وتذكرت أن هناك ممراً بين الصخور يفضي إلى الطريق العام
ثم إلى الفيلا دون أن تضطر للعودة أدراجها من حيث أتت . وهكذا
استدارت لتسير عبره فوق الصخور الخشنة غير المستوية تحت
قدميها . . . هناك بضع سيارات في الجزيرة , ولكن أهل الجزيرة إما
يسيرون أو يستخدمون الحمير الصغيرة الحجم التي تتسلق الوعر
وكأنها المــاعز .
صوت محرك أجفلها حتى أنها للحظات جمدت من الدهشة .
ثم ركضت عبر الدغل المنخفض , تلوح , وتنظر إلى الطريق لترى
غيمة كثيفة من الغبار لا بد أنه ناتج عن مرور سيارة .
كانت السيارة مســرعة , فزادت هي من سرعة ركضها , خائفة
ألا يراها راكب السيارة , كانت تركز انتباهها بشدة , حتى أنها لم
تشــاهد الصخور البارزة أمامها إلا بعد فوات الأوان . واهتز جسدها
كله وهي ترتمي على معدتها فوق الصخور . وصرخت من قوة
السقطة , ثم لاذت بالصمت على أثر الألم الذي صدمها واستلقت
بين الشجيرات الصغيرة الشائكة , لا تحس بـــشــــيء سوى الألم في
عظامها .
ما هي إلا لحظات حتى شعرت بيدين ترفعانها عن الأرض ,
وتديران وجهها إلى فوق . ومرت يدان مرتبكتان بسرعة على
جسدها , تبحثان عن إجابات محتملة . وفتحت عينيها , تتأوه من
الألم , ليطل عليها وجه أسمــر يتوج رأسه شعر أشقــر ملون
بالغبار بعينيه الزرقاوين المتلألئتين المليئتين بالقلق .
ـ أنت بخير ؟
كان يركع إلى جانبها يسند رأسه بيده بعد أن تفحصها باحثاً
عن إصابات . . . ويتكلم الانكليزية . فأجابته غير واثقة :
ـ أجــل . . . هل أنت إنكليزي ؟
فــابتسم :
ـ بل أميركي . . . وأنت كذلك . . ما هذه الصدفة !
ـ وماذا تفعل هنا ؟
ـ ألتقط الصـــور .
وأحست فجأة أن يده الأخرى ترتاح على خصرها بطريقة
حميمة جعلت الاحمرار يعلو خديها البيضاويين . وحــاولت
الجلوس , فدارت الدنيا حولها . فقال لها بصوت مفعم بالاهتمام .
ـ هــاي . . لا يجب أن تتحركــي . . سقطتك كانت قوية .
فلفت جيني ذراعيها حول ركبتيها وأراحت رأسها عليهما ,
تتنفس ببطء وعمق . وتركها هكذا لبضع لحظات , وعندما توقف
الدوار . رفعت رأسها ببطء , فســألها مبتسماً :
ـ هل أنت أفضــل حالاً الآن ؟
فهزت رأسها وردت تأدباً :
ـ شكــــراً لك .
ـ لقد ظننت نفســـي أتخيل عندما خرجت نحوي راكضــة .
ـ وهذا يجعل منا أثان , فآخر شــيء كنت أتوقع رؤية هو
سيارة .
فضحـــك :
ـ هذا يوضح ما حصل . فالسيارات نادرة هنا . . أليس كذلك ؟
السيارة الوحيدة الأخرى هي لباستينو . ولكن , لا بد تعرفين هذا . .
فأين يمكن أن تقيمي في هذا الجزء من الجزيرة سوى في فيلتهم ؟
سمعت أنه هنا . . . لا بد أنك ممــرضته .
فــأجابت بسرعــة ودون تفكــير :
ـ ممرضــة ؟ . . . لا !
ـ لا . . ولكنك تقيمين في الفيلا التي يملكها أليس كذلك ؟
أوه . . أنا آسف لم أقصــد أن أطرح أسئلة ذات مغزى .
