صومعة تتلو تسابيحها وصلواتها من الصباح إلى الليل(18)"، لقد أدانتها كل حكومة في قارة أوربا، وفي نفس الوقت أعجبت بها وقال عنها البابا سكستوس السادس: "لو لم تكن زنديقة لكانت تساوي عالماً بأسره(19)".
العذراء العاشقة
كانت عذرية إليزابث هي السلاح الخفي في دبلوماسيتها. وهذا بطبيعة الحال تفصيل ثانوي عويص يجدر بالمؤرخين ألا يزعموا التيقن منه، أو لنكن نزاعين إلى الثقة، مثل سير والتر رالي حين يطلق الاسم على مستعمرة ويعينها بذاتها. ولقد ساورت سيسل بعض شكوك عابرة عندما لاحظ عبث إليزابث الطويل الأمد مع لستر ومغازلتهما. ولكن سفيرين أسبانيين لا يتورعان ولا يجدان حرجاً في تشويه سمعة الملكة، انتهيا إلى أنها شريفة(20). وذكرت الإشاعات التي انتشرت في البلاط-كما رواها بن جونسون لدروموند هوثورندن- " أن فيها غشاء يجعلها غير أهل لمعاشرة الرجال، ولو أنها حاولت مع كثير منهم لمجرد اللهو والمرح...." وأخذ جراح فرنسي على عاتقه أن يستأصله، ولكن الخوف منعها من ذلك(21). وكتب كاندن في حولياته 1615: "صب الناس اللعنات على هويك Huic طبيب الملكة لأنه ثبط همتها في الزواج بسبب عائق وعاهة فيها(22)". غير أن البرلمان الذي توسل إليها مراراً لتتزوج، افترض قدرتها على الحمل، ولقد مني معظم ملوك آل تيودور بالإخفاق في هذه الناحية: فيحتمل أن تكون مصائب كاترين أوف أراجون في الولادة ترجع إلى داء الزهري الذي أصيب به هنري الثامن، ومات ابنه إدوارد في سن الشباب نتيجة علة كريهة الوصف. وحاولت ابنته ماري محاولة شديدة أن يكون لها طفل، وكل ما حدث أنها ظنت أن داء الاستسقاء حمل، وعبثت إليزابث ما شاءت، ولكنها لم تجرؤ على الزواج، وقالت: "لقد كنت أنفر منه دائماً". وأعلنت منذ 1559 عزمها على أن تبقى عذراء(23). وفي 1566 وعدت البرلمان: "سوف أتزوج حالما أرى الوقت المناسب.... وآمل أن يكون لي أطفال(24)". ولكن في نفس العام، عندما أنبأها سيسل أن ماري ستيوارت أنجبت طفلاً، كادت إليزابث تذرف الدموع وقالت: "أن ملكة الاسكتلنديين أم لابن جميل، أما أنا فلست إلا أرضاً مجدبة(25)". وهنا ولفترة وجيزة، كشفت عن حزنها المقيم-لأنها لم تستطع أن تحقق أنوثتها.
وزادت التورطات السياسية في عمق المأساة. وأعتقد كثير من رعاياها الكاثوليك أن عقمها ليس إلا عقاباً وفاقاً على خطايا والدها، ووعد بأن ماري الكاثوليكية سوف ترث العرش. لكن البرلمان وسائر إنجلترا البروتستانتية كانوا يوجسون خفية من هذه التوقعات، وألحوا عليها في أن تجد لها زوجاً. ولقد حاولت، ولكنها بدأت بأن شغفت حباً برجل متزوج، هو لورد روبرت ددلي وهو رجل مديد القامة وسيم كيس مصقول شجاع، وهو ابن دوق نورثمبرلند الذي كان قد لقي حتفه على حبل المشنقة لمحاولته إبعاد ماري تيودور عن وراثة العرش لتجلس عليه جين جراي. وتزوج ددلي من آمي روبسار Amy Robsart ولكنه لم يكن يقيم معها. وراجت الإشاعات بأنه خليع لا أخلاق له. وكان بمعية إليزابث في وندسور، عندما سقطت زوجته من على درج السلم في Cumnor Hall فدق عنقها وقضت نحبها (1560). وحامت الشبهات عند السفير الأسباني وآخرين غيره بأن ددلي والملكة دبرا هذه الميتة الشنيعة. وكانت الريب ظالمة(26). ولكنها قضت، لبعض الوقت، على آمال ددلي في أن يصبح زوجاً لإليزابث. ولما ذهب بها الظن إلى أنها ستقضي نحبها (1562) توسلت أن يعين ددلي وصياً على المملكة، واعترفت بأنها أحبته منذ زمن طويل، ولكنها أشهدت الله: على أنهما لم يرتكبا عملاً غير لائق(27)". وبعد عامين قدمته إلى ملكة إسكتلندة، وخلعت عليه لقب "ارل لستر"، لتزيد من مفاتنه، ولكن ماري كرهت أن يشاركها عشيق غريمتها فراشها فواسته إليزابث وهدأت من روعه بما أغدقت عليه من احتكارات، وكان موضع عطفها ورعايتها حتى مات (1588).
واحتمل سيسل هذه الإشاعة في اشمئزاز وقور، وفكر لبعض الوقت في الاستقالة من منصبه احتجاجاً، فقد اتجه تفكيره الخاص إلى زواج يعمل على تقوية إنجلترا، بعقد أواصر الصداقة مع دولة قوية. ولمدة ربع قرن من الزمان حام حول الملكة نفر عديد من الأجانب يطلبون يدها. وكتب أحد السفراء: "هناك اثني عشر سفيراً ينافس بعضهم بعضاً في طلب يد جلالتها، ولسوف يأتي بعد ذلك دوق هولشتين ليطلب يدها لملك الدنمرك. وهنا دوق فنلندة الذي جاء رسولاً عن أخيه ملك السويد، وهو يهدد بقتل مبعوث الإمبراطور، ولشد ما تخشى الملكة أن يقطع كل منهم رقبة الآخر في حضرتها(28). ولا بد أنها أحست بشيء من الرضا حين قدم لها فيليب الثاني، وهو أعظم عاهل في العالم المسيحي يده المحنكة (1559)، ولكنها رفضت هذه الحيلة لتحويل إنجلترا إلى ولاية كاثوليكية تابعة لأسبانيا. وتمهلت طويلاً في الرد على اقتراح من شارل التاسع ملك فرنسا.
كانت آنذاك تسلك سلوكاً محموداً. وشكا السفير الفرنسي "من أن الدنيا خلقت في ستة أيام، وأن الملكة قضت حتى الآن ثمانين يوماً، ولا تزال مترددة". فأجابت هي جواباً بارعاً ماكراً بأن الدنيا "خلقها من هو أعظم منها(29)". وبعد عامين أوعزت لوكلاء إنجلترا أن يقترحوا زواجها من شارل أرشيدوق النمسا، ولكنها بتحريض من ليستر تخلت عن هذه الفكرة. ولما كان الموقف الدولي يقتضي مسايرة فرنسا (1570)، فقد تشجع دوق ألنسون (ابن هنري الثاني من كترين دي مديتشي) على التفكير في أن يصبح زوجاً في السادسة والعشرين لملكة في السابعة والثلاثين، ولكن المفاوضات توقفت بسبب ثلاث عقبات-مذهبه الكاثوليكي، وشبابه غير الناضج وندوب في انفه. وانقضت خمس سنوات ذللت فيها إحدى هذه العقبات، واتجه التفكير مرة أخرى إلى ألنسون الذي أصبح الآن دوق أنجو، ودهي إلى لندن، ولمدة خمس سنوات أخرى غررت إليزابث به وبفرنسا. وعقب فترة أخيرة (1581) تلاشت هذه المغازلة المرحة، وانسحب دوق أنجو من الميدان، وهو يلوح برباط لجورب الملكة تذكاراً لهذه الواقعة، وكانت الملكة في نفس الوقت قد منعته من الزواج من ابنة ملك أسبانيا، ومن ثم حالت دون تحالف عدوتيها فرنسا وأسبانيا. وقل أن غنمت امرأة مثل هذا الغنم من عقمها، أو نعمت بمثل هذا اللهو والسرور من عذريتها.

إليزابث وحاشيتها
وجدت الملكة في تودد هذه الزمرة من رجال عصرها النشيطين المكتملين رجولة وقوة إليها وملاطفتهم إياها- نقول وجدت ارتياحاً ورضا أكثر مما هو في مضاجعة شاب مريض بالزهري مثلاً. وان المغازلة لتبقى ما لم يقض عليها الزواج، ومن ثم تلذذت إليزابث بالزلفى والملق والتودد طوال الوقت واستطابت ذلك كله في نهم لا يشبع. وجر اللوردات الخراب على أنفسهم في سبيل الاحتفاء بها وتسليتها، وعبروا بالمواكب والمهرجانات ومظاهر الأبهة والمسرحيات التنكرية عن عظمة الملكة ومجدها، وأغرقها الشعراء بقصائدهم وإهداءاتهم، وداعب الموسيقيون أوتار آلاتهم شدوا بمديحها. ولقد تغنت قصيدة غزلية بعينيها على أنهما كرتان ملكيتان تأسران الناظر إليهما وتقهرانه، وصدرها على أنه "أكمة جميلة تكمن فيها الفضيلة والبراعة القدسية(30)" وقال لها رالي إنها تحكي في مشيتها فينوس، وفي صيدها ديانا، وفي ركوبها الخيل الإسكندر، وفي غنائها ملاكاً، وفي لعبها أورفيوس(31). وكادت إليزابث تصدق هذا. وكانت مزهوة، وكأن كل مزايا إنجلترا وفضائلها لم تكن إلا الثمار المباركة لأمومتها، وهذا حق إلى درجة ما. ولما كانت ترتاب في مفاتن جسمها، فقد لجأت إلى ارتداء أثمن الثياب التي تغيرها كل يوم تقريباً، حتى لقد تركت عند موتها ألفي ثوب. وقد تحلت بالمجوهرات في شعرها وذراعيها ومعصميها وأذنيها وأثوابها، وإذا ما استنكر أحد الأساقفة حبها للمجوهرات، بعثت إليه بمن ينذره بالا يطرق هذا الموضوع ثانية، وإلا لقي ربه قبل الأوان(32).
وقد يكون سلوكها وعاداتها مفزعة. فقد صفعت رجال حاشيتها أو لاطفتهم وداعبتهم، بل حتى المبعوثين الأجانب. ولقد وخزت رقبة ددلي من الخلف حين انحنى ليتسلم براءة لقب ارل ، وبصقت أنى شاءت-وذات مرة على معطف ثمين. وكانت عادة أليفة يسهل الوصول إليها. ولكنها تحدثت بلسان ذرب، وربما غدت سليطة لا يمكن الرد عليها، وأقسمت كما يقسم القرصان (وكانت كذلك بالوكالة) وكان من أخف الأيمان التي تقسم بها "بحق وفاة الرب". وكان في مقدورها أن تكون قاسية، كما هو الحال في لعبة القط والفأر، التي لعبتها مع ماري ستيوارت، أو في ترك ليدي كاترين جراي تذبل وتهن حتى الموت في "برج لندن". ولكنها كانت أساساً عطوفة رحيمة، وخلطت بين رقتها وضربتها. وكثيراً ما ثارت وفقدت صوابها، ولكن سرعان ما استعادت ضبط النفس والسيطرة على الأعصاب. وكانت تنفجر ضاحكة إذا تسلت، وكثيراً ما حدث ذلك. واولعت بالرقص فرقصت على قدم واحدة حتى بلغت التاسعة والستين وكانت تثب وتغامر وتصطاد. كما أحبت المسرحيات والحفلات التنكرية، واحتفظت بروح معنوية عالية حتى حين هبطت مواردها.
وكانت غاية في الشجاعة والذكاء عند مواجهة الخطر. وكانت معتدلة في طعامها وشربها، شرهة في المال والمجوهرات، وكانت تجد لذة كبيرة في مصادرة ممتلكات العصاة الأثرياء، ودبرت أن تحصل على مجوهرات التاج في إسكتلندة وبرجندي والبرتغال وتقتنيها، بالإضافة إلى ذخيرة من الجواهر والأحجار الكريمة أهداها إليها اللوردات المرتقبون نفعاً أو المرشحون للمناصب، لوم تشتهر بعرفان الجميل ولا بسخاء، وحاولت بعض الأحيان أن تدفع أجور العاملين لديها كلمات حلوة بدلاً من النقود، وقد كان ثمة شيء من حب الوطن في تقتيرها وكبريائها على السواء. وعندما تولت العرش، لم تكد توجد أمة بلغت من الفقر حداً تنظر معه إلى إنجلترا بعين الإجلال والتقدير، أما عند مماتها كانت لإنجلترا السيادة على البحار. كما كانت تتحدى سيطرة إيطاليا وفرنسا في مجال الفكر والعقل. وأي نوع من العقل كان لهذه المرأة؟ لقد حصلت من التعليم على القدر الذي يمكن أن تحصل عليه ملكة دون عناء، وقد استمرت أثناء حكمها في دراسة اللغات. وتبادلت الرسائل بالفرنسية مع ماري ستيوارت، وتحدثت بالإيطالية مع أحد سفراء البندقية، ووبخت مبعوثاً بولنديا بلغة لاتينية قوية. وترجمت سالوست Sallust وبوثيوس Boethius، وألمت بقدر من اليونانية يكفي لقراءة سوفوكليس ولترجمة إحدى مسرحيات يوريبيدس. وزعمت أنها قرأت من الكتب عدد ما قرأ أي أمير في العالم المسيحي، والأرجح أن يكون الأمر كذلك. ودرست التاريخ كل يوم تقريباً، ونظمت الشعر وألفت الموسيقى، وعزفت، مع شيء من التسامح، على العود والعذراوية (آلة موسيقية تشبه البيان الصغير بدون قوائم)، ولكن كان عندها من الإدراك ما تسخر به من منجزاتها، وتميز به بين التعليم والذكاء. وإذا ما أطرى سفير معرفتها باللغات ردت عليه قائلة: "ليس غريباً أن تعلم امرأة أن تتكلم، بل الأصعب منه كثيراً أن تعلمها كيف تكف عن الكلام(34)." وكان ذهنها حاداً قدر حدة كلامها وكان ذكاؤها يجاري الزمن ولا يتخلف عنه. وقال فرنسيس بيكون: "إنه كان من عادتها أن تقول عن توجيهاتها لكبار موظفيها إنها مثل الثياب، تكون محكمة محبوكة لأول مرة يلبسها الإنسان، ولكنها تصبح يوماً بعد يوم فضفاضة(35)" وكانت رسائلها وخطبها بلغة إنجليزية من إنشائها وحدها: معقدة ملتوية متكلفة، ولكنها زاخرة بالصيغ الغريبة، ساحرة في فصاحتها وأسلوبها.
وتحلت إليزابث بالذكاء أكثر منها بسداد الرأي. قال عنها ولسنهام: "أنها غير صالحة لمعالجة أي موضوع له وزنه(36)". ولكنه ربما تحدث في مرارة التفاني الذي لم يلق جزاءه. لقد كمنت براعتها في الرقة الأنثوية ودقة الإدراك الحسي، لا في المنطق المرهف. وفي بعض الأحيان كشفت نتيجة هذا كله عن حكمة أكبر في تصرفاتها الماكرة منها في تعليلها لها، أنها روحها التي يتعذر تحديدها أو تعريفها هي التي يعتد بها، وهي التي حيرت أوربا وسحرت إنجلترا، وأمدت بلادها بالقوة والقدرة على الازدهار والنمو. وأعادت إليزابث بناء الإصلاح الديني من جديد، ولكنها مثلت عصر النهضة-التلهف على أن يحيا الإنسان هذه الحياة الدنيا إلى أبعد مدى، ينعم بها ويزينها كل يوم. ولم تكن نموذجاً للفضيلة، ولكن كانت مثالاً للحيوية والنشاط. إن سير جون هايوارد الذي كانت زجت به في السجن لتزويده اسكس الأصغر ببعض الأفكار الثورية، غفر لها ذلك فكتب عناه، بعد تسع سنوات من مكافأتها إياه (بالإفراج عنه)-كتب يقول:-
إذا كان ثمة إنسان أوتي من الموهبة أو الأسلوب ما يستطيع أن يكسب به قلوب الناس، فهو هذه الملكة. وإذا أظهرت شيئاً مثل هذا يوماً، فقد ظهر في أنها تجمع بين اللطف والجلال كما كانت تفعل، وفي تواضعها الموسوم بالفخامة حتى مع أقل الناس شأناً. وكانت كل قدراتها في حركة دائبة، وبدت وكأن كل حركة بمثابة عمل موجه أحس توجيه. فقد تكون عيناها عالقتين بشخص ما، على حين أرهفت أذنيها لآخر وأصدرت أمراً لشخص ثالث، ووجهت حديثها لرابع، وكأنما روحها تحوم في كل مكان، ومع ذلك تبدو منطوية على نفسها وكأنها غير موجودة في أي مكان آخر. وكانت ترثى لبعض الناس، وتطوي آخرين، وتقدم الشكر لغيرهم، وتداعب فريقاً آخر في سرور وسخرية، دون أن تزدري أحداً، أو تغفل واجباً، وكانت توزع ابتساماتها ونظراتها ولفتاتها بقدر من الدهاء والفطنة يضاعف معه الناس من مظاهر اغتباطها(37). وتطبعت حاشيتها بطباعها-يحبون ما تحب، ويقوون من ميلها إلى الموسيقى والروايات والعبارات المشرقة، ويرقون به إلى نشوة القصيد والغزليات والتمثيليات وحفلات الرقص. والنثر الذي لم تشهد إنجلترا مثيلاً له فيما بعد. وفي قصورها-هويتهول، وندسور، جرينتش، رتشموند، هامبتون كورت، تنقل اللوردات والسيدات والفرسان والسفراء والمغنون والخدم والحشم بين ألوان عدة من المراسم الملكية والمرح الأنيق. وكان ثمة دائرة خاصة تعد ألوان التسلية ابتداء بالأحاجي والنرد إلى حلبات الرقص الصاخبة وروايات شكسبير، وأقيمت الاحتفالات بانتظام في عيد الصعود وعيد الميلاد وعيد رأس السنة والليلة الثانية عشرة، وكاندلماس (عيد العذراء)، وشروفتيد (عيد قبل الصوم الكبير)، وزخرت بألوان الملاهي والتسلية، والمباريات الرياضية، والمقارعة بالسيوف، والتمثيل التنكري والمسرحيات وحفلات الرقص. وكانت الحفلات التنكرية شيئاً من الأشياء التي استوردت من إيطاليا إلى إنجلترا في عهد إليزابث، وكانت خليطاً براقاً من المهرجانات والشعر، والموسيقى والقصص الرمزي والتهريج والباليه، ضمها بعضها إلى بعض الروائيون والفنانون، وكانت تقدم في البلاط أو في ضياع الأثرياء، بأجهزة ووسائل وحركات معقدة، تؤديها سيدات ورجال متنكرون يرتدون أغلى الثياب في تصميم بسيط، وكانت إليزابث مولعة بالتمثيليات، وبخاصة الهزلية منها. ومن يدري كم من روايات شكسبير كان يصل إلى المسرح أو إلى الأعقاب والأجيال القادمة، لو لم تقف الملكة وليستر إلى جانب المسرح وتدعمانه ضد كل الهجمات التي شنها عليه البيوريتانز. ولم تقنع إليزابث بقصورها الخمسة، فانطلقت كل صيف تقريباً في جولات تجوب البلاد، لترى الناس ويروها وتراقب اللوردات التابعين وتستمتع بما يبذلون لها من إجلال وتكريم كارهين. وكان يتبعها بعض رجال البلاط، فرحين بالتغيير، متذمرين لعدم توفر وسائل الراحة والبيرة. وارتدى أهالي المدن ثياباً من القطيفة والحرير ليرحبوا بها بالخطب والهدايا، وكم أفلس النبلاء في سبيل الاحتفاء بها، وابتهل اللوردات المعسرون إلى الله ألا تعرج عليهم. وامتطت الملكة في جولاتها صهوة جواد أو تنقلت في محفة مكشوفة، تحي في روح وسرور الجموع التي احتشدت على الطريق. وابتهج الناس لرؤية مليكتهم التي لا تقهر، وافتتنوا بتحياتها الكريمة وسعادتها التي إليهم فغمرتهم ودفعتهم إلى تجديد الولاء لها.
