كاتب الموضوع :
نيو فراولة
المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
كان هيو على حق ، كما أدركت سارة بعد برهة ، إذ لم تمض عليهما نصف ساعة إلا واحاطت بهما ثانية أسوار الضباب الرمادي وهما لا يزالان على بعد مئة متر تقريبا من الطريق ، ودفعها امامه بقسوة ، رافضا أن يسمح لها بالتوقف حتى وصلا الى السيارتين ، وادركت سارة لاهثة الأنفاس ، بأنه ما كان بوسعها أن تقوم بهذه الرحلة بمفردها ، فقد بدا وكأنهما سارا عدة أميال ، إلا ان هذا لم يقترب بهما من هدفهما كثيرا.
" انا أعرف هذه المنطقة جيدا ، عندما كنت صبيا تسلقت قمة بن مور".
بدت خطوط فمه مشدودة من التعب والتوتر ، وقال لها وقد توقفت للحظة في العتمة ، متأهبة ، وكانها على وشك الطيران :
" اريدك ان تعديني يا سارة ، ألا ترجعي الى هنا ثانية بمفردك".
فتحت سارة باب السيارة وهرعت الى داخلها محاولة ان تتخلص من النبرة الديكتاتورية الحازمة في صوته ، وشعرت بأنه لم يكن يتوسل أو يتظاهر بمشاركة وجدانية لم يحس بها ، فكل ما يريده هو ألا تتصرف بهذه الطريقة الحمقاء مرة أخرى.
راحت تبحث عن مفتاح المحرك على غير هدى.
" أنت ديكتاتور".
قالت بغصة في حلقها ، محاولة أن تتجنب النظر اليه ، وإعتراها نوع من الشعور بالذنب لأنها وجدت أن جانبا من نفسها قد رفض ان يهادنه ، ولو أنها كانت شخصا آخر لأندفعت بشعور من الواجب بالثناء عليه وإغراقه بالشكر ، وغمرت الثورة كيانها بأجمعه ، ضد القدر الذي سمح لها بأن تقع في حب رجل لا تعني شيئا بالنسبة اليه.
نظرت سارة الى وجه هيو ، وأحست بأعصابها تنكمش خوفا ، كان هنالك شيء يشبه الغضب في عينيه ، وكأن ملاحظتها المقتضبة قد جرحته ، ولكنه إبتسم إبتسامته الساخرة المعهودة كما لو كان يبتسم لملاحظة أبدتها طفلة جريئة.
" كنت تقولين......؟".
حثّها على الإسترسال بإرادته الفولاذية ، ويده على الباب المفتوح تمنعها من التحرك بالسيارة ، وصوته مشحون بالتحدي.
" آسفة".
قالت سارة وهي تطلق ضحكة رنانة مقتضبة ، وقد صممت على مجابهة الموقف ، إن الإنتهاء الى مثل هذه النغمة الناشزة لهو خير الف مرة من أن يخمن حقيقة مشاعرها ، ولو أنها تبعت جانب الحذر المطلق لأستطاعت أن تجنب نفسها مرحلة الإذلال النهائي ، وأجبرت عيناها على مقابلة نظراته النافذة وقالت برعونة متهمدة:
" إنني ممتنة لك جدا ، كما سبق أن ذكرت لك ،ولكن إذا كان التكرار يسعدك فأنا أكرر شكري لك ، يا سيد فريزر ، واعدك بأنني سالك سلوكا حسنا في المستقبل".
" مما يعني كل شيء ، او لا شيء ، أهنئك يا آنسة وينتون ، ، انحني لآداء التحية للحضور !".
وصفق باب السيارة بصرخة نصف مكتومة ، فقفزت تحت وطأة عنف إحتقاره إذ حط بثقله على المقعد بعيدا عنها ، وأشار اليها بالتحرك قائلا:
كل ما اسأله منك هو ان تتجنبي طريقي في المستقبل".
ظنت سارة وهي تعبس متحيرة ، ضاغطة على مكبس البنزين ، بأنه من الغريب ان يقول رجل مثل هذه الكلمات لسكرتيرته.
بعد رجوعهما الى القلعة قالت جيل في صباح اليوم التالي:
" لا اعرف لماذا غضب هيو عندما إكتشف انني لم اكن هنا عندما رجعتما الليلة الماضية ، لقد حاولت ان اشرح له انني كنت متيقنة بأنه سيجدك ، ولكنه رفض الإصغاء الي ، مما جعلني اقرر انه ربما أراد أن يثير ضجة كبيرة حول لا شيء ، خصوصا أن الشخص المعني لم يكن إلا انت".
" لقد كان غاضبا بشان موضوع آخر ، موضوع خروجك مثلا في ذلك الوقت المتاخر ، كما أظن".
" ما أحمق مثل هذا التصرف ، انا لم اعد طفلة".
" بغض النظر عن هذا ، إذا توخينا الكلام بشكل عام ، كان من المحتمل أن تتعرض حياة إنسان أو إثنين للخطر ، إن أي شخص قد يتعرض للمتاعب ، وكان من المفروض ان تقومي بطلب المساعدة إذا لم نعد".
دفعت جيل راسها الى الوراء وقالت دون أن يبدو عليها التأثر:
" إنك اسوأ من هيو ، ما زلت أصر بأنه لم يكن هناك داع للغضب الذي أظهره ، كانت الساعة العاشرة تقريبا فقط ، كما أن كاتي كانت تعرف أين تجدني".
