6- ســـراب الحـرية * *
ظــل الدم ينزف ببطء طـوال الطريق إلى البلدة الصغيرة . . كان
سيرجيو يقود السيارة بسرعة وحذر وفيما كانا يمران بالطريق الساحلي
أمام الفيلا , تذكرت نادين تلك المناسبة والمشاعر المعذبة التي
خبرتها .
الآن ماتت تلك المشاعر الرقيقة كلها . فكرت مرتين أو ثلاث
مرات , في رمي نفسها من السيارة , ولكن الدم الذي نزفته أوهن
عزيمتها هذا دون ذكر ضغط أصابع سيرجيو التي اشتدت على
ذراعها . . أصبحت مقدمة قميصه الذي ترتديه مشبعة بالدماء ولكنهما
كانا قد وصلا إلى القرية الصغيرة المغبرة الطريق , المثالية في إيطاليتها
بشوارعها الضيقة , ومبانيها الطويلة , المليئة بالغسيل المنشور ,
وبالجدات الجالسات خارجاً وهن يراقبن الأطفال , بدون أن يزعجهن
صوت الســيارة .
منتديات ليلاس
غاص قلب نادين عندما دخلا إلى ما بدا لها أفقــر حي في البلدة ,
وتوقف سيرجيو خارج مبنى متداع طلاؤه . وقال لها :
ـ الطبيب روسيني كان أبرع جراح , ولكنه لسوء الحظ أدمن على
الكحول . سأخبره بأنك زوجتي وبأن جرحك حدث جراء خلاف
عائلي . ما زالت إيطاليا مجتمعاً يسيطر فيه الرجل , وعليه سيُعتبر ما
تقولينه هستيريا نسائية بحتة . أما الآن فيستحسن أن ترتدي هذا .
أعطاها سترة خفيفة الوزن , لونها كلون عينيه . حينما رآهـــا تكافح
من أجل الوقوف ساعدها على ارتداء السترة وعاملها وكأنها طفلة
صغيرة . . كانت باردة أكثر مما تحس , لذا رحبت بدفء السترة ,
خاصة عندما اكتشفت أن ما قاله لها عن الطبيب صحيح .
تعمد الإسراع بها أمام امرأة منتظرة , وشدها إليه بحيث شعرت
بالمسدس الذي يخفيه تحت سترته , وقاطع الطبيب الذي كان يتحدث
مع أحد مرضاه . أمام إصرار سيرجيو , أُدخلا إلى غرفة فحص رثة ,
وطلب من نادين نزع قميصها .
نظرت إلى سيرجيو نظرة ممعنة , فأدار ظهره أما الطبيب فــــراح
يعاين الجرح بدقة عجيبة .
ـ همم . . إنه جرح نظيف , وهو غير عميق . ســـأعطيك بعض
المراهم وبعض الأقـــراص .
كتب الوصفة وأعطاها لـ سيرجيو ثم قال لـ نادين بمرح :
ـ في المرة القادمة , كونـي ألطف معه . هه ؟
توقعت من سيرجيو أن يعود بها مباشرة إلى المزرعة ولكنه ويا
للدهشــة , أوقف اللاندروفر خارج فندق صغير , وأمسك بذراعها وقادها
إلى الخارج قائلاً :
ـ سنبيت ليلتنــا هنا . وفي هذه الأثناء سنسجل الشريط لوالدك أما
غداً صباحاً فــأعود بك إلى الطبيب ليعاين جرحك .
ســألته بمرارة :
ـ ألا تخاف أن أفر منك ؟ خــاصة وأنه ليس هناك أحد يحرسنــي
سواك ؟
ـ وكيف يمكنك الفرار ؟ وليس معك مال أو جواز سفر . . إلى أين
ستذهبين ؟ إلى الشــرطة ؟
ضحك , فأغاظتهــا برودته . وأكمــل : (( لا أظن هذا )) .
ربت على سترته بطريقة تكشف ما يخفيه ثم دخلا إلى الفندق وهو
ما يزال ممسكاً بذراعها . تقدم من الاستعلامات وسمعته يحجز غرفة
بسريرين وظلت هي جامدة وتفكيرها يدور في دوائر مرهقة مذعورة
سعياً إلى وسيلة لقلب الموقف لصالحها . . وسمعته يدون اسمها ثم
يسجل اسمها على أنها زوجته . نظرت إليه بسخط , تهمس بقسوة وهو
يوجههــا إلى الــدرج :
ـ لن أشاركك غرفة . . أكرهك !
رد بصوت ملؤه الملل ونفاذ الصبر :
ـ لا تكوني ساذجة . . وإياك أن تظنيني لينو !
