"على السيد جوناثان ماغواير القادم من مطار هيثرو أن توجه مشكوراً إلى مكتب الأستعلامات "
وفيما كانت موظفة الأستعلامات تذيع هذه الرسالة كانت تورى تقف بجانب المكتب مقطبة الجبين تنتظر إستجابة السيد جوناثان ماغواير لهذا النداء
وقفت لدقائق قرب قاعة المسافرين بإنتظار القادمين على متن رحلة هيثرو إلى جزيرة مان وهى ممسكة بلوحة صغيرة مكتوب عليها "جوناثان ماغواير" بوضوح . لكن أخر راكب فى الرحلة ذهب الآن من دون أى أثر لـ جوناثان ماغواير .
ربما فاتته الرحلة ربما......
-أنا جوناثان ماغواير طرفت تورى بعينيها عند سماع الصوت الأبح الجذاب ذو اللكنة الأمريكية . هل هذا جوناثان ماغواير ؟ كان فى طليعة اللذين غادروا القاعة وقد لاحظته لأنه كان فارع الطول . نظر إليها مخترقاً إياها بعينين رماديتين فولاذيتين فلم تستطيع إلا أن تلاحظ أنه أحد أكثر الرجال الذين عرفتهم جاذبية وغطرسة
كان وجهه صلباً لوحته الشمس وعيناه فولاذيتين أنفه مستقيماً وفمه غير باسم يعلو ذقناً مربعاً . كانت سترته الرصاصية وقميصه الأبيض يتلاءمان مع البنطلون الأزرق الباهت الذى يلبسه ليبرز نحول خصره ورشاقة ساقيه . قدرت أن عمره فى منتصف الثلاثينات ما شكّل مفاجأة أخرى لها فقد كانت تظنه شقيق ماديسون الأصغر
فى الواقع لم يكن كما توقعته أى أن شعره أشقر وعيناه خضراوان كشقيقه . ربما فوتت رؤيته حتى الآن . ولكن هذا لا يفسر عدم إقترابه منها فأسمه مكتوب بوضوح على اللوحة التى تحملها.
تقدمت تورى إلى الأمام مرحبة بإبتسامة :
- طُلب منى أستقبالك يا سيد ماغواير
- تحولت عيناه الفولاذيتان إليها تتفحصانها دون أن يرتسم على ملامحه المنحوتة أى جواب ثم سألها بحذر :
- بالنيابة عن من ؟
- تبددت إبتساماتها وقطبت جبينها . لم تكن تظن هذا عندما تطوّعت هذا الصباح للقدوم إلى المطار لترافقه إلى بيت أخته أن الأمر سيكون صعباً بهذا الشكل
-عن أختك
تمتمت بذلك وقد رأت أن هذه الوسامة البالغة لا عمق فيها وهو امر مؤسف للغاية . كانت دوماً تعتبر ماديسن من أأسهل الناس معشراً وحسبت أن أخاها مثلها لكنه لا يشبه أخته من حيث الشكل كما لا يتحلى بظرفها . ورد بضيق :
-ماديسن ؟ وما علاقتك بأختى بالضبط ؟
ونظر إليها بعين ناقدة
حاولت تورى أن ترى نفسها من خلال عينيه . فتاة قصيرة نحيفة صبيانية الشكل شعرها الفاحم منسدل كالحرير على كتفيها كما أن ملامحها الشبيه بملامح جنية فاتنة خالية من أى
زينة . كانت عيناها عميقتى الزرقة وأنفها يغطيه النمش كما أن فمها كبير وذقنها حازمة . الشبه الوحيد الذى يجمع بينها وبين ماديسن الطويلة الرائعة الجمال هو السن
إزدادت تقطيبتها حين أحست أن جوناثان ماغواير ينتقد مظهرها .
