كاتب الموضوع :
نيو فراولة
المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
وما أن همّت بدخول قاعة الفندق حتى لمحت مجموعة من السياح يتجمعون في ناحية من الرواق يتابعون شيئا ما يدور هناك .
تغلب عليها فضولها فقررت إكتشاف الحدث الهام الذي يستحوذ على إنتباه الجميع ، تقدمت قليلا الى أن تبينت زنجيا يجلس مقرفصا على الأرض ويرمي عظاما يابسة في الهواء ، ثم يلتقطها وهو يتمتم كلمات تنذر بالويل والثبور ، انه عراف يقرأ البخت ، خطت خطوة الى الأمام ، ووقفت أمامه مدهوشة ، رات رجلا ينقده بعض الدراهم ، ثم يشكره ، ساد صمت مزعج ، لم يتقدم زبون جديد ، فلتجرب حظها ، عساها تتبين ملامح مستقبلها الغامض ، إلتقت عيناها بعنيني العراف ، ووجدته يباشر قذف أصداف براقة ، ويومىء لها لتجلس قربه ، أطاعت أوامره وكأن قوة سحرية تجذبها الى سماع كلماته ، تململ قليلا ، فرك جبينه ، وما لبث ان قال :
" عليك الإحتراس والحذر يا آنسة ، إنني أرى شرا ، كوني حذرة من ابليس آرك إينجل اللعين في آرك إينجل ".
ثم نهض بغتة ،وجمع الصداف والعظام ، وغادر مسرعا ، متجاهلا إحتجاجات الجمهور ، وقفت كريستينا
محمرة الوجنتين ، مضطربة ، تركض كالمجنونة نحو مدخل الفندق ، وكلماته تزن في أذنيها : كوني حذرة من ابليس.
كانت تعاني من صداع رهيب عندما شدّت الرحال في اليوم التالي للذهاب مع السيدة براندون الى جزيرة سانت فيكتوار ، وهي لا تزال تتذكر عبارات هذه العجوز اللاذعة ، وتانيبها لها لتاخرها وتعرضها لمشكلات كانت في غنى عنها.
وإستعادت أحداث يومها الفائت ، وخاصة مقابلتها لذلك العراف وقراءته لبختها لا بد أنه يتناول المعلومات مع احد موظفي الفندق حول النزلاء ، ولا شك أن السيدة براندون اشهر من أن تعرّف ، فكرت كريستينا ، الكل يعرف اين تسكن وإسم منزلها ، وشاهدوها معها ، فكان من السهل معرفة مكان توجهها ، إنها مسألة في غاية البساطة ، ومع ذلك ، كيف تفسر كلماته ؟ ما الذي عناه بالتحديد؟
واخذت تتساءل بقلق عن الدافع الذي حمل السيدة براندون للسفر الى انكلترا والبحث عنها ، فصحتها سيئة ، وتعاني من إلتهاب المفاصل ، ولا تكف عن إبتلاع أقراص والمسكنات ، مما يعني أن قلبها في حالة سيئة أيضا ، وإذا كان هذا هو الوضع ، تابعت كريستينا سلسلة افكارها ، فلماذا لم تكلف احدا غيرها للقيام برحلة طويلة ، مضنية كهذه ؟
وتمنت لو تستطيع إقناع نفسها بعاطفة السيدة براندون الجياشة ، وإنسانيتها المفرطة ، ولكنها لا يمكنها ان تصدق كل ذلك بعد أن إختبرتها عن كثب.
إذن هناك سبب ملح دفع السيدة براندون الى رؤيتها شخصيا ، مع أنها لا تعرف ما هو هذا السبب الملح .
يا لبؤس حياتها ، وطئت ارض المارتينيك تمور حيوية وغبطة ، وتخال أنها تعيش اسعد لحظات حياتها ، وها هي تجلس في هذا المركب حزينة ، مشوشة الأفكار ، تلمح جزيرة سانت فيكتوار فلا تترك في نفسها إلا إنطباعا مغلفا بالسرار والحيرة .
همّت بالترجل من المركب ، محاولة تعزية نفسها ، وتعليلها بمفاجأة سارة جديدة ، قررت ان تشاؤمها لا يليق بها ، وربما كان إحساسا خاطئا لا صحة له ، فتنتظر حتى تنجلي الأمور أكثر .
كانت تنتظرها على رصيف الميناء سيارة فخمة ، يجلس وراء مقودها رجل أسود يرتدي بزة رسمية ، ولاحظت تبدل طبيعة السيدة براندون ، وظهور دماثة لطيفة في تصرفها إزاءها ، وهما تتوجهان نحو السيارة ، ورأت السائق يرفع قبعته ويتوجه صوبهما بإبتسامة عريضة :
" الحمد لله على السلامة يا سيدة ، ويا آنسة ".
أعطته السيدة براندون عصاها ، وصعدت الى المقعد الخلفي قائلة :
" شكرا يا لويس ، باركك الله".
ولاحظت كريستينا السائق يلف بطانية حريرية حول ساقي السيدة براندون رغم رطوبة الجو الحار.
وجلست كريستينا في المقعد الأمامي كما اشارت عليها ربة عملها ، واقلعت السيارة ، وهي تشعر بالحر الخانق ، لكنها لم تفه ببنت شفة ، تمنّي نفسها بحمام ماء بارد وبعض المرطبات فور وصولها.
لم تجد ما يلفت النظر في منطقة الميناء سوى مجموعة من المباني الواطئة المسقوفة بالواح من الحديد المضلع ، وبعلو معظمها الصدأ والغبار ، وكانت الشوارع المتفرعة من الميناء ضيقة ومزدحمة بالدراجات ، ولاحظت كريستينا ان الأرصفة تتكدس فوقها أكشاك الفاكهة والخضار ، وتغص كل بقعة بالأولاد والصغار وشتى الحيوانات ، وأبدت إعجابها بمهارة لويس وهو يشق طريقه عبر هذا ازحام.
وما هي إلا لحظات حتى وصلوا الى طريق عريض ، مستقيم ، لا يعكر صفوهدوئه شيء ، فتنفست الصعداء ، ثم تبيّن لها أن هذا الطريق ليس اكثر كم درب ترابي تتخلّله الحفر ، فتهتز السيارة يمينا وشمالا ، رغم مهارة لويس في القيادة .
وبعد ان قطعوا بضعة أميال صعدت بهم السيارة الى طريق مرتفع ، وتراءى البحر لكريستينا في البعيد ، بلونه الأزرق العميق ، يكاد يعانق الأفق بعفوية اخاذة ، نظر اليها لويس مؤكدا :
" سوف تشاهدين مناظر أكثر جاذبية ".
ومضت بهم السيارة في طريق تتوسط حقولا زراعية ، يعمل فيها عدد من الأشخاص ، ورأتهم كريستينا يلوحون بايديهم ، وتصورت ، بدون ان تلتفت وراءها ، السيدة براندون تهز براسها لرد التحية ، وفطنت انهم الآن على أطراف المزرعة التي ذكّرتها لها ربة العمل .
كانت حقولا شاسعة ، تمتد الى مسافات بعيدة ، ترصعها مجموعات من المساكن لإيواء عائلات العمال ، كما إفترضت ، كأنها عالم صغير وسط عالم آخر ، وإرتابت كريستينا من ضخامة هذه المزرعة ، لم تعرف في حياتها سوى الريف الإنكليزي وجماله الوديع ، وها هي تصطدم بالحر اللاذع ، والتربة الظامئة ، والأشجار والنباتات الغريبة الشكل والبراعم ، احست انها في برية موحشة لم تروضها الحضارة بعد.
|