وانتهج الحاشية نهجها في مرحها وحريتها في السلوك، وترفعها في الثياب وولعها بالمراسيم، ومثلها الأعلى في الكياسة، فقد أحبت أن تسمع خشخشة المجوهرات ونافس الرجال المحيطون بها النساء في تشكيل ما يحصلون عليه من منتجات الشرق على طرز إيطالية. وكان السرور واللهو يشكلان البرنامج المعتاد ولكن على المرء أن يكون على أهبة الاستعداد في أية لحظة لأية مغامرات عسكرية فيما وراء البحار. وينبغي على من يقدم على إغواء الفتيات أن يكون على أشد الحذر، لأن إليزابث كانت تحس بأنها مسئولة أمام آباء وصيفات الشرف اللائى يعملن لديها عن شرفهن. ومن ثم أبعدت ارل بمبروك عن البلاط لأن ماري فتون حملت منه سفاحاً(38). وف بلاطها-مثل أي بلاط آخر، حيكت الدسائس مثل نسيج العنكبوت، وتنافس النساء على الرجال، وتنافس الرجال على النساء، دون وازع من ضمير أو خلق، وكل ذلك إرضاء للملكة وكسباً لعطفها، وللمنح التي تغدقها نتيجة لذلك. إن هؤلاء السادة الذين رفعوا، شعراً، من شأن نقاوة الحب والأخلاق، تلهفوا نثراً على المناصب التي تدر ريحاً بلا عمل، وقدموا الرشاوى أو أخذوها، وعضوا بالنواجذ على الاحتكارات، وشاركوا في أسلاب القرصنة، ونظرت الملكة الشرهة بعين التسامح إلى الرشوة التي تزيد من الأجر الضئيل الذي يحصل عليه خدمها. وبفضل هباتها أو بإذن منها أصبح ليستر أغنى لوردات إنجلترا، واستولى سير فيليب سدني على أراض شاسعة في أمريكا، وأخذ رالي أربعين ألف فدان في إيرلندة، ونعم ارل اسكس الثاني باحتكار استيراد النبيذ الحلو، وارتفع سير كرستوفر هاتون من مجرد "كلب مدلل" لدى الملكة إلى أكبر منصب في الدولة وحامل خاتم الملكة. ولم تعد إليزابث تحس بالعقول الجبارة قدر إحساسها بالسيقان الرشيقة-لأن عمد المجتمع هؤلاء لم يكونوا قد غطوا سيقانهم بالبنطلونات بعد، وعلى الرغم من كل أخطاء الملكة، فإنها اتخذت خطوة وشقت الطريق بغية إبراز الطاقات المختزنة في رجال إنجلترا الأفذاذ، واستثارت هممهم وشجاعتهم للقيام بالمشروعات الضخمة، وعقولهم إلى التفكير الجريء، وسلوكهم نحو الكياسة والفطنة، وإلى نظم الشعر والدراما والفن. وحول هذه الحاشية، وهذه المرأة تكاد تكون قد تجمعت كل عبقرية إنجلترا في أزهى عصورها.
إليزابث والدين
احتدمت معركة الإصلاح الديني المريرة داخل البلاط الملكي والأمة، وأثارت مشكلة أتجه تفكير كثير من الناس إلى أنها ستربك المملكة وتدمرها، فقد كان ثلثا إنجلترا، وربما ثلاثة أرباعها من الكاثوليك(39). وكان معظم القضاة والحكام وكل رجال الدين من الكاثوليك. وكان البروتستانت محصورين في الثغور الجنوبية والمدن الصناعية، وكانت لهم الغلبة في لندن حيث تضخم عددهم بسبب اللاجئين إليها من وجه الظلم في القارة. أما في المقاطعات الشمالية والغربية- وكلها زراعية تقريباً- فكان عددهم لا يكاد يذكر(40). وكانت روح البروتستانت على أية حال، أشد حماساً وغيرة من الكاثوليك بشكل لا يقاس. وفي 1559 نشر جون فوكس كتاباً يصف فيه، في غضب شديد، معاناة البروتستانت في العهد السابق، وترجمت مجلدات الكتاب في 1563 تحت اسم Actesand Monuments (الأعمال والآثار)، وكانت معروفة بين الناس باسم "كتاب الشهداء" وكان لها أثر مثير في نفوس البروتستانت لأكثر من قرن من الزمان. وكان للبروتستانتية في القرن السادس عشر الطاقة المحمومة لفكرة جديدة تناضل من أجل المستقبل، على حين كان للكاثوليكية قوة المعتقدات والأساليب التقليدية المتأصلة في أعماق الماضي.
وفي الأقلية الآخذة في الانتشار زاد الاضطراب الديني من نزعة الشك، بل حتى الإلحاد، هنا وهناك. وباتت العقول العملية الواقعية شكاكة في كل النظريات اللاهوتية، بسبب الصراع بين المذاهب، والنقد المتبادل بينها، وتعصبها الدامي والتناقض بين الإيمان الذي يجهر به المسيحيون وبين سلوكهم. وإليك ما قال روجر أسكام في "المعلم" 1563:
إن الإيطالي الذي ابتدع لأول مرة المثل الإيطالي ضد رجالنا الإنجليز الذين تشبهوا بالإيطاليين، لم يعد يقصد زهوهم وخيلاءهم في حياتهم أكثر مما يقصد رأيهم القبيح في الدين. وإنهم لأشد اعتداداً بعظات شيشرون منهم برسائل القديس بولص، وبقصة من بوكاشيو منهم بقصص الكتاب المقدس، وانهم ليعتبرون أسرار المسيحية من قبيل الأساطير الخرافية، ويجعلون المسيح وإنجيله في خدمة السياسة المدنية، ثم إن المذهبين كليهما (البروتستانتية والكاثوليكية) لا يأتيان خطأ إليهم. وفي الوقت المناسب يرفعون من شأنهما علانية، وبين الجدران يسخرون منهما سراً.... وأنى استطاعوا سبيلاً، ومع رفاقهم، يضحكون أو يزدرون البروتستانتية والبابوية. ولا يلقون بالاً إلى الكتب المقدسة، وانهم ليهزأون بالبابا، ويشكون مر الشكوى، وبألفاظ جارحة، لوثر.... إن المعبود الذي يرتضون ليس إلا مسرتهم الشخصية ونفعهم الخاص. ومن ثم فانهم يعلنون في وضوح أنهم يتبعون في حياتهم مدرسة الأبيقوريين، وأنهم من الناحية النظرية ملحدون(41).
وشكا سيسل (1569) من "أن الساخرين من الدين والأبيقوريين والملحدين موجودون في كل مكان(42)". وفي 1571 صرح جون ستريب Strype "هناك كثيرون تخلوا عن الكنيسة تماماً، ولم يعودوا يحضرون لأداء واجباتهم الدينية(43)" وذهب جون ليلي Lyly، (1579) إلى أنه "لم يكن بين الوثنيين الهمجيين مثل هذه الفرق الدينية، ولا مثل هذه المعتقدات الخاطئة بين الكفار، مثل ما هو حادث الآن بين العلماء(44)". وألف علماء اللاهوت وغيرهم كتباً كثيرة ضد "الإلحاد" وهو يعني على أية حال الإيمان بالله، وعدم الإيمان بألوهية المسيح. وفي 1579، 1583، 1589 أحرق بعض الأفراد لإنكارهم ألوهية المسيح(45). واشتهر عدد من الروائيين- جرين، كد Kyd ومارو- بأنهم ملحدون. إن الدراما في عصر إليزابث- وهي فيما عدا ذلك تصور الحياة تصويراً شاملاً- تتضمن أقل القليل عن صراع المعتقدات، ولكنها تعرض الأساطير الوثنية أكبر عوض.
وفي رواية شكسبير Love's Labiur's Lost هناك بيتان غامضان:

أي تناقض هذا؟ السواد شارة الجحيم،
ولون السجن ومدرسة الليل.

وفسر كثيرون(46) العبارة الأخيرة على أنها تشير إلى الاجتماعات التي كان يعقدها والتر رالي، والعالم الفلكي توماس هالايوت، والعالم لورنس كيمس، وربما الشاعران مارلو وتشابمان، وغيرهم، وفي دار رالي الريفية في شربورن، لدراسة الفلك والجغرافيا والكيمياء والفلسفة واللاهوت. وقال أنتوني رود عالم الآثار عن هاريوت- ومن الواضح أنه الزعيم الفخري لهذه الجماعة- "إنه كانت لديه أفكار غريبة عن الكتب المقدسة، وكان دائماً يحط من قدر القصة القديمة عن الخلق (التكوين)..... وألف لاهوتاً نبذ فيه التوراة". لقد آمن بالله، ولكنه أنكر الوحي وألوهية المسيح(47)" وكتب روبرت بارسونز- وهو من الجزويت- في 1562 عن "مدرسة والتر رالي للإلحاد..... حيث كانت السخرية من موسى وعيسى المخلص، والتوراة والإنجيل على حد سواء، ولقن التلاميذ أن يطرحوا الرب وراء ظهورهم(48)" واتهم رالي بأنه استمع إلى بحث قرأه مارلو عن "الإلحاد". وفي مارس 1594 اجتمعت لجنة حكومية في Cerne Abbes في دورست، للتحقيق في الشائعات راجت عن مجموعة من الملحدين في الأماكن المجاورة، ومن بينها موطن رالي. ولم يؤد التحقيق إلى إجراء معروف لدينا اليوم. ولكن تهمة الإلحاد وجهت إلى رالي أثناء محاكمته (1603)(49). وفي مقدمة كتابه "تاريخ العالم" أشار إلى إيمانه بالرب، على أنه نقطة يتناولها بالتفصيل فيما بعد.
وحامت الشبهات في حرية الفكر حول إليزابث نفسها. ويقول جون ريتشارد جرين "لم توجد قط امرأة مثلها مجردة تجرداً تاماً من أية عاطفة نحو الدين(50)". ويقرر المؤرخ الإنجليزي فرود "أن إليزابث لم يكن لديها اقتناع عاطفي واضح.. وأنها، وهي كان إيمانها بصدق المذهب البروتستانتي والمذهب الكاثوليكي ضعيفاً على حد سواء، كانت تنظر باحتقار موسوم بالتسامح إلى كل الأفكار والنظريات اللاهوتية(51)". لقد دعت الله بأغلظ الأيمان التي أزعجت وزراءها. أن يدمرها إذا هي نقضت عهدها بالزواج من ألنسون، على حين أنها فيما بينها وبين نفسها سخرت من مزاعمه بطلب يدها(52). وصرحت الملكة لمبعوث أسباني بأن الفرق بين المذاهب المسيحية المتناحرة لم يكن سوى "شيء تافه"، ومن ثم استخلص أنها ملحدة(53).
وعلى الرغم من كل شيء، فإنها، مثل كل الحكومات تقريباً قبل 1789، اعتبرت كقضية مسلم بها، أن شيئاً من الدين وشيئاً من مصدر القوة الخارقة وشيئاً من الوازع الأخلاقي، كل أولئك أمور لا يمكن الاستغناء عنها من أجل النظام الاجتماعي والاستقرار في الدولة. ولفترة من الوقت، حتى دمت مركزها، بدا أنها تتردد، وتلاعبت على آمال زعماء الكاثوليك في احتمال أن يكسبوها في مذهبهم العام، لقد أحبت الطقوس الكاثوليكية وعزوبة رجال الدين الكاثوليك، ودراما القداس، ولربما كان من المحتمل أن تعقد أواصر السلام مع الكنيسة، لولا أن هذا كان يحمل في طياته الخضوع للبابا. وارتابت في الكاثوليكية على أنها قوة أجنبية يمكن أن تؤدي بالإنجليز إلى وضع إخلاصهم للكنيسة فوق ولائهم للملكة. ولقد ترعرعت في أحضان بروتستانتية والداها، وهي تعني الكاثوليكية بغير البابوية، وهذا، أساساً، هو ما عقدت العزم على إقراره من جديد في إنجلترا. وراودها الأمل في أن تهدئ الطقوس شبه الكاثوليكية في كنيستها الإنجليزية من روع الكاثوليك في الريف، على حين نبذ البابوية البروتستانت في المدن، وتشكل الرقابة الحكومية على التعليم الجيل وفق هذه التسوية التي دبرتها إليزابث، فيهدأ هذا الصراع الديني الذي يمزق البلاد، ويستتب السلام. إنها اتخذت من ترددها في موضوع الدين، مثل ترددها في أمر الزواج، وسيلة لخدمة أغراضها السياسية، وأبقت على أعدائها الأقوياء مذهولين ممزقين حتى أصبح في مقدورها أن تواجههم بحقيقة بارعة كاملة.
وحرضتها قوى كثيرة على استكمال الإصلاح الديني. وكتب إليها المصلحون الدينيون في أنحاء القارة شاكرين لها سلفاً إعادة العبادة الجديدة. وأثرت فيها رسائلهم. وكان الذين استولوا على الأراضي التي كانت ملكاً للكنيسة من قبل، ويرجون تسوية بروتستانتية. وأغرى سيسل إليزابث بان تجعل من نفسها زعيمة لأوربا البروتستانتية في لندن مشاعرهم بتحطيم تمثال للقديس توماس وإلقائه في عرض الطريق. وكان أول برلمان في عهدها- 23 يناير- 8 مايو (1559) بروتستانتياً بأغلبية ساحقة، وتمت الموافقة على الاعتمادات التي طلبتها دون تحفظ أو إبطاء. ومن أجل توفيرها فرضت ضريبة على كل الأفراد، دينيين أو علمانيين. وصدر قانون التنسيق الجديد Act Of Uniformity (18 أبريل 1559) وبمقتضاه أصبح "كتاب كرامر للصلوات العامة"، بعد مراجعته، هو قانون الطقوس الإنجليزية، وحرم كل ما عداه من الطقوس الدينية، وألغي القداس، وطلب إلى كل الإنجليز حضور صلوات يوم الأحد في الكنيسة الأنجليكانية، أو دفع غرامة قدرها شلن لمعونة الفقراء. وفي 29 أبريل صدر "قانون السيادة" الجديد الذي نص على أن تكون إليزابث الحاكم الأعلى لإنجلترا في المسائل الروحية والزمنية على السواء. ووضع "قسم السيادة" يعترف بالسيادة الدينية للملكة، وكان من المحتم أن يؤدي هذا القسم كل رجال الدين والمحامين والمعلمين، والمتخرجين في الجامعات والحكام والقضاة وكل موظفي الكنيسة والتاج، وعهد إلى محكمة كنسية ذات سلطة عليا، تختار الحكومة أعضاءها، بإجراء التعيينات الكبرى في الكنيسة واتخاذ القرارات الكنسية. وأي دفاع عن سلطة البابا على إنجلترا كان عقابه السجن مدى الحياة لأول مخالفة والموت للثانية (1563). ولم تأت سنة 1590 حتى كانت كل الكنائس الإنجليزية بروتستانتية.
وزعمت إليزابث أنها لم تضطهد حرية الرأي، فقالت أن لكل إنسان أن يتمتع بحرية الفكر وحرية العقيدة كما يشاء، شريطة أن يطيع القانون؛ وان كل ما تتطلبه هو الانسجام الخارجي، حرصاً على وحدة الأمة. وأكد لها سيسل: "أن هذه الدولة لن تستشعر الأمان والاطمئنان، ما دام فيها تسامح نحو عقيدتين(54)"- ولو أن هذا لم يمنعها من طلب التسامح مع البروتستانت الفرنسيين في فرنسا الكاثوليكية(55). ولم يكن لديها اعتراض على الرياء المسالم، على ألا تكون حرية الرأي هي حرية الكلام.ومن ثم فأن الوعاظ الذين لم يشاركوها وجهات نظرها في أي موضوع هام كان مصيرهم أن تخرس ألسنتهم أو يطردوا(56). وحددت من جديد قوانين الهرطقة وطبقت. وحرم من حماية القانون طائفة الموحدين (الذين يقولون بالتوحيد لا التثليث) والقائلين بإعادة تعميد البالغين(57). وأعدم أثناء حكم الملكة خمسة من المهرطقين، وهذا رقم متواضع في ذاك الزمان.