امتقع وجهها بشدة وهو يحدجها بنظرة من رأسها إلى أخمص
قدميها . هي ما تزال ترتدي قميصه , وبنطلون الجينز , وكان شعرها
نظيفاً ولكنه يحيط بوجهها كيفما كان . ردت بغضب :
ـ لا . . أعتقد أنك تفضل ليديا !
ارتفع حـاجباه : (( صحيح ؟ لماذا ؟ )) .
تلعثمت برهة من الزمن ثم انطلقت تهمهم بكــلمات غير مفهومة .
ـ حسناً . . إنها . . إنها امرأتك . . أليست كذلك ؟
نظر إليهـــا وما أدهشها أنه توقف .
ـ أهذا صحيح ؟
عاد بها إلى البهو ومنه إلى الخارج . . هناك وتحت أشعة الشمس
القوية غشي بصرها , فتعثرت , فالتفت أناملها تتمسك بساعده . .
ولكنها شعرت بأنها تمسك حديداً لا يلين ولا يلتوي أبداً .
ـ أين سنذهــب ؟
حسبته غير رأيه , وقرر عدم المخاطرة بالبقاء في البلدة تلك
الليلة , ولكنه لم يرد عليها , واضطرت أن تزيد سرعتها لتلحق بخطواته
الواسعة , كانت قبضة أصــابعه حول ذراعها كالكماشة .
تجاوز مكان اللاندروفر , ودخل بها إلى جزء من البلدة لم تره من
قبل . . هي لم تزر بلدة مونتي فينو قط أثناء رحلتها إلى الفيلا لأنها تقع
في قلب البلاد وطالما فكرت أنها لا تستحق الزيارة . . ولكنها أدركت
الآن أن (( البيازا )) أي الساحل بكنيستها القديمة ومبانيها التي تعود
للعصور الوسطى كانت تستحق نظرة عن كثب . ولكن سيرجيو لم
يتوقف ليتأمل هندستها , بل توجه رأساً إلى محلات صغيرة تقع في
رواق مسقوف معتم , وتوقف خراج أحد المحلات .
كان في الواجهة فستان من الكتان البسيط , تفصيلته مذهلة وثمنه
معقول . ويا للدهشة , أدخلها إلى المحل , وتكلم مع الفتاة التي أتت
تخدمها وهي تتحدث الإنجليزية , وسمعته يقول إنهما سائحان جاءا إلى
البلدة صدفــة .
قال يشرح للفتاة :
ـ وقع لزوجتي حادثة وهي بحاجة إلى أن تبدل بلوزتها بأخرى .
راقبت نادين بصمت وذهول عدة ملابس تُعرض أمام سيرجيو ,
واعترفت مرغمة بأن ذوقه رفيع فقد اختار لها بلوزتين من الكتان
إحداهما زمردية اللون والأخرى بنفسجية وكلتاهما تناسبان لون
بشرتها .
قالت الفتاة وهي تخرج تنورة بنفسجية :
ـ هاك تنورة تناسب هذه البلوزة .
ـ سنأخذها .
وأخرج حفنة سمكية من أوراق اللير الإيطالي مبتسماً تلك
الابتسامة التي أسرت قلب نادين مرة .
فيمــــا كـــانت الفتاة تحضــــــر الفاتورة تحركت نادين إليهـــــا . لــــكن
سيرجيو أحـس بما ستقدم عليه فأمسك ذراعها وبرقت عيناه تحذرانها .
ثم خرجا إلى الرصيف الحــار وكان أن ولت اللحظــة المناسبة , وولى
معها شعاع أمــل آخـر .
تمت عودتهما إلى الفندق بسرعة وكفاءة . . وفي غرفتها أخرج
سيرجيو صحيفة , وآلة التسجيل الصغيرة التي استخدمها من قبل . .
وقال يأمر نادين بخشونة بعدما أعطاها الصحيفة :
ـ اقرئـــي .
أرادت الرفض ولكن عدم فائدة الرفض طغى عليها بموجات كئيبة
ساخطة . . فأخذت تقرأ لمدة عشر دقائق قبل أن يوقفها سيرجيو ,
ويعيد الاستماع إلى الشريط , ثم ينتزعه من الآلة , ليضعه في مغلف :
ـ عظيم , قد يشجع هذا والدك على الإسراع . يكــاد ينفذ صبر
الآخــرين .
ردت ساخرة :
ـ في حين أن شيئاً لا يهز صلابة صبرك . . يدهشني أنك لم تطلب
بضع صرخات ألم ورعب للزيادة في التأثير .
أدهشها ظهور خطوط خفيفة من الاحمرار على وجهه . إذن فهو
يملك نقطة ضعف . فتحت فمها لتدق أكثر على النقطة الحساسة لديه
ولكنه رماها بالبلوزة والتنورة , مشيراً إلى حمام صغير .
