كاتب الموضوع :
نيو فراولة
المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
وقفت متثاقلة على قدميها ، وقالت بصوت مرتجف:
" انت آخر من أفكر في اللجوء اليه يا سيد براندون ، آسفة لإزعاجك في الماضي ، لن ترى وجهي بعد اليوم".
مشت نحو الباب ، فأحست بيديه تمسكانها بفظاظة ، ثم أرخى أصابعه قليلا ، وإلتصق بها ، فطنت بغريزة الأنثى الى ما يبيته لها ، عاركته تريد التملص بدون جدوى.
لم تنبس ببنت شفة ، كأن خدرا اصابها فإستسلمت لعناقه ، يا لها من لحظة مشحونة بالمشاعر الدفينة ، لم تعد تدري معنى أي شيء ، ما الذي دهاها ؟ كيف تدعه يقترب منها هكذا ؟ برهة غامضة مغلقة بالأسرار ، ثم سمعته يهمس في أذنها :
" لماذا لا تعضين الآن ؟".
إستعادت صوابها ، وصرخت مبتعدة عنه ، والخجل يغمرها :
" يا لك من وغد ، أيها الإبليس اللعين ! ".
واطلقت ساقيها للريح ، تعدو هاربة رغم آلام قدمها.
كانت تعرج ، وتتلوى ألما عندما بلغت سلم الحديقة المؤدي الى شرفتها ، ولم تعثر على صندلها الذي خلفته وراءها قرب الشاطىء ، فصعدت حافية القدمين ، شعرت بنعومة السجادة وهي تدخل غرفتها ، وإرتمت فوق السرير.
يا لها من تجربة مرة ! إستلقت منهكة ، لا تجد تفسيرا لمغامرة طفولية تخوضها مع رجل يحتقرها ، تمنت لو نشق الأرض وتبتلعها.
رن جرس الهاتف يزعق زعقا ، رفعت السماعة:
" الو".
وهدر صوت السيدة براندون :
" كريستينا ؟هذه ثالث مرة اتصل بك ، اين كنت؟".
إستوت كريستينا ترفع عن وجهها شعرها المشعث :
" ذهبت في نزهة قصيرة ، انا آسفة ، هل كنت تريدين شيئا ؟".
" تعالي الى غرفتي فورا".
وأقفلت العجوز السماعة بعنف.
بدّلت كريستينا ملابسها بسرعة لتخفي آثار نزهتها المشؤومة ، وسرحت شعرها وخرجت.
كانت السيدة براندون تجلس على مقعدها الوثير ، تطرز قطعة من القماش ، نظرت الى كريستينا تحدجها بإستهجان ، ثم رأت ضمادة كاحلها ، فهتفت:
" جرحت قدمك يا إبنتي ! ".
" كنت على الشاطىء ، وفتلت كاحلي".
ركّزت العجوز نظرها على الضمادة :
" هكذا إذن ، ولديك خبرة في تضميد الجروح والإسعاف الأولي؟".
تلعثمت كريستينا :
"كلا، إلتقيت ... إلتقيت بإبن أختك على الشاطىء ، وتفضل بمساعدتي".
أجابت السيدة براندون بهدوء:
" صحيح ؟ يا لها من بادرة كريمة ، وليست هذه المرة الأولى ، أخبرني ثيو أنك إلتقيت ديفلين في المارتينيك ؟".
قالت كريستينا بحياء شديد :
" نعم ، ولكنني لم أكن أعرف من هو آنذاك بطبيعة الحال".
صمتت السيدة براندون برهة ثم قالت :
" إنني في موقف صعب يا كريستينا ، أشعر أنني مسؤولة عنك تماما مثل عرابتك ، وعلي تحذيرك من ديفلين ، لم يكن يصغي إلا الى والدته ، وما أن رحلت عن هذا العالم حتى تحول الى شخص حاد الطباع ، لا يهمه رأي أحد".
وتابعت السيدة براندون ، وكريستينا كلها آذان صاغية:
" لم يعد يبالي بالعائلة وسمعتها ، وهكذا هجر هذا المنزل وقطن في ذلك الكوخ على الشاطىء ، وتخلى عن مسؤوليته إتجاه المزرعة ، وهو الآن يعيل نفسه من دخل الثروة المالية التي ورثها عن أهله ، ويحصل رزقه عبر حفر التماثيل الخشبية".
كان صوتها جليديا ، مفعما بالإزدراء ، وعاد بكريستينا الخيال الى ذلك المقعد الخشبي الذي لمحته في غرفة الكوخ ، سألت العجوز بعفوية :
" هل يجيد حفر الخشب؟".
حدّجتها السيدة براندون بغطرسة:
" ما اهمية ذلك ؟إنه يجد دائما زبائن لشراء بضاعته ، ولكن عمله لا يليق بمن ينتسب الى عائلة براندون ، إن واجبه أن يكون هنا ، يساعدني على إعداد ثيو من أجل ميراثه".
إستفهمت كريستينا:
" ما الذي تعنيه؟".
تأوهت السيدة براندون ثانية :
" إن المسألة في غاية البساطة ، كان زوجي واخوه توأمين ، وولد زوجي قبله بنصف ساعة ، ولذلك ورث المزرعة عندما توفي والده ، وأصبح هو وأخوه كاري شريكين يديران المزرعة سوية ، وفي غضون ذلك إلتقى كاري بأختي مادلين وتزوجها بعد عام ، عشنا هنا جميعا حياة سعيد في البداية ، ثم بدأت المصاعب ".