وحدد مجمع من رجال اللاهوت في 1563 المذهب الجديد. واتفق رأي الجميع على "القضاء والقدر"، فان الله بمحض مشيئته، قبل خلق الدنيا، ودون اعتبار لمزايا الإنسان أو مثالبه، كان قد اصطفى أفراد ليكونوا من الصفوة التي كتب لها الخلاص، على حين ترك بقية البشر من الهالكين الملعونين. وتقبلوا فكرة لوثر عن الخلاص بالإيمان بنعمة الله، ودم المسيح المخلص، على أنهم فسروا "القربان المقدس" بالمعنى الذي ذهب إليه كلفن، أي أنه اتصال روحي أكثر منه مادي بالمسيح. وبمقتضى قرار من البرلمان (1566) انتظمت المواد التسع، والثلاثون العقيدة الجديدة، وأصبحت إجبارية على كل رجال الدين في إنجلترا، ولا تزال تعبر عن المذهب الأنجليكاني الرسمي. وكذلك كانت الطقوس الجديدة حلاً وسطاً. فألغي القداس، ولكن مما أزعج البيوريتانز أن صدرت التعليمات إلى رجال الدين بارتداء الملابس الكهنوتية البيضاء عند تلاوة الصلوات وعند تقديم القربان المقدس. وكان يجب تناول القربان ركوعاً- في شكلي الخبز والنبيذ. واستبدل بالتوسل بالقديسين الاحتفال سنوياً بذكرى أبطال البروتستانتية، واستبقى تثبيت العماد ورسامة الكهنة على أنهما طقوس مقدسة، ولكن لا يعتبران من الأسرار المقدسة التي عينها السيد المسيح، وشجع الاعتراف للكاهن في حالة دنو الأجل فقط. واحتفظ كثير من الصلوات بصيغته الكاثوليكية الرومانية، ولكنها اكتست بالرداء الإنجليزي، وأصبحت جزءاً بارزاً عظيماً من آداب الأمة. ولمدة أربعمائة سنة، نفخت هذه الصلوات والتراتيل التي تتلوها الفرق أو الكاهن في الكاتدرائيات الفسيحة الفخمة، أو في كنيسة الأبرشية البسيطة- نقول نفخت في روح الأسرات الإنجليزية وحياتها، وزودتها بالسلوى والتهذيب الخلقي والهدوء العقلي.

إليزابث والكاثوليك
والآن جاء دور الكاثوليك ليعانوا من الاضطهاد. فقد كان محرماً عليهم-ولو انهم كانوا لا يزالون يشكلون الأغلبية-أن يقيموا الصلوات الكاثوليكية، أو يكون لهم أدب كاثوليكي. وحطمت الصور المقدسة في الكنائس بأمر الحكومة، كما أزيلت المذابح. وأرسل ستة من طلبة أكسفورد إلى "البرج" لمقاومتهم إزالة صليب يمثل صلب المسيح من كنيسة كليتهم(58)، وخضع معظم الكاثوليك للتعليمات الجديدة في حزن وأسى، ولكن عدداً كبيراً منهم آثر دفع الغرامة على حضور الطقوس الأنجليكانية. وجمع المجلس الملكي نحو خمسين ألفاً من هؤلاء "العصاة المتمردين" في إنجلترا (1580)(59). وشكا الأساقفة الأنجليكانيون إلى الحكومة من أن القداس كان يقام في بيوت خاصة، وأن الكاثوليكية بدأت تكون عبادة عامة، وأنه كان من الخطر في بعض الجهات المتحمسة أن يكون المرء بروتستانتياً(60). ووبخت إليزابث رئيس الأساقفة باركر على ترخيه (1565)، ومن ثم طبقت القوانين بشكل أشد صرامة. وأودع السجن الكاثوليك الذين حضروا القداس في كنيسة سفير أسبانيا، وفتشت البيوت في لندن-وأمر الأجانب الذين وجدوا فيها بالإدلاء ببيان عن ديانتهم، وطلب إلى الحكام أن يعاقبوا كل من يوجد في حوزته كتب المذهب الروماني الكاثوليكي (1567)(61).
ويجدر بنا ألا نحكم على هذا التشريع على أساس التسامح الديني النسبي الذي أكسبنا إياه الفلاسفة والثورات في القرنين السابع عشر والثامن عشر، فان المعتقدات آنذاك كانت تحارب بعضها بعضاً، وكانت متشابكة بالسياسة، وفي هذا المجال كان التسامح محدوداً. فقد اتفقت كل الأحزاب والحكومات في القرن السادس عشر على أن الانشقاق الديني كان شكلاً من التمرد السياسي. وأصبح الصراع الديني- عندما أصدر البابا بيوس الخامس- بعد إحساسه بأنه تأخر تأخيراً طويلاً مملاً- مرسوماً (1570)، لم يحرم إليزابث من الكنيسة فحسب، بل أحل رعاياها من الولاء لها كذلك، وحرم عليهم الامتثال لتنبيهاتها وأوامرها وقوانينها". ومنع انتشار المرسوم في أسبانيا وفرنسا اللتين كانتا تخطيان ود إنجلترا آنذاك، ولكن نسخة منه وضعت بطريقة سرية على باب مقر الأسقف البروتستانتي في لندن وسرعان ما كشف المجرم وأعدم، وعندما ووجه وزراء الملكة بهذا الإعلان للحرب، طلبوا إلى البرلمان سن قوانين أشد صرامة ضد الكاثوليك، وصدرت تشريعات تنص على أنه يعتبر من الجرائم التي يعاقب مرتكبوها بالإعدام: قذف الملكة بأنها هرطقية أو منشقة أو مغتصبة، أو طاغية، أو إدخال مرسوم بابوي إلى إنجلترا، أو تحويل بروتستانتي إلى الكنيسة الرومانية(62). وفوضت المحكمة العليا في اختبار آراء أي فرد مشتبه فيه، وأن تعاقبه على أية مخالفة لأي قانون، لم يعاقب عليها من قبل، بما في ذلك الفسق أو الزنى(63).
ولم يجد ملوك أوربا الكاثوليك لديهم من الجرأة ما يحتجون به على هذه الإجراءات الظالمة التي شابهت إجراءاتهم إلى حد كبير، واستمر معظم كاثوليك إنجلترا على الخضوع في سلام، وأملت حكومة إليزابث في أن تؤدي العادة إلى القبول والرضا، ثم الإيمان في الوقت المناسب، ولكن حال دون هذا أن وليم ألن Allen المهاجر الإنجليزي أسس في دوي Douai (مدينة في شمال فرنسا) ثم في الأراضي الوطيئة الأسبانية، كلية ومعهداً لتدريب المبعوثين الإنجليز الكاثوليك لإرسالهم إلى إنجلترا. وأفصح عن غرضه في حماسة قائلاً:
إن دراستنا في المقام الأول... تقوم على أن نثير في عقول الكاثوليك الحماسة والازدراء المبني على حق بالهراطقة. وإنا لنفعل هذا بأن نضع أمام أعين الطلاب الجلال الفريد الذي تتميز به طقوس الكنيسة الكاثوليكية في المكان الذي نعيش فيه... وفي نفس الوقت نعيد إلى الذاكرة النقيض المحزن الذي يحدث في وطننا، ألا وهو الدمار الشامل الذي حل بكل الأشياء المقدسة هناك... وأصدقائنا وأقربائنا، وأعزائنا، إلى جانب الأرواح التي لا تحصى، ممن هلكوا في الانشقاق والكفر، وفي الأبراج المحصنة والسجون المكتظة عن آخرها، لا باللصوص والأشرار، بل بكهنة المسيح وخدامه، بل كذلك بآبائنا وأنسبائنا وعشيرتنا. ومن ثم فليس هناك شيء يجدر بنا ألا نكابده، أكثر من أن نتعهد بعلاج ما تعانيه أمتنا من علل(64).
وعملت الكلية في دوي حتى 1578، حين استولى الكلفنيون على المدينة، ثم في ريمس، ثم في دوي ثانية (1593). وأخرج إنجيل دوي-وهو ترجمة إنجليزية عن الأصل اللاتيني الذي وضعه جيروم-في ريمس ودوي (1582-1610) وكان معداً للنشر قبل طبعة الملك جيمس بسنة واحدة. وفيما بين عامي 1574 و1585 رسمت الكلية 275 كاهناً من المتخرجين فيها، وأرسلت 268 منهم للعمل في إنجلترا. واستدعى ألن إلى روما وعين كاردينالاً. ولكن العمل في الكلية استمر، وأرسلت 170 كاهناً آخر إلى إنجلترا قبل وفاة إليزابث (1603)، ومن مجموع هؤلاء المبعوثين (438) عوقب 98 بالإعدام.. وانتقلت رياسة هذه الإرساليات إلى رجل من الجزويت، هو روبرت بارسونز Parsons، وهو رجل يتقد حماسة وجرأة وشجاعة، قوي الحجة شديد المراس في المناظر والجدل، بارع في النثر الإنجليزي. وأعلن بصراحة أن مرسوم خلع إليزابث يبرر قتلها. وصعق كثير من الكاثوليك الإنجليز لدى سماع هذا التصريح، ولكن تولوميو جالي، أحد مستشاري البابا جريجوري الثالث عشر السياسيين أبدى موافقته على هذه الفكرة(65) . وحرض بارسونز الدول الكاثوليكية على غزو إنجلترا، ولكن السفير الأسباني في إنجلترا استنكر هذه الخطة على أنها "حماقة إجرامية"، وحرم إقرار مركوريان Everard Mercurian رئيس طائفة الجزوبث-على بارسونز التدخل في السياسة(67). ولم يرتدع، وعقد العزم على أن يغزو إنجلترا شخصياً. وتنكر في زي ضابط إنجليزي عائد من الخدمة في الأراضي الوطيئة. وهيأت له عصاه العسكرية وسترته الموشاة بالخيوط الذهبية وقبعته ذات الريش، الوصول إلى موظفي الحدود (1580)، بل انه كذلك مهد الطريق لرجل آخر من الجزوبت، ادموند كامبيون، ليتبعه في زي تاجر مجوهرات، وأقاما سراً في قلب لندن.
وزار الرجلان الكاثوليك المسجونين، ووجدا أهم يعاملون معاملة حسنة. وقد جندا معاونين علمانيين وروحانيين، وشرعا في العمل، يحثان ويشجعان الكاثوليك على أن يبقوا مخلصين للكنيسة، ويردان البروتستانت الحديثين إلى مذهبهم الأول. ولكن القساوسة المدنيين المختفين في إنجلترا، الذين روعتهم جرأة الرجلين، أنذروهما بأنهما لا بد أن يكشف أمرهما ويقبض عليهم سريعاً، وان اكتشافهما سوف يسيء أكثر إلى الكاثوليك، وتوسلوا إليهما أن يعودا إلى القارة. ولكن بارسونز وكامبيون تمسكا بموقفهما. وانتقلا من بلد إلى بلد، يعقدان الاجتماعات سراً ويسمعان الاعترافات، ويقيما القداس، ويمنحان البركات للمصلين الهامسين الذين نظرا إليهما على أنهما رسولان من عند الله. وقيل إنهما في بحر سنة من قدومهما حولا عشرين ألف مرتد(68)، وانشأ مطبعة ونشرا الدعاية، ولقد وجدت في شوارع لندن نشرات جاء فيها أنه ما دامت إليزابث قد حرمت من الكنيسة، فإنها لم تعد الملكة الشرعية لإنجلترا(69). وأرسل رجل جزويتي ثالث إلى أدنبرة ليحرض الاسكتلنديين الكاثوليك على غزو إنجلترا من الشمال. ولبى ارل وستمورلاند نداء من الفاتيكان، وأحضر معه من روما إلى الفلاندرز مجموعة من السبائك الذهبية لتمويل الغزو من الأراضي الوطيئة. وفي صيف 1581 اعتقد كثير من الكاثوليك أن قوات دوق ألفا الأسبانية سوف تعبر البحر إلى إنجلترا(70).
وتلقت الحكومة الإنجليزية تحذيرات من جواسيسها، فضاعفت جهودها للقبض على الجزويت. أما بارسونز فقد شق طريقه عبر القنال الإنجليزي، ولكن قبض على كامبيون في يوليه 1581. ونقل إلى "برج لندن" عبر القرى المتعاطفة ولندن المعادية. وأرسلت إليزابث في طلبه وحاولت إنقاذه. وسألته: هل يعتبرها عاهله الشرعي؟ فرد بالإيجاب. وكان سؤالها الثاني هل يستطيع البابا قانوناً أن يحرمها من الكنيسة؟ فأجاب بأنه لا يستطيع أن يبت في مسألة اختلف عليها أولو العلم. فأعادته إلى البرج، مع توجيهات بحسن معاملته، ولكن سيسل أصدر أوامره بتعذيبه حتى يعترف بأسماء رفاقه المتآمرين. وبعد يومين من الكرب والألم المبرح استسلم وأدلى ببضعة أسماء، فألقى القبض على عدد آخر من الأفراد. فلما استعاد جرأته تحدى رجال الدين البروتستانت أن يشهدوا معه حواراً عاماً. وعقد الحوار في كنيسة برج لندن، بإذن من مجلس شورى الملكة، وسمح لرجال البلاط والمسجونين والجمهور بحضوره، ووقف الجزويتي على ساقيه الواهنتين عدة ساعات يدافع عن المذهب الكاثوليكي. ولم يقنع أحد الطرفين الآخر. ولكن عندما قدم كامبيون إلى المحاكمة لم يتهم بالزندقة، بل وجهت إليه تهمة التآمر على قلب الحكومة عن طريق التخريب الداخلي والغزو الخارجي. وأدين كامبيون وأربعة عشر شخصاً معه، وشنقوا في أول ديسمبر 1581.
إن أولئك الكاثوليك الذين تنبأوا بأن بعثة الجزويت سوف تغضب الحكومة وتؤدي بها إلى مزيد من الاضطهاد، اثبتوا أنهم كانوا على حق. وأصدرت إليزابث نداء إلى رعاياها، ليفصلوا بينها وبين أولئك الذين ابتغوا سبيلاً إلى عرشها أو حيائها واصدر البرلمان (1581) قانوناً ينص على أن الارتداد إلى الكاثوليكية سوف يعاقب بتهمة الخيانة العظمى، وأن أي قسيس يقيم قداساً يعاقب بغرامة قدرها مائتا مارك مع السجن لمدة عام، وأن من يمتنع عن حضور الصلوات الأنجليكانية يعاقب بدفع عشرين جنيهاً في الشهر(71)، وهذا يكفي لإفلاس الناس اللهم إلا أثرياء الكاثوليك. وكان العجز عن دفع الغرامة يستتبع الاعتقال ومصادرة الأملاك. وسرعان ما امتلأت السجون بالكاثوليك إلى حد أن القلاع القديمة استعملت بمثابة سجون(72). وساد التوتر كل الجوانب، وزاد من حدته ما كان مرتقباً من إعدام ماري ستيوارت، والصراع المتزايد مع أسبانيا وروما. وفي يونية 1583 قدم أحد سفراء البابا إلى جريجوري الثالث عشر خطة تفصيلية لغزو إنجلترا بثلاثة جيوش في وقت واحد، من إيرلندا وفرنسا وأسبانيا، وأبدى البابا تقديره وتأييده لمشروع غزو إنجلترا، واتخذت الإجراءات اللازمة له(73). ولكن الجواسيس الإنجليز تنسموا أخبار هذه التدابير، واتخذت إنجلترا ترتيبات مضادة، وأجل الغزو.
وثأر البرلمان بمزيد من تشريعات القمع. فكل القساوسة الذين رسموا منذ يونية 1559 وظلوا على امتناعهم عن أداء "قسم السيادة"، طلب إليهم أن يغادروا البلاد في بحر أربعين يوماً، وإلا أعدموا بتهمة التآمر الموسوم بالخيانة العظمى، وشنق كل من آووهم أو أخفوهم(70). وبمقتضى هذا القانون وغيره من القوانين أعدم في عهد إليزابث 123 قسيساً و60 من العلمانيين، وربما قضى مائتان آخرون نحبهم في السجن(75). واحتج بعض البروتستانت على قساوة هذا التشريع، وارتد بعضهم إلى الكاثوليكية. وفر وليم، حفيد سيسل إلى روما (1585) واقسم يمين الطاعة للبابا(76).
وكان معظم الكاثوليك الإنجليز يعارضون أي إجراء عنيف ضد الحكومة. وفي 1585 وجهت زمرة منهم إلى الملكة إليزابث نداء أكدوا فيه ولاءهم، والتمسوا "النظر بعين العطف والرحمة إلى ما يعانون من شقاء". ولكن- وكأنما كان يؤيد ما زعمته الحكومة من أن إجراءاتها إنما تبررها الحرب- أصدر الكاردينال ألن (1588) منشوراً قصد به شحذ همم الإنجليز الكاثوليك لمساندة هجوم أسبانيا الوشيك على إنجلترا. ودمغ الملكة بأنها "ابنة زنى حمل بها وولدت في الخطيئة لأم سيئة السمعة من محظيات البلاط" واتهمها "بأنها باعت جسدها ولوثته مع ليستر وكثيرين غيره،... مما يندى الجبين لذكره، وبما لا يصدق من ألوان الشهوة والفسق"، وأهاب بالكاثوليك في إنجلترا أن يهبوا في وجه هذه الهرطقية الفاسقة اللعينة المحرومة من الكنيسة"، "ووعد بأكبر التسامح والغفران كل من يعاون في خلع "رأس الخطيئة والمقت في هذا العصر(77)" فما كان جواب الكاثوليك في إنجلترا ألا أن قاتلوا بمثل البسالة التي قاتل بها البروتستانت ضد الأسطول الأسباني" "الأرمادا".
واستمر الاضطهاد بعد هذا الانتصار، كجزء من الحرب المستمرة، وشنق 61 قسيساً و49 علمانياً فيما بين عامي 1588- 1603. واقتلع كثير من هؤلاء من المشنقة وسحبوا ونزعت أحشاؤهم وقطعوا إرباً- وهم أحياء(78). وفي خطاب شهير قدم إلى الملكة في عام وفاتها، التمس 13 قسيساً الترخيص لهم بالبقاء في إنجلترا. وتبرءوا من كل عدوان على حقها، وأنكروا أي سلطان للبابا في خلعها، ولكنهم لم يستطيعوا، في ضمائرهم، أن يعترفوا بغير البابا على رأس الكنيسة المسيحية(79). ووصلت هذه الوثيقة إلى الملكة قبل وفاتها بأيام قلائل، ولم يرد ذكر شيء عن نتيجتها، ولكنها، عن غير عمد، ولمدة قرنين من الزمان، رسمت المبادئ التي يمكن على أساسها حل المشكلة. ووافى الملكة أجلها منتصرة في أعظم صراع شهده عهد لم يلطخ بشيء أسوأ من هذا الانتصار.