ـ حينما تجهزي ناديني لأضع المرهم الذي وصفه الطبيب .
نظرت إليه نادين , وحرارة غريبة تطغى على بشرتها . . . كان
الجرح تحت الصدر مباشرة وهو يمتد في لحمها الطري حتى البطن . .
في داخلها ما ارتجف للتفكير بيدي سيرجيو وهما تلمسان بشرتها . .
فقالت متوترة :
ـ ســـأفعل هذا بنفسي .
ولكن حاجبيه ارتفعا بسخرية وازدراء وقال بصوت حاد خبيث :
ـ بالطبع تستطيعين هذا . ولكن هل ستدهنين الجرح فعلاً ؟ لا
أستبعد أن تتناسي لتقعي مريضة ويتم لك بذلك مراوغتنا , والهرب .
لم تستطع نادين الإنكار بأن الفكرة خطرت ببالها , و فضحتها
عيناها . فلو تركت نفسها تمرض وتموت , وطلب والدها برهاناً آخر
على أنها حية لحال موتها دون حصولهم على المال , على الأقــل ,
وأكــــــمل :
ـ هكذا , وبما أنني لا أثق بك , ســـأتأكد من إتمام المهمة بنفسي .
كانت قد دخلت إلى الحمام حين أضـــاف :
ـ ارتدي البلوزة والتنورة البنفسجيتين . . فأنا أذكر أن ساقيك
جذابتان هذا عدا أشياء أخرى مغرية وجذابة .
قررت نادين تجاهل طلبه وارتداء الملابس التي خلعتها ولكن
عندما خرجت من نعيم الدوش الدافئ والتقطت قميصه و وجدت أنه
يحمل بالإضافة إلى تلطخه بالدم , رائحة رجولته التي ما تزال تعشش
في القماش . فرمته عنها بسرعة , ونظرت إلى البلوزة البنفسجية التي
كانت تلتف حول الجسم والتي لها ياقة واسعة , وأرداف ضيقة . . كان
الجرح ظاهراً بفظاظة على بشرتها السمراء بفعل الشمس وكانت أطراف
شعرها المبلل المجزور , تنسدل بنعومة على وجهها فتزيد من استدارة
وجهها البيضاوي .
عندما خرجت إلى غرفة النوم و كانت ترتجف بفعل شعور صعُب
عليها تفسيره . كان سيرجيو مستلقياً على أحد السريرين , يقرأ
الصحيفة . فسارع للوقوف حين دخلت وراحت عيناه تتأملانها في هذه
الملابس ثم قال :
ـ إنها تليق بك . إنما أظن أننا بغنى عنهما ما دام علي الاعتناء
بالجــــــرح .
مــد يــده بحــــزم إلى رباطــــات البلوزة , يحلهــــا قبــــل أن تتمـــكن من
منعه . . واحترق وجهها بحرارة الدم المتصاعد , وتراجعت إلى الوراء .
تجاهل سيرجيو الحركة و وأمسك كتفها ليوقفها في مكانها ثم راح
يدهن المـــرهم فوق الجرح المؤلم . . هذه الأصــــــابع , التي لم تفعل حتى
الآن سوى معاقبتها , كانت تريحها بشكل غريب , تنشر المرهم
الملطف على بشرتها الحارة . . وشعرت باسترخاء غريب .
ـ نادين ؟
التقطت الحدة في لفظ اسمهـا , ولكن الغرفة بدأت تميــد بها بشكــــــل
غريب . . أصابع سيرجيو وعيناه السوداوان القلقتان هما الحقيقة
الوحيدة التي تحس بها . . ثم احتجب كل شيء , سيرجيو والجرح
والغرفة , فقد هاجمتها دوامة من الدوار وانفتحت أمامها بحيرة سوداء
وكان أن تعثرت وراحت تغرق و تغوص ثم تعاود الطوفان بلذة فوق
شيء دافــئ . . وآمن .
كان أول ما وعته نادين حين فتحت عينيها غرابة ما يحيط بها . .
رفرفت عينيها أمام أشعة الشمس القوية , المتدفقة من النافذة ونظرت
ببطء حول الغرفة . . لا شك في أن كابوس اختطافها لم يكن سوى
كابوس ولكنه كان واقعياً جداً . . عبست لدى سماعها خرير المياه في
الحمام , ثم وقع نظرها على البلوزة والتنورة اللتين كانت ترتديهما
الليلة السابقة , وسرعان ما فهمت ما حدث . . لا تذكر أنها خــلعت
ملابسهــا . . وهذا يعني . .
ـ عظيم . . لقد استيقظت .