وفهمت جيني ما يجول في ذهنه . نظرته السريعة إلى يدها
اليسرى أوضحت أنه يفكر بوضعها , وأنه قرر أن روبرتو قد جاء
بإحدى عشيقاته معه . وبدا عليها الغضب . . . فتراجع الرجل إلى
الوراء لرؤيته بريق اخضرار عينيها . ووقفت . . . فتحرك لمساعدتها
بعد أن رآهــا تترنح . . وقال :
ـ ســأوصلك إلى الفيلا . . . أهذا مــا كنت ستطلبينه ؟
ـ أجل . . . شكــراً لك .
وســـار إلى جانبها نحو السيارة وعيناه تحدقان بها باهتمام . .
وقال لها بعد قليل :
ـ يجب أن نعرف عن أنفسنا . . أنا تومــاس مارشال .
ـ وأنا جيني نيوهام .
ـ جيني . . . اسم غير مألوف . . ولكنه يناسبك .
فتح لها باب الروفر . . فصعدت إليه , ثم انضم إليها . أدار
المحرك فانطلــقت السيارة , وســألته :
ـ مــاذا تفعل على الجزيرة ؟
ـ أنا عالم اجتماعات .
ـ يا إلهي !
ـ ولماذا يجيب الناس هكذا على نوع عملي , ما الخطـــأ في
دراسة الجنس البشري ؟
ـ أهذا ما تفعله هنا . . . تدرس أهــل الجزيرة ؟
ـ أجول في الجزر أدرس حياة الناس الاجتماعية , فأنا اخضر
لأطروحة التخرج , التي تتناول مجتمعات الجزر .
ـ يبدو الأمر مذهــلاً .
ـ هذا صحيح .
ـ وأين تقيم ؟
ـ فــي الفيلا .
ـ ماذا ؟ ولكنني لم أشاهدك هناك .
ـ آه . . هذا لأنني لم أكن موجوداً . لقد ذهبت إلى الجبال
لأزور ابن جوزيبي , الانرو . وبقيت هناك لبضع أيام للتعرف على
نمط حياته إنه شاب طيب , وقد اتفقت معه بشكــل جيد .
ـ وهل يعلم روبرتو أنك تقيم في الفيلا ؟
ـ لقد اتفقت معه منذ أشهــر . في الواقع هذه السيارة له . وهل
ظننت أنني ســأستخدم بيته كفنــــدق دون إذنه .
ـ آسفة . . . بالطبع لا . كل ما في الأمر أن أحداً لم يذكرك
لـي . ولم يكن لدي فكرة عن وجود غريب . وكم ستبقى هنــا ؟
ـ ليومين آخــرين .
عندها فقط خطرت فكرة لها , فتنفست بحدة , فالتفت تومــاس
مارشال متسائلاً , فبادرته بالسؤال :
ـ وكيف ستغــادر ؟
فضحك :
ـ بالمركب طبعاً . وســأذهب إلى محطتي التالية . . لقد رسمت
خط رحلتي منذ سنة . ولا يزال أمــامي رحلة طويلة .
ـ وهل سيأخذك أحد الصيادين ؟
ـ بل صديق في الواقع . إنه يعمل في (( سودينية )) ويملك مركباً .
وهو يحب الإبحــار إلى حد الجنون . . . سيأخــذني من هنا ويوصني
إلى محطتي التالية , ثم يغيب بضعة أيام قبل أن يعود ويلتقطني
ثانية .
ـ وهل هو أميركــــي ؟
ـ تقريبــاً .
ـ وماذا يعني هذا ؟
ـ لديه جواز سفر أميركــي , ولكنه لم يذهب إلى هناك منذ
سنوات طويلة . التقيته في اليونان منذ خمس سنوات ومنذ ذلك
الوقت سكن في إفريقيا , ثم الخليج العربي , وأخيراً في تركيا ,
قبل أن يستقـــر مؤخراً في سردينيا .
