د. أحمد خالد توفيق يكتب: المدية الفضية (الحلقة الرابعة)
هشم جيسون زجاجة بيرة وراح يطعن بها (رسوم: فواز)
كانت هناك تلك المواجهة في زقاق خلفي لنادي (شاتر) الليلي.. إنها الثلاثينيات من القرن العشرين كما تعرف.. لقد كان جيمي الأخنف هناك، ومعه رايلي وجيسون..
رباه! كل الشلة كانت هناك، وفي الوقت نفسه كان هؤلاء الصبية يعرفون معنى أنهم أهانوا ماريو وسوني وريكاردو.. هؤلاء ليسوا إيطاليين فلا تخدع نفسك.. هذه البشرة السمراء واللكنة الواضحة. إنهم من صقلية.. كل طفل يعرف أنهم من صغار المافيا.. بعد أعوام سيرعب كل واحد من هؤلاء قطاعًا من شيكاغو..
كانت المواجهة، وتطاير الدم في كل مكان.. هشم جيسون زجاجة بيرة وراح يطعن بها، بينما وثب ريكاردو خلف جيمي الأخنف ومرر المطواة تحت ذقنه من الخلف..
وثبت قطة مذعورة.. ومن مكان ما غنى رجل سكير..
أما رايلي فسقط على الأرض يرتجف.. كان يلفظ أنفاسه الأخيرة.. كل طفل يعرف أنه كان يلفظ أنفاسه الأخيرة لكن لماذا؟ هو نفسه لم يعرف..
وعلى الأرض التحم جيسون مع ماريو يتقاتلان، وانقلبت أكثر من صفيحة قمامة..
وفي النهاية رفع ماريو الزجاجة المهشمة التي انتزعها من يد جيسون وهتف وهو يصوبها لعنق الآخر:
- "مُت!"
لكن المدية اخترقت قلبه جهة اليسار.. المدية التي وجدها جيسون في يده ولا يعرف من أين جاءت.. هل كانت في جيب ماريو؟ لا يعرف..
غاصت المدية حتى المقبض وتهاوى جسد ماريو تمامًا..
عندما نهض جيسون وجد الزقاق خاليًا تمامًا إلا من جثتي صديقيه وجثة ماريو..
تأمل المدية.. مدية فضية جميلة الشكل.. من أين جاء بها ماريو بفرض أنها كانت معه أصلاً؟
*************
لا تتحركوا..
سوف نزيل الدماء ونغسل المقعد جيدًا..
لقد كذبت إليزابيث.. كانت هي التي سرقت المدية الفضية بلا شك..
لا تفقدي الوعي من فضلك يا إيرين.. أعرف أن المشهد شنيع لكننا نعرف أن القانون أكثر شناعة، وسرقة المدية أشنع وأشنع..
لا تقلقوا بصدد رجال الشرطة.. سوف يسهل إخفاء الجثة وإخفاء أن إليزابيث جاءت هنا.. لكن مشكلتنا لم تنتهِ بعد.. يجب أن تفتشي الجثة بعناية يا إيرين بحثًا عن المدية الفضية.. لم يكن الانتقام هو هدفنا، ولكن استرداد المدية..
هل وجدت المدية؟ لا؟ هذا غريب..
أين يمكن أن تكون أخفتها؟ ربما في مكان ما من هذه الغرفة أو القصر.. لا نعرف حقًا.. سيكون البحث عسيرًا..
الآن سوف نتخلص من الجثة ونعدّ العدة لاستمرار اختبار الدم..
ألفونس مذهول ويقول إنه لا داعي لذلك الآن.. كلا.. لا بد من استمرار التجربة فقد يكون هناك شريك لإليزابيث في هذا..
لو لم تقبل الاختبار يا ألفونس فإنني سأفترض أنك متعاون معها، وسوف نقتلك حالاً هنا والآن..
هيا.. اجلس..
حاول أن تنسى أن إليزابيث كانت هنا منذ دقائق وكانت حية.. حاول أن تنسى الطريقة البشعة التي هوى بها النصل على حنجرتها..
ارفع رأسك.. انظر للسيف المتدلي من السقف فسوف أشعل الحبل..
