والدها رباها بعد موت أمها . . . وكان مقربان من بعضهما
جداً . ورثت عنه موهبته , ذكــاءه , حبه للجمال . علمها كيف ترى
الجمال في أشياء لا علاقة لها بالجمال . فتح عينيها على الحياة
بكل ما فيها من تسامح . علمها أسس فلسفة هادئة لتبني عليها
نظرتها إلى الحياة . لم تشك لفترة طويلة , أن علاقته بالجميلات
من العارضات اللواتــي مررن في حياته , لها أكثر من الطابع
العملي . . وعندما كبرت لتفهم أنه يحب النساء , كانت قد توصلت
إلى مرحلة تقبلت فيها هذا الواقع دون أن تنزعج . . كمـــا تقبلت
تماماً لورين التي عاد بها معه من باريس , الصغيرة الحجم ,
الصريحة , الأمريكية الأصل , ذات الشعر الأحمر البني , والابتسامة
الواسعة . على الأقل تجيد الطبخ . . . ومع أنها على الأقل تبلغ
نصف عمره , فلديها إخـلاص وصدق جعلها محبوبة . . . وأجابها
داني بقطــع حبل أفكــارها :
ـ ماذا تفعلين ؟ افعلي ما يحلو لك . . ولكني أحذرك . . . إنه
يخدعك . وأنت تعرفين هذا . . . وإذا استمريت في مقابلته
فستتعرضين للألم مرة أخـــرى .
هذا أمــر ممكن . . . إنه يأمل بأن يتمكن من محو الماضــي . .
ومن الممكن أيضاً أنه يعتقد بقدرته على جعلها تقابله حتى يتسنى
لها نسيان ما حــصل . . . وبألم , أحست أن الأمر حقيقــي . . .
وشعرت بغضب يقطع أنفاسها . إذا كان كل هذا ادعاء منه , فهو
شرير خبيث , كذاب قذر .
أقنعت نفسها مئات المرات بأنها لن تذهب لزيارته ذلك
اليوم . . . ولكنها فـــي النهاية ذهبت , توبخ نفسها على ضعفها ,
وتتجادل مع نفسها في كل خطوة من الطريق . حتى وهي واقفة
خارج غرفته , ترددت . . . لقد تجاوزت ساعات زيارته المعتادة
بكثير , ولا تزال أمامها فرصة للرجوع , وهي تقف هناك . . سمعت
صوتاً غريباً في الداخل . . . آهة مخنوقة . إنه يتألم . . وفتحت
الباب على الفور , وعيناها تطيران إليه وشاهدت رأسه مدفوناً في
الوسادة . ولم يتحرك , تاركــاً وجهه مختبئاً عنهــا . فركضت نحوه ,
ولامست كتفه , وهمست :
ـ روبرتو . . . مــا بك ؟
بقــي جامداً للحظات . ثم , ودون أن يرفع رأسه تمتم :
ـ لا شـــيء . . رأســــــي . . .
فجلست قربه , تداعب خصلات شعره البادية من تحت
الرباط , وتدلك له مؤخرة عنقه :
ـ هل يؤلمك ؟ أأستدعــي لك الممرضة ؟
فتنهد :
ـ إنه أفضل الآن . . . استمــري فــي التدليك .
وأحست بعضــلات عنقه تسترخــي . وتنفس بعمق :
ـ آه . . . هذا رائع . . . لك يدان شافيتان يا جيني !
ارتفع الدم إلى وجهها وقد أدركت ما تفعل , وما تشعر . . . كل
نواياها السابقة تلاشت . . كيف يمكن أن تواجهه بعد هذا ؟
استدار ليتمدد على ظهره , ورفع عيناه إلى وجههـــا .
ـ لقد تأخــرت . . . ظننتك لن تأتــي .
ـ كنت أعمــــل .
ـ ترسمـــين ؟
كان وجهه هادئاً , لا قلق فيه , ولو أنه يمثل فهو ممثل
ممتاز . . ماذا لو كان داني و غرانت مخطئان ؟ ماذا لو أنه لا
يخدعها ؟ وهل تستطيع , أو هل تجرؤ , على إجباره ذاكرته على
العودة , لتصدمه وتسبب له نوعاً من الانهيار ؟ أتستطيع أن تعيش مع
ضميرها المعذب لو أضرت به ؟
ونظر إلى أصــابعه التي تمسك بالملاءة البيضاء , والهدوء بادٍ
على وجهه :
ـ هل ترين كراولي كثيراً ؟
فتنفست بحدة , ونظر إليها متسائلاً , فأجابته :
ـ أراه بين حين وآخـــر .
أدار وجهه عنها دون أن يرد . وجهه تعب , شاحب أشفق
قلبها عليه . . . وقالت :
ـ أنت تعب . . الأفضـــل أن أذهب لا تركك تستريح .
مد يده ليمسك بيدها وقال بلهجة لم يكن فيها رجــاء , بل أمر :
ـ ابقي . . . لقد قامت أمـــي بكل الترتيبات لسفرنا إلى ايطاليا .
فــأجفلت وشعر بها , وشد بأصابعه على يدها . . فقالت :
ـ روبرتو . . .
فتحت فمها لتقول إنها لن تذهب معه , لن تستطيع , لن
تستطيع الاستمرار بكل هذا الإدعاء . . . ولكنه قاطعها :
ـ ستكون الممرضة معنا , ولا حاجة لك للقلق علي . أظنهم
سيخدرونــي . . ولا يبدو أنهم مقتنعون بسفري . . ولكنني سئمت من
البقاء في هذه الغرفة , و أريد الإبتعاد عن جو المستشفى , أن أرتاح
في محيط أحبه , لقد سئمت من حياة المستشفى جيني . ستة أسابيع
وقت طويل ويكفــي . وأنا واثق من شفائــي بسرعة أكبر في ايطاليا .