إليزابث والبيوريتانيون (المتطهرون)
لم تنتصر إليزابث على العدو الذي كان من الواضح أنه أشد ضعفاً، وهم حفنة من البيوريتان. وكانوا رجالاً أحسوا تأثير كلفن، وكان بعضهم قد زار جنيف في أيامه بوصفهم لاجئين مريميين، وقرأ كثيرون الإنجيل الذي ترجمه وزوده بالملاحظات والتعليقات جماعة من أتباع كلفن بجنيف، وكان بعضهم قد سمع أو قرأ عن نفخات بوق جون نوكس (واعظ ومصلح ديني بروتستانتي اسكتلندي في القرن 16)، وربما كان بعضهم قد سمع أصداء حركة ويكلف وأتباعه "القساوسة الفقراء". وقد اتخذوا من الإنجيل دليلاً لا يخطئ، فلم يجدوا فيه شيئاً عن السلطات الأسقفية والملابس الكهنوتية التي نقلتها إليزابث عن الكنيسة الرومانية إلى الكنيسة الأنجليكانية، بل إنهم على النقيض من ذلك وجدوا كثيراً عن المشايخ (الكهنة) الذين لم يكن لهم سيد أو ملك غير المسيح، واقروا بأن إليزابث رأس الكنيسة في إنجلترا، لا لشيء إلا لغل يد البابا، ولكنهم في أعماق قلوبهم، رفضوا أية رقابة من الدولة على الكنيسة، وتمنوا أن تكون لديانتهم الرقابة على الدولة. وبدئ حوالي 1564 بتسميتهم "البيوريتانز" (المتطهرون) وهو لفظ أسيء استخدامه، لأنهم طالبوا بتطهير المذهب البروتستانتي الإنجليزي من كل الطقوس والعبادات غير الواردة في العهد الجديد- الإنجيل. واستمسكوا كل الاستمساك بنظريات القضاء والقدر، والاصطفاء، واللعنة الأبدية، وأحسوا أنه لا مهرب من الجحيم إلا بإخضاع كل ناحية من نواحي الحياة للدين والأخلاق. وكلما قرءوا الإنجيل في أيام الأحد المقدسة المهيبة في بيوتهم، كاد أن يتوارى شكل المسيح أمام الرب الحقود المحب للانتقام "يهوه" الوارد ذكره في التوراة (إشارة إلى تشددهم وقسوتهم).
وبدأت حملة البيوريتانز على إليزابث في الظهور (1569) عندما ألحت محاضرات توماس كارتريت أستاذ اللاهوت في كمبردج، على أوجه التناقض بين نظام المشيخية في الكنيسة المسيحية القديمة والكيان الأسقفي في الكنيسة الرسمية الأنجليكانية. وأيد كثيرون في الكلية كارتريت، ولكن جون وتجفت Whitgift رئيس كلية ترنتي، أبلغ الملكة بما كان من أمر كارتريت ووشى به لديها، وحصل على موافقتها، على فصله من هيئة التدريس (1570). وهاجر كارتريت إلى جنيف حيث نهل-تحت رياسة تيودور دي بيز De Beze- أصول التيوقراطية الكلفنية في أقوى صورها. ولدى عودته إلى إنجلترا، أسهم مع والتر ترافرس وآخرين في صياغة فكرة البيوريتانز عن الكنيسة. ومن رأيهم أن السيد المسيح كان قد استن أن يعهد بالسلطة الكنسية إلى الكهنة وكبار السن من العلمانيين، كل أولئك تنتخبهم كل أبرشية ومديرية ودولة. وتقرر الهيئة المشكلة على هذا النحو، المذهب والطقوس والقانون الأخلاقي، بما يتسق مع ما جاء في الكتاب لمقدس. وكان ينبغي أن يكون لهم حق الدخول إلى كل بيت، والسلطة التي يفرضون بها الالتزام "بالحياة الربانية أو بأوامر الرب ونواهيه"، ومن حيث المظهر الخارجي على الأقل، كما يكون لهم الحق في حرمان المتمردين من الكنيسة، والحكم بإعدام الهراطقة. وكان على القضاة المدنيين أن ينفذوا هذه المراسيم التنظيمية، على ألا يكون أي سلطان قضائي روحي بأي شكل من الأشكال(80).
وأسست أول أبرشية إنجليزية على هذه المبادئ في واند زورث Wandswirth في 1572، وقامت كنائس (مشيخيات) مماثلة في المقاطعات الشرقية والوسطى. وفي هذا الوقت كانت أغلبية البروتستانت في لندن وفي مجلس العموم من البيوريتانز.
واستحسن الحرفيون في لندن، الذين تسربت إليهم بقوة مبادئ كلفن، عن طريق اللاجئين الكلفنيين من فرنسا والأراضي الواطئة- نقول استحسن هؤلاء الحرفيون، هجوم البيوريتانز على النظام الأسقفي وعلى الطقوس. ونظر رجال الأعمال في العاصمة إلى البيوريتانية على إنها حصن منيع للبروتستانتية ضد الكاثوليكية التي لا تنظر بعين الرضا بصفة تقليدية إلى "الربا" وإلى الطبقة المتوسطة. وكان كلفن "صارماً" بعض الشيء في نظرهم ولكنه كان قد أقر "الفائدة" واعترف بمزايا الصناعة والادخار، وحتى المقربون إلى الملكة وجدوا بعض الخير لهم في البيوريتانية، بل أن سيسل ولستر، وولسنجهام ونولليس راودهم الأمل في أن يستخدموها سيفاً يشهرونه في وجه الكنيسة الكاثوليكية إذا وصلت ماري ستيوارت إلى عرش إنجلترا(81).
ولكن إليزابث أحست بان الحركة البيوريتانية تهدد كل التسوية التي دبرتها لتهدئة الصراع الديني، وارتأت أن الكلفنية شبيهة بنظرية جون نوكس الذي لم تغفر له الملكة قط احتقاره لحكم النساء. واحتقرت النظريات البيوريتانية المتشددة من كل قلبها، وربما إلى حد أكبر من كراهيتها للكاثوليكية، وكان لها ولع قديم بصورة المسيح المصلوب، وغيرها من الصور الدينية، وعندما دمرت الثورة ضد الصور المقدسة اللوحات والتماثيل والزجاج الملون في أوائل حكمها(82)، قدمت التعويضات إلى ضحايا الثورة، وحظرت اقتراف مثل هذا العمل في المستقبل(83). ولم تكن تهتم بالتفاصيل الدقيقة في كلامها، ولكنها استاءت من الوصف الذي نعت به أحد البيوريتانيين "كتاب الصلوات بأنه نفاية مأخوذة من الأقذار البابوية: كتاب القداس"، وما نعت به محكمة اللجنة العليا من أنها "خندق بغيض صغير(84)". كما رأت الملكة في الانتخاب العام للكهنة وفي الحكومة الكنسية عن طريق المشايخ والمجالس الكنسية المستقلة عن الحكومة، شيئاً من النظام الجمهوري الذي يهدد الملكية. ورأت أن سلطتها فحسب هي التي يمكن أن تبقي على البروتستانتية في إنجلترا، أما الاقتراع فيؤدي إلى عودة الكاثوليكية.
وشجعت الأساقفة على التنكيل بمثيري الفتنة، فأوقف رئيس الأساقفة باركر مطبوعاتهم، وأخرس ألسنتهم في الكنائس، ومنع اجتماعاتهم. وكان رجال الدين البيوريتانز ينظمون اجتماعات للمناقشة العامة في نصوص الكتب المقدسة، فأصدرت إليزابث أمرها إلى باركر بوضع حد لهذه "المواعظ" ففعل. وحاول خلفه أدموند جرندال أن يحمي البيوريتانز، ولكن إليزابث أوقفته عن العمل. ولما مات (1583) عينت في منصب رئيس أساقفة كنتربري، قسيسها الجديد، جون وتجفت Whitgift الذي نذر نفسه لإخراس ألسنة البيوريتانز. وطلب إلى جميع رجال الدين الإنجليز أن يؤدوا قسماً بقبول "المواد التسع والثلاثين"، وكتاب الصلوات، والسيادة الدينية للملكة، واستدعى كل المعارضين للمثول أمام محكمة اللجنة العليا، وهنا تعرضوا لتحقيق تفصيلي ملح عن سلوكهم ومعتقداتهم، إلى حد أن سيسل وازن بين هذا الإجراء وبين محاكم التفتيش(85).
وازدادت حدة الثورة البيوريتانية، وانشقت أليه ذات عزم أكيد عن حظيرة الكنيسة الأنجليكانية، وعقدت مجامع مستقلة لانتخاب الكهنة الخاصين بها، ولم تعترف بأية رقابة أو سيادة أسقفية. وفي 1581 أقلع إلى هولندة روبرت براون-وكان تلميذ كارتريت (ثم أصبح عدواً له فيما بعد)، وأول لسان ناطق باسم هؤلاء "المستقلين" أو "الانفصاليين" أو "الأبرشانيين" (الذين يقولون بالاستقلال الذاتي لكل أبرشية)، وهناك نشر كراستين صاغ فيهما دستوراً ديموقراطياً للمسيحية نص فيه على أنه يجب أن يكون لأية جماعة مسيحية الحق في أن تنظم عبادتها، وتشكل عقيدتها على أساس الكتاب المقدس، وتختار رؤساءها وقادتها وتحيا حياتها الدينية متحررة من أي تدخل أجنبي، ولا تعترف إلا بحكم الكتاب المقدس، وسلطان المسيح، وقبض في إنجلترا على أثنين من أتباع براون واتهما بالطعن في السيادة الدينية للملكة، وشنقا (1583).
وفي الحملات الانتخابية لبرلمان 1586 شن البيوريتانز حرباً خطابية على كل مرشح غير متعاطف مع مبادئهم. ودمغ مثل هذا الشخص بأنه "مقامر، مدمن على الخمر، كما وصم آخر بأنه "أقرب إلى البابوية أو الكثلكة، قلما يأتي إلى كنيسته وانه داعر خليل للبغايا "وتلك كانت أيام الكلام القوي الحاسم. وعندما اجتمع البرلمان قدم جون بنيري التماساً لإصلاح الكنيسة، واتهم الأساقفة بالمسئولية عن مفاسد رجال الدين وعن الوثنية الشائعة. وأمر وتجفت باعتقاله، ولكن سرعان نا أفرج عنه. وتقدم أنطوني كوب Cobe بمشروع قانون بإلغاء الكنيسة الرسمية الأسقفية برمتها وإعادة تنظيم المسيحية الإنجليزية على أساس الخطة المشيخية (على أساس الانتخاب). وأصدرت إليزابث أمرها إلى البرلمان بعدم عرض مشروع القانون هذا للمناقشة. وأثار بيتر ونتورث موضوع الحرية البرلمانية، وأيده أربعة آخرون من الأعضاء. فما كان إليزابث إلا أن زجت بالخمسة جميعاً في السجن في برج لندن.
ولما خاب فأل البيوريتانز في البرلمان، انصرف بنري وآخرون إلى المنشورات، وتخلصا من رقابة وتجفت الشديدة على المطبوعات، وأغرقوا إنجلترا (1588-1589)، بوابل من الكراسات المطبوعة سراً، وكلها ممهورة بتوقيع "Martin Marprelate Gentleman" هاجموا فيها سلطة الأساقفة وخلقهم الشخصي في نقد لاذع بذيء ممتلئ بالسباب. وبث وتجفت واللجنة العليا كل أجهزة التجسس للكشف عن المؤلفين والطابعين. ولكن هؤلاء كانوا ينتقلون من بلا إلى آخر، وساعدهم تعاطف الجمهور معهم على الإفلات من أيدي الجواسيس حتى أبريل 1589. واستخدم الكتاب المحترفون-مثل جون ليلي، وتوماس ناش-في الرد على مارتن (صاحب التوقيع) ونافسوه أيما منافسة في البذاءة. وأخيراً، وعندما نفدت لغة السوقة، خفت حدة الشتائم والتراشيق، ورثى الرجال المعتدلون لامتهان المسيحية على هذا النحو والانحدار بها إلى فن للمهاقرة والقدح. وآلمت هذه النشرات الملكة أشد الإيلام فأطلقت يد وتجفت في كبح جماح البيوريتانز. ولقد عثر على من تولوا طبع Marprelate، وزاد عدد المقبوض عليهم، وتلا ذلك تنفيذ الإعدام، وصدر الحكم بإعدام كرتريت، ولكن الملكة أصدرت عفواً عنه. وفي 1593 شنق اثنان من زعماء "حركة براون"، هما جون جرينلند وهنري بارو، وسرعان ما لحق بهما جون بنري. وأصدر البرلمان (1593) قانوناً ينص على أن كل من يعترض على السيادة الدينية للملكة، أو يتغيب عمداً عن الصلوات في الكنيسة الأنجليكانية، أو يشهد "اجتماعات أو صلوات سرية غير مشروعة أو لقاءات تحت ستار ممارسة العقيدة أو ادعاء لممارستها" يعاقب بالسجن- فإذا لم يتعهد بالتزام العقيدة الرسمية، عليه أن يغادر إنجلترا دون رجعة، وإلا كان جزاءه الموت(86).
وعند هذا الحد، وسط هذا العنف البالغ والاضطراب الشديد، ارتفع قس متواضع بموضع النزاع إلى مستوى الفلسفة والتقوى والنثر الرائع. وكان ريتشارد أحد أثنين من رجال الدين عهد إليهما بإقامة الصلوات في معبد لندن، أما الثاني فهو والتر ترافرس؛ صديق كارتريت. وفي موعظة الصباح دافع هوكر عن سيادة إليزابث الدينية، وفي المساء انتقد ترافرس حكومة الكنيسة من وجهة نظر البيوريتانز، ووسع كل منهما عظته حتى صارت كتاباً. ولما كان هوكر يكتب أدباً كما يكتب اللاهوت، فقد توسل إلى أسقفه أن ينقله إلى بيت ريفي هادئ. ومن ثم فإنه في بسكوم Boscombe ولتشير أكمل الأجزاء الأربعة الأولى من مؤلفاته "قوانين الدولة الكنسية" (1594)، وبعد ذلك بثلاثة أعوام، في Bishopsbourne أرسل الكتاب الخامس إلى المطبعة، وهناك في سنة 1600 قضى نحبه، وهو في سن السابعة والأربعين. ولقد أدهشت إنجلترا "قوانينه" بالوقار الهادئ غير المتحيز الذي اتسمت به مناقشته وحججه، والعظمة الرنانة التي تميز بها أسلوب كتبه الذي كاد أن يكون لاتينياً. وامتدحه الأسقف ألن بأنه خير كتاب أخرجته إنجلترا. وأثنى عليه البابا كليمنت الثامن لفصاحته وغزارة علمه. وقرأته إليزابث شاكرة ممتنة على أنه دفاع مجيد عن حكومتها الدينية. وسكن روع البيوريتانز لما رأوا من الوضوح المهذب في لهجته. وتلقته الأجيال بوصفه مجاملة نبيلة للتوفيق بين الدين والعقل، وأدهش هوكر معاصريه بتسليمه بأن البابا نفسه يمكن تخليصه. وأذهل هوكر رجال اللاهوت بتصريحه بأن "توكيد ما نؤمن به بكلمة الرب ليس مقنعاً لنا قدر الاقتناع بما ندركه بالعقل(87)" وأن موهبة التعليل والتعقل، إن هي إلا هبة وإلهام من عند الله.
بنى هوكر نظريته في "القانون" على فلسفة العصور الوسطى التي صاغها توماس الأكويني، وسبق نظرية "العقد الاجتماعي" التي جاء بها هويز ولوك. وبعد أن أبرز ضرورة التنظيم الاجتماعي ونعمته، جادل في أن الاشتراك الاختياري في مجتمع يتضمن قبول الحكم بقوانينه، ولكن المنبع الأساسي للقوانين هو الجماعة نفسها. وقد يصدر الملك أو البرلمان القوانين بوصفه مفوضاً أو ممثلاً للجماعة فحسب. "إن القانون يصنع الملك، وان أية منحة أو منة من الملك تتعارض نع القانون عقيمة لا قيمة لها.... ومن أجل الرضا السلمي من جانب الطرفين، تبدو موافقة المحكومين ضرورية... وليست القوانين هي تلك التي لم يجعل منها الاستحسان العام قوانين(88)". وأضاف هوكر نبذة ربما أزعجت شارل الأول:
إن برلمان إنجلترا، مع المجمع الكنسي الذي انضم إليه، هو الأساس الذي تعتمد عليه كل حكومة في هذه المملكة. بل انه جسم المملكة بأسرها، انه ينتظم الملك وكل رعاياه على هذه الأرض، لأنهم موجودون جميعاً هناك بأشخاصهم، أو انهم فوضوه مختارين(89). وبدا الدين في نظر هوكر جزءاً لا يتجزأ من الدولة، لأن النظام الاجتماعي، ومن ثم الازدهار المادي نفسه، يعتمدان على التنظيم الأخلاقي الذي ينهار إذا لم يغرسه الدين ويدعمه. ولذلك ينبغي على كل دولة أن توفر التعليم الديني لشعبها. وقد يشوب الكنيسة الأنجليكانية بعض الشوائب. ولكن هذا هو ما ينتظر من أية نظم يقيمها بنو آدم أو يعملون بها. "إن هذا الذي يجوب الآفاق ليقنع الناس بأنهم ليسوا كما ينبغي أن يكونوا عليه، من أوضاع مرضية، لن يعوزه من ينصتون إليه ويتعاطفون معه، لأنهم يعرفون النقائص البشرية التي تتعرض لها حكومة أيا كان نوعها. أما العوائق والصعاب الخفية التي تحصى والتي لا يمكن تفاديها في مجريات الأمور العامة، فليس من المألوف أن يكون لأي الناس من التمييز والعقل ما يمكنهم من النظر إليها وتقديرها(90)". وكان منطق هوكر غير مباشر بدرجة كان معها غير مقنع كما كان علمه تقليدياً قديماً بحيث لم يواجه قضايا عصره، كما كان يلتزم الحذر والتحفظ إلى حد شكر معه النظام وامتدحه فلم يدرك اللهفة على الحرية. وأقر البيوريتانز بفصاحته، ولكنهم ساروا في طريقهم واضطروا إلى الخيار بين وطنهم وعقيدتهم، فهاجر كثير منهم، مؤلبين الحركة البروتستانتية في القارة على إنجلترا، ورحبت هولندة بهم وقامت المجامع الإنجليزية في مدلبرج وليدن وأمستردام، وهناك عمل المنفيون وذرياتهم بجد وعملوا ووعظوا وكتبوا، وبذلك مهدوا الطريق في شغف هادئ لانتصاراتهم في إنجلترا وتوفيقهم في أمريكا.