تسمرت لأنها تعرف أنها شبه عارية تحت الغطاء وصاحت عن غير
تفكـــير :
ـ هل نزعــت ملابسي ؟
رد ساخراً :
ـ لقد أغمي عليك , وبدا لي من المؤسف أن تفسد ثيابك الرائعة .
وهي ليست المرة الأولى وأشك في أن تكون الأخيرة . . مع أن نسائي لا
يغمى عليهن بين ذراعــي .
جعلتها ضحكته ومعرفتها بأنها أسيرته تشعر بالغضب الشديد .
فردت ببرود متقــــزز :
ـ أنا لست إحدى نسائك , وأعترض أن تصفني وكأننــي إحداهن .
تجهم وجه سيرجيو , وضاقت عيناه وهو يدفع كتفيه عن الباب ,
ويتقدم ببطء إلى السرير . . حاولت نادين إبعاد عينيها عن رشاقته
ووســــامته .
وقف قرب الـسرير ولما رأت الغضب البارد في عينيه ذعــرت :
ـ إذن أنت تعترفين ؟ لماذا . . عجباً ؟ لأنك لا تستطيعين التحكم بي
كما تتحكمين بالآخرين ؟ أم أن السبب أنني انتزعت الاستجــــابة التي لم
يستطيعوا انتزاعها منك ؟
ـ أنت لم تنتزع منــي شيئاً !
خرجت كلمات الإنكار منها لا إرادياً , ولكنها شهقت عندمــــــا
شعرت بالسرير يتقلص تحت ثقله من جراء تثبيته ذراعيها على جانبي
السرير , قال لها وهو يتأمل وجهها المتورد : (( لا ؟ )) .
كانت سخريته وعدم تصديقه تطغيان على كلماته الهامسـة . .
انتفضت نادين حين انحى فوقها . وأدارت رأسها بجنون من جانب إلى
آخــر لتتخلص من عناقه الذي يريد منه أن يثبت كذبتها . ولكنها في
الواقع كانت تقاوم المشاعر التي صدمتها .
ـ توقفــي عن تمثيل دور العــذراء !
كانت الكلمات ساخرة أكثر منها غاضبة .
استجابت رغماً عنها لعناقه ولم تستطع فعل شــيء حيال الأمـــر . هذا
هو الثمن الذي ستدفعه بسبب افتقارها إلى التجربة . . المرأة التي تملك
تجربة سابقة لا تكون عرضة للخطر من مجرد لمسة صغيرة , كمـــــــا
يحصل لها مع سيرجيو .
ـ أنت ترتجفين .
لأننـي أكــرهك كثيراً . أكرهك وأحتقرك !
ـ صحيح ؟
طغت التسلية على الغضب اللامع في عينيه , ولكن لم يكن لدى
نادين سوى لحظة واحدة لتتساءل عن سبب غضبه , كانت يداه
القاسيتان تمسكان برأسها بحيث أصبحت غير قادرة على الحراك
تأوهت من أعماق حنجرتها محتجة , تحاول دفعه عنها , ولكنه كان
أقوى منها . وأحست رغماً عنها بالاستجابة له في أعماقها .
فانسل اسمه من بين شفتيها برجاء , رجاء استغاثة ولكن لمــا
تصلب جسمه وتركهــا ببطء هز رفضه كيانها كله .
ـ الأفضــل أن ترتدي ثيابك . . يجب أن نعود إلى المزرعة .
كانت كلماته باردة وإشاحة وجهه عنها ضربة مؤلمة لها . أرادت
أن تغضـــــب وتصيــــــح . . أن . . أن مـــاذا ؟ وتعالـى الغثيان إلى رأس
معدتها . . أي نوع من النساء هي ؟ وهي التي تباهت دائماً بقدرتها على
كبح مشاعرها وعلى رفض مشاعر الإثارة الرخيصة . . ومع ذلك , هي
هي , تعاني من أسوأ أنــواع الألم والإحـــباط مع رجــل تكرهه وتحتقره . .
ما لذي يحدث لهــــا ؟ لقد قـــرأت قصصــاً عـن العلاقـة المثيرة التي تتطــور
بين الخاطـــف والمخطـوف . . وربما هي الآن تعاني منها . . مع ذلك فهي
تكرهه . . ويجب أن تحتقــر نفسها لهــذا . . كانت مشاعرهـــــا الجياشــة
محبطة لأنه أعطاها ظهره ووقف يلتقط قميصه , ويرتديه .
ـ هاك . . خذي هذا وارتدي ملابسك .
استدارت في الــوقت المـناسب لتلتقط الثياب التي رمـــاها لهــا وكـــان
وجهها قرمزياً من الخجل . أمسكت البلوزة وســارعــت إلى الحمام ,
حالما أدار ظهـــــره لها .