" يبدو ا ن كاتي تعرف الكثير ، أعتقد أنها عرفت بوجود كولن هنا قبل ان عرف أنا بزمن طويل".
هزت جيل كتفيها ، ولكنها بدت خجلة بعض الشيء إذ قالت :
" لقد عرفت كاتي طوال حياتي ، منذ أن بدات أتذكر الناس والأشياء ، ولهذا فإنه من الطبيعي أن تخلص لي دون الاخرين ، أستطيع ان اعتمد عليها".
" حسنا ، أنت تعتمدين عليها ، ولكن يجب عليك ان تتذكري بانني لن أستطيع ان أفعل المحال ، لا شك أن هيو سيجد الحقيقة يوما ما ، وإذا ما أردت الصراحة ، فإنني سأتنفس الصعداء عندما يفعل ، ولو كنت مكانك لركزت كل جهودي على محاولة إيجاد تفسير جيد".
القت جيل عليها نظرة عابسة ، ثم قفزت على قدميها وشعرها المجعد يتناثر:
" بحق السماء ، لا تبدأي بإلقاء المحاضرات عليّ ثانية ، لقد سمعت منها ما يكفيني طوال حياتي ، لماذا يعترض هيو على زواجي من كولن إذا كان هو قد إعتزم على الزواج من إمراة سيئة مثل بيث ؟ إن احدا لا يهتم بي مطلقا !".
داخل سارة شعور يشبه الغثيان ، وراحت أذناها تطنان طنينا مؤلما ، وسمعت نفسها تجيب بصوت واهن:
" إن بعض الأشخاص حاولوا أن يساعدوك...".
" كل شخص يختار طريقته ! " أجابت جيل بغموض ، وخداها محمران من الغيظ " ولكن دعيني اقول لك بأنني لا ابالي بإكتشاف هيو للحقيقة ، ثم انه قد يجد صدمة في إنتظاره في وقت أقرب مما تتصورين".
وإلتفتت جيل لتتناول معطفا صوفيا أزرق عن الكرسي الذي كانت تجلس فوقه في غرفة سارة ، غير عابئة بالتعبير المرتسم على وجهها الشاحب.
" هل ستأتين ؟ أم لا ؟".
قالت جيل بصوت ما يزال فيه أثر للضجر ، وهي تتحرك بإتجاه الباب ، فتبعتها سارة كارهة بعد ان إلتقطت معطفها هي ايضا.
كانت جيل تعاني من أحد امزجتها الطفولية الإنتقامية ، ولهذا لم تكن بالرفيقة الودودة لهذا اليوم ، وتمنت سارة لو انها رفضت إقتراحها بأن تذهبا معا لتصففا شعرهما عند المزين ، وأحست بأن الوقت قد فات لتغيير رأيها الان من دون ان تثير شكوك جيل المغرمة بتوجيه الأسئلة المربكة ، والتي تملك موهبة على إنتزاع الأجوبة المهمة ، وتنهدت سارة وهي تهبط السلالم وقد طاف بذهنها أن جيل تستطيع ان تتخذ من موهبتها مهنة.
قابلتا هيو في الردهة ، وكانت سارة قد أمضت الصباح كله في المكتبة ، محاولة أن تنفذ بعناية سلسلة من التعليمات التي تركها لها مكتوبة بخط يده ووضعها بجانب الآلة الكاتبة ، وبإستثناء عدة دقائق أطل خلالها ليوقع بعض الرسائل الهامة ، كانت هذه هي المرة الأولى التي إستطاعت ان تتحدث فيها اليه هذا اليوم.
رفع هيو حاجبيه متسائلا ، وهو يقف جانبا من أجل أن يدعهما تمران ، فترددت سارة ، وتورد وجهها تحت وطأة نظراته الفاحصة.
" هل تتذكر يا سيد فريزر... بأنك سمحت لي بالذهاب لتصفيف شعري هذا العصر؟".
ووقفت غير واثقة ، بينما سارعت جيل الى العبور خلال الباب المفتوح ، فتمهلت نظراته على رأسها الذهبي بتعمد ، وبدت ساخرة بعض الشيء.
" نعم ، إنني اتذكر الآن ، يا آنسة وينتون ، أظن ان بعض العناية بمظهرك مفيد لك بعد ليلة البارحة ، على الرغم من أن شعرك يبدو لي جميلا على الدوام".
إعترى سارة شعور احمق ، لا تفسير له ، بأن هيو كان يغازلها ، ولولا الوميض الخفيف الساخر في قرارة عينيه لصدّقت بأن خيالها لم يخترع هذه الفكرة.
ولكن كلماته الخيرة التي تناهت اليها ، مصقولة ملساء ، أقنعتها بأنها كانت غبية لتسمح بمثل هذه الخواطر:
" إن المزين الذي ستذهبين اليه ماهر جدا ، فبيث تبدو دائما كنجمة سينمائية بعد ان تزور صالونه ".
كانت جيل قد قادت السيارة وتوقفت بها أمام المدخل ، وراحت تنتظر سارة بصبر نافذ ، ضاغطة على بوق السيارة ، وتحت وطأة هذا الصوت تحطم شلل سارة التي كانت تقف متجمدة في مكانها ، فنظرت الى هيو نظرة شاخصة ، ثم تمتمت تستأذن بالذهاب ، مرددة عدة كلمات غير مفهومة.
ودارت على عقبيها ، ثم فرّت هاربة.
|