إليزابث وإيرلندة
غزا الإنجليز إيرلندة بين عامي 1169-1171، ووضعوا أيديهم عليها منذ ذلك الوقت، على أساس أنها، بغير ذلك، سوف تستخدمها فرنسا وأسبانيا كقاعدة لشن الهجمات على إنجلترا. وعند اعتلاء العرش كان الحكم الإنجليزي المباشر في إيرلندة مقصوراً على الساحل الشرقي، حول دبلن وفي جنوبها "The Pale". أما باقي الجزيرة فكان يحكمه شيوخ القبائل الايرلنديون الذين اعترفوا لإنجلترا بالسيادة الاسمية فقط. وعوق الصراع الدائم مع الإنجليز الإدارة القبلية التي كانت قد جلبت لإيرلندة الفوضى والعنف، ولكنها كذلك هيأت لها الشعراء والعلماء والقديسين، وكانت الغابات والمستنقعات تغطي معظم الأرض، وكان النقل والمواصلات بمثابة مغامرات بطولية، وعاش السكان الأصليون الكلتيون وعددهم نحو 800.000 نسمة، في بؤس على حافة الهمجية لا يكاد يسود فيهم قانون. وكاد الإنجليز في إقليم "البال" أن يكونوا على مثل هذه الحال من الفقر، وازدادت مشكلة إليزابث سوءاً بفسوقهم وإختلاساتهم وجرائمهم، ودأبوا على اغتصاب أموال حكومة لندن، مثل دأبهم على سلب الفلاحين الايرلنديين. وأثناء حكم إليزابث أخرج المستوطنون الإنجليز ملاك الأراضي والمستأجرين عن أراضيهم عن طريق "بيوع التصفية"، وناضل من انتزعت أملاكهم إلى حد ارتكاب جريمة القتل، وأصبحت حياة الغالبين والمغلوبين، على حد سواء، جحيماً لا يطاق من العنف والكراهية. وذهب سيسل نفسه إلى حد القول بأن "الفلمنكيين لم يكن لديهم ما يحملهم على الثورة على ظلم الأسبان، مثل ما كان لدى الايرلنديين للثورة ضد الحكم الإنجليزي(91)". وقامت سياسة إليزابث في إيرلندة على اقتناعها بأن أيرلندة الكاثوليكية سوف تكون خطراً يهدد إنجلترا البروتستانتية، فأمرت بفرض البروتستانتية فرضاً كاملاً في أنحاء الجزيرة. وحرم القداس، وأغلقت الأديرة وتوقفت الصلوات العامة خارج إقليم "البال" الضيق. وظل القساوسة مختفين عن الأنظار، وأدوا الأسرار المقدسة لقليل من الناس خفية. وكادت الأخلاق أن تختفي بعد الحرمان من الدين والسلام، وانتشر القتل والسرقة والزنى والاغتصاب والسلب، وغير الرجال زوجاتهم دون تذمر أو وخز من الضمير، واستصرخ الزعماء الايرلنديون البابا وملك أسبانيا لحمايتهم أو نجدتهم. وخشي فيليب الثاني أن يغزو إيرلندة حتى لا يغزو الإنجليز الأراضي الوطيئة ويساعدوا ثوارها، ولكنه أسس مراكز وكليات للاجئين الايرلنديين في أسبانيا. وبعث بيوس الرابع إلى إيرلندة بجزويتي أيرلندي (1560) هو دافيد ولف الذي جمع بين الشجاعة والإخلاص اللذين تميز بهما النظام الجزويتي. وأسس ولف بعثات سرية، واستقدم أفراد آخرين من الجزويت متنكرين واستعاد للكاثوليكية تقواها وآمالها، وتحمس شيوخ القبائل وثاروا، الواحد بعد الآخر، ضد الحكم الإنجليزي.
وكان أقوى الشيوخ هو شين (أي جن) أونل أوف تيرون. وكان رجلاً يمكن أن تتغنى به الأساطير ويقاتل الأيرلنديون من أجله. ولقد دافع بضراوة عن لقبه (أونل) ضد أخ مغتصب. وتجاهل كل "الوصايا" وعبد الكنيسة، وأحبط كل جهود الإنجليز لإخضاعه. وغامر برأسه ليزور لندن ويكسب التحالف مع إليزابث وتأييدها له، وعاد ظافراً ليحكم ألستر كما كان يحكم نيرون، واشتبك في حرب ضروس مع عشيرة "أودونل" المنافسة، وأخيراً هزم أمامها (1567)، عندما التجأ إلى آل مكدونال، وهم المهاجرون الاسكتلنديون الذين سبق له أن هاجم مستوطنتهم في أنتريم.
وكان تاريخ إيرلندة بعد موته عرضاً من الثورات والمذابح والمندوبين السامين (ممثلي الملك). وخدم سير هنري سدني (والد فيليب) إليزابث في هذا المنصب الجحود تسع سنين. واشترك في هزيمة أونل، وتعقب روري أو مور حتى الموت، واستدعي في 1578 لأن انتصاراته كانت باهظة التكاليف. وفي عامين من تولي والتر دفريه-وكان ارل اسكس من قبل-هذا المنصب، اشتهر اسمه بمذبحة في جزيرة راتلين بعيداً عن شاطئ انتريم. وكان الثوار هناك-وهم آل مكدونل السابق ذكرهم، وقد أبعدوا زوجاتهم وأطفالهم وشيوخهم ومرضاه، حرصاً على سلامتهم، مع حرس يحميهم. وأرسل اسكس قوة للاستياء على الجزيرة. وعرضت الحامية الاستسلام إذا سمح لها بالإبحار إلى إسكتلندة. ورفض هذا العرض، واستسلمت الحامية. فأعمل السيف فيهم وفي النساء والأطفال والشيوخ والمرضى. وكان عددهم نحو ستمائة شخص (1575)(92).
أما الثورة العظمى التي قامت في أثناء حكم الملكة في إيرلندة فهي ثورة عشيرة جيرالدين في مونستر Munster فان جيمس فتزموريس فتزجرالد وقد في الأسر وهرب مرات كثيرة، استطاع بعدها أن يعبر إلى القارة، حيث شكل فرقة من الأسبان والإيطاليين والبرتغاليين والفلمنكيين والإنجليز والكاثوليك المهاجرين، ونزل بهم على ساحل كري Kerry (1579)، وكل الذي حدث أنه لقي حتفه في قتال طارئ نشب بينه وبين عشيرة أخرى. وقاد الثورة من بعده ابن عمه جيرالد فتزجيرالد-الارل الخامس عشر لدسموند Desmond، ولكن عشيرة بتلر المجاورة بزعامة ارل أورمند البروتستانتي انحازت إلى إنجلترا. ونظم الكاثوليك في إقليم البال جيشاً وهزموا قوات نائب الملكة الجديد، آرثر لورد جراي (1580). ولكنه بعد أن وصلته الإمدادات حاصر قوات دسموند الرئيسية براً وبحراً من نتؤ جبل خليج سمروك Smerwick. ولما وجد الثوار الباقون على قيد الحياة وعددهم نحو 600، أنهم عاجزون عن الدفاع عن أنفسهم ضد مدفعية جراي، استسلموا والتمسوا العطف والرحمة، ولكن كان مصيرهم القتل، رجالاً ونساء، اللهم إلا بعض الضباط الذين يمكن أن يعدوا بدفع فدية كبيرة(93). وخربت مونستر الحرب بين الإنجليز والايرلنديين. وبين العشائر بعضها البعض، إلى درجة قال عنها كاتب حوليات أيرلندي: "لم يسمع خوار بقرة أو صوت رجل يحرث الأرض طوال هذه السنة من دنجل إلى صخرة كاشل". وكتب أحد الإنجليز (1582): "أودت المجاعة بحياة 30 ألفاً في مونستر في أقل من نصف عام، غير الذين شنقوا وقتلوا(94)، وكتب مؤرخ إنجليزي كبير "إن قتل أيرلندي من أهالي هذه المنطقة لم يكن ينظر إليه إلا على أنه قتل كلب مسعور(95)". وكادت مونستر أن تخلى من الايرلنديين وقسمت إلى مستعمرات ومزارع للمستوطنين الإنجليز (1586)، ومنهم ادموند سبنسر الذي أكمل هناك رواية The Faerie Queen.
وثار الأيرلنديون اليائسون مرة أخرى في 1593، وانضمت قوات هيو أودونل إلى قوات هيو أونل ارل تيرون الثاني. ووعدت أسبانيا بالمساعدة، حيث كانت آنذاك في حرب مكشوفة مع إنجلترا. وفي فترة خلا فيها منصب نائب الملكة هزم اونل جيشاً إنجليزياً هزيمة نكرة في أرماغ، واستولى على بلاكووتر، وهو معقل إنجليزي في الشمال (1598)، وأرسل قوة تعمل على إشعال الثورة من جديد في مونستر، ولاذ المستعمرون الإنجليز بالفرار تاركين مزارعهم، وعم الأمل والفرح إيرلندة، بل إن الإنجليز توقعوا أن تسقط دبلن نفسها.
تلك هي الأزمة التي عينت فيها إليزابث الشاب روبرت ديفريه ارل اسكس الثاني نائباً للملكة في إيرلندة (مارس 1599). وزودته بجيش قوامه 17.500 رجل، وهو أكبر جيش أرسلته إنجلترا إلى الجزيرة. وأمرته بمهاجمة أونل في تيرون، وألا يعقد صلحاً إلا بعد استشارتها، وألا يعود إلا بترخيص منها. وضيع ديفريه الوقت سدى أثناء الربيع، وقام بمناوشات قليلة، وفني جيشه بسبب الأمراض، ووقع مع أونل هدنة لم يكن لديه السلطة لإبرامها، وعاد إلى إنجلترا في سبتمبر 1599، ليفسر للملكة أسباب إخفاقه. وسرعان مل خلفه في منصبه شارل بلونت، لورد مونتجوي الذي واجه في بسالة وبراعة تكتل أونل الداهية مع أود ونل غير الهياب، وأسطولاً راسياً في كنسال Kinsale يحمل جنوداً وأسلحة من أسبانيا، وغفراناً من البابا كليمنت الثامن لكل من يدافع عن إيرلندة وعن العقيدة. وأسرع مونتجوي إلى الجنوب ليقابل الأسبان، فهزمهم في معركة فاصلة إلى حد أن أونل استسلم، وانهارت الثورة وصدر عفو عام أدى إلى سلام مزعزع (1603) وفي تلك الأثناء كانت إليزابث قد ماتت. وانتقص سجل تاريخ إليزابث في إيرلندة من مجدها وعظمتها. لقد أساءت تقدير صعوبة الغزو في بلد تكاد تنعدم فيه الطرق، وسط شعب لا يربطه بالحياة وبالوقار إلا حبه لبلده ولعقيدته. وأنحت باللائمة على نوابها لإخفاقهم الذي كان من أسبابه تقتيرها هي، حيث عجزوا عن دفع رواتب الجند الذين وجدوا أنه من الأربح لهم أن يسلبوا الإيرلنديين من أن يحاربوهم. وتذبذبت بين المهادنة والإرهاب، ولم تلتزم قط سياسة واحدة إلى نقطة حاسمة. وأسست كلية ترنتي وجامعة دبلن (1591) ولكنها تركت الإيرلنديين أميين كما كانوا من قبل. وبعد إنفاق عشرة ملايين من الجنيهات، تمخض السلام الذي أمكن الوصول إليه عن بيداء قاحلة غطت نصف الجزيرة الجميلة، وعن روح كراهية لا توصف سادت الجزيرة بأسرها، تنتظر الفرصة الملائمة لتستأنف القتل والتخريب من جديد.
إليزابث وإسبانيا
كانت الملكة في خير حال لدى تدبير الأمر مع أسبانيا، لقد مدت للملك فيليب حبل الأمل في أن تكون زوجاً له أو لابنه، وحبل الأمل في الظفر بإنجلترا مقابل خاتم العرس. وتذرع فيليب بالصبر حتى نفر منه أصدقاؤه وابتعدوا عنه، وقويت إليزابث، فلربما رجاه البابا والإمبراطور وملكة إسكتلندة المنكودة الطالع أن يغزو إنجلترا، ولكنه كان شديد الارتياب في فرنسا، وكان يلاقي أشد المتاعب في الأراضي الوطيئة، إلى حد لا يجرؤ معه على أن يوجه ضربة لا يمكن التبؤ بنتائجها في لعبة السياسة. ولم يكن يضمن ألا تنقض فرنسا على الأراضي الوطيئة الأسبانية في اللحظة التي يتورط فيها إنجلترا. وكان يتردد في تشجيع الثورة في أي بلد، أو على طريقته في التباطؤ الثقيل، وثق بأن إليزابث قد تجد في الوقت المناسب مخرجاً أو آخر من الخارج التي وهبتها إيانا الطبيعة الحاذقة في حياتنا، مع ذلك لم يتعجل تسليم عرش إنجلترا إلى فتاة اسكتلندية وقعت في غرام فرنسا. ومنع لعدة سنوات، البابا من إعلان قرار حرمان إليزابث من الكنيسة. واحتمل في صمت كئيب معاملتها للكاثوليك في إنجلترا، واحتجاجاتها على معاملة الإنجليز البروتستانت في أسبانيا، وحافظ، قرابة ثلاثين عاماً على السلام، بينما شن القراصنة الإنجليز، بأمر من الحكومة، الحرب على مستعمرات أسبانيا وتجارتها.
إن طبيعة الإنسان لتكشف عن نفسها في سلوك الدول، لأن هذه الدول ليست إلا أشخاصاً في جملتها، وهي تتصرف على نفس النسق الذي يحتمل أن الإنسان كان يتصرف عليه قبل أن يفرض الدين والقوة أخلاقاً وقوانين. وإن الضمير ليسير وراء رجل الشرطة، ولكن لم يكن ثمة رجال شرطة من أجل الدول. ولم يكن ثمة "وصايا عشر" على البحار، وإنما قاما التجارة بإذن من القراصنة، واستخدمت مراكب القراصنة الصغيرة مداخل الشاطئ الإنجليزي مخابئ لها، ومنها انطلقت لتستولي على كل ما يمكن أن تستولي عليه-وإذا كان الضحايا من الأسبان كان للإنجليز أن ينعموا بالحماسة الدينية التي يجدونها في سلب ونهب رجل ينتمي إلى البابا. ودرب رجال جسورون من أمثال جون هوكنز وفرانسيس دريك عدداً كبيراً من القراصنة وكأن البحار ملك لهم. وتبرأت إليزابث منهم وأنكرتهم، ولكنها لم تعكر صفوهم أو تزعجهم، لأنها رأت في القراصنة نواة أسطول لها، وفي هؤلاء المغامرين أمراء البحر لها في المستقبل. وصار ثغر الهيجونوت "لاروشيل" مكاناً أثيراً للقاء بين قوارب الإنجليز والهولنديين والهيجونوت، "تنقض من على تجارة الكاثوليك أياً كان العلم الذي ترفعه(96)"، وعلى تجارة البروتستانت أيضاً، عند الحاجة.
ومن هذه القرصنة عبر هؤلاء المغامرون إلى تجارة الرقيق الرائجة التي كانت قد بدأها البرتغاليون قبل ذلك بقرن من الزمان. وكان المواطنون في المستعمرات الأسبانية في أمريكا يموتون تحت تأثير الكدح المضني الذي لا يتناسب مع بيئتهم أو مع المناخ الذي يعيشون فيه. واقتضى الأمر المطالبة بسلاسة من العمال أشد وأقوى. واقترح المدافع عن المواطنين. لاس كاساس، نفسه، على شارل الأول ملك أسبانيا أن زنوج أفريقية أقوى من هنود البحر الكاريبي، ويجب نقلهم إلى أمريكا لينهضوا بالعمل الشاق من أجل الأسبانيين هناك(97). ووافق شارل، ولكن فيليب استنكر هذه التجارة، وأمر الحكام الأسبان في أمريكا أن يمنعوا استيراد العبيد إلا بترخيص من الإدارة المحلية في أسبانيا(98)- وهذا أمر عسير وباهظ التكاليف. وقاد هوكنز وهم يعلم أن بعض الحكام الأسبان يراوغون في هذه القيود- ثلاث سفن إلى أفريقية (1562) وقبض على 300 من الزنوج، وأخذهم إلى جزر الهند الغربية، وباعهم إلى المستوطنين الأسبان، مقابل السكر والتوابل والعقاقير. ولما عاد إلى إنجلترا أغرى لورد بمبروك وآخرين غيره، بأن يسهموا بأموالهم في مغامرة ثانية، وحرض إليزابث على أن تضع سفينة من أحسن سفنها تحت تصرفه، وفي 1594 انطلق جنوباً بأربع سفن، وأمسك بأربعمائة من زوج أفريقية، وأبحر إلى جزر الهند الغربية، وباع العبيد إلى الأسبان، تحت تهديد بضربهم بمدافعه إذا هم رفضوا الشراء. وعاد إلى إنجلترا حيث رحبوا به بوصفه بطلاً، واقتسم الغنائم بينه وبين أنصاره وبين الملكة التي حصلت على 60% نظير استثماراتها(99). وفي 1567 أعارته سفينتها "يسوع". وأبحر بها مع أربع سفن أخرى إلى أفريقية، ووضع يده على كل ما أمكنه من العبيد، وباعهم في أمريكا الأسبانية بمائة وستين جنيهاً للواحد، وفي طريق عودته، ومعه غنيمة تقدر قيمتها بنحو مائة ألف جنيه، اعترضه أسطول أسباني بعيداً عن شاطئ المكسيك، عند سان جوان دي ألوا، ودمر أسطوله فيما عدا مركبين صغيرين عاد فيهما هوكنز إلى لإنجلترا صفر اليدين (1569)، بعد أن لاقى آلاف الأهوال والأخطار.