قالت كريستينا شاعرة بالحرج الشديد:
" هل من الضروري إخباري كل هذا يا سيدة ؟ إنها مسألة لا تعنيني ، و....".
إستأنفت السيدة براندون التطريز:
" نعم ، من الضروري إخبارك ، أنت الان واحدة من العائلة يا عزيزتي ، لا بد أن تفهمي سبب كره ديفلين لنا جميعا ( وتناولت مقص الخياطة ) عندما ولدته اختي ، طارا فرحا ، هي وزوجها ، واخذا يدللانه الى أن فسدت طباعه ، وتوهم ديفلين نتيجة الشراكة بين والده وزوجي ، أن له حقا في الوراثة ، وعندما أطلعناه على حقيقة الأمر ، وفهم أن ثيو سيكون الوريث الوحيد ، جن جنونه ، وجاراه في آرائه والداه ، وأخذوا يصرفون اوقاتهم في السفر ، والرحلات ، والإبحار في المركب ، وكان ثيو في ذلك الحين لا يزال صبيا غيرا ( وتنهدت متابعة ) واثناء إحدى تلك الرحلات البحرية هبت عاصفة هوجاء ، وغرق المركب بمادلين وكاري موديا بحياتهما ".
صمتت قليلا ، تتفرس في وجه كريستينا ، ثم إستطردت :
" ومرة ثانية جن جنون ديفلين ، إتهمنا بشتى التهم ، وأمعن في تهمه وشتائمه ، الى ان علا صراخنا بالشجار والكلام القاسي ، فقرر الرحيل ، بعد مرور عامين أصيب زوجي بمرض عضال ، فطلب رؤية ديفلين ، وتمنيت عليه من كل قلبي أن نتوصل الى تفاهم ما ، ولكنه أصر على موقفه أثناء تأبين زوجي ، ومنذ ذلك الوقت وهو يعمل ضدنا ويكن لنا العداء! ".
دهشت كريستينا لهذه العبارات فغامرت بسؤالها:
" وباي أسلوب؟".
أبدت السيدة براندون تأففها :
" ذهب ليدرس في الجامعة وتشرّب بعض الأفكار الغريبة ، وعندما عاد بدأ ينتقد طريقة العمل في المزرعة ، وكيفية إقتصارنا على زراعة السكر دون سواه أدّعى ان مصاعب جزر الهند الغريبة ، وخاصة الإقتصادية منها ، سببها هذه الزراعة الأحادية ، كان يريدنا تنويع المحاصيل ، وزراعة الحبوب الغذائية ، وبالطبع رفضنا آراءه المعوجة ، وما لبث ان جمع حوله بعض الأشخاص الذين يشاطرونه نظريته ،وهم الان يدعون انفسهم : لجنة الجزيرة".
تململت في مقعدها ، وعلت وجهها مسحة من القلق ، ثم تابعت:
" إنني أخبرك كل ذلك يا إبنتي لتاخذي حذرك ، أنت غريبة هنا ، ولن يتردد ديفلين عن إستغلالك خدمة لمآربه الخاصة ، حاولي تجنبه ، ولن يصعب عليك ذلك ، فهو قلما يزورنا ".
هزت كريستينا براسها صامتة ، إنها نصيحة من السهل تنفيذها ، خاطبت نفسها.
وقضت ساعة من الزمن تملي عليها السيدة براندون بعض مراسلاتها ، وكانت في معظمها تافهة المضمون ، كما إكتشفت ، تدور حول أعمال خيرية ، أو تلبية دعوات إجتماعية ، وهذا كل شيء ، من الواضح أن السيدة براندون لا تحتاج الى سكرتيرة ، ولن تجد عملا يشغلها طوال النهار ، فكرت كريستينا.
جلست في المكتبة تطبع الرسائل على الآلة الكاتبة ، راحت تستعيد آراء ديفلين حول شؤون المزرعة ، والمصاعب الإقتصادية في جزر الهند الغربية ، وجدت نفسها توافق على ما ذهب اليه ، ومع أنها لم تكن خبيرة إقتصادية ، تذكرت مقالا قراته في إحدى المجلات يناقش هذه النقطة ، ومن زاوية مشابهة .
أنهت الطباعة ، وهمت بالصعود الى الطابق الأعلى لتطلب من السيدة براندون توقيع الرسائل ، لكنها ظلت مسمّرة على الكرسي ، تغرق في لجة من القلق والإضطراب.
ماذا تفعل ؟سالت نفسها هل تعود الى انكلترا... وكيف؟ لا يمكنها البقاء في منزل مغلف بالأسرار ، ويقطنه أناس غريبو الأطوار ، وماذا عن ديفلين براندون ؟ إن مشاعرها إزاءه مشوشة ، ومتناقضة ، إنه الشيطان بعينه ، شيطان عرف كيف يدبر لها مكيدة تلو الأخرى ، عانقها حتى خال انها إستسلمت له بكل جوارجها ، يا لبؤسها !
تلك كانت غلطة مشؤومة ، لن تكررها أبدا ، قررت ان تستمر في العمل في ذلك المنزل مهما كانت العراقيل ، وفجأة غمرتها نشوة إنتصار ممزوج بالكبة.
وبعد مرور ساعات طويلة ، تحولت النشوة الى كآبة قاتمة ، وكأنه كان إنتصارا كاذبا.
|