كاتب الموضوع :
نيو فراولة
المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
قالت في نفسها غريب امر هذا الرجل ، فقد كان وهو أصغر سنا يوم عرفته ، يمعن النظر في جميع أفعاله ، متزنا في تفكيره ، يفكر بالعواقب ، فما الذي جرى له الان ؟ اهو حزنه الشديد الذي شوّش عقله؟
بقي واقفا قريبا منها وهي تنظر اليه ، الى عينيه الرماديتين الداكنتين لا تستطيع أن تسبر أغوارهما ... ضيقتين مليئتين بالكراهية ، أعمى عن كل شيء إلا عن إشباع رغباته ، وإنتصاره من غير رحمة.
بدأ قلبها يعلو ويهبط ، فإتخذت خطوة الى الوراء ، ولاحظت غمزات عينيه الساخرة بحركتها تلك ، واقفا أمامها كالعملاق ، واثقا من نفسه ، وشعرت الانا أنها وقعت في الفخ.
إقترب كونون منها أكثر ، ويده المرتجفة لامست وجهها ، وفجأة ضمّها اليه ، ثم غاصت الغرفة في الظلام .
كان نائما وهي تحملق فيه بإستغراب ، فإمارات الشر قد زالت عن وجهه ، ورأت فيه الرجل الذي عرفته ذات يوم ، كثير الود والقدرة على أن يحب بصدق ، والإبتسامة تبدو على شفتيه كمن تمر في مخيلته ذكريات مفرحة ، حلّت مكان تلك الذكريات الموحشة المخيفة.
في الليلة الماضية نامت وحكمة الهرب ترن في اذنيها ، ولكن في هذا الصباح شعرت أن الإشفاق على زوجها قد هزم فكرة الهرب ، فلن تتركه وحيدا ، يحتضن حظه العاثر ، ويندب ولده الذي رحل بتلك الطريقة المرعبة ، فهذا وحده كاف أن يجعل كونون دائما اسيرا لالام مبرحة لا تطاق.
" اين أنت؟".
جاءت الكلمات في نغم مليء بالذعر .... لكنها نغمات ناعسة كأنما صاحبها لم يستيقظ جيدا بعد ، ثم أضاف:
" اين أنت ؟ اين ذهبت".
عادت الى الباب بسرعة ، وجدته مستيقظا مقطب الجبين ، فقالت تطمئنه:
" أنا هنا ، كونون ".
نظرت الانا اليه فرأت التجهم على وجهه يمضي ثم يعود وسمعته يسأل:
" ماذا كنت اقول؟".
" سالتني أين أنا".
مرت لمحة من السرور في عينيه ثم نظر الى ساعته وأضاف:
" حسنا ، ولكنك إستيقظت مبكرة".
" إنه صباح مشرق جميل ، وأحب ان أذهب في جولة قصيرة قبل الفطور".
رددت الانا كلمته في نفسها لأسباب غامضة ، فشعرت وكأنها صرخة من الماضي ، صرخة فيها إستغاثة والم ، وإستغربت لهذه الفكرة ، فكرة إرتباط هذه الصرخة بالماضي البعيد ، لماذا لا تعود الى أمور أكثر قربا من الحاضر؟
من الممكن أنه كان يحلم ، أو ربما كان بين اليقظة والنوم ، عندما يتمتم المرء باي كلمات ، وفي هذه الحال ، فكلماته ليس لها أي معنى عميق ، هزت ألانا رأسها وقد نفد صبرها من نفسها ، لأنها لم تصل الى أي سبب ثابت يوضح لها سبب صيحة كونون تلك.... أين أنت؟
وبقيت هذه التساؤلات تراودها ما يقرب من نصف ساعة ، حيث كانت تسير على الطريق التي تؤدي الى نهاية الجزيرة .
كانت الشمس تسطع فوق سطح البحر تلونه بلون اللهب ، والسماء تتألق في العلى بلونها لصافي ، وقد توشحت سفوح الجبال بأثواب ذهبية وخضراء ، والروابي مزيج من الألوان تغطيها البساتين والحدائق التي تستكن في احضانها بيوت متناثرة بيضاء.
وبعيدا في البحر يبدو العديد من الجزر تلمع تحت اشعة الشمس ، ترتفع تلالها عالية حادة نحو السماء ، إبتسمت الانا إذ وجدت نفسها تستعيد إحساسها الأول إتجاه هذا الفردوس الوضاء حيث كانت الشمس تختفي وراء الغيوم ، والجبال معلقة في أعماق الضباب ، والوحشة تخيم على كل مكان.
اما الآن وقد ولت الغيوم امام شعاع الشمس وتلاشى الضباب عن الجزيرة ، فإن ألانا بدأت تحب هذا المكان ، وشعرت انه بإمكانها ان تكون سعيدة بين حنايا هذه الجزيرة الرائعة الجمال ، لو أن الظروف التي تعيشها عير هذه.
حقا ان زوجها يبدة متوحشا همجيا أحيانا ، ولكنه أحيانا أخرى يبدي ملامح عاطفية لا تكون إلا في قلوب المحبين ، ترى هل يمكنها ان تخفي شيئا من إشمئزازها منه ؟ وفكرت فوجدت ان ذلك بعيد الإحتمال.
إستمتعت ألانا بالجولة التي قامت بها ، بالمناظر الخلابة ، بالنسيم البارد العليل القادم من البحر ، بالروائح الزكية التي تنتشر في كل مكان فاتحة الأعشاب العطرة التي تنبت بين الصخور.
كان القصر يبدو روعة في الجمال وقمة في فن العمارة ، كانه معلق على حافة صخرة عالية ، أما جزيرة ليروس فقد كانت تبدو قريبة جدا خلال ذلك الجو الصافي ، والجزر الصغيرة الأخرى تكاد تلتصق وكنها جزء من كاليمنوس نفسها ، إنفصلت عنها قليلا لتستحم في المياه الدافئة على شطآنها الجميلة.
نظرت ألانا الى ساعتها ، وإستدارت تسرع الخطى بأكثر مما إعتادت أن تفعل ، حتى لا تتأخر عن موعد الفطور ، لقد سبق وتأخرت مرة عن موعد الطعام ، فحدثت مشادة بينها وبين كونون ، ولكن كالمعتاد كان كونون المنتصر ، وحذّرها ألا تعود لمثل هذا التأخير في المستقبل .
أحست ألانا بكثير من الإمتعاض في داخلها وهي تتخيل تصرفات كونون المتعسفة ، وهي ليست من النوع الذي يرضخ بسهولة ومن غير مقاومة شديدة ، ولذا خففت من سرعتها وأبطأت في مشيتها ، وأخذت تسير عل مهل سعيدة فرحة.
وصلت الى مائدة الطعام ، بعد أكثر من عشر دقائق من دخول كونون الغرفة ، ضاقت عيناه قليلا كانه ينتظر منها إعتذارا ، ولكنها رفعت وجهها نحوه قليلا ، ثم جلست وهي تقول:
" ما كان عليك ان تنتظرني ، ألا يكون طعامك قد برد؟".
جلس كونون قبالتها وقال برقة:
" انت تعرفين شعوري بصدد التأخر عن مواعيد الطعام ، وقد حذرتك مرة أنه لا يمكنني الإنتظار حتى تصلي الى المائدة".
|