عندمــــا خرجت من الحمـــام , وجدت الفطــور في الغرفــة . . كانت
القهوة لذيذة بالنسبة للطعام الذي يتناولانه في المزرعة , فشربت عدة
فناجين قبل أن تدرك بأن سيرجيو أنهى فطوره وهو ينتظرهــا . أرادت لا
إرادياً إطالة الوقت معه لأنها ارتجفت لمجرد التفكير في المزرعة وما
ينتظرهــا فيها .
ـ تعالي . . يجب أن يعاينك الطبيب , وأنا أريد إرســـال الشريط إلى
أبيك . لقد نفذ حتى الآن كل ما طلبناه منه . . وأتمنى أن يستمر في هذا
من أجـــل سلامتك .
منتديات ليلاس
نظر الطبيب إلى الجــــرح باستغراب , وقال لـ سيرجيو إنه يتماثل
للشفاء بشكــل سريع . كان سيرجيو قد أصر على مرافقتها إلى عيادة
الطبيب , قائلاً إن الطبيب لن يستغرب الأمــر فالرجــال الإيطــاليون
يكرهون ترك نسائهم مع الرجال , وسيفهم الطبيب لماذا لا أريد أن
يكون وحده مع زوجتـــي الجميلة .
آلمتها هذه الملاحظــة كثيراً كانت تعلم أنها تبدو غير جميلة بشعــرها
المشعث وبوجههـا الخالي من الزينة , لذا لا داعي إلى أن يذر الملح
على الجـــرح .
حين غادرا عيادة الطبيب اقتادها نحو ساحة (( البييزا )) حيث اشترى
لها ملابس أخرى . راقبته نادين وأفكارها تتقاذفها بسبب الأحداث التي
أوصلته إلى وضعه الحالي . من الواضح أنه مثقف وذكي وقوي وقدرته
على السيطرة على العصابة دليل واضح على قوته وذكائه , وهذا بحد
ذاته ليس مهمة سهلة . إن رجلاً يملك صفة القيادة قادر على القيام
بأعمــال شرعية ناجحة . فلماذا اختار العيش خرجاً عن القانون ؟ أهو
تحدي الحياة والرغبة في العيش قرب الخطر ؟ أم أن المال هو ما يروق
له ؟ الجواب أمر قد يستحيل عليها معرفته . . أحست أنه يجرها إلى
مبنى صغير عرفت أنه مكتب البريد .
راقبته وهو يرسل الشريط إلى والدهــا , وامتلأت نفسهـــا بإحســاس
غامر من الحنين إلى بيتها ووطنهـــا . فترقرقت الدموع في عينيها ولم
تحاول منعها فانسلت قطرات منها على وجههــا .
ـ هـــاك .
تناولت المنديل منه لتجفف عينيها , في هذه الأثناء رأت شرطيين
يدخلان إلى البناء . كان سيرجيو قد تركها لتجفف دموعها فبدأت بتهور
تعدو إلى الأمام وآمالها منصبة على الوصول إلى الشرطيين .
كانت تسبق سيرجيو ببضع ثوان فظنت أن هذه الثواني كافية ولأنها
صغيرة الجسم اعتقدت أنها قادرة على التسلل بين الحاضرين , وهذا ما
لا يستطيعه . لكن , ما إن وصلت إلى الهدف حتى أحست بيديه تطبقان
عليها , وتشدانها إلى الخلف , حين استدارت لتواجهه بشدة كان وجهه
قناعاً بارداً من الغضب كــاد يفقدها توازنها .
نظـــــر الشرطيان إليهمــا , كمـا فعــل آخـــــــرون . ففتحت نادين فمهـــا
لتطلب العون , ولكنها صاحت ألماً حين تركت يد سيرجيو أثرها على
وجهها .
إنه للمرة الثانية يؤدبها جسدياً مع أن الألم هذه المــــرة لم يكن
كبيراً , فالصدمة كانت أقوى من رد فعلها فقد لاذت إلى الصمت . تكلم
سمعته يقول للشرطيين الفضوليين :
ـ إنها تقـــــابل رجــــلاً آخــر . . ابن عمــــــي لا غيره . . وحين أواجههـــــا
بالأمــر , تنكــر مع أن جميع أبناء قريتي رأوها معه !
ضحك الشرطيان وعلقـــا على الأمــــر بكلام دفــــع الــــدم إلى وجنتيها .
أزعجها مزاحهمـــا الوضيـــع ولكن إيطاليا بلد يحكـــمه الرجال فإن الرجل
هنا قادر على تأديب زوجته علناً بدون أن يفكــر أحد في التدخل .