كانت تحب ماديسن ورحبت أن تقدم لها أى خدمة , وإذا بأخيها مغاير لها . لم تكن أبتسامتها الثانية تحمل المودة وهى تجيب :
-والدىّ يملكان المزرعة المجاورة لمنزل ماديسن و زوجها جيدون . وعندما يغيبان يهتمان بمنزلهما
- وماذا أيضاً ؟
-أدركت تورى أن موظفة الأستقبال تصغى إلى حديثهما وهى لا تلومها فكل شخص سيظن أن تورى ستوقع بالرجل بدلاً من أن توصله .
-أتصلت بى ماديسون الليلة الماضية وطلبت منى أن......
كشر الرجل ساخطاً :
-تباً ! لقد طلبت من جيدون ألا يخبر أحداً بوجهتى
- لكن ماديسن زوجته.....
لقد وقعا فى الغرام حين كانا يصوران فيلماً سينمائياً فى الجزيرة منذ عامين . لعبت ماديسن دور البطولة فيما كان جيدون المخرج . وقد كسبا بفضل هذا الفيلم جائزتى أوسكار لذا أحبا هذه الجزيرة وإبتاعا فيها منزلاً يترددان إليه دوماً مع أبنتهما البالغة من العمر ستة أشهر .
-أجابها بخشونة :
-وإن تكن لقد طلبت منه بشكل خاص ...
قاطعته بهدوء :
-أسمع أرى أن نتوجه إلى سيارتى ونتابع الحديث فيها
ألقى على موظفة الأستقبال نظرة ضيق قبل أن يستدير على عقبيه من دون كلمة أخرى متجهاً إلى أمتعته التى تركها عند أسفل السلالم
هزت تورى كتفيها للموظفة بكآبة قبل أن تتبعه . لاحظت أن العربة التى يدفعها نحو باب المخرج تحمل صندوق قيثارة .
-هل تحسن العزف ؟
ألقت عليه السؤال بإهتمام وهى تسير بجانبه نحو موقف السيارات
نظر إليها بجمود :
-عفواً ؟
تملكها الشك فى شعوره بالأسف . فهو نادراً ما يندم ولكن ربما علّمه أحدهما شيئاً من التهذيب . وأشارت إلى صندوق القيثارة :
-لاحظت صندوق القيثارة
تابع النظر إليها بعينيه الجامدتين :
-وهكذا ؟
جذبت نفساً عميقاً :
-أسمع يا سيد ماغواير أرى أن نبدأ تعارفنا
ووقفت فجأة على الرصيف :
-أسمى تورى بوكانان وأنا مسرورة جداً بالترحيب بك فى جزيرة مان
مدت له يدها تصافحه لكنه نظر بجمود إلى يدها الرشيقة للحظات ثم رفع يده ببطء ليمسك بيدها ويقول بإختصار :
-سبق وزرت الجزيرة من قبل
أحقاً ؟ ولم لا فقد أمضت وقتاً طويلاً بعيداً عن الجزيرة ولهذا لعل زيارته فاتتها ولكن كان لديها أنطباع وهى تتحدث إلى ماديسن الليلة الماضية بأن جوناثان ماغواير لا يعرف الجزيرة أو منزل ماديسن و جيدون ما جعل ماديسن تسألها أن تذهب للمطار لإستقباله
والتوت شفتاه إستخفافاً وهو يقول :
-كانت زيارة قصيرة جداً
بدأ من لهجته أنها زيارة ل يريد التحدث عنها . حسنا لا بأس فى ذلك , فقد سبق وقررت رغم وسامة جوناثان ماغواير ستنساه ما أن تُنزله أمام المنزل ! إنه متغطرس بارد غامض بينما كانت تتصوره مرحاً ظريفاً ذهبى الشعر كأخته .