وكان ممن بقوا على قيد الحياة بعد هذه الرحلة، أحد أقرباء هوكنز الصغار، وهو فرنسيس دريك. ولما كان قد تربى على نفقة هوكنز، فقد قيل عنه إنه من سكان البحر. وفي سن الثانية والعشرين تولى إمرة سفينة في رحلة هوكنز الفاشلة. وفي سن الثالثة والعشرين، بعد أن فقد كل شيء إلا اشتهاره بالبسالة، أقسم أن ينتقم من الأسبان، وفي سن الخامسة والعشرين حصل من إليزابث على براءة بالقرصنة. وفي 1571، وهو في سن الثامنة والعشرين، أسر قافلة من السفن الأسبانية محملة بسبائك الفضة قرب شاطئ بنما، وعاد إلى إنجلترا منتقماً من أسبانيا، وأخفاه مستشارو إليزابث عن الأنظار لمدة ثلاث سنوات، عل حين كانت أسبانيا تطالب برأسه. ثم جهز له لستر وولسنهام وهاتون أربع سفن صغيرة يبلغ مجموع حمولتها 375 طناً، أبحر بها من بليموث في 15 نوفمبر 1577، فيما صار فيما بعد ثاني طواف حول الكرة الأرضية. ولما خرج أسطوله من مضايق ماجلان إلى المحيط الهادي واجهته عاصفة هوجاء، أطاحت بالسفن بعيداً بعضها عن بعض، ولم يلتئم شملها ثانية قط، وسار دريك وحده بالسفينة "بليكان" على الساحل الغربي للأمريكيتين إلى سان فرنسيسكو مهاجماً كل السفن الأسبانية في طريقه، ثم انعطف غرباً في جرأة وبسالة، إلى الفلبين وأبحر من جزر ملقا إلى جاوه، وعبر المحيط الهندي إلى أفريقية، وحول رأس الرجاء الصالح صعداً في المحيط الأطلسي، ليصل بليموث في 16 سبتمبر 1580، أي بعد مغادرتها بأربعة وثلاثين شهراً. ومعه من الأرباح 600.000 جنيه سلم الملكة منها 275.000(100)، وحيته إنجلترا على أنه أعظم ملاح وقرصان في عصره وتناولت إليزابث العشاء على ظهر سفينته، ومنحته لقب فارس.
ومن الجهة الفنية، كانت إنجلترا طوال هذا الوقت في سلام مع أسبانيا. وكم قدم فيليب إلى الملكة من احتجاجات، فقدمت هي الاعتذارات، وتشبثت بغنائمها، وأشارت إلى أن الملك نفسه كان هو أيضاً يخرق "القانون" الدولي بإرساله المساعدات إلى الثوار في إيرلندة. ولما هدد السفير الأسباني بالحرب، هددت هي بالزواج من ألنسون وبالتحالف مع فرنسا. ولما كان فيليب مشغولاً بغزو البرتغال، فقد أصدر أمره إلى سفيره بالإبقاء على السلام. وكما هي العادة، انضم حسن حظ الملكة إلى عبقريتها الموسومة بالتردد، فماذا كان عساه يحدث لها لو لم تشطر الحرب الأهلية فرنسا الكاثوليكية إلى شطرين، ولو لم يرهق الأتراك بغاراتهم المتكررة الإمبراطور والنمسا الكاثوليكية، ولو لم تكن أسبانيا متورطة مع البرتغال وفرنسا والبابا ورعاياها الثائرين في الأراضي الوطيئة؟ ولعدة سنوات كانت إليزابث تناور وتداور في مكر وخداع في الأراضي الوطيئة، وتغير سياستها وفق الظروف المائعة. ولم تكن أية اتهامات بالتردد أو الخيانة تجعلها تسبر في طريق مستقيم واحد لا تحيد عنه. ولم تكن تحب الكلفنية في الأراضي الوطيئة أكثر من حبها للبيوريتانية في إنجلترا، كما لم تكن تحب التحريض على الثورة أكثر من حب فيليب له. وأدركت أهمية التجارة المنتظمة مع الأراضي الوطيئة للاقتصاد الإنجليزي، فعملت على تأمين الثورة ومساعدتها هناك بشكل يحفظها من الاستسلام لأسبانيا أو الارتماء في أحضان فرنسا، وما دامت الثورة قائمة، انشغلت أسبانيا بها بعيداً عن إنجلترا.
وحانت لحظة مباركة ابتسم فيها الحظ السعيد للملكة، فهيأ لها الفرصة لمساعدة الثوار مقابل كسب مغر يدخل إلى خزائنها. ذلك أن القراصنة الإنجليز ساقوا في ديسمبر 1588 إلى مواني القنال الإنجليزي عدة سفن أسبانية كانت تحمل 150.000 جنيه دفع رواتب جنود دوق ألفا في الأراضي الوطيئة، ورأت إليزابث-وكانت قد ترامت إليها لتوها أنباء الكارثة التي وقعت لهوكنز في سان جوان دي ألوا-رأت أن العناية الإلهية هيأت لها هذه الفرصة لتعويض إنجلترا عما فقدته بسبب تلك الهزيمة. وسألت الأسقف جول Jewel: هل لها حق في الأموال الأسبانية؟ فحكم بأن الرب، وهو بروتستانتي قطعاً، يسره أن يرى البابويين يسلبون. وفوق ذلك، علمت الملكة أن فيليب كان قد اقترض هذا المبلغ من مصارف جنوه، ورفض الاعتراف بملكيته حتى يصل سالماً إلى أنتورب. ونقل المال إلى خزائن الملكة، وجأر فيليب بالشكوى وقبض دوق ألفا على كل ما وصلت إليه يداه من رعايا إنجليز وبضائع إنجليزية في الأراضي الوطيئة، واعتقلت إليزابث كل الأسبان في إنجلترا. ولكن مقتضيات التجارة أعادت بالتدريج العلاقات الطبيعية بين الطرفين. وأبى دوق ألفا أن يستحث إليزابث على التحالف مع الثوار، والتزم فيليب الهدوء والصبر، واحتفظت إليزابث بالمال.
واستمر السلم المزعزع يجرر أذياله، إلى أن ورطت الحملات الإنجليزية المتكررة على السفن الأسبانية وصرخات أصدقاء ماري ستيوارت المسجونين، نقول ورطت هذه وتلك فيليب في مؤامرة لقتل الملكة(101)، وكانت إليزابث مقتنعة باشتراكه فيها، فطردت السفير الأسباني (1584) وساعدت الثوار علانية. ودخلت الجيوش الإنجليزية فلشنج، بريل، أوستند، سليس Sluys، وأرسل لستر ليتولى قيادتها. ولكن الأسبان هزموهم في زوتفين Zutphen (1586).ولكن الآن، على الأقل بلغ السيل الزبى، وحانت ساعة الفصل. فقد استعد فيليب وإليزابث بكل ما أوتيا من قوة للحرب التي قد تحدد لأيهما تكون السيادة على البحار، كما تحدد ديانة إنجلترا، وربما ديانة أوربا، وربما ديانة الدنيا الجديدة.
وأثرت أسبانيا ثراء واسعاً بفضل كولمبس والبابا اسكندر السادس وقرارات التحكيم التي أصدرها (1493) والتي منحت وطنه أسبانيا كل الأمريكتين تقريباً.
وبهذه الرحلات والمراسيم لم يعد البحر المتوسط مركز حضارة الرجل الأبيض وقوته، وبأ عصر الأطلنطي. ومن بين دول أوربا الثلاث المطلة على المحيط، كانت فرنسا مغلولة اليدين بسبب الحرب الأهلية فلم تشارك في الصراع الدائر حول السيادة على المحيطات. أما إنجلترا وأسبانيا فقد استمر الصراع بينهما، وصارت كل منهما تمتد نحو الأرض الموعودة مثل الصخرة الناتئة في البحر. وبدا من العسير زحزحة أسبانيا عن مكان الصدارة والغلبة في أمريكا، فما وافت 1580 حتى كان لها فيها مئات المستعمرات، على حين لم يكن لإنجلترا شيء قط، وتدفقت الثروات الهائلة من مناجم المكسيك وبيرو إلى أسبانيا، وبدا قدراً محتوماً أن تحكم أسبانيا نصف الكرة الغربي، وتدخل الأمريكيتين في نطاق كيانها السياسي والديني.
ولم يكن ديرك راضياً عن هذا المشهد الذي توقعه، أو قانعاً به. وكانت الحرب من أجل السيطرة على العالم، لفترة من الوقت، محصورة بينه وبين أسبانيا. وفي 1585 أمده أصدقاؤه والملكة بالمال اللازم، فجهز ثلاثين سفينة انقض بها على الإمبراطورية الأسبانية. ودخل مصب نهر في شمال غرب أسبانيا، وأعمل السلب والنهب في ثغر فيجو، وعرى تمثالاً للعذراء، وحمل معه المعادن النفيسة والملابس الثمينة من الكنائس. وأبحر إلى جزر الكناري والرأس الأخضر واجتاح أكبرها، وعبر إلى الأطلنطي، وأغار على سان دومنجو، وقبض ثلاثين ألفاً من الجنيهات، منحة أو رشوة، لئلا يدمر قرطاجنة في كولمبيا. وسلب وأحرق مدينة سانت أوجستين في فلوريدا، وعاد إلى إنجلترا (1586)، لا لشيء إلا أن الحمى الصفراء أودت بثلث بحارته.
تلك كانت حرباً دون أن تحمل اسم الرب. وفي 8 فبراير 1587، أعدمت الحكومة الإنجليزية ملكة إسكتلندة، وهنا أبلغ فيليب البابا سكستس الخامس أنه على استعداد لغزو إنجلترا وخلع إليزابث. وطلب إليه الإسهام بمليوني كراون ذهباً. وعرض سكستس ستمائة ألف لا تدفع لأسبانيا إلا إذا وقع الغزو فعلاً. وأصدر فيليب لأمره إلى خير قواده، أمير البحر مركيز سانتا كروز، بإعداد أكبر أسطول عرف في التاريخ حتى ذاك الوقت، وتجمعت السفن أو بنيت في لشبونه وأعدت المخازن والمستودعات في قادس.
وألح دريك على إليزابث لتزويده بأسطول يدمر الأرمادا قبل أن يتخذ وضعاً تتعذر من مقاومته، فوافقت، وفي الثاني من أبريل 1587 انطلق مسرعاً من بليموث ومعه ثلاثون سفينة، قبل أن تغير الملكة رأيها. وهذا ما حدث فعلاً، ولكن بعد فوات الأوان، فلم تدركه. وفي 16 أبريل أسرع بأسطوله إلى ميناء قادس، وأجرى مناورة بعيداً عن مرمى مدفعية الشاطئ، وأغرق بارجة أسبانية، وهاجم سفن النقل والتموين، واستولى على حمولتها، وأشعل النار في كل سفن العدو، وارتحل دون أن يمسه أذى. وألقى مراسيه بالقرب من لشبونه وتحدى سانتا كروز أن يخرج لملاقاته. فأبى المركيز أن يفعل، لأن سفنه لم تكن قد زودت بالسلاح بعد، فسار دريك شمالاً إلى لاكورونا واستولى على مؤن وذخائر كثيرة كدست هناك، ثم إلى جزر الآزور حيث استولى على سفينة أسبانية ضخمة (غليون)، وعاد بها إلى إنجلترا بين سفنه. وعجب الأسبان أنفسهم لجرأته ومهارته البحرية وقالوا "لو لم يكن لوثرياً، بروتستانتياً، لما كان له نظير في العالم(102)".
وأعاد فيليب بناء أسطوله، في صبر، ومات المركيز سانتا كروز في يناير 1588، فعين مكانه دوق مدينا-سيدونيا، وهو نبيل يتميز بكرم المحتد أكثر منه بالكفاية والقدرة. ولما اكتمل الأرمادا آخر الأمر، كانت عدة سفنه 150 سفينة حمولة كل منها المتوسط 445 طناً، وكان نصفها من سفن البضائع، ونصفها الآخر من البوراج الحربية، مزودة بثمانية آلاف وخمسين بحاراً، وأبحر عليها تسعة عشر ألف جندي. وفكر فيليب وقواده في إتباع الطريقة القديمة في الحروب البحرية-وهي القفز فوق ظهر سفن العدو. ومصارعة الرجل للرجل، على حين كانت خطة الإنجليز أن يغرقوا سفن العدو بمن احتشد عليها من البحارة، وإطلاق النيران عليها دفعة واحدة من الجوانب، وأصدر فيليب تعليماته إلى الأسطول بالا يجد في طلب السفن الإنجليزية ويهاجمها، بل لا بد من الاستيلاء على رأس جسر ساحلي في إنجلترا، والعبور إلى الفلاندرز، لينقل إلى المراكب الثلاثون ألف جندي الذين كانوا قد أعدهم هناك دوق بارما، والسر إلى لندن بعد الحصول على هذا المدد. وفي نفس الوقت هرب إلى إنجلترا (أبريل 1588) رسالة دبجها كاردينال ألن يأمر فيها الكاثوليك بالانضمام إلى الأسبان لخلع مليكتهم "المغتصبة الهرطقية البغي(103)". ورافق الأرمادا للمعاونة في إعادة الكاثوليكية إلى إنجلترا مئات من الرهبان تحت رياسة النائب الأسقفي العام لمحاكم التفتيش(104). وهزت روح دينية مخلصة مشاعر البحارة الأسبان وسادتهم، وآمنوا إيماناً عميقاً مخلصاً بأنهم كانوا يؤدون مهمة مقدسة، فأبعدوا البغايا، وانقطع التجديف والدنس، وامتنع القمار، وفي صباح اليوم التاسع والعشرين من مايو 1588، حين أقلع الأسطول من لشبونه، تناول القربان المقدس كل من كان على ظهر السفن، وأقامت كل أسبانيا الصلوات. وواتت الريح إليزابث، على حين واجه الأرمادا عاصفة مدمرة، فالتجأ إلى ميناء لاكورونا، حيث ضمد جراحه، وأقلع ثانية (12 يوليه). وانتظرته إنجلترا في مزيج محموم من الآراء المنقسمة والاستعدادات المتعجلة والعزيمة البائسة، والآن حانت الساعة لتنفق إليزابث الأموال التي كانت قد كنزتها في ثلاثين عاماً من التقتير والتهور والشرور، وهب شعبها في شجاعة وتصميم، كاثوليك وبروتستانت على السواء، لنجدتها، وتدرب الحرس الوطني المتطوع في المدن، وأمد تجار لندن الفرق بالمال اللازم، وطلب إليهم أن يجهزوا خمس عشرة سفينة، فأمدوها بثلاثين. وكان قد مضى على هوكنز عشر سنوات وهو يبني السفن لبحرية الملكة. وأصبح دريك الآن نائباً لأمير البحر، وأتى قراصنة البحر بسفنهم في انتظار اللقاء الحاسم. وفي أوائل يوليه 1588 احتشد في بليموث للقاء العدو القادم، اثنتان وثمانون سفينة كاملة العدة، تحت أمرة شارل، لورد هوارد افنجهام، أمير البحر العام في إنجلترا.
وفي 19 يوليه شوهدت طلائع الأرمادا عند مدخل القنال الإنجليزي. وأقلع الأسطول المدافع من بليموث، وفي اليوم الحادي والعشرين بدأ العمل. وانتظر الأسبان حتى يقترب الإنجليز منهم إلى حد يكفي ليناوش الواحد منهم الآخر، ولكن على العكس من ذلك، فإن السفن الإنجليزية الخفيفة المبنية خصيصاً للمياه الضحلة والمسالك الضيقة، انطلقت مسرعة حول البوراج الأسبانية الثقيلة، تمطرها بوابل من النيران من كل جانب، وكانت سطوح المراكب الأسبانية عالية، وكانت مدافعها تطلق قذائفها على بعد مرتفع فوق السفن الإنجليزية محدثة بها أقل الأضرار، وجرت السفن الإنجليزية تحت النيران، وتركت قدرتها على المناورة وسرعتها، الأسبان عاجزين حيارى مضطربين. وعندما جن الليل هرب الأسبان في اتجاه الريح، تاركين إحدى سفنهم ليأخذها دريك، وأخرى نسفها أحد رجال المدفعية الألمان المتمردين، ووقع حطامها في أيدي الإنجليز. ولحسن الحظ كانت كلتاهما تحمل مؤناً وذخائر سرعان ما نقلت في أسطول الملكة. وجاء مزيد من المؤن والذخائر. ولكن الإنجليز لم يكن لديهم منها حتى الآن إلا ما يكفي لقتال يوم واحد فقط. وفي الخامس والعشرين، وبالقرب من جزيرة وايت، قاد هوارد هجوماً، وسارت سفينة قيادته إلى قلب الأرمادا، وتبادلت النار مع كل بارجة مرت بها، وحطم تفوق النار الإنجليزية الروح المعنوية لدى الأسبان. وكتب مدينا سيدونيا في تلك الليلة إلى دوق بارما: "أن العدو يطاردني. إنهم يرمونني بالنيران من الصباح إلى المساء، ولكن السفن لن تلقي مراسيها... وليس ثمة من علاج، فهم سريعو الحركة ونحن بطيئون(105)". وتوسل إلى بارما أن يرسل إليه ذخيرة ومدداً، ولكن ثغور دوق بارما كانت تحاصرها وتعترض سبيلها السفن الهولندية.