كانت قبضته تؤلمها عندما راح يجرهــا إلى الخــــارج ولم يتوقف
حتى اتخذ طريقاً ظهر فيه اللاندروفر وقال لهــا :
ـ حاولي شيئاً كهذا ثانية , وستشعرين بوخـــز الرصاص , لا براحة
يدي . . يا إلهي ! إنك تتحدين صبري إلى أقصــى حد ! ماذا كنت
ستجنين ؟
ردت بحــدة :
ـ كنت أحـــاول كسب أثمن ما في الوجود . حريتي . . .
ـ ألهذا لم تتزوجــي قط ؟ ألأن (( حريتك )) تعني الكثير لك ؟
ردت ساخرة , لتعوض كرامتها عن الضربة التي سددها إليها :
ـ ألست ساذجاً قليلاً ؟ إذا أراد المرء يستطيع أن يجــد حريته وحرية
رغباته فـي الزواج أيضـــاً .
هز كتفيه بدون أكتراث :
ـ إذن , ربما لم تجدي من يرغب فيك , على أســــاس هذه الشروط ,
وأنت صاحبة السمعة المشبوهة . كمـــا يقال . . .
ـ صاحبة السمعة المشبوهة ؟ ألم تسمع بالمـســاواة النسائية ؟ قد لا
يرغب كل الرجال بالطاهرات من النساء , العديمات الخبرة .
ـ ربما لا يرغبون فيهن كـعشيقات أمــا كزوجــات فالأمــــر مختلف .
أغضبها غروره الذاتي , وأرادت أن تقـــول له إنها لم تتزوج بسبب
حلم سخيف يراودها وهو يتعلق ببحثها عن رجــل تحترمه وتشرفه ,
وتحبه , رجـــل يظهر فيها أنوثتها دون أن يسيطر عليها أو يخمد روحها
المتحفزة . . وها قد آمنت بأن لا وجود لمثل هذا الرجــل .
لم يحدث أثناء العودة إلى المــزرعة شيء يذكر مع أنها كلما اقتربا
من سجنها كانت تشعر بالرعب يتزايد وعندما بلغا وجهتهما غاب عن
تفكيرها كل شيء إلا الموت الوشيك حدوثه .
حياتها آمـنة ما دام والدها يسعى إلى جمع الفدية . . إنها واثقة من
هذا . . لكن ما إن يعرف الخاطفون بأنه سيدفعها حتى يتخلصوا منها
دونما رحمة . . فكيف يتركونها حية وهي قادرة على التعرف إليهم فيما
بعد ؟ لا شك في أنهم يعتقدونها بلهاء , خاصة سيرجيو الذي يسلي
نفسه بها ويتلاعب بـمشاعرها رغم علمه بمصيرها النهائي .
استقبلتهما ليديا بصمت غاضب . وكــان على فك لينو كــدمة شديدة
حية , وفي عينيه غضب وحـــشــي , حين نظر إليهما وهذا ما زاد من
مخاوف نادين . . وحده بيدرو لم يتغير .
ـ هـل أرسلت الشريط ؟
كانت ليديا مشاكسة بضراوة , عيناها تتفرســـان باستمرار في وجه
نادين التي لا تعرف عما تفتش عنه في وجهها ولا تهتم . لا بد أنها
لاحظت البلوزة والتنورة اللتين ترتديهمــا وعندما رد عليها سيرجيو
بالإيجاب أضافت بعدائيــة :
ـ أتركتها تدخل المحل بمفردهــا ؟ ألم يكن في ما فعلته مخــاطرة ؟ أم
أن لديها عذراً للبقاء معنا لا نعرف عنه شيئاً ؟
تصاعد الدم إلى وجه نادين وقال سيرجيو بتشدق :
ـ لم تدخل إلى أي محل بدونــي , اشتريت الثياب لها , فما كانت
ترتديه كان ممزقاً وملوثاً بالدماء , فقررت استبدالها بثياب أخرى لئلا
تلفت أنظار الناس . فما من أحد يتساءل عن وجود شخصين غريبين في
إجازة ولكن رؤية رجل يرافق امرأة ترتدي أسمالاً بالية ملطخة بالدماء
سيعلق في ذاكرتهم .
لم يسعد هذا الرد ليديا ولكنها لم تستطع التفكير في انتقادات
أخرى تتغلب بها على منطق سيرجيو السليم . وما استطاعت نادين
أيضاً , فمنذ استيقظت هذا الصباح ساورتها مشاعر متشابكة متصارعة
لم تستطع السيطرة عليها . . كان في عيني سيرجيو هذا الصباح نظرة
غضب ممزوج بشيء آخــر . . . وكأنه إعجاب ممزوج باحتقـــار نفسي .