عندما وصلا إلى الموقف أشارت إلى الناحية اليسرى :
-هذه سيارتى بل سيارة أبى فى الواقع
فتحت الباب الخلفى للسيارة الموحلة قليلاً إذ أن أباها يقودها فى الحقول التى تحيط بمزرعته وتابعت تقول :
-أخذ أبى وأمى سيارتى لحضور عرس هذا الصباح
شعرت بأن عليها أن تضيف ذلك . ولم تعرف سبب هذا الشعور فهى لا تدين لهذا الرجل الجاحد بأى تفسير
عندما وضع حقائبه فى الخلف لم تعرض عليه أى عون بل جلست خلف المقود تنتظره . هدرت السيارة بإحتجاج لعدة ثوانى قبل أن تنطلق متجهة إلى مخرج
-ألم تكون مدعوة أنت أيضاً ؟
-إلى أين ؟
أجاب وهو يبدو عليه الأسترخاء التام :
-إلى العرس
إذن فقد كان يصغى إليها حقاً أجابت :
-بل كنت مدعوة ولكن.....
-ولكن ماذا.....؟
فقالت تورى بسرعة متعمدة عدم النظر إليه :
-لكن صديقة لى طلبت منى إسداء خدمة لها بدلاً من ذلك
أحست به ينظر إليها وقد ضاقت عيناه حسنا لقد كانت مدعوة إلى العرس لكن عندما سألتها ماديسن أن تستقبل أخاها فى المطار وتحضره إلى البيت شعرت تورى بالسرور رغم أن العروس أبنة خالها . على أى حال مازال بأمكانها أن تذهب إلى حفل الأستقبال عند العصر
-نعم أحسن العزف
نظرت إليه بحيرة . يبدو أن شيئا ما فاتها ! فقال :
-أعنى على القيثارة . لقد سألتنى إذا كنت أعزف
أومأت متفهمة :
-أى نوع من الموسيقى تعزف ؟
ساد صمت قصير جعل تورى تنظر أليه مرة أخرى . أبأتها ملامحة الغامضة أنها تغامر مرة أخرى بدخول منطقة ممنوعة فكل موضوع معه مزروع بالألغام . و أخيراً قال :
-أعزف عادة ما يخطر ببالى
تنهدت لصده لها ثم حوّلت أنتباهها إلى القيادة . كانت تحاول فقط أن تجرى معه حديثاً مهذباً لكن يبدو التهذيب هو مضيعة للوقت مع جوناثان ماغواير
لم يكن أمامها سوى نصف ساعة قبل أن تنزله عند بيت أخته آملة ألا تراه مرة أخرى طيلة زيارته . كل ما ترجوه هو أن يجعلها زيارة قصيرة !
حاولت أن تتذكر القليل الذى قالته ماديسن عن أخيها مساء أمس .
كانت تسميه جونى . لا يمكنها أن تتصور هذا الرجل البارد باسم حميم مألوف !
بدا ثرياً للغاية فى ملابسه الثمينة كما لاحظت أن حقيبته وصندوق القيثارة كانا من أحسن ما يمكن للمال أن يشتريه . وبصفته شقيق ماديسن لابد أنه أبن سوزان ديلانى....تلك المرأة التى كانت ممثلة أسطورية وقد رأتها تورى عدة مرات وأحبتها حين زارت ماديسن وزوجها فى الجزيرة , لعل جوناثان يشبه أباه لأنه لم يكن يشبه على الأطلاق أخته الساحرة وأمهما !
قررت تورى أن تنسى هذا الرجل الجالس بقربها وتركز على قيادة السيارة . كان يوماً جميلاً من شهر حزيران فالجو مشمس دافئ وجوانب الطرق مغطأة بالأزهار المختلفة حتى أن هذا الرجل الصامت بجانبها لم يستطيع أن يفسد أستمتاعها بيوم كهذا !
ابتدأ أهتمامها بهذا الرجل يزداد رغماً عنها . فماذا يريد رجل أمريكى ينأهز الثالثة و الثلاثين من مجتمع صغير مثل جزيرة مان ؟ هذه الجزيرة بجمالها الرائع وحياتها الآمنة وعدد سكانها المحدود ل تُعد مكاناً عصرياً لقضاء الأجازات بالنسبة للرجال العازبين
كانت تعلم أن الشئ نفسه يمكن أن يقال لامرأة فى الرابعة والعشرين أيضاً . لكن الأمر مختلف تماماً بالنسبة إليها بالذات . فقد ولدت هنا وأسرتها تعيش هنا . بينما جوناثان ماغواير بعيداً عن أسرته ! نعم إنها مهتمة بهذا الرجل !