وتنفست جيني ببطء :
ـ وهل يمكن أن يأخذ معه راكباً ؟
فاستدار تومــاس إليها وحاجباه يرتفعان :
ـ أنتِ ؟
ـ أنا . . . أريد الهرب من الجزيرة .
ـ وهل يعرف باستينو ؟
ـ لا تقل له أرجوك . لا يجب أن يعرف . . ولكن يجب أن
أهرب من هنــا .
يأسها كــان واضحاً في صوتها , مما أوضح له الأمــر . فصفر :
ـ أوه . . فهمت . . لقد سمعت عنه أنه ذئب كــاسر . . . لماذا
جئت معه وأنت تعرفين هذا عنه ؟
ــ لابد أنــني فقدت عقلــي . أتساعدني ؟
كانت لهجتها شديدة الإقناع ولم يتردد :
ـ بالطبع , ويجب أن تسافري خـفيفة , دون حقائب , فالمركب
ليس كبيراً . كل ما يمكنك أخذه حقيبة صغيرة . وتعلمين أنك
يجب أن تعملي للمساعدة . . أتجيدين الطبخ ؟ فهذه مساعدة جيدة .
وأجابت بارتياح وحبور :
ـ أجيد الطبخ . . . شكــراً لك . لن تستطيع تصور كم أنا شاكرة
لك .
فضحك لهــا :
ـ هذا سيعلمك أن لا تسيري في أماكن خطرة . . . لا بد أن
أمك علمتك أن لا تتعاملي مع رجال من أمثال روبرتو باستينو ؟
ـ لم يكن لــي أم .
فلانت عيناه , ونظــر إليها بلطف :
ـ آسف . . . انسي ما قلته .
وصلا الفيلا , أوقف السيارة خارج الباب الرئيسي . . فنزلت
متصلبة تنفض الغبار عن ثيابها . وانفتح الباب , وحدقت ماريا
بهما , فابتسم لها توماس وقال :
ـ لقد عدت ثانية . الاندرو يرسل لكما حبه . . . ولدي أربع
قبلات لك من أحفــادك .
فابتسمت ماريا ابتسامة خفيفة . . . ثم تحولت عيناها السوداوان
إلى جيني .
ـ أين كنت ؟ لقد قلقنا عليك , قد غبت ســاعــات .
منتديات ليلاس
وتحركت جيني داخــل الباب وتوماس إلى جانبها :
ـ لقد ســرت طويلاً على الشاطئ .
ـ من الخطــر الابتعاد عن الفيلا سيدة باستينو .
كانت تستخدم الاسم متعمدة , وأحســت جيني أن توماس
أجفل . وسمعت صوت تنفسه العميق . وأعماها الغضب , فقالت
ببرود لاذع محــدقة إلى ماريا بتحدٍ .
ـ أنا لست السيدة باستينو .
وسمعت صوتاً بارداً من خــلــف ماريا يقول :
ـ ستعطين السيد مارشال فكــرة خاطئة عنك جيني .
وخفق قلبها لرؤية روبرتو يقف هناك . . . وتابع بسخرية :
ـ أحببت هذا أم كرهته , فلـدي صورة زفافنا تثبته . أمـا الباقــي
فأعطني قليلاً من الوقت بعد .
احمــر وجه توماس مارشال , وبدا عليه الغضب . ونظــرت إليه
جيني يائســة وهي تعرف تماماً ما يفكر به . قال وهو يفرك مؤخرة
عنقــه :
ـ عذراً . . فأنا بحاجــة لحمــام وحلاقــة ذقن .
صعـد السلم , واختفت ماريا , فنظرت جيني إلى روبرتو
بمــرارة :
ـ يا إلهـــي كم أكرهك !
وبدت القســوة على وجهه :
ـ حقــاً ؟ حسناً . . لـدي أخبار سارة لـك يا حبيبتــي . . . مــا
تشعرين به لــي هو بسيط جــداً بالنسبة لمـا أشعر به نحوك .
* * *
نهاية الفصل (( الخـامس )) . . .