ولولا بعض الحكمة المتبقية لديها لافترضت أنه نادم على المشاركــة في
اختطافها . ولكنها ليست الضحية الأولى التي يتورط في اختطافها بهذه
الطريقة , ولا يمكنها أن تغتر بنفسها فتوهمها بأن مشاعره تجاههـــا
مختلفة عن مشاعره تجاه الآخرين .
جرت وجبة المساء بصمت فقد كانت ليديا طوال الوقت ترمق
سيرجيو ونادين بعينين غاضبتين مراقبتين . وكان سيرجيو يلاحظ
مشاعرها ولكنه تجاهل نظراتها الشرسة إليه , وتساءلت عن سبب
تصرفه هذا . خاصة وأن على الزعيم أن يحافظ على علاقة طيبة مع أفراد
العصابة . بعد الطعام لاحظت نادين أن ليديا توجهت إلى لينو مباشرة ,
كما لاحظت أنهما راحا يتحدثان بصوت خفيض أما سيرجيو فكان يقرأ
الصحيفة التي حملها من البلدة . أخذت نادين تنظف المائدة أمام أنظار
بيدرو .
بعدما نظفت الصحــون , وبدأت تجففهــا , قال سيرجيو :
ـ دعي عنك هذا . . فلينه لينو و ليديا هذا العمل . كيف حــــال
جرحك ؟ أتتناولين الدواء ؟
هزت رأسها إيجابــاً , فالجرح كان يندمل بسرعة مذهلة . . ولكن
اهتمام سيرجيو الواضح أقلقها . لماذا يظهر مثل هذا الاهتمام الشديد
بصحتها ؟ أيحاول هدهدة مشاعرها وبعث اطمئنان زائف إليها لغرض ما
في نفسه ؟ أيشعر بالبهجة عندمــا يدفعها إلى الثقة به ؟
مرت أربعة أيام حين اكتشفت نادين أن مزاج خاطفيها بدأ بتغير
بشكل خطير . . فكلما ذكروا مبادئ منظمتهم كــانت كلماتهم تلذع
وتشجب حضارتها بقوة , حضارة أخذوا على عاتقهم أمــر تدميرها .
وذات صباح التفتت ليديا إلى سيرجيو تســأله بشراســة :
ـ لماذا لم نسمع شيئاً من أبيهــا حتى الآن ؟ لقد مر وقت كــاف . ربما
لا يحمل تهديدنا على محمل الجـد . لم نواجه قط مثل هذا التأخير .
رد ببرود :
ـ نحن نعيش في الحاضر , وأنت تعرفين أوامـــر رومــا . . أنــا
المسؤول عن هذه العملية .
قـــاطعه بيدرو غاضبــاً :
ـ ليديا على حق . . ربما حان أن نسرع الأمـــور قليلاً . . لا يمكن
البقاء هنا آمنين وقتاً طويلاً .
قالت ليديا وكــأنها تقترح حلاً :
ـ أقترح أن نرســل لأبيها ما يذكره بأن ابنته عرضة للخطــر . ربمــا
يجب أن نذكـره برباط الدم بإرسالنـــا مــا هو ملموس أكثر من شريط
تسجيل . فقد دفعــــت عائلـة الصبـــي كــلارك فديتــه بــسـرعة عندما
اســتلمــت . . .
صــــاح سيرجيو آمـــــــراً :
ـ كفى , لن أستمع إلى المزيد ! أنا المسؤول عن هذه العملية , وأنــا
من يقرر الخطوات التي سنتخذها . وعليكم أن تتبعوا أوامــري !
ســاد الصمت وهم يصغون إليه . . وتجمع غثيان خوف على مــعدة
نادين وهــي تفكـــر في تهديد ليديا .
كيف سيشوهونهــا ؟ ببـــتر أصبع أم أذن ؟ الفكرة بحد ذاتها دفعت
العرق البارد إلى جسمها , ولكنها رفضت الاستسلام للذعــر كما رفضت
أن ترضي غرور ليديا عندما ترى الذعــر على وجهها .
كانت تعلم بتفاصيل ما حدث لحفيد جاك كلارك , لأنهـــا قرأت
القصة كاملة في الجريدة وهي تذكر أن أباها علق على الأمــر مع أنها
كانت صغيرة يومذاك . وكان خـاطفوه قد قطعــوا أذنه وأرسلوها إلى
عائلته . . وقد افتدى وعــاش ! ليتها تستطيع الهرب ! ولكن كيف ؟
فالهرب مستحيل , ولكنها تتوق إليه وهو يسيطــر على كافة أفكارها .