أنت تحفظ كلمات القسم:
- "أنا لم أسرق المدية الفضية وليتمزق عنقي لو كنت كاذبًا".
تشاك!
اليهودي كان يملك كتبًا ولديه رسوم لهذه المدية (رسوم: فواز)
************
بوريس العجوز كان أول من بدأ يفهم قيمة هذه المدية..
عندما وقف في متجر ذلك التاجر اليهودي ينظر حوله في شك، كان يعرف جيدًا ما يريد.. المدية الفضية.. مدية (عشتار) كما يطلقون عليها، وهو يعرف جيدًا ما تعنيه..
إن تاريخ هذه المدية يدل على أصلها ومنشئها..
كل الشواهد التاريخية تقول إنها كانت تنتقل من يد ليد.. تظهر بالذات في اللحظة التي يوشك فيها شخص واهن أو بريء على أن يلقى حتفه، عندها تظهر المدية لتنقذه.. وتنتقل ملكيتها له ثم أولاده أو أحفاده.. إلى أن يأتي اليوم الذي يفقدونها فيه وتنتقل لضحية أخرى..
قال اليهودي إنه حصل عليها آخر مرة من شاب يدعى (جيسون) كان في حاجة إلى أن يسدد ديون القمار.. كان الشاب من شيكاغو وقد قتلته العصابات بعد هذه الصفقة بقليل..
اليهودي كان يملك كتبًا وكانت لديه رسوم لهذه المدية..
رسوم قديمة جدًا.. رسوم صنعها رسام بدائي من حضارة بين النهرين، ورسوم لها طابع فرعوني أكيد، ورسوم تذكّرك بمخطوطات تشيلليني في عصر النهضة..
المؤكد هو أن المدية هي المدية والنقوش واضحة..
قال اليهودي وهو يفتح علبة القطيفة السوداء:
- "ها هي ذي.."
وفي الضوء الشاحب توهّجت المدية الفضية رائعة الجمال..
كان بوريس العجوز يعرف كل شيء عنها.. يعرف أنها كانت في خزائن أسرته لأطول وقت ممكن في تاريخها، مع أنها تقلبت كثيرًا بين عشرات الأيدي والجنسيات..
يعرف أنها خاصة بذلك الناسك الذي عاش في زمن عبادة (عشتار).. هذه المدية استخدمها الناسك ليقتل الشيطان.. ومنذ ذلك الحين تنتقل المدية من يد ليد لتؤدي عملها عندما تمسّ الحاجة له..
قال بصوت مبحوح:
- "هي.. لا شك في ذلك"
قال اليهودي وهو يغلق الصندوق:
- "هي ليست للبيع.. هذه مجموعة خاصة".
كلا.. لا يمكن أن تتحدث عن مجموعات خاصة.. هذه المدية لي.. تخصّ أسرتي.. سوف أخبر ورثتي جميعًا وسوف نحرسها فلن تغادر أسرتنا أبدًا..
- "أنت تمزح.. لكل شيء سعر".
- "بعض الأشياء ليس لها سعر.. أنا ليس لي سعر وهذه المدية ليس لها سعر".
أخرج بوريس دفتر الشيكات ليكتب رقمًا، لكن اليهودي قال وهو يبتسم:
- "لا تحاول.. قلت لك إنها ليست للبيع".
واستدار ليضعها في الخزانة خلف اللوحة المعلقة..
هنا كان بوريس العجوز قد اتخذ قراره..
لم يره أحد يدخل هنا عندما جاء الليلة ولا يوجد شهود.. إنه وحده مع اليهودي، وقد نال هذه الحظوة بسبب ثرائه ومكانته الاجتماعية..
هكذا أخرج المسدس الصغير من جيبه وصوبه إلى مؤخرة رأس اليهودي.
أما لماذا قام بتثبيت كاتم الصوت قبل هذا؛ فلأنه لم يستبعد هذا السيناريو منذ البداية..
وهكذا عندما غادر بوريس المكان كانت المدية الفضية قد عادت لأسرتنا العريقة، ومعها قسم الدم.. كان يعرف أن المدية أقوى وأكثر حكمة من أن تكون مدية عادية..
يُتبع