فــاستدارت عنه متجهة إلى الباب :
ـ مهما يكن , هــذا ما يجب أن تفعله .
جلس روبرتو فوراً في فراشه , عيناه تلمعان , ورأسه مرتفع
بكبرياء :
ـ إلى أين أنت ذاهبة ؟
ـ ســأتمشى قليلاً . . أراك لاحقــاً .
ـ عــودي إلى هنــا !
ولكنها تجاهلته وتابعت طريقها , حيث التقت بالممرضــة التي
ابتسمت لها شاكرة فقالت لها جيني :
ـ راقبيه جيداً , فهو سيحاول الخلاص .
ـ لا تقلقي سيدة باستينو . . ســأفعل .
أحست جيني بلذة الانتصار , وخرجت من الفيلا عبر الحديقة
المتدرجة باتجاه البحر . وهبت ريح لاذعة لعبت بشعرها , وأعادت
اللون الزهري إلى خديها . . لقد أحست بسعادة ولذة أكبر في
إجباره على الطاعة , وأحست أنها قادرة على التعامل معه . . . إنه
رجل اعتاد على إصــدار الأوامر , أفسدته سنوات من الثراء
والسلطة , ومع أنه دللها فــي أول أشهر زواجهما , إلا أنها كانت
دائماً تشعر بأنها العبدة وهو السيد . لا يسمح لها أبداً بأن تنسى أنه
المتفوق عليها بكل ما فــي الكلمة من معنى . يعاملها بترفع حتى
وهو يحبها وكأنما هي قطة خائفة تائهة التقطها من الشارع وجاء بها
إلى بيته .
تعمدت جيني البقاء بعيدة عنه لما تبقى من اليوم , مع أنه
أرسل عدة رسائل مع ماريا تفيد بأنه يرغب في رؤيتها , إلا أنها
كانت تشكر المرأة , وتستدير مبتعدة تحت أنظارها الفضولية المليئة
بالدهشة والاستغراب .
آوت إلى الفراش باكراً بعد تأكيد الممرضة لها أنها أعطت
روبرتو دواءً منوماً , وأنه نام بسرعة . نزهتها الطويلة على الشاطئ
أتعبتها وغطت في النوم على الفور تقريباً .
في الصباح التالي كان روبرتو يقرأ جريدة إيطالية عندما وصـــلــت
إلى غرفته . ونظــر إليها ببرود كما نظرت إليه . وعلمت على الفور
أن تصرفاته تغيرت . وقال لها بصوت ملــيء بالشر :
ـ تعالي إلى هنا .
فردت متظاهرة بأنه لم تسمعه :
ـ ســأتمشى قليلاً على الساحل الصخـــري اليوم .
وقال لها وعيناه تضيقان بتهديد :
ـ تعالي إلى هنا , وإلا ســأنهض لآتــي بك .
فاستدارت تتظــاهر بالدهشة :
ـ مــا الأمــر َ؟ أتحس بالتوتر ثانية ؟ الممرضــة تقول أن هذه
علامات التعافــي . . . وســرعان ما ستشعر بالراحــة .
وكشــر عن أسنانه بوحشية وتمتم :
ـ يا إلهــي ! أنت ترغبين بالمشاكــل . . تعالي إلى هنا .
وتقدمت إلى السرير تحدق به . . هل تتخيل , أم إنها تشاهد
أمامها روبرتو القديم , تلك الشخصية القاسية , المتسلطة , القوية ,
التي لم تظهر منذ مرضــه ؟ وقالت بصوت خافت :
ـ لا تكلمني هــكــذا روبرتو .
ومد يده ليمسك بيدهـــا ويجرهـــــا لتجلس على الـــسرير , بحيث لا
يمكن لها أن تتخلص إلا إذا قاومت بعنف وآذته . فــصـــاحــت تتلوى
لتتجنب فمه الذي اقترب منها ليمر فوق خدهــا باحثاً . . .
ـ اتركـــــني !
منتديات ليلاس
ولكنه لم يرد , وتابع محــاولاته للسيطرة عليها وأحست بغضــــبه
لمقاومتها , وسمعت أنفــاسه المتحشــرجة , وحركات يديه عليها .
وأدارها إليه بالرغم من مقاومتها وعندما نظرت في عينيه عرفت . .
ســألته والذهــول في صوتها ونظراتها :
ـ أنت . . . تتذكــــر ؟
فابتسم ابتســامة متجهمة , ولم يرد . تصــاعد غضبها ليماثل
غضبه . غضب مرير محرق ســرى في شرايينها وكأنه النار في
الهشيم , وبرز في عينيها الخضراوين .
وأطبق فمه عليها قبل أن تستطيع الانسحاب , دون عاطفة ,
ودن اهتمام . إنه يظهر لها غضبه ويطلب منها الخضوع . ووضعت
يديها على صدره , محاولة صده رافضة أن تلين أمام قوته , وأخيراً
سمح لها بأن تبتعد . . . أخذت أنفاسها تتسارع وهــي ترتجف
ونظرت إلى عينيه الساخرتين .
ـ متى استعدت ذاكرتك ؟
ـ بعد ثانـــي زيارة لك إلى المستشفـــى .
وجمدت , تحدق به غير مصدقة , وجهها شديد الشحوب من
جراء الصدمة التي تلقتها ثم همست بخــشـونة :
ـ أيها الخنزير الكــاذب .
وقاومته لتترك السرير :
ـ اتركني ! لن أبقــى هنا بعد الآن . إني راحلة .