شعرت الآن بالرعب من التهديد الذي أطلقته ليديا . . ومضت
الأيام وفي هذه الأثناء شـاهدت نادين ليديا ولينو مرتين يتحدثان أثناء
العمل , بهمــس منخفض . . أيخططـــان لتــجــاهــل أوامــر سيرجيو ,
ولاغتصاب سلطته ؟ كانت تحس بتغيير ما في ليديا فقد أصبحت قاسية
مع سيرجيو , وشعرت بأنه الوحيد الذي يحميها من حقد لينو لذا كانت
تشعر كلما اختفى سيرجيو عن الأنظــار بالقلق مما قد يحدث لها . . فهي
تستبعد أن تنفذ ليديا تهديدها فتقوم بتشويههــا رغم إرادة سيرجيو
الذي لن يقدر على فعل شيء بعدما ستنفذ المرأة رغبتها . حاولت ألا
تتصور عذاب أبيها حين يستلم مثل هذا الدليل على محنتها .
لم تستطع لمس وجبة المساء , وكانت حركاتها كسولة غير
مبالية . . . أحست أكثر من مرة بنظرات سيرجيو تنصب عليها , لكنها
رفضت النظر إليه . وعندما نهضت عن المائدة , فجأة , دفع كرسيه
بحركة خرقاء , فطـارت عيناها إليه فسمعته يقــول :
ـ بيدرو . . يبدو أن ضيفتنا تحتــاج إلى هواء نقــي . . تمشى معهــا
حتى النهــر ثم عد بهــا .
ســألته ليديا بخبث :
ـ ألن تصحبــهـا بنفسك ؟ لا تقــل لـي إنها صدتك ؟
انقلبت على ما يبدو , رغبة الإيطالية فيه إلى كراهية في وقت قصيــر
جداً . . أم أن ليديا , تخفــي مشاعرها الحقيقية بادعاء الازدراء ؟
كان الظلام قد حــل , ولكن الهواء الاستوائي كان ناعماً ودافئاً . .
لذا شعرت بالخوف من العودة إلى غرفتها الصغيرة . ولما فكرت في
الفرار وجدت أن ذلك مستحيل فبيدرو يمشي وراءها وهو على أتم
الاستعداد للانقــضاض عليها .
كان النهر أمامهــا مترقرقاً . فسارت نادين على ضفة النهر عدة
أمتار , ثم توقفت فجــأة لأنها لمحت سيرجيو يتقدم إليهما من الاتجاه
المقابل . يبدو أنه هو أيضاً كذلك , رغب في تنشق نسيم الليل العلي
ولكنه حر في أن يفعل هذا متى شاء , التوت شفتاها بمرارة لهذه
الفكــرة .
قال سيرجيو للرجـل الآخــر وهو يتوقف أمامهما :
ـ بيدرو , أريد منك أن تلقي نظرة على اللاندروفر . . فالمحرك
ترتفع حرارته بسرعة .
ـ ســأجربه الآن , وفي الصباح ألقي عليه نظرة أخرى .
ـ عظيم , لا نخاطر بالبقاء بدونه .
فيما كان بيدرو يتسلل مبتعداً في الظلمة وقفا وحدهما , وأحست
نادين بارتباك غريب . وراحت تنظــر إلى النهر ولكنهــا كانت تشعر
باستياء مرير بسبب لمسة يد سيرجيو الذي أشــار إلى أن وقت العودة قد
أزف . كــان المنزل السجن وراءها والنهـــر أمــامهـــا والحرية خلف هذا
النهـــــــر .
اجتاحتها رغبة غريزية تغلبت على كــل حذر وخوف . . وبدون أن
تفكــر هرعت نحو النهر , وليس في ذهنها خطة واعية متبلورة . . بل
خوف ويأس إلى الحرية .
فاجأت حركتهــا سيرجيو , وسمعته يشتم ويلعن بـــصوت ناعم
خلفها . ولكنها أصمت أذنيها عن صوت ملاحقها وحثت خطاهـا إلى
أقصى حد . سجنها القصري جعلها خفيفة الوزن , ولكن خفة وزنها لم
تجعلها تسبقه كثيراً . . لأن سيرجيو كــان قوياً وذا قدرة هــائلة تفتقر
إليهــــــا .
رفضت الاستسلام حتى وهي تعلم مسبقاً عدم فائدة ما تفعــل ,
كانت تعذب جســدهــا إلى درجة كانت معها تصرخ احتجاجاً ولكنها لم
تكن تعبأ بشــيء حتى بالانهيار . . الفكرة الوحيدة التي كانت تضج في
رأسهــا هي الحاجة إلى الهرب والرغبة في أن تبتلعها الأرض لتصبح
جزءاً منهــــا . . جزءاً حـراً !
نهاية الفصل (( السادس )) . . .