وفي اليوم السابع والعشرين ألقى الأرمادا مراسيه في مداخل كاليه. وفي الثامن والعشرين أشعل دريك النار في ثمان سفن صغيرة غير ضرورية يمكن الاستغناء عنها،ووضعها في مهب الريح لتسير وسط الأسطول الأسباني. وتوجس مدينا سيدونيا شراً، فأمر سفنه بالخروج إلى عرض البحر. وفي التاسع والعشرين هاجمها دريك في جرافلين، بعيداً عن الشاطئ الفرنسي، في حرب حقيقية. وقاتل الأسبان في بسالة، ولكن كان يعوزهم المدفعية والبراعة في فن الملاحة. وظهر أسطول هوارد وصب الأسطول الإنجليزي بكامل عدده من النيران على الأرمادا ما أعجز بعض سفنه عن العمل وأغرق بعضها الآخر. واخترقت طلقات الإنجليز أبدان سفن الأرمادا على الرغم من أن سمكها يبلغ ثلاثة أقدام، وقتل آلاف من الأسبان. وشوهدت الدماء تسيل من ظهور السفن إلى البحر. وما أن غربت شمس ذاك النهار حتى كان قد فقد من الأسبان ربعة آلاف رجل وجرح أربعة آلاف آخرون، وأمكن بصعوبة الاحتفاظ بالسفن الأسبانية الباقية عائمة على سطح الماء. ولما رأى مدينا سيدونيا أن بحارته لا يستطيعون احتمال شيء بعد ما حدث، أصدر أوامره بالانسحاب. وفي اليوم الثلاثين من يوليه حملت الريح حطام الأرمادا إلى بحر الشمال. وتبعه الإنجليز شمالاً إلى مصب نهر فورت، وكانت تعوزه الأغذية والذخيرة فعادوا إلى مراسيهم، وكانوا قد فقدوا ستين رجلاً، ولم يفقدوا سفينة واحدة.
أما بالنسبة لبقايا الأرمادا، فلم يكن ملاذ أقرب من أسبانيا نفسها. فقد كانت إسكتلندة معادية، وثغور إيرلندة في أيدي القوات الإنجليزية. واستماتت السفن المصابة والرجال الذين يتضورون جوعاً في شق طريقهم حول الجزر البريطانية، وكانت المياه هائجة والريح عاصفة، فتحطمت الصواري وتمزقت الأشرعة، وما كان يمر يوم حتى يغرق مركب أو يغادره ملاحوه، وألقيت جثث ألوف في البحر، وتحطمت سبع عشرة سفينة على شواطئ إيرلندة الوعرة. وفي سليجو Sligo وحدها ظهر على شاطئها الرملي جثث 1100 من الغرقى الأسبان. ونزل بعض البحارة إلى البر في إيرلندة يتلمسون بعض الطعام والشراب، فلم يصيبوا شيئاً، وبلغ مئات منهم من الهزل حداً لم يستطيعوا معه القتال، فكان مصيرهم الذبح بأيدي أشباه المتوحشين من سكان السواحل من كل جنس. ومن المائة والثلاثين سفينة التي كانت قد غادرت أسبانيا أول الأمر، عاد 54 فقط، ومن السبعة والعشرين ألفاً من الرجال عاد عشرة آلاف معظمهم جريح أو مريض. ولما كان فيليب يحاط علماً بأنباء الكارثة الطويلة الأمد يوماً بيوم، فقد حبس نفسه في صومعة في الاسكوريال، ولم يكن أحد على التحدث إليه. أما البابا سكستس الخامس فقد دفع بأنه ما دام لم يحدث غزو على إنجلترا قط، فإنه لن يرسل إلى أسبانيا المفلسة بدوكات واحد.
وكانت إليزابث حريصة على المال قدر البابا عليه. وكانت يقظة إلى أية اختلاسات في البحرية، وطالبت بحساب عن كل شلن أنفقته البحرية والجيش قبل المعركة وفي أثنائها وبعدها. وعوض كل من هوارد وهوكنز من جيبه الخاص عن أي تناقض أو تضارب لم يستطيعا له تفسيراً(106). وكانت إليزابث تتوقع حرباً طويلة الأمد، ومن ثم تصرف للملاحين والجنود مؤناً قليلة ورواتب ضئيلة، وانتشر الآن مرض فتاك، أشبه بالتيفود، بين الرجال العائدين، قضى في بعض المراكب على نصف من فيها من الملاحين أو أقعدهم عن العمل، حتى تعجب هوكنز قائلاً: ماذا كان عساه أن يكون مصير إنجلترا لو أن الوباء سبق العدو؟ واستمرت الحرب البحرية حتى موت فيليب 1598. وسار دريك بأسطول وخمسة عشر ألفاً من الرجال لمساعدة البرتغاليين في ثورتهم ضد الأسبان (1589) ولكن البرتغاليين أحسوا ببغض أكثر للبروتستانت من للأسبان. وأفرط الإنجليز في احتساء النبيذ الذي استولوا عليه إلى حد الثمل، وباءت الحملة بالفشل والعار. وقاد لورد توماس هوارد أسطولاً إلى جزر الآزور ليعترض طريق الأسطول الأسباني الذي يحمل الفضة والذهب إلى أسبانيا، ولكن أسطول فيليب الجديد أرغم السفن الإنجليز على الفرار، فيما عدا السفينة "ريفنج Revenge" التي أمسكوا بها تتسكع خلف سائر السفن، فقاتلت قتالاً بطولياً حتى تغلب عليها الأسبان (1591). وقام دريك وهوكنز بحملة أخرى على جزر الهند الغربية (1595) ولكنهما تنازعا وماتا في الطريق. وفي 1596 أرسلت إليزابث أسطولاً آخر لتدمير السفن في الثغور الأسبانية مثل قادس، فوجد هناك 19 بارجة حربية و36 سفينة تجارية، ولكنها جميعاً هربت إلى عرض البحر، على حين أعمل اسكس السلب والنهب في المدينة. وأخفقت هذه الحملة كذلك ولكنها أظهرت من جديد سيادة إنجلترا على الأطلنطي.
وكان لهزيمة الأرمادا أثرها على كل شيء تقريباً في مدينة أوربا الحديثة. فكانت بداية تغيير حاسم في تكتيك البحرية، وأخلي القفز إلى سفن العدو ومصارعة الرجل الرجل مكانيهما للتراشق بالمدافع من جوانب السفينة وظهرها. وساعد إضعاف أسبانيا الهولنديين على نيل استقلالها، وارتقى بهنري الرابع إلى عرش فرنسا، وفتح أمريكا الشمالية أمام المستعمرات الإنجليزية. وبقيت البروتستانتية وقويت. وتضاءل شأن الكثلكة. وكف جيمس السادس ملك إسكتلندة عن مصادقة البابوات ومجاملتهم. ولو أن الأرمادا بنى بطريقة احكم، وسارت قيادته على وجه أكمل، فلربما كانت الكاثوليكية قد استعادت إنجلترا، وسادت أسرة جيز في فرنسا. وخضعت هولندة، ولم يظهر قط شكسبير وبيكون وهما رمزان لإنجلترا الظافرة وثمرتان من نتاجها، ولربما كان على النشوة الغامرة في عهد إليزابث أن تواجه محكمة التفتيش الأسبانية. وهكذا تحدد الحروب مصير اللاهوت والفلسفة، كما أن القدرة على القتل والتدمير شرط أساسي للحصول على ترخيص بالحياة والبناء.

رالي وإسكس
على الرغم من أن سيسل وولنسهام ودريك وهوكنز كانوا الأدوات المباشرة للمجد والنصر، إلا أن إليزابث هي التي تجسدت فيها إنجلترا الظافرة المنتصرة،وكانت هي في سن الستين في ذروة الشهرة والقوة والسلطان، وتجعد وجهها قليلاً، وتساقط شعرها، وفقدت أسنانها، وأسود البعض الأخر، ولكنها في مجوهراتها التي تبعث الرهبة في النفوس، من غطاء الرأس المخرم وطوق الرقبة المكشكش المهفهف، والأكمام المحشوة، والتنورة المطوقة وكلها تتألق بالجواهر واللآلئ، وقفت مزهوة رافعة الرأس، ملكة بلا منازع. وتذمر البرلمان من أساليبها الملكية ولكنه خضع واستسلم، وقدم المستشارون القدامى نصائحهم في رعدة الشباب الغض الذي يطلب يد المرأة، ولكن الطلاب الشبان الذين انطلقت ألسنتهم بالتمجيد والتسبيح أحاطوا بالعرش. وقضى لستر وولسنهام نحبهما، وسرعان ما يبتلع البحر دريك وهوكنز، وقد ظنا أنهما سيحكمانه. أما سيسل الذي أطلق عليه بيكون(107) "نصف الإله الذي يحمل السماء على كتفيه Atlas في هذه الدولة"، فقد كبرت الآن سنه، وكان يئن ويذبل بداء النقرس، وكان على إليزابث الآن أن تتولى تمريضه في مرضه الأخير وتطعمه لقيماته الأخيرة بيديها(108) واعتراها الحزن لفقدان هؤلاء الرجال، ولكنها لم تدع هذا يشوه فخامة جلالتها أو يقلل من حيوية بلاطها ومرحه ونشاطه.
وتألقت حولها وجوه جديدة، جلبوا إليها شباباً بديلاً. وكان كرستوفر هاتون رشيقاً لدرجة أنها عينته مستشاراً (1587). وظلت مترددة تسع سنوات في قبول نصيحة برجلي في تعيين ابنه الحصيف الأحدب روبرت سيسل وزيراً لها. وكانت أكثر استساغة لقسمات والتر رالي الجميلة وقعقعة سيفه، ولم تعبأ بشكوكه الدينية الخاصة، فقد كانت لها هي الأخرى شكوكها الخاصة كذلك.
ويكاد رالي أن يكون رجل عصر إليزابث الكامل: سيد مهذب، جندي، ملاح، مغامر، شاعر، فيلسوف، خطيب، مؤرخ، شهيد، فكان "الرجل العالمي" الذي صورته أحلام النهضة الأوربية، والذي جمع العبقرية من أطرافها، ولكنه لم يدع الجزء قط ليكون كلاً. ولد رالي في ديفونشير في 1552، والتحق بجامعة أكسفورد في 1568، ولكنه فر من الكتب إلى الحياة، وانضم إلى مجموعة شهمة من المتطوعين ذوي الأصل الكريم، عبروا البحر إلى فرنسا ليناضلوا في صفوف الهيجونوت. وربما كانت الأعوام الستة التي قضاها في تلك الحروب قد علمته شيئاً من العنف المجرد من المبادئ الخلقية في العمل والجرأة غير المكترثة في الحديث مما شكل مصيره في مستقبل أيامه، وعاد إلى إنجلترا 1575 وألزم نفسه بدراسة القانون، ولكنه غادر البلاد ثانية في 1578 متطوعاً لمساعدة الهولنديين ضد الأسبان. وبعد ذلك بعامين كان في إيرلندة رئيساً في الجيش الذي أخمد ثورة دسموند، ولعب دوراً فعالاً في مذبحة سمروك Smerwick. وكافأته إليزابث باثني عشر ألف فدان في إيرلندة، وبضمه إلى بلاطها. ولابتهاجها بقوامه ومديحه لها وتملقه إياها وذكائه، أصغت إليه في شك أقل ما اعتادت أن تنظر أو تسمع به إلى الناس، عندما اقترح عليها إنشاء مستعمرات إنجليزية في أمريكا، ومنحته امتياز بذلك، وفي 1584 أرسل- ولكنه لم يصحب0أول حملة من عدة حملات، حاولت تأسيس مستعمرة في فرجينيا، ولكنها أخفقت، وبقى الاسم تذكاراً خالداً لعدم وصول الملكة إلى مبتغاها، وأثبتت إليزابث تركمورتون Throckmontor- وهي وصيفة شرف في البلاط- أنها أقرب منالاً، وارتضت رالي عشيقاً لها، وتزوجت منه سراً (1593). ولما كان محظوراً على أي عضو في البلاط أن يتزوج دون موافقة الملكة، فان العروسين المتيمين قضيا شهر عسل غير متوقع في برج لندن (السجن). وظفر رالي بإطلاق سراحه- مع إقصائه عن البلاط- بإرساله كتاباً إلى برجلي يصف فيه الملكة بأنها مزيج من كل ألوان الكمال والقداسة في التاريخ.
وآوى رالي إلى ضيعنه في شربورن، ونظم رحلات واكتشافات، وتلاعب بالإلحاد، ونظم شعراً كان لكل بيت فيه رنين متميز ولذع خاص. ولكن عامين من الهدوء والدعة استنفدا ثباته واستقراره، ويفضل مساعدة أمير البحر هوارد وروبرت سيسل جهز خمس سفن وأقلع بها إلى أمريكا الجنوبية بحثاً عن ألدرادو-وهي أرض أسطورية فيها قصور من ذهب، وأنهار يجري فيها الذهب، ونساء محاربات (أمازونات) لا تذبل مفاتنهن. وسار مائة ميل صعداً في نهر أورينوكو، ولكنه لم يعثر على نساء محاربات ولا على ذهب، ولقد حيرته وعوقته مساقط المياه وسرعة جريانه فعاد إلى إنجلترا صفر اليدين، ولكنه روى كيف أن السكان الأمريكيين دهشوا وأعجبوا بجمال الملكة حين أراهم صورتها. وسرعان ما أعيد إلى البلاط. وأكد بيانه الفصيح عن "إمبراطورية جويانا الشاسعة الغنية الجميلة" نقول أكد من جديد إيمانه بأن الشمس لا تشرق على أية ثروات في أي جزء في العالم". أكثر منها في إقليم الأورينوكو". وألح دون كلل أو ملل في إثارة الرغبة في انتزاع ثروات أمريكا من أيدي الأسبان إلى أيدي الإنجليز، وشرح نظرية سيادة البحار أكمل شرح، "أن من يسيطر على البحار يسيطر على تجارة، ومن يسيطر على تجارة العالم يسيطر على ثروته، ومن ثم يسيطر على العالم نفسه(109)".
وفي 1596 انضم إلى الحملة على قادس، وقاتل ببسالة-كما قال، وأصيب بجرح في رجله. وعاملته الملكة يومئذ "معاملة كريمة" وعينته قائداً للحرس. وفي 1597 قاد قسماً من الأسطول الذي كان تحت إمرة اسكس إلى جزر الآزور، وفصلت العاصفة بينهما. ولكن أسطول رالي التحم مع العدو وهزمه، ولكن اسكس لم يغفر له قط انتزاع قصب السبق منه.
وفاق روبرت دفريه ارل اسكس الثاني، حتى رالي نفسه، فتنة وسحراً وكان له طموح رالي وحيويته وزهوه، ويزيد عنه حدة في الطبع، ويقل عنه ذكاء، ويفوقه كثيراً في الكرم والنبل. وكان رجل عمل مفتوناً بالذكاء والفطنة، يحالفه النصر في المقارعة بالسيف وفي ميدان الألعاب الرياضية، يتميز بالبسالة والجرأة في الحرب، إلى جانب أنه كان مع ذلك صديقاً نافعاً للشعراء والفلاسفة مقدراً لهم. ولما أصبحت أمه الزوجة الثانية لارل لستر، رفع مكانته في البلاط ليتكافأ مع ما تميز به رالي من فتنة سارة مداهنة. ووقعت الملكة، وهي في سن الثالثة والخمسين، في حب الأمومة مع ابن العشرين الوسيم الشديد الحساسية (1587)، فهنا ولد يعزيها عن عدم إنجابها أولاداً، وتجاذبا أطراف الحديث واستمعا إلى الموسيقى، ولعبا الورق معاً، وانتشر القيل والقال: "إن سيدي اللورد لا يعود إلى مسكنه قبل صياح الديكة عند الفجر(110)". وتوجع قلبها الهرم حين تزوج سراً من أرملة فيليب سدني، ولكن سرعان ما اغتفرت له هذا، وفي 1593 صار عضواً في مجلس شورى الملكة، ومهما يكن من أمر فانه كان قليل الصلاحية لحياة البلاط وعمل رجل الدولة. وقال عنه خادمه كوف: "أن وجهه نم دوماً بوضوح عما يكنه من حب وبغض، ولم يعرف كيف يخفي هذا أو ذاك(111)". وجلب عداوة رالي، ووليم سيسل وروبرت سيسل، وأخيراً عداوة بيكون العاق والملكة المستاءة الكارهة.
أما فرنسيس بيكون الذي قدر له أن يكون أكبر أثراً على الفكر الأوربي من أي شخص عداه من رجال عصر إليزابث. فقد ولد في 1561 في قلب البلاط الملكي، في يورك هاوس، المقر الرسمي للورد حامل خاتم الملكة، وهو أبوه، سير نيقولا، وأطلقت إليزابث على الابن "حامل خاتم الملكة الصغير" وقد صرفه ضعف بنيته عن الألعاب الرياضية إلى الدراسة. وساعد ذكاؤه المتقد على التقاط العلم والمعرفة في نهم. وسرعان ما باتت سعة إطلاعه إحدى عجائب تلك "الأزمنةالمترفة". وبعد سنوات ثلاث قضاها في كمبردج أرسل إلى فرنسا مع السفير الإنجليزي ليتيح له الفرصة ليتعلم فنون السياسة والحكم. وفي أثناء وجوده هناك مات أبوه فجأة (1579) قبل لأن يشتري الضيعة التي كان قد قصد شراءها لابنه فرانسيس، وكان من أصغر أولاده. وفجأة ضعفت موارد فرانسيس فعاد إلى إنجلترا ليدرس القانون في Gray's Inn. ولما كان ابناً لأخت وليم سيسل، فقد توسل إليه أن يعينه في منصب سياسي، وبعد أربع سنوات من الانتظار أرسل إليه كتاباً غريباً يذكره فيه بموضوعه جاء فيه "أن الاعتراض على سني سوف يزول مع طول سترتي(112)". وبطريقة ما انتخب في تلك السنة (1584) عضواً في البرلمان، ولو أنه كان في سن الثالثة والعشرين. واشتهر بتأييده لمزيد من التسامح مع البيوريتانز (وكانت أمه منهم) وتجاهلت الملكة حججه، ولكنه أعاد إثباتها في شجاعة، في منشور وزع سراً، مس فيه تناقضات كنيسة إنجلترا (1589) واقترح فيه ألا يضار إنسان بسبب عقيدته الدينية إذا تعهد بالدفاع عن إنجلترا ضد أية سلطة أجنبية-بما في ذلك البابوية-تهدد سيادة إنجلترا أو حريتها الكاملتين. ورأت الملكة وسيسل أن الفيلسوف الشاب قد تقدم قليلاً. والحق أنه كان سابقاً لزمانه.