وهذا أخر شئ تريده فى هذه اللحظة لقد عادت إلى موطنها لتفكر فى نفسها قليلاً ولتتخ بعض القرارات الخاصة . ولهذا فهى ليست بحاجة إلى رجل غامض يعقد الأمور مثل "جوناثان ماغواير"
-ما كان ذلك ؟
هتف جوناثان ماغواير بذلك وهو يشهق مصدوماً عندما أنطلق بجانب السيارة شريط أحمر محدثاً جلبة
أبتسمت تورى من دون انزعاج وقالت عندما رأيا شريطاً ملوناً أخر أزرق اللون :
-ألم تسمع عن السباق التذكارى للسائحين
راحت تتساءل عما إذا كان السباق هو سبب قدومه إلى هنا لكن ملامحه الغامضة أنبأتها بخلاف ذلك كان جوناثان ماغواير مقطباً :
-تلك....الدراجات النارية لها علاقة بذلك
-بكل تأكيد
ولم تستطيع تورى أن تكبت ابتسامتها أكثر من ذلك وأضافت :
- ومع الأسف أخترت أن تزور الجزيرة مع ابتدأ أسبوع السباق
- فقال كارهاً :
- أعلم أنى سأندم على ذلك . ولكن ما هو"أسبوع السباق"؟ ما هو"السباق التذكارى"؟
- أنه سباق الدراجات النارية . السباق الرئيسى يبدأ فى الأسبوع القادم
- قالت هذا بسرور دون أن تعير الدراجات النارية التى كانت تتجاوزهما بسرعة البرق أى أهتمام
- أسبوعا السباق المعروفان بأسبوع التدريب وأسبوع السباق عرفتهما الجزيرة منذ مائة عام . العديد من سكان الجزيرة مازالوا يعتبرون ذلك تطفلاً على حياتهم العادية الهادئة الوادعة . أما تورى فقد كانت شغوفاً بهذين الأسبوعين حيث يغزو الجزيرة أربعون أو خمسون ألف نسمة و معهم آلاف الدراجات النارية ليستمتعوا بوقتهم ويمرحوا فى السباق
سألها :
-أليس اليوم ؟
-لا لم يبدأ السباق بعد
فقال باشمئزاز :
كلامك جعلنى أظن هذا
ابتسمت :
-عندما يبدأ السباق يسدون الطرق
سألها بحيرة :
-وهل يجرى السباق فى الطرق ؟
فأجابت ضاحكة :
-ليس فى الجزيرة كلها . يبدو أن....
فعاد يعبس :
-يبدو أن ماديسن لم تخبرنى بذلك
لم تستطيع تورى أن تمنع نفسها من السخرية :
-لم يكن مفروضاً أن تعلم ماديسن بوجودك هنا , هل نسيت ؟
ساد صمت قصير قال بعده معجباً :
-لفتة ذكية منك يا آنسة بوكانان
منتديات ليلاس
دهشت وهى تراه يتذكر أسمها بعد أن ظنت أنه لا يهتم بشئ باستثناء ذاته . لكن لعلها لم تنصفه . وقالت :
-إدعنى تورى . بما أننا سنصبح جارين لفترة
أصبحت عيناه الفولاذيتان كالثلج وهو يقول بخشونة :
-لا أنوى إقامة علاقات اجتماعية أثناء وجودى هنا
تنفست بحدة إزاء فظاظته وندمت على الفور على إظهار المودة له ثم أجابته ببرودة :
-لا أظننى قلت أنى أنوى أن ادعوك إلى حفلة....يا سيد ماغواير أو إلى أى شئ أخر
بعد نحو عشرين دقيقة ستودع هذا....هذا الوغد المتغطرس . بدت لها المدة طويلة !