ـ سباحة كمــا أعتقد ؟
وســخــرت منها عيناه . . أوه يا إلهــي . . . بالتأكيد , كيف
سترحل ؟ وصاحت به :
ـ ســـأجد مركب صيد يوصني إلى نابولـي .
فرفع حاجباً واحداً :
ـ أتعتقدين هذا حقــاً ؟
ليس هناك رجل في كل الجزيرة يجرؤ على المخاطر بتلقي
غضب روبرتو باستينو . . . وكلاهما يعرف هذا . وتصاعد غضبها
بعد أن عرفت المأزق الذي رمت نفسها فيه . . . لقد ســارت بقدميها
إلى هذا الكمين وعيناها مفتوحتان .
ونظرت إليه بمرارة .
ـ ولِمَ كــذبت علي طوال هذه الأســـابيع ؟
ـ هل تعنين أنه لم يخطــر ببالك أنني استعدت ذاكرتي ؟
ـ لقد فكرت بهذا طبعاً .
ـ إذن ؟
ـ لم أكن أعتقد أنك ستكون خنزيراً قذراً هكذا . كـــان علي أن
أعرف , فهذا يتوافق مع أمثالك , ولكنني لا زلت أجد صعوبة في
التصديق أن هناك من بإمكانهم التصرف هكذا دون تردد أو خجل .
وأصابت الهدف . . . ضاقت عينا روبرتو و وأصبحتا كالبـركان
الثائر , واشتد فكاه , ولكنه استمر في الابتسام , وكأن كلامها مثل
الماء على ظهر بطة . وعندما عادت لمحاولة الخلاص منه شدها
إليه أكثر وقال بنعومة فائقة :
ـ لا . . لن تفعلـــي .
فقالت بقســوة وهي تنظــر إلى وجهه باحتقار .
ـ لا أطيق أن تلمســـني .
ارتجفت شفتاه , ولكنه استمر في الابتسام , وزاد ضغط يديه على
ظهرها , وأحست برغبة الأذية تغطيها تلك الابتسامة , وقالت , وهي
تتمنى لو أنهـــا تثق بمــا تقول :
ـ لن تستطيع استبقائي هنا رغمــاً عني .
ـ ألن أستطيع .
ـ ســأجد سبيلاً للهرب من الجزيرة !
فضحك عالياً :
ـ كما قلت لك . . بإمكانك السباحة , وأرجو أن تكون
سباحتك قد تحسنت . آخر مرة رأيتك في البحر كنت تعومين
كالـكـلب , ولم تستطيعي اجتياز مسافة قصيرة .
وكان الغضب قد استبد بها حتى لم تستطع أن تجيب ,
فأشاحت بوجهها عنه . وبعد لحظات قالت :
ـ لا بأس إذن . بإمكانك حجزي هنا . . ولكنك لن تجبرني
على رؤيتك .
وتمتم بكلمات إيطالية ثم قال :
ـ لا ؟ . . . وبعد كل هذه الأسابيع من اللطف والمحبة ؟ لقد
تمتعت حقاً بوجودك إلى جانبي كل يوم . . . حلوة مطيعة . بالكاد
تعرفت إليك . لقد ظننت حقاً أنك تغيرت !
ـ ولكنك كنت مخطئاً .
ـ هذا ما يبدو , لأسف . لقد أحببت تمثيلك المحتشم . .
حقاً . . كدت تخدعيني .
ـ كدت أخدعك ؟ وتقولها بأعصاب باردة ؟
ـ كان يجب أن تكونـــي ممثلة .
ـ أنا لست من صنفك , فتمثيلك متقن , لقد أحسـســت فعلاً
بالأسف عليك . لقد أقنعتني كمــا أقنعت أمك بأنك ستموت .
وظهرت الحدة في عينيها :
ـ ولكن هل هذا ما حدث حقاً ؟ أم أن إيفا كانت تشاركك ؟ هل
كانت تعلم بأنك تمثل ؟ أعتقد هذا !
وأحست بألم لا معنى له . . لقد كذبت عليها إيفا . وهذا
يؤلمها والجواب ظــاهر على وجهه . . .
ـ يا إلهي . . لم يكن بمقدوري تصديق هذا عنها . . . كيف
يمكن لها أن تفعل هذا بي؟
وتراجعت يداه عنها , وقال ببرود :
ـ لقد فعلت هذا لأجــلــي . وإذا كنت تريدين لوم أحد . .
فلوميــني أنا . فأنا منعتها من إخبارك بأنني استعدت ذاكرتي . . لقد
كانت معي عندما عاد كل شــيء إلى رأســي . وكانت ستقول لك لولا
أنــني توسلت إليها .
واستدار لينظــر عبر النـافــذة . . فــســألته , كــارهة نفسها لهذا
الســـؤال :
ـ لماذا ؟ لمــاذا أردت إخفاء الأمــر عني ؟ لماذا استمــريــت بالتمثيل
يوماً بعد يوم ؟
فهــز كتفيه ببطء :
ـ كــنت أتمتع بالأمور كــمـــا هي .
ـ لقد استغفلتــني . وكذلك إيفا . لطالما أفســدتك . . .
واحمــر وجههــا ذلاً . فضحك ضحكــة متوترة :
ـ أنــا ؟ . . أنت من أفــســدك الدلال يا جيني !
فـــحــدقت به غير مصدقة مــا تسمع :
ـ ومــاذا تعني بكلامك هــذا ؟
ـ لقد ترك لك والـــدك حرية العيش كما يحلو لك . كان لديك
الكثير من الحرية . . . فنــشــأت غير مبالية وعنيدة , أمــــام حاجات
ورغــبات الآخــرين .