واطمأن اسكس إلى حدة ذهن بيكون وطلب مشورته. وأشار الحكيم الصغير على النبيل الصغير أن يتظاهر بالتواضع، أن لم يستطعه، ويخفض من إنفاقه، ويلتمس وظيفة مدنية أكثر منها حربية، حيث أن التخلص من آثار النكسات السياسية والتعويض عنها، ميسوران أكثر منهما في الهزائم العسكرية. كما أشار عليه بان يعتبر أن حب الناس خطر عليه لدى الملكة(113). وكان بيكون يراوده الأمل في أن ينضج اسكس فيصبح من رجال الدولة ويهيئ لناصحه المخلص أو معلمه الخاص فرصة للارتقاء والظهور.
وفي 1592 ناشد سيسل مرة ثانية في سطور مشهورة قال فيها:-
لقد أصبحت الآن أكبر سناً إلى حد ما. وان إحدى وثلاثين سنة ليست بالشيء اليسير في عمر الإنسان.... وإن صغر ضيعتي يقلقني بعض الشيء. واعترف أن عندي من الغايات التأملية الفكرية الواسعة قدر ما عندي من الغايات الدنيوية المتواضعة أو المعتدلة، أي أن ما عندي من التطلع إلى العلم والمعرفة يفوق كثيراً تطلعي إلى أي جاه مادي. لأني اعتبرت العلم والمعرفة هما دنياي أو مجالي الخاص. وإذا كان هذا فضولاً، أو عظمة جوفاء، أو طبيعة فيّ، فهو راسخ في ذهني، ولا يمكن محوه(114). وعندما ألح اسكس على وليم سيسل وروبرت سيسل والملكة لتعيين بيكون في وظيفة المدعي العام الشاغرة، ذهبت توسلاته أدراج الرياح، واختير بدلاً منه إدوارد كوك Coke وهو أكبر منه سناً وأكثر صلاحية من الناحية الفنية. وتحمل اسكس اللوم في رقة وكياسة؛ وأقطع بيكون ضيعة في توكنهام تدر 1800 جنيه(115). وقبل أن يستطيع بيكون الإفادة من هذه المنحة عانى من سجن قصير الأمد بسيط من أجل الديون(116). وفي 1597 عين في "المجلس العلمي" الذي يضم المحامين الذين كانوا يقدمون المشورة إلى مجلس شورى الملكة(117).
وعلى الرغم من نصيحة بيكون انضم اسكس إلى جماعة الحرب، ودبر أن يكون على رأس الجيش. وهيأت له بسالته المندفعة في قادس بالغة لدى المجلس، ولكن إخفاقه في الآزور، وكبريائه لم تتضاءل قط، وتبذيره، ولسانه السليط، كل أولئك نفر منه المجلس وأهاج ثائرة الملكة. ولما رفضت صراحة توصيته بتعيين سير جورج كارو في إحدى الوظائف في إيرلندة، أدار لها ظهره، بإيماءة تنم على الاحتقار والزراية. فاستشاطت غيظاً ولكمته على أذنيه صارخة: "اذهب إلى الشيطان". فأمسك بسيفه وصاح فيها "هذه إساءة لن أصبر عليها، وما كنت لأحتملها من يدي أبيك". واندفع غاضباً من الغرفة، وتوقع كل رجال البلاط أن يعجل بزجه في السجن في برج لندن (1598)(118). ولكن إليزابث لم تفعل شيئاً. بل على النقيض من ذلك، وربما لتتخلص منه، عينته بعد عدة أشهر من هذا الحادث، نائباً للملكة، في إيرلندة. وكان بيكون قد حذر اسكس من اللجوء إلى هذا العمل البغيض، ألا وهو مقاومة العقيدة بالقوة. ولكنه طلب جيشاً: وفي 27 مارس 1599 ارتحل إلى دبلن؛ وسط تهليل الجماهير، وهواجس أصدقائه وريبهم، وارتياح أعدائه ورضاهم. وأخفق في مهمته، وبعد ستة أشهر عاد مسرعاً إلى لندن دون إذن من الملكة، واندفع، دون أن يعلن عن قدومه، إلى غرفة ملابسها، وحاول أن يفسر أعماله في إيرلندة، فأصغت إليه في غضب مكظوم، ثم أمرت بنقله إلى سجن قصر حامل الأختام في يورك هاوس حتى يمكن الاستماع إلى التهم الموجهة إليه.
وتذمر الناس في لندن لأنهم كانوا يجهلون إخفاقه ويذكرون انتصاراته. وأمر مجلس شورى الملكة، بمحاكمة شيه علنية، وفوض بيكون بوصفه عضواً في مجلس العلماء ومحامياً تعهد بالدفاع عن الملكة، في أن يعد قرار الاتهام، وطلب بيكون إعفاءه، ولكنهم ألحوا فقبل. وكان الاتهام الذي أعده معتدلاً، أقر اسكس بصحته، وعرض خضوعه المتواضع وقد جرد من جميع وظائفه، وأبلغ أن يلزم داره حتى تتفضل الملكة بإطلاق سراحه (5 يونيه 1600) ودافع بيكون عنه، فأعيدت إليه حريته في 26 أغسطس.
والآن وهو في قصر اسكس ظل يواصل السعي وراء السلطة، فأرسل صديقاً حميماً له، حامي شكسبير وراعيه هنري ريوتسلي Wriothesley، ارل سوثمبتون-أرسله إلى إيرلندة ليقترح على مونتجوي نائب الملكة هناك، أن يعود إلى إنجلترا مع الجيش الإنجليزي، ويعاون اسكس في تولي حكم إيرلندة. ورفض مونتجوي. وفي أوائل 1601 كتب اسكس إلى جيمس السادس ملك إسكتلندة طالباً مساعدته مع وعد بتأييده على عرش إنجلترا. ورد عليه جيمس بكتاب مشجع، وراجت الإشاعات الفظيعة في العاصمة المهتاجة بأن روبرت سيسل كان يخطط ليضع ابنة ملك أسبانيا Infanta ملكة على عرش إنجلترا، ويزج باسكس في برج لندن، وأن رالي أقسم ليقلنه. وحث سيسل الأصغر الملكة على ان تبعث برسالة إلى اسكس تطلب إليه الحضور إلى المجلس، وربما كان الغرض من ذلك إرغامه على الإفصاح عن نياته، وحذره أصدقاؤه بأن هذا ربما كان خدعة للقبض عليه. وحجز أحد الأصدقاء وهو سير جيللي مرك للمستشار وصحبه مقاعد في المسرح حيث كانت تمثل ذاك المساء في سوثوارك Southwark، رواية شكسبير "ريتشارد الثاني"، وهي تظهر كيف أن ملكاً خلع عن عرشه عدلاً وحقاً(119).
وفي اليوم التالي (7 فبراير 1601) احتشد ثلاثمائة من أنصار اسكس المتحمسين المسلحين في فناء داره. وعندما خرج إليهم اللورد حامل الأختام وثلاثة من الشخصيات الكبيرة ليسألوهم عن سبب هذا التجمع غير المشروع أغلق عليهم الحشد الأبواب وساقوا الارل الحائر معهم إلى لندن وإلى الثورة، وكان يراوده الأمل في أن يهب الناس لمساعدته، ولكن الخطباء أمروهم بالتزام بيوتهم فامتثلوا. وكانت قوات الحكومة لهم بالمرصاد، فتعقبوا المتمردين، وقبض على اسكس وزج به في برج لندن.. وسرعان ما قدم للمحاكمة بتهمة الخيانة، وأمر المجلس بيكون بمساعدة كوك في إعداد قرار المحكمة. وربما كان رفضه يؤدي إلى تدمير حياته السياسية، وقبوله غلى انهيار سمعته التي واتته بعد وفاة أبيه، فلما تلعثم كوك في عرض التهمة نهض بيكون وعرض المسألة في وضوح مقنع يدين المتهم، واعترف اسكس بجرمه، وذكر أسماء شركائه(120). وقبض على خمسة من هؤلاء وقطعت رؤوسهم، وحكم على سوثمبتون بالسجن مدى الحياة، وأفرج عنه جيمس الأول فيما بعد، وتروي أسطورة أن اسكس بعث إلى الملكة بخاتم كانت قد أعطته إياه يوماً مع الوعد بأن تهب لنجدته إذا أعاده إليها في الساعة العسرة. ولكن الخاتم لم يصل إليها، ولو كان قد أرسل(121). ففي الخامس والعشرين من فبراير 1601، وهو في الخامسة والثلاثين، ذهب اسكس في بسالة إلى المصير الذي كان طابع شخصيته. وبكى رالي عندما هوت الضربة على عنقه، وعرض برج لندن، لمدة عام، الرأس المفصول عن جسده، والذي أصابه الانحلال والعفن
السحر يذوي ويذبل 1600 - 1603
إن منظر رأس اسكس، أو إدراك إليزابث أن الرأس كان يحدق النظر إليها ليل نهار، لا بد أن يكون قد شارك في الكآبة التي خيمت على الملكة في سنواتها الأخيرة. فكانت تقضي الساعات الطوال جالسة وحيدة في صمت، حزينة تطيل التفكير، وأبقت على ملاهي حاشيتها، وتظاهرت أحياناً، تظاهراً جريئاً بالمرح، ولكن اعتلت صحتها ومات قلبها. ولم تعد إنجلترا تحبها، حيث أحست بأنها عمرت أكثر مما ينبغي لها، وأنه يجدر بها أن تخلي الطريق لملكية فتية. وثار آخر البرلمانات في عهدها ثورة اتسمت بعنف أكثر من ذي قبل، ضد انتهاكها لحرية البرلمان واضطهادها للبيوريتانية، وطلباتها المتزايدة للاعتمادات، وإغداقها احتكارات التجارة على ذوي الحظوة لديها. ودهش الجميع حين استسلمت الملكة في آخر لحظة، ووعدت بوضع حد لهذا الخلل. وذهب كل أعضاء مجلس العموم ليقدموا لها الشكر، وجثوا بين يديها حين وجهت إليهم الخطاب. وكان آخر خطاب لها (20 نوفمبر 1601)، وهو "خطابها الذهبي" الحزين، وقالت:
ليس ثمة جوهرة، ارتفعت قيمتها بشكل لم يسبق له مثيل من قبل، أوثرها على حبكم... إن تقديري له ليفوق تقديري لأي كنز.... ولقد رفعنا الله إلى أعلى عليين، ولكني أحسب أن عظمة عرشي هي حكمت بفضل حبكم لي(122).
وطلبت إليهم أن ينهضوا ثم استطردت في الحديث قائلة:
لأن يكون الإنسان ملكاً ويلبس التاج شيء سار لمن يراه، أكثر مما هو سار لمن يحمله.... ومن ناحيتي أنا، إذا لم يكن إرضاء لضميري أن أنهض بالواجب الذي فرضه الله علي، وأن أحافظ على "مجده" وأوفر لكم الأمن والسلامة، لوددت، استجابة لطبيعتي، أن أترك هذا المكان لغيري، وسعدت بالتحرر من هذه العظمة التي تقتضي جهوداً مضنية، لأني لست راغبة في أن أحيا أو أحكم أطول من عمري، وسيكون الحكم من أجل خيركم. وعلى الرغم من انه قد حكمكم من قبل، ولسوف يحكمكم من بعد، ملوك أقوى وأعقل مني، من فوق هذا العرش، فإنكم لم تشهدوا، ولن تشهدوا من هو أعظم حباً لكم مني(123).
وكانت إليزابث تؤجل ما وسعها الجهد موضوع وراثة العرش، فما دامت ماري ملكة إسكتلندة باقية على قيد الحياة، وريثة شرعية لعرش إنجلترا، فان إليزابث لم يهدأ لها بال، خشية أن تفسد ماري التسوية التي انتهت هي إليها مع البروتستانت، أما الآن وقد ماتت ماري، وكان جيمس السادس ملك إسكتلندة هو صاحب الحق الذي لا ينازع في وراثة العرش، فقد اطمأنت إليزابث إلى ذلك، لعلمها بأن جيمس، مهما كان متردداً أو مراوغاً، فهو بروتستانتي. ووصل إلى علمها أن روبرت سيسل وآخرين من رجال البلاط كانوا يتفاوضون سراً مع جيمس لتيسير ارتقائه العرش، وليصيبوا المغانم المرتقبة في هذه المناسبة، وأنهم كانوا يعدون الأيام الباقية على موتها.
وانتشرت الإشاعات في كل أنحاء أوربا أن السرطان سيقضي عليها. ولكنها كانت تموت من امتداد حياتها إلى أكثر مما ينبغي، وما كان جسمها ليحتمل مزيداً من الأفراح والأتراح، أو من أعباء وضربات السنين القاسية التي لا ترحم، وعندما حاول ابنها بالمعمودية سيرجون هارنجتون، أن يسري عنها بأشعاره الفكهة الظريفة التي أخرجته من حضرتها وقالت "إذا أنت أحسست بالوقت يزحف زحفاً نحو بابك، أي بدنو أجلك، قل ابتهاجك بمثل هذه الحماقات(124)". وفي مارس 1603، وكانت قد عرضت نفسها في جرأة لبرد الشتاء، انتابتها حمى أنهكتها لمدة ثلاثة أسابيع؛ وقضت معظم الوقت جالسة على كرسي أو مستندة إلى الوسائد، ولم ترتض أن يعودها طبيب، ولكنها رغبت في الاستماع إلى الموسيقى، فجاء بعض العازفين أخيراً، واقتنعت بالتزام الفراش، وتمنى لها رئيس الأساقفة وتجفت أن تطول حياتها فانتهرته، وسجد إلى جانب سريرها وصلى، وظن أنه أدى قدراً كافياً من الصلوات وحاول ان ينهض، ولكنها أمرته أن يتابع الصلاة. ومرة ثانية "تعبت ركبتا الرجل العجوز". فأشارت إليه أن يؤدي مزيداً من الصلوات. ولم ينقذه إلا أن غلبها النعاس في ساعة متأخرة من الليل، ولم تصح من رقدتها هذه قط، وفي اليوم التالي (24 مارس) كتب جون ماننجهام في مفكرته: "في نحو الساعة الثالثة من صباح اليوم فارقت جلالتها الحياة، وفي وداعة مثل الحمل، ويسر مثل قطف التفاحة الناضجة من الشجرة(125)". وهكذا كان يبدو.
وأحست إنجلترا بهول المصيبة، على الرغم من أنها كانت قد طال انتظارها لموتها. وأيقن الكثيرون أن عهداً عظمياً قد انقضى، وأن يدا جبارة قط سقطت عن دفة السفينة. وخشي بعضهم، مثل شكسبير، حدوث الفوضى(126). أما بيكون فقد قال إنها ملكة عظيمة إلى حد: إنه لو كان بلوتارك الآن على قيد الحياة، ليكتب عن سير الحياة بالتناظر، فقد يجد مشقة في أن يجد لها شبيهاً بين النساء. لقد وهبت هذه السيدة معرفة فريدة بين بنات جنسها، بل حتى نادرة بين الأمراء والرجال....
أما بالنسبة لحكومتها... فان هذا الجزء من الجزر البريطانية لم يشهد قط خمساً وأربعين سنة خيراً من هذه، لا غي هدوء هذه الفترة فحسب، بل في الحكمة التي سادت الحكم. فلو نظرنا، من ناحية، إلى صدق العقيدة التي رسخت قواعدها، والسلام والأمن الدائمين، والإدارة الحسنة للعدالة، والقصد والاعتدال في استخدام الحقوق الملكية.... وازدهار المعرفة.... ثم لو نظرنا، من ناحية أخرى، إلى الخلافات الدينية، ومتاعب البلاد المجاورة، وأطماع أسبانيا، ومعارضة روما، ثم إلى أنها-أي الملكة-كانت وحيدة، بنفسها، أقول لو نظرنا بعين الاعتبار إلى هذه الأشياء كلها، لما كان في مقدوري أن أختار مثالاً آخر حديثاً ومناسباً إلى مثل هذه الحد، وكذلك أظن أنه ما كان في مقدوري أن أختار شيئاً أروع أو أبرز.... من اقتران المعرفة لدى الأمير بالسعادة التي عاش في ظلها الشعب(127).
والآن ونحن ننظر إلى الوراء، نتأمل طبيعة أحداث ذاك الزمان بعد وقوعها، لا بد لنا من أن نظلل الصورة بعض الشيء، ذاكرين أخطاء الملكة التي لا تضاهيها ملكة، غافرين لها هذه الأخطاء. إنها لم تكن قديسة، أنها لم تؤت الحكمة، ولكنها سيدة ذات مزاج وذات هوى مفعمة بحب الحياة. ولم تتركز تماماً "حقيقة العقيدة"، ولم يكن كل رعاياها، كما زعم شكسبير، "يأكلون في ظل كرومهم التي زرعوها بأيديهم، آمنين مطمئنين. وينشدون أغنيات السلام البهيجة(128)" وإن شيئاً من رشاد حكمها ليعود إلى حكمة معاونيها، وكان تذبذبها في الرأي يقترن في غالب الأمر بحسن الطالع، وربما كان ذلك بسبب ما يحدث مصادفة من تغيير، وأدى هذا التذبذب أحياناً إلى ضعف في السياسة إلى حد أن المتاعب الداخلية لدى أعدائها هي التي ساعدتها على البقاء بعد النكسة. ولكنها استطاعت البقاء، بل وحققت نجاحاً، بوسائل مشروعة أو ملتوية، لقد حررت إسكتلندة من ربقة فرنسا وربطتها بإنجلترا، ومكنت هنري نافار من إيجاد التوازن بين قداسه في باريس وبين مقتضيات مرسوم نانت. ولقد وجدت إنجلترا مفلسة محتقرة، وخلفتها غنية قوية، وترعرعت ونمت منابع المعرفة والآداب في ظل الثروة التي كان يرفل فيها شعبها، وتابعت الحكم الاستبدادي المطلق على عهد أبيها، ولكنها لطفت من حدته بالإنسانية والفتنة. لقد حرمت الزوج والولد، وتبنت إنجلترا وجعلت من نفسها أماً لها، وأحبتها حباً خالصاً، وأفنت نفسها في خدمتها، فكانت أعظم حاكم عرفته إنجلترا.

 
 

 

عرض البوم صور معتصم غزال   رد مع اقتباس

إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
انكلترا, تاريخ
facebook




جديد مواضيع قسم التاريخ والاساطير
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 07:12 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية