الحديقة السرية
إنهم ليسوا مجرد انعكاسات في مرآة ........
و إن كانوا كذلك , فالمرآة التي عُكسوا عليها مشروخة , محطمة ....
أقنعة زيّفت كل شيء وضعوها على وجوههم فخدعوا كل من حولهم , حتى أنفسهم .....
إنهم ماكرون , خبيثون , خادعون , بائسون , سمّهم حتى – إن شئت – مجموعة من الموتى الأحياء .
ليسوا في مكان بعينه , لكنهم بالتأكيد في المكان الخطأ..... ربما هم فقط لا يستطيعون البوح بمن يكونون في الحقيقة .
"ذاك الذي أمامي منزل زائف ....
الذي أراه أمامي تحديق فارغ ...."
الفصل الأول : ثلاثية الأزهار الزرقاء ... شديدة الحمرة
- 1 -
"يقولون أنك تستطيع معرفة بدء قدوم الربيع , ذاك حين تأتي أقسى موجة برد , يقولون أن الربيع الحقيقي الدافئ لا يأتي إلّا بعد ثلج شديد البرودة . إذن فلابد أن الربيع بات وشيكا , حيث أن المكان يمتلئ بالثلوج البيضاء حديثة العهد بالسماء ."
هذا ما كان يجول في بال "تودد" و هي تطل من نافذة غرفة الجلوس متوسطة الحجم ذات الحجم ذات الطابع الأنيق المنتشر بين الأسر المترفة الحال .
عادت ببصرها إلى طاولة الطعام مستطيلة الشكل ذات الحواف التي نُقشت عليها بشكل فائق الهندسة أسماء أربعة , وضعت الإناء البلوري الذي كان بيدها و الذي امتلئ بعصير وردي زاهٍ.
تقدمت من السلم الذي انتصف المنزل الواسع و نادت بصوت متزن و رخيم " ثابت حواري جوين , لن أنادي طوال اليوم لا تضطروني أن أبدأ هذه السنة أيضا بالعقاب ."
سمعت حركة في الطابق العلوي فابتسمت ثم عادت لتحضر طبقين أخرين .
"صباح الخير أمي "
"صباح الخير ثابت " تقدم منها الشاب طويل القامة و قبل يديها و رأسها , وضع يده على فمه و تثائب ثم نظر لها بعينين زرقاوين دامعتين من شدة النعاس , رمقته بطرف عينها ثم قالت و هي تتابع نقل الصحون الممتلئة للطاولة :" ماذا ؟ ليس لديك محاضرات اليوم !! "
التفت إليها و قال من بين تثاؤبه وهو يمشي نحوها بتثاقل : "إنها السنة السادسة لي في الجامعة و أسمع السؤال ذاته كل أول أسبوع من أول كل فصل , إنه وقت التسجبل , ا لـ تـ سـ جـ يـ ل – تثاءب ثانية ثم تابع مستدركا سؤالها المعتاد – لقد فعلتْ , لقد قمت بتسجيل مواد الفصل القادم الفصلَ الماضي , أذكر أنني أخبرتك "
ضربت بأطراف أصابعها ظاهر يده التي امتدت نحو طبق رقائق الفواككهة المجففة , ثم قالت و هي تتقدم منه و تمسح على رأسه بيدها التي بدأت التجاعيد تظهر فيها – أعلم , أنا أعلم لكن ألا تشعر بالأسى نحو حواري و جوين , اليوم هو يومها الأول من عامهما الدراسي الأول في المدرسة الجديدة – أظهرت تعابير لطيفة على وجهها و تابعت بصوت رقيق – إنهما صغيران و جميلان و لطيفان سيكون مؤسفا أن يذهبا و أنت نائم سيكون صعباً أن تحظى أنت بالراحة بينما يستيقظان هما باكراً .
ربتت عل رأسه بلطف ثم ابتسمت له , تنهد بحسرة ثم قال : " حسنا , لقد حصل االعكس تماما , هما الآن نائمان , و أنا من استيقظ باكرا . "
أمسك يدها و قبلها ثانية ثم قال و هو يحيطها بذراعيه " هل أوقظهما عنك ؟ " , هزت رأسها أن لا :" لا , أنت اذهب و اغسل يديك , و هما سيتحملان مسؤولية عدم استيقاظهما , إن فعلا ."
هز رأسه بالإيجاب و مضى بضع خطوات قبل أن يتوقف , نظر إليها و قال :
- هل من حاجة أن ...
- أنا سأفعل , بعد أن يذهبا سأذهب أنا للمدرسة و أوضح لهم الأمر .
- و العمل ألن ...
احتد صوتها قليلا " ثابت , الجدال غير مسموحٍ به - عادت نبرتها إلى الهدوء- لا تُقلق نفسك بهذه الأمور لا أريدك أن تتضايق أبداً لأجلها , دع كل شيء على الأم , هي تعرف كيف تتعامل معها , أنت اهتم بدراستك فحسب , هذا فقط ما أريده منك ." , حرّك رأسه فقالت : " لم أسمعك .."
- كما تريدين أمي , اعذري جهلي و سوء تصرفي .
- حسنا , اذهب الآن .
ذهب من أمامها و عيناه معلقتان في الأرض .
- ثابت ماذا هناك ؟
انتبه للصوت الناعس الذي كلّمه
- آآه , جوين , صباح الخير , هل استيقظت الآن ؟
- يبدو ذلك كنتَ شارداً , هل من شيء ؟ ألهذه الدرجة يكون الاستيقاظ يوم العطلة مزعجاً ؟
ضحك ثم قال و هو يدفعها برفق: " أمي في غرفة الجلوس , لا تدعيها تنتظر أكثر .
فركت عينيها الخضراوين الناعستين بأصابعها الطويلة شدية البياض ,و مشت نحو غرفة الجلوس و هي تسحب قدميها ببطء
- صباح الخير أمي
- صباح الخير يا حلوة أمها , يا إلهي ما هذا المنظر المتعب , ألم أخبرك البارحة ألّا تسهري ؟! تفضلي الآن و انظري لوجهك في المرآة , السهر يضر ببشرة الفتاة , خاصة عندما تكون في مرحلة حرجة كمرحلة الثانوية , كم مرة عليّ إخبارك بهذا ؟
- لقد نمت البارحة الساعة الثامنة , أين هو السهر في القصة ؟ , - تابعت همساً - ثم هل تبقى في هذا العالم فتيات في المرحلة الثانوية ينمن الساعة الثامنة ؟ , لقد انقرضن , هذا إن وجدن أصلا .
- ما الذي قلته ساقاً عن الهمس أمامي , إن كنت آمرك بشيء فهو لأجل مصلحتك بالتأكيد , لا أظن أنك ستجدين في هذا العالم بأسره من يهتم لأمرك أثر مني
- أعلم
- جيدٌ أنك تعلمين , فحينما أقول لك أن السهر ممنوع يكون هذا ...- و نظرت لها بعينين زرقاوين متعبتين تطلبان منها المتابعة
- يكون ذلك من أجل مصلحتي
عدلت الأم من جلستها على الكرسي فيما أكملت : " حبذا لو أصبحت أما أقل إزعاجا و لم أضطر لأكر كلامي أكثر من ألف مرة سيكون ذلك مذهلا ."
سكتت قليلا ثم قالت و هي تعيد ترتيب وضعية الصحون على الطاولة حين رأت أن جوين لم تحرك ساكناً:
- هل عليّ إخبارك أيضا أن تغسلي و جهك و يديك لتتناولي إفطارك ثم تستعدي للذهاب للمدرسة ؟ , أم عندك اعتراضٌ , مثلاً على ... موعد افطارنا , و أنه لا أحد يتناول فطوره الساعة السادسة , و أن فتيات الثانوية اللواتي يفعلن ذلك انقرضن الآن .
- و هل سيجدي إن اعترضت ؟
- جوين ...
كان ذلك صوتَ ثابت تقدم نحوها بسرعة , و قال و هو يشير بيده للأمام : " إن كنت منزعجة من الاستيقاظ الساعة السادسة لتتناولي فطورك الجاهز , فاعلمي أن أمي استيقظت من الخامسة أو الرابعة و النصف لتحضيره لفمك الثرثار . "
- " لم أكـ ...
-" تعلمين , كلمة أخرى و سأ....
ضربت السيدة تودد بقبضتها الطاولة فارتجت الصحون من فوقها , قالت دون أن ترفع عينيها نح أي منهما : " يكفي كلاكما , ثابت اجلس و ابدأ إفطارك , و أنت أذهبي لتغسلي وجهك و يديك ثم تعالي , انتهى . "
ردّ كلاهما : " حسنا أمي . "
مشت جوين من أمام ثابت دون أن تلتفت إليه , أما هو فسحب الكرسي قبالة والدته و جلس .
خطوات ضعيفة تعبر السلم نحو غرفة الجلوس , انتبهت تودد لها , و اسرعت من مكانها نحوها , تكلمت و هي تحرك يديها لتترجم كلامها لإشارات الصم :
- حواري عزيزي , لِمَ لَمْ تلبس شيئا دافئا على قدميك ؟ ,إنها تثلج في الخارج .
جاءها صوت ضعيف متقطع " لـ...لي...سـ ... ليس با...با...رد "
قالت و هي تقترب منه و تحمله :" كيف لست بارداً ؟ " , أجلسته على أحد الكراسي , ثم رفعت رجليه عن الأرض . نزعت الجوارب الصوفية الثقيلة من قدميها و ألبستها له .
- يا إلهي إنهما متجمدتان .
قالت له بحزم و يداها تترجمان له بانفعال كبير :
- المشي دون شيء دافئِ في قدميك أيام الشتاء ممنوع , إته الأشد منعا هنا , سأغضب إن رأيتك ثانية تمشي عاري القدمين , أفهمت ؟ , ماما ستغضب منك , و ستحزن كثيراً , كثيراً "
نظر لقدميها و قال : " حسـ.... سـ... ناً "
حماته و قالت و هي تقبل جبينه الصغير : " هيا لنذهب و نغسل يدينا ."
نظر لها ملياًثم قال : " رغــــوة !! "
ابتسمت ,لكن مسحة الحزن بدت جلية على وجهها
- أجل , سنعمل رغوة كبيرة من الصابون و الـــــــــــماء الساخن ..
قالتها و هي تدغدغ بطنه بأناملها , فضحك كثيرا و ضحكت هي لضحكه , مشت قليلا ثم رمقت النافذة التي انزاحت عنها الستارة ......
" يقولون أن الثلج البارد حينما يذوب, يصبح ربيعا دافئاً ."
ر مشت عيناها باستغراب و هي ترى الشمس تبزغ و تنير أكوام الثلج ....... و تذيبها .
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
عندما لا أهتم كثيرا لأمرك ....
هل يعني هذا أنني أكرهك ؟ ....
عندما أهتم كثيرا بك .....
هل يعني هذا أنني أحبك ؟ ......
عندما أفعل كل شيء من أجلكَ أنت , كيف يكون ذلك من أجلي أنا ؟ .....
- صوت تشغيل جهاز الحاسب المحمول , و شاشة مضيئة -
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
- 2 -
" حتى لو كنت طائراً , لما استطعت الطيران , حتى لو كان لي جناحين , لن أقدر على مغادرة هذا المكان . إنه سجن ضيق , إنه أضيق السجون , إنه سجن سُجنت به للأبد , داخلي ... أنا "
الحذاء باون الخط الرفيع المنقوش منتصف المعطف ذي الياقة المرتفعة كثيرة الطيّات الطوليّة , القميص الشتوي دقيق الأكمام و الذي ظهر من أكمام المعطف القصيرة ذات النهايات الشبيهة بياقته , يناسب بتدرجاته الناعمة الوشاح الذي خيطت على أطرافه "كريستالات" دقيقة بألوان متعددة ,متدرجة من ذات لون القميص .
أما عن "الاكسسوارات" , فعقد دقيق في أخره "كريستالة" غامقة اللون , و هي نسخة من "الكرستالة" الأغمق لونا بين " الكريستالات" المخيطة على الوشاح , و خاتم فضي , رُصع بمئات من القطع الصغيرة ماسيّة الهيئة ذات ألوان عديدة متناسقة شديدة اللمعان متصل بسلسلة رفيعة , مكونة من أشكال هندسيّة بالغة الدّقة , متلاصقة معاً , موصولة من الطرف الأخر بسوار فضيّ مضلّع و منقوش بعناية بالغة .
- إليغانت , ألم تنتهي بعد , إنها ثلاث ساعات مذ بدأت تجهيز نفسك , ثلاث ساعــــــــات , سنفوُّت الحافلة , و لن نجد غيرها حتى الثانية ظهرا .
أعادت الفتاة تفحص نفسها على المرآة الضخمة , وضعت قليلا من أحمر الشفاه مرة أخرى , ثم أخذت ترمق وجهها بدقة باحثة عن أيّ خطأ .
عيناها ذواتا اللون الرمادي الفاتح و قد أعطتهما تلك اللمعة الموغلة فيهما بريقا فضيّا فريداً , رموشها شديدة الطول و السواد في آن واحد , بشرتها الوردية الصافية , شفاهها .....
أخذت منديلا بعصبية بالغة و مسحت به شفاهها بقوة , ثم أعادت وضع لون آخر عليهما , كان بلمعة أشد و وهج مُلفت , نظرت ثانية لشفاهها في المرآة , حدقت بها طويلاً قبل أن تصرخ بصوتٍ عالٍ و منزعج :" أين هي علبة ألوان الشفاه الجديدة ؟؟ أين وضعْتِها ؟؟ "
قالت أمها و هي تقترب من باب غرفتها المدهون باللونين الخمري و الذهبي , والذي كتيت عليه بخطٍ لاتينيٍ بالغ الجمال و الدقة "Elegant " :
- لا أعلم , أنت من أخذها عندما عدنا البارحة من السوق .
قالت بصوت أعلى و أشد انزعاجاً : " لم أفعل , و الآن ماذا يجب أن أفعل ؟ لن أستطيع الخروج هكذا ."
- لِمَ ؟ لديك الكثير غيـ....
- أريدها هي , يا إلهي يبدو وجهي شاحباً , سحقاً أبدو بشعةً للغاية .
- إليغانت عزيزتي إنه لون شفاه لا غير , لا أظنه سيحدث فرقاً .
صرخت إليغانت بعصبية : - و ما أدراك أنت ؟ , من الذي يقف أمام المرآة الآن و يحدق في وجهي البشع أنا أم أنت ؟ , إن لم تجدي تلك العلبة الآن فلن أستطيع الخروج , أبدو كالمسخ
- إذن , دعيني أدخل و أبحث عنـ ...
- و ترين شكلي البشع !!, و كأن هذا سيحدث
كان صوتها مختنقاً و كأنها على وشك الموت
- إليغانت حبيبتي , أرجوك لا تكبري الأمور , إ....
توقفت حينما بدأت تسمع أصوات تحطيم زجاج في الغرفة
- إليغانت .... توقفي .... – أخذت تهز الباب بقوة – حسناً فهمت , سأخبرك من هنا , لن أدخل ... توقفي أرجوك ... لن أدخل , سأخبك أين تبحثين , ستجدينها .
صرخت من الداخل بصوت شرس : "لا تدخلي..."
- لن أفعل , لن أفعل , توقفي فقط ... سأخبرك من هنا , و أنت تبحثين عندك , لهذا عزيزتي , أتوسل إليك ألّا تؤذي نفسك , اتفقنا .
عمَّ السكون للحظات , فقالت الأم بعد أن ابتلعت ريقها بصعوبة و مسحت عينيها الدامعتين : - إذن , انظري أولاً في الأدراج السفليّة لخزانتك , فأنت غالباً ما ...
- أمي ...
جاء الصوت من وراء الباب هادئاً , ضعيفاً , مكسوراً و كأنه لا يريد الخروج من شدة الخجل . سكتت الأم للحظات و سالت من عينيها خيوط متلاحقة من الدموع الصامتة .
تابعت إليغانت بصوت متعب , شديد الأرهاق , يُخَيل لمن يسمعة أنه يحمل هموم الحياة :
- أنا ... أنا حقاً ... أسفة .
اسندت الأم رأسها على الباب , و كتمت شهقة مؤلمة لطالما ... كتمتها .
جلست إليغانت على الأرض بتهالك , انهارت في الواقع . أخذت تجول بعينيها أنحاء الغرفة شدية الأناقة و الترتيب . أغمضت عينيها بغضب و أحست بالاختناق , و برغبة كبيرة في البكاء ... ثانية .
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
ما هو وجهي ؟ ...
أين هو وجهي ؟ ...
أحقاً ذاك الذي أراه أمامي في المرآة , ذلك الذي يراه الناس دوماً , هو وجهي ؟ ...
عندماً سيتحطم التمثال الرخامي الجميل , تُرى ... ما الذي سيبقى ؟
- صوتٌ لبابٍ يُفتح و و ظلامٌ شديد -
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
- 3 -
"كان هنالك قطعة بلور , قطعة جميلة , ذات لون رائع و بريق خلاّب , كانت جميلة جدا , تعجب كل من يراها و يُفتن بها , لكن كان هناك لغز حولها و لم يستطع أحد حلّه , ل تركت هذه البلورة مكشوفة , ربما خُدشت و اتسخت و ربما حتى ... كُسرت ,
و لو حُميت بغطاء قويٍّ و صلب , لم يعُد يظهر منها ذلك اللمعان الفريد , بل ربما لن تُرى ثانية , و قد تُنسى و يُنسى أمرها ... للأبد ."
تسكُب الشاي الساخن ذا اللون الذهبي الصافي في الفنجان الكحليِّ ذي اللمعة الأخّاذة فتفوح الرائحة الزكية العطرة في أرجاء الصالة كلّها .
لقد بات هذا المشهد متكرراً , أصبح و كأنه لا بد منه , لا مفر , سكون بعد ذلك بدقائق ينهيه هو عندما يقول كالعادة :
- كيف حالكِ إذن ؟
- بخير .
إنه ذات الصوت البارد , ذات النبرة الجليديّة , أو لنقل ... الميتة الخالية من أي حياة .
إنهما معاً منذ أربع سنوات تقريباً , نعم فترة طويلة لمرحلة الخطوبة , لكنها , و مع هذه الفترة الطويلة , لم تتغير أبداً . كلّما نظر إليها تذكر أول مرّة رأها فيها , لا ... لم تكن مختلفة بل كان هذا حالها مذ عرفها بادئ ذي بدء , لكنه استطاع أن يجد بها أشياء جميلة , و هي استطاعت أن تمتلك و تسيطر على أفكاره .
فرغم المساحات الشاسعة التي تضعها بينها و بين كلِّ من حولها , رغم الامبالاة التي تغرق عينيها البنيتين الصافيتين , رغم أن مستوى اهتمامها به تحت الصفر , إلا أنه لم يستطع تخيل حياته دونها . لقد استغرب الجميع قراره هذا و حاولوا أن يجعلوه يعدل عنه , حاولوا أن يقنعوه بأن يرأف بنفسه من هذا المصير القاتم الذي سيغرق نفسه فيه , لكن أنَّى له ذلك , كيف يمكن أن يمضي و يتركها خلفه ؟ , مرات قليلة تلك التي رأى ابتسامتها فيها غير أنها استطاعت بها على قلتها و ندرتها أن تجعله يسامح و يتغاضى كلَّ تصرفاتها نحوه .
عاد ثانية من بحر هذه الأفكار التي تأتيه كلَّما رأها
- كيف تبدو السنة الأخيرة في الجامعة ؟
قالها محاولاً أن يفتح نقاشاً معها , أي نقاش
- كالسنة التي قبلها
- أيعقل ؟ لا جد...
- نعم لا جديد
إذن فهي تحاول أن تقول له "لا أريد الكلام, هل من الممكن أن تسكت ؟ " لكن بأسلوب مؤدب ... نسبياً
ضحك بصوتٍ عالٍ و قال يريد تغيير الجو المكفهر قليلاً :
- الأسبوع بعد المقبل تبدأ عطلة الربيع , ما رأيك برحلة مع الجميع ؟
رفعت وجهها و رمقته مطولاً بنظرتها الفارغة : - لست بمزاجٍ يساعدني على إعادة السنة
لم يفهم فتابعت باستياء : - ألم تقل إنها السنة الأخيرة ؟! هناك الكثير من الواجبات و الأعمال المطلوب مّا انجازها , اعذرني – تابعت بنبرة مستهزءة – ليس لديّ الكثير من الفراغ مثلك
كان يحدق بها و هو يسند رأسه على أصابعه مجتمعة , قال حينما انتهت و انتبهت إليه عندما طال سكوته : - ابذلي ما بوسعك إذن .
نظرت والدتها نحوه بشفقة , على الرغم من أنها والدتها هي غير أنها لم تخفه خوفها عليه من جمود ابنتها , من مشاعرها الاموجودة , من موسم الصقيع المستمر عندها .
إيوان في نظرها هو الشاب الذي لطالما تمنت أن يخطب ابنتها , فهو مهذبٌ و متفهمٌ للغاية علاوة على أنه استطاع و بعمره اليافع أن يخط لنفسه طريقاً لامعاً في عالم الطب و استطاع أن يجعل لعمله سمعة طيبة و موثوقة , لا يمن لأحد أن يتخطاها , أو أن يختلف على مستواها الراقي اثنين .
لكن , و الآن , بات الأمر مختلفاً, فـ"جود" تحطم هذا الشاب , إنها لا تحطمه فحسب , بل تستمتع بفعل ذلك و يروق لها أن تراه متعلقاً بعا أكثر كلما تجاهلته و آذته أكثر , حتى باتت , وبجدية , تبحث عن أسباب لتفسر هذا الانتقام الشنيع الذي لا مبرر له .
كان لا يزال يحدق بها وهي ترفع الفنجان و ترشف منه رشفات متلاحقة قبل أن تعيده من جديد لحظاتٍ لا تلبث بعدها أن ترفعه ثانيه لشفاهها .
لا يعلم ما الذي تفكر به , ما الذي تريد الوصول له , لقد جرَّب كل شيء يمكن أن يلين قلبها , أغدقها بالهدايا و المجوهرات و العطور و الملابس الفخمة والقطع الفنية النادرة , جرب معها الورود حينما سمع أن الفتيات يحببن ذلك , جرب حيلة الحيوان الأليف , فأحضر لها قطاً رماديا ذا أصول عريقة قام بطلبه من دولة أخرى و دفع لقائه مبلغاً كبيراً, و لن ينسى تلك النظرة المشمئزة التي ألقتها على الحيوان حينما رفع الغطاء أمامها , و هو الذي ظن أنها ستبتسم على الأقل و كان هذا كافياً له بحق, حتى أنه تجرأ و أحضر لها دبا محشواً و لم يكن نصيبه من الانفعال بأكثر من القط , مع عبارات ساخرة أطلقتها و هي تذهب من أمامه .
تعامل معها بتمهل و رويِّة لم يظن يوما أنه سيتعامل بها مع أحد أبداً , حاول جاهدا أن يتفهمها , أن يكون مرحا معها , حتى أنه جرب القسوة أحيانا في تصرفاته , غير أن شيئا لم يتغير , يبدو أن الجدران التي بنتها حول نفسها لا يمكن اختراقها , و هي لم تترك أحدا يقترب منها إلا حينما تأكدت من ذلك , من أن الوصول لها ... مستحيل .
لكن لِم ؟ لِم دائما ترتعش أطرافه حينما تبدأ في الكلام ؟ يكون مستعدا في كل مرة أن يبدءا من جديد , و أن ينسى كل تصرف بشع قامت به , كل نظرة خاوية ساخرة كانت تقابل بها انفعالاته الصادقة .
قطعت عليه سيل أفكاره الذي اعتاد عليه بسبب سكوتها الدائم حينما يكونا معا
- متى ستسافر إذاً ؟
- هل وصلت حدود قدرتك على التحمل ؟
- لم يجب أن تطيل كل سؤال ؟ - ابتسمت برقة - إنه سؤال بريء .... بصدق .
لِم تفعل ذلك به ؟ إنها تفعله مجددا , هل تتعمد أن تظهره كالأبله حينما تبتسم هكذا دون تحذير ... دون أن تجعله يستعد على الأقل ؟؟
قال بغير وعي و هو يصوب عينيه نحوه دون أن ترمشا : - بداية الشهر المقبل .
اقتربت منه فجفل , فهم الأمر حينما أخذت فنجان الشاي الذي برد من أمامه لترجعه إلى الصينية الزجاجيّة مزهرة القاعدة .
قال لها بخفوت قبل أن تبتعد عنه : "سأشتاق لك " , لم ترد عليه , و كان ذلك كفيلاً بأن يزيد من بؤسه .
أفرغت الفناجين من بقايا الشاي و شرعت في غسلها
- ألن تكُفي عن هذه السفاهة ؟
كان هذا صوت والدتها , كانت غاضبة حقاً و كأنها ما عادت تحتمل تصرفات ابنتها الوحيدة
التفتت لها جود و قالت بصوت يبدو أنه ملَّ من تكرار ذات الحوار في كل يوم يأتي فيه إيوان : - ما الذي تريدين مني فعله ؟
- أعطه قليلا من الاهتمام
- لا تطلبي أشياء مستحيلة إن أردت استجابة , اهتمام , ما هذا بحق الله ؟, لا شيء كهذا عندي
قالت بعد أن رفعت خصلة من شعرها الذهبي الداكن عن وجهها بظاهر كفها المبتلّة :
- أم هل تريدينني أن أمثل أمامه ؟
- إيوان شاب جيد , بل ممتاز هل تتوقعين أن تجدي أفضل منه إن تركته ؟
تحركت أحداقها قليلا , أعادت فتح صنبور الماء على الأقداح الغارقة في الرغوة , لتغمرها و تفيض من حولها , انفتحت شفاهها بصوت مليء بالسخرية و الكبرياء :
- آه ... أجد أفضل منه ... إن تركته , أتعلمين , هذه مشكلة من يتابع المسلسلات بكثرة , يـ ...
لم تتابع كلامها , كان صوت الصفعة التي صفعتها إياها والدتها قويا و طويلا ... طويلا جدا حتى بدا أنه لن يزول .
- اتركيه إذاً
- لا مانع لدي
أغلقت صنبور المياه و تحركت من أمام و الدتها , قالت و هي تتخطاها نحو باب المطبخ :
- لا تهدديني به و كأنه ذلك الأمر الذي لا أستطيع الحياة دونه , لقد قُلتها من قبل و ها أنا أكررها ثانية حرفيا دون تغيير ,
ما من شيء يستحق الاهتمام , ما من شيء – أغمضت عينيها بقوة و كأنها لا تريد رؤية أمر ما – ما من أحد .
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
حينما تضعف كل دفاعاتنا , لا يكون أمامنا سوى الهجوم .
إنها معركة لحماية أنفسنا بالدرجة الأولى .
لذا لا يمكن أن نساوم بقليل من الراحة , أو حتى بهدنة بسيطة .
أن نهادن يعني أن نهزم ...
أن نحب يعني أن نتألم ...
" تحت الأغطية القوية و الصلبة , توجد أشياء ... هشة !! "
- صوت أوراق تُقَلَّب , و قلم يئز فوقها -
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *