7- تبحـث عن سحرٍ ضــاع
اقتربت لحظة الحقيقة بسرعة . . لـــم تكن التمــــارين تسير بشكـل ســيء
ولكن جانيس عرفت أن وودي وينثرز لم يتأثر بأدائها . كان مخـرج الفيلم
الممتلئ الجســــم بحثهــا ويناشدهـا , ثم يزفــــر أنفاســــه من خلف لحيته
الكثيفة , وما أكـثر ما دلكت يداه كـرشة الضخم , وما أكــثر ما فقدت عيناه
الزرقاوان بريقهمــــا . . آخـــر كلماته المادحـة كانت تفتقر للحمـــــاس . .
الواضــــح أنه اقتنــــع أنها لن تستطيع تقديــــم أفضـــل ممـــــا قدمــت . .
لم تكـن جانيس واثقـــــة من النتيجـــة كذلك , فهــي تعرف أن الشــــاطئ
يثبط عزيمتها . . حاولت إقناع نفسها أن الموقف لا يشبه مــــا مضى . .
عربات [[ الكارافان ]] والمركبات الأخرى , كانت تصطف حول الكـــــوخ
الممتد طولاً . . والناس في كل مكــان , كل مشغول بمهمـــات مختلفة . .
كان مايكل ويذرس دائم الوجود , ليتأكد من عــــدم بروز المشاكــــــل . .
وكانت جانيس تلقي اهتماماً من جميع العاملين معها . . أما براند آشتون
فظلَ بعيداً . . كل ما كـان عليها أن تفعله , هو الانخراط بالدور المطلوب
أكثر فأكثـر . . . لــكن هذا الدور يذكرهــا بفترة ساحــرة . . والذكــريات
تـؤلمهــا .
ارتــدت ميرنـــا التي كانت تعــدل من وضعية المــرآة التي تقف أمامهـــا
جانيس . . دفعت بتوتر خصلة الشعر الأشقـر التي اندفعت إلى جبينهما ,
وضاقت العينان البنيتان الكبيرتان بجولة انتقاد .
ـ أعتقد أنه يلزمك أحمـر شفـــاه أغمق من هذا .
فتشت في الحقيبة عن [ الإصبع ] المناسب .
انفرجت شفتاها قليلاً لتستطيع أخصائية التجميل إتمام عملها
بنجاح . . ميرنا ويرنر مسؤولة الأزياء والماكياج وهي شخص كفؤ , فكل
العاملين في مؤسسة آشتون أكفاء . . كان البرنامج كله يتقدم بتقدم
الساعة . . بعد دقائق ستكون جانيس جاهزة لتصوير أول مشهد . . ستترك
المقطورة , وتقترب من المياه وتبدأ الكــاميرات بالدوران .
تراجعت ميرنا ويرنر لتتأمــل المرأة مجدداً وهذا كــاف . .
ـ هذا كافٍ . . فستبدين طبيعية جداً في الفيلم .
نظرت إلى ســـاعتها :
ـ حان وقت ارتداء ملابس الدور .
خلعت جانيس ثيابها , لترتدي التيشيرت الطويل الذي سيكون
فستاناً قصيراً لها , كان التيشيرت مناسباً أكثر من قميص براند آشتون ,
لكـن التأثير كان متشابهاً . . وبدلاً من حزام رجل , وضعت طوقاً جميلاً
من الأصداف , ولم يبق أمامها لتأدية الــدور إلا حمــل كيس بلاستيكــي
شفاف فيه مجموعة مختلفة من الأصداف .
قرع باب المقطورة .
ـ جاهزة ميرنا ؟
إنه مايكل ويذرس .
ـ جاهزة !
ربتت ميرنا كتف جانيس بود ودلت ابتسامتها على رضاهــا بمــــا
أنجزته يداهــــا .
ـ تبدين جميلة . . حظــاً سعيداً !
ـ شكــراً لك .
كان صوت جانيس متحشرجاً وتصاعدت غصة توتر إلى حلقها
استقبلهـــا مايكل ويذرس بابتسامة عريضــة .
ـ حان الوقت . . . الشمس على وشك المغيب .
نظرت جانيس إلى الأفق , كان البحر والسماء يستحمان بألوان
متألقة بهية . . الآن ستلتقط الكاميرات آخر أشعة الشمس قبل أن تتركز
على جانيس وهـي سير على الشاطئ . . رأت جانيس أن كل طــاقم
الفيلم متوتر . . وما إن بدأت المسير مع مايكل ويذرس فوق الرمـال حتى
لاحظت الجسد الطويل القوي الواقف إلى جانب المخرج , عندئــذ
تمسكت يدها بالـذراع التي كانت تتأبط ذراعها .
سألها بلهفة : (( نسيت شيئاً ؟ )) .
سحبت نفساً عميقاً لتهدي من روعها :
ـ لا . . ذلك هو السيد آشتون . . أليس كذلك ؟
ـ مع وودي ؟ طبعاً . لن يفوت التصوير أبداً , فهو المسؤول عن
المشروع كــله .
اشتد توتر أعصاب جانيس قليلاً . . كان عليها أن تتوقع حضوره .
ألم يقل لها إنه سيراها على الشاطئ . . . لكن غيابه حتى هذه المرحلة
خفف من الضغط على أعصابها . وأن تمثل أمامه . . الآن . . حيث لا
وقت للتجربة والخطأ , سيسبب لها ضغطاً فكرياً شديداً . لن تستطــيع
القيام بالعمل , لكنها مضطرة للالتزام ولا مجال للهرب ولا مجال
لتجاهل وجــوده . . أدارها مايكل ويذرس بخط مستقيم نحو الرجلين .
هز براند آشتون رأسه يلقي عليها تحية عابرة وفي هذا الوقت جالت
عيناه عليها مقوماً إياها بشكل سريع .
ـ جانيس . . أنت تتقمصين الدور . . وينثرز يقول لــي إن التمارين
كانت سهلــة .
نظرت جانيس إلى المخرج , لكن اهتمامه كان متوجهاً نحو طــاقم
العمل . . وتصاعد لون الارتباك إلى خديها , وتمتمت : (( كانت التمارين
مقبولة لا بأس بها )) .
قاطعتها وودي وينثرز فجأة :
ـ حان وقت أخذ موقعـــك جانيس . . قد تحتــــاج إلى عدة لقطــــات , ولا
أريد أن تغيب الشمس قبل أن نكمــل . . حين أعطــي الإشارة . . تصرف
برقة وعفوية كما تدربنــا . . اتفقنــا .
هزت رأسهــا موافقة , وتجنبت نظرة براند آشتون . .
تابع المخرج إرشــاداته :
سيري على الرمال الجافة لأننـا لا نريد آثــار الأقدام عليهـــا .
أحست بالعينين السوداوين تلحقان بهــا . . اليد التي تحمل حقيبة
الصدف أخذت تتعب , والرمال ضايقت قدميها . إنها تتذكر بعد ظهر
ذلك اليوم بكل وضوح وها هـي تشعر بالاختناق . . حاولت دفع الذكرى
بعيداً لتستطيع التركيـز على العمل الذي يجب أن يُنجز . . لكن براند
آشتون كان يراقبها , ووجوده يعسر عليها الأمـر ويجعلها غير قادرة على
التصرف بشكــل طبيعي . .
اتخذت الوضعية التي تدربت عليهـا , حيث يلتقـي الرمل الجاف
الأمواج المتكسرة . . ركزت نظرتها على الكاميرا التي ستُظهـر وجههـا في
اللحظــة الحـاسمة .
ـ مستعدون للتصوير ؟
رد على نداء المخــرج كل طاقم التصوير .
ـ جانيس ؟
ـ جــاهزة .
إنها جاهزة نسبة للظروف .
ـ آكشــن !
أجبرت جانيس ساقيها على الحـركة في خطوات مسترخيــة . .
وغسلت موجة الصدفة التي ستكون أول وقفة لهـا . انتحت , والتقطتها
ووضعتها قليلاً في أذنها لتصغــي إلى صدى البحــر , ثم رمتها في الكيــس
الذي تحمله . . كانت صدفة [ الخيــال ] على بُعد عدة خطوات إلى
الأمام . . أسرعت إليها , تحاول خلق الإثارة وهـي تفتحهـا . . راحت تنفذ
ما تمرنت عليه دون تردد أو ارتجـاف أو أخطاء . . أخيراً استطاعت
إغماض عينيها وراحت تداعب العطر على عنقهـــا .
صاح المخرج بشكل باتر , غــير متحمس :
ـ اقطع ! سنلتقط المشهد .
انتهى الأمر . . وشعرت بالراحة ترس خيوط الاسترخاء إلى جسدهـا
ولكن صوتاً آخـر قاطعها وأعاد إليهــا التوتر .
ـ فليبق الجميع في مكــانه , أرجوكــم . . وينثرز أريد مكالمتك .
كان صوتاً آمراً باتراً , والواضح أن براند آشتون لم يكن راضياً .
سلبت تنهيدة الانهزام كل اهتمام من نفس جانيس . . ووقفت
متململة وأصابعها تعيد غطـاء العطر بارتجـاف . . عندما رنت بطرف عينها
رأت أن الرجلين يتناقشان نقاشاً حاداً . عرفت أنها نفذت ما كان يتوقعه
وودي وينثرز منها . . . وهو دون شك يؤكـد لـ براند آشتون أن اللقطة جيدة
تفجــر السخط : (( هذا ليس ما أردته ! )) .
جاء الحكــم القاطع .
ـ لا تستطــيع أن تعطيك ما لا تملك !
نظرت جانيس إلى صدفة [ الخيال ] التي بين يديها . . فليس للعطــر
سحراُ عندهـا ووحده براند آشتون أعطاها ذاك السحر الذي تتلهف إليه
وفي مكان ما . . ضاع ذلك السحر , تبدد مع رياح الشك وعدم الثقة .
لم تكن تعــي الصورة المثيرة للشفقة التي ترسمها ورأسهـا منحنٍ
وكتفاها منهزمتان . كان أحد أصابع قديمها يرسم دوائر لا هدف لها فـي
الرمال وكانت تقاوم ألمهــا , لذا لم تدرك أن براند آشتون يتقدم نحوهـا
حتى اخترقت كلماته قلبها .
ـ ما هو الدور الذي تظنين أنك تلعبينه بحق الله ؟ [ [ ما نيكان ] ] من
صلب ؟
ارتفع رأسهــا بحدة , وكأنما شده خيط ما . . وضع يده على
كتفيها . . كانتا قويتين وفـي قوتها ما يدل على نفاذ الصبر . . عندما
أدارهـا لتواجهه رأت فمه رقيقاً مشدوداً بخط غاضب , وعيناه حائرتين
ملؤهمــا التساؤل .
ـ لم يكن المشهد حياً جانيس . . لم تضعـي في أي إحسـاس . ألا
تريدين النجاح في هــذا .
ارتدت إليه وعيناها قد خدرهمــا ذكرى ما ضاع .
تحركت شفتاها تتمتم مدافعة : (( قلت لك إننــي لست ممثلة )) .
ـ لست مضطرة للتمثيل . . كل ما عليك فعله هو أن تتذكــري . . ألا
تتذكرين بعد ظهـر ذلك اليوم . . جانيس ؟ ألم يكن رائعاً ؟
قالت بصوت مختنق : (( لم يكن حقيقياً )) .
ـ بل كان حقيقياً . . أنت كنت هنـا . . على هذا الشاطـئ . .
تخوضين هذا الماء , ووجدت صدفة وأحببت الحرية . . . لا يمكنك أن
تنســي .
همست : (( لا )) .
ـ إذن عيشــي اللحظة مرة أخرى ! افعلــي هذا أمام الكاميرا . . أليس
هذا ما تحبينه أكــثر من أي شــيء آخر ؟
تلوى الألم على وجههــا , وقالت ناحية :
ـ أوه . . يا الله !
حاولت نزع نفسهـــا من قبضته , وقالت بصوت ملؤه التوسل
واليــأس :
ـ أنت لا تفهـــم .
- ما الذي لا أفهمه ؟
هزت رأسها تبتلع الدموع .
- جانيس . . .
دفعتها اللهفة القاسية في صوته إلى الهستيريا .
- دعني! سأحاول . . سأحاول مرة أخرى . . لكن , يجب أن تذهب
من هنا . . لا أستطيع القيام بالدور أمامك . . اذهب من هنا ودعني أنهي
الأمر . . أرجوك .
حملت الهستيريا المجنونة في صوتها , التقطيب إلى وجهه :
- وهل أؤثر في أدائك؟
صاحت : (( أجل . . لا . . ))!
لانت قبضته , ومرر يديه مداعباً على ذراعيها .. فارتجفت وابتعدت
عنه : أرجوك . . لا تلمسني .
نظر إليها ودعم التصديق يتصارع مع إحساس آخر أكثر قوة , حرك
نبضاتها لتقفز بسرعة . . ثم قال ببطء :
- حسناً . . سأذهب . . ستعطيني ما أريد جانيس ؟
لم تستطع أن تعده :
- إذا . . استطعت .
أطرق برأسه . . وارتد مبتعداً يسير نحو المخرج بكل صبر
قرب أحد طواقم الكاميرات , ينتظر التعليمات التي أعطيت بإيماءات
حادة باترة . ونادى براند آشتون مايكل ويذرس إلى جانبه وناقشه في
شيء ما , ثم سار مبتعداً عن الشاطئ دون أن ينظر خلفه .. اتجه رأساً
إلى اللاندروفر المتوقف على حافة الرمال .
صاح وودي وينثرز :
- حسناً ..! فليتحرك الجميع ! امسحو آثار الأقدام عن الرمال ,
وأعيدو الأصداف إلى أماكنها . . وأعيدو الفيلم للدوران . . هيا . . هيا !
إلى مركز العمل . . . وبسرعة ؟
أشار إلى جانيس حتى تأخذ مكانها , فأطاعت . . كانت تراقب
رحيل براند آشتون . دار محرك اللاندروفر , ثم اتجه على الطريق الترابية
إلى الشارع العام .
سألها المخرج بصوت رقيق :
ـ أنت بخير ؟ تبدين مصدومة قليلاً .
ـ أنا بخير . . . كم بقى لـي من الوقت ؟
ـ حوالــي عشر دقائق . . النور يتلاشى بسرعة . . يمكننا اقتطاع مشهد
الغروب من اللقطة السابقة . . لكن من الأفضل ألا تضطر لهذا . .
أتعتقدين أنك قادرة على القيام بالدور كما هو مطلوب ؟
ـ سأذهب إلى مكــانــي .
هناك حدود لتأكدهـــا .
أمضت جانيس الوقت , تستذكر ذاك اليوم الساحر . . . وأقفلت
الباب بقسوة على كل المخاوف والشكوك . . لم تسنح لنفسها أن
تتساءل لماذا يجب أن تفعل هذا لـ براند آشتون ؟ لماذا يجب أن تعطيه هذه
الهدية من أعماق نفسها ؟ و لكن ثمة حاجة عميقة ملحة في أعماقها
تطالبها بإظهار ما أحست به ذلك اليوم لـ براند .
ـ آكشن !
دفعتها الكلمة إلى الحركـة . . . أحست بتوترها يتلاشى بعيداً وبنسيم
البحر يتلاعب بشعــرها , إنها قادرة على النجاح من أجله , إنها تحس بكل
شـيء الآن . . عطر الحرية المسكـر . . والبحر والرمال حولها فقط . .
وهناك تلك الصدفة التي أحست ببهجة طفولية عندما رأتها , وتردد
هدير البحر فـي أذنيها ممتزجاً بصدى الـكلمات التي قالت لها إنها جميلة . .
وصدفة أخرى . . خيالية وردية . . العطر . . زاد من حدة عطرها رائحة
الهواء العابث بالملح . . كانت لذيذة . . مغوية . . جميلة . . تداعب
بشرتها . . وتذكرت يدين رقيقتين تعانقانها بحب . . للآن أرادت أن
تشعر بذلك الحب مجداً . . كثيراً كثيراً جداً . .
ـ اقطــع !
جرت جانيس نفسها بطء من الحلم الذي فرضته على نفسهــا . .
وغمرتها موجة ثقيلة من الكــآبة . ولكن الواقع عاد إذ ارتفعت الأصوات
وتتالت الملاحظــات من فريق العمل وأحست بالإثارة التي عمت العاملين
حولهــا , ولكنها لم تتأثر بمن حولهــا .
صارح وودي وينثرز هادراً وارتفع صوته فوق الضجيج .
ـ ضعوا الفـيلم في علبته , واعتنوا به بقفازات وردية .
صـــاح أحدهم :
ـ هل أنت متأكـد أنك لا تريد لقطة أخرى . . وودي ؟
ضحك المخرج: (( أسكتوا ذلك الأحمق )) .
وتقدم إلى جانيس , يضمها إليه معانقاً أياها .
ـ كان عظيماً ! عظيماً ! سنغلف هذا الإعلان بالذهب إذا لعبت الدور
هكــذا غداً . . جميل ! جميل !
احمر وجه جانيس حرجاً , وتخلصت من ذراعيه , تتمتم : (( مسرورة
أن لأن المشــهد أعجبك )) .
ـ أعجبنــ] ! يا ألهــي ! لقد أرسلت رعدة فـي أوصالـي .
تلاشت ضحكته وهو يحس بابتعادهـا عن مسرحه .
ـ هاي . . أنت لا تشعرين أنك قمت بعمل بارع , أليس كذلك ؟
هزت كتفيهــا : (( أنا لست ممثلة , على الإحساس أن يكون
موجوداً . . وأنا الآن متعبة . . إذا انتهى كل شــيء اليوم , فسأذهب إلى
مقطورتــي )) .
سارع لتلبية طلبهـــا .
ـ سأوصلك .
ـ لا . . أفضل الذهاب بمفردي ولا شك أن لديك عملاً تنجزه .
ـ كما تشائين .
ارتدت جانيس لتذهب , لكن يده امتدت لتوقفها , فالتفتت إليه
متسائلة .
ـ هلا قلت لــي شيئاً ؟
ـ هذا وقف على ما هو هذا الــشيء .
ـ أنا أعمل في هذا المجال منذ زمن طويل , ولست غبياً في عملــي ,
أعرف تماماً كيف أستخرج أفضل ما عند الذين يعملون معـي . . بعد ظهر
اليوم استخدمت خبرتـي كلها معك , ولكنك لم تقومي إلا بالأداء الآلـي
فقط , ثم تكلم معك براند آشتون فتغير كل شيء , من العمل بشكل آلــي
إلى العمل بشكل حيوي خيالي فماذا قال لك ؟ أنا مستعد دوماً لتعلـــم
الخدع الجديدة .
ردت بحدة لم تكــن تريدهـــا :
ـ اســأله .
ضاقت عيناه لريبة :
ـ إنه ليس رجلاً أهتـــم بإغضابه .
شقت ابتسامة قلق شفتــي جانيس .
ـ اعتقد أننـي لن أهتم بإغضابه أيضاً . شكــراً لموقفك وصبــرك
علي . . أرجو أن أتمكن من إرضائك غــداً .
تركها دون تعليق , ولكنها لم تستطع الذهاب بمفردها إذ تقدم
مايكل ويذرس ليسير معهــا .
ـ يبدو وودي مســروراً .
ـ أجــل .
ـ الواضح أنه التقط ما يريد .
ـ بل ما يريد براند آشتون .
سارا بضع خطوات بصمت .
ـ تبدين محبطــة قليلاً . . هل هناك ما يمكننــي فعله من أجلك . .
جانيس ؟
رمته بنظرة قلق :
ـ لا . . أريد فقط تغيير هذه الملابس والعودة إلى مقطورتــي , لأنفرد
بنفسي فترة , هل ينال هذا موافقتك ؟
ـ ليست المسألة مسألة موافقتـي . . أنا أريد فقط أن أتأكد من . . .
قاطعته متنهدة :
ـ من عدم وجود مشاكل , أعرف . حسناً , لقد حصل على ما يريد ,
فلا مشكــلة إذن . . ويجب أن أعيــش مع الفكــرة , هذا كل شيء .
اغرورقت عيناها بالدموع وأصبحتا ضباباً أخضر ملؤهما الألم .
ـ أتعرف ما هو الأسوأ في كل هذا ؟ إنه لا يعرف بالضبط , ما حصل
عليه .
تحول وجه مايكل ويذرس إلى رسم كاريكاتوري لأنه لم يفهم
شيئاً . . وأشــار بيده إحبــاطاً :
ـ هلا شرحت لــي . . .
وصلا مقطورة ميرنا ويرنر . مسحت جانيس عينيها , وسحبت نفســاً
عميــقاً .
ـ لا يهم . . . أنا أهذي فقط . . رُد ذلك إلى مزاجي كفنانة . . .
أرجوك دعنــي وشـأني الآن .
قبل أن يقول المزيد , فتحت جانيس باب المقطورة ودخلتها , ميرنا
ويرنر لم تكن هناك . . سارعت جانيس إلى تغيير ملابسهــا وكانت على
وشك الخروج حين دخلت ميرنا مسرعة , تقول بأنفاس مقطوعة :
ـ آسفة ! لم أعرف أنك قادمة . أتحتاجين إلى مساعدة ؟
ـ لا . . . شكراً لك . كنت على وشك الخروج .
ـ هل أنت على ما يرام جانيس ؟ يظن مايكل أنك بحاجة إلى
صحبة . . سأرافقك إذا أحببت . . فقد يساعدك أن نتبادل الأحاديث
فحتى العاملون القديمون مثلنا لا يرون إداء كهذا إلا نادراً .
ابتسمت جانيس :
ـ وهل يفتعل مايكل ويذرس دائماً الضجة وكأنه دجاجة ترعى
صيصــانها ؟
ردت ميرنا الابتسامــة . . .
ـ لا تلوميه . . فأنا لم أشاهد قط السيد آشتون متوتراً هكذا . ستحب
السيدة مارثاين بالتأكيد رؤيته يقع على وجهه في مشروعه هذا . . فلتلك
الــساقطة . . .
صمتت , وكأنها أدركت فجأة أنها أفشت ســراً .
ـ حسناً , لا بأس , تلك سياسة الشركة . أهنئك . . . وودي يسير
نافخاً كرشه والجميع مسرور . . كلنا نحترم براند آشتون . . ونحب
طريقته في إدارته للشــركة , لكن شقيقته . . . سافلة .
قالت جانيس :
ـ لا تهمنــي كارا مارثاين كثيراً . . . شكراً لك لأنك عرضت علي
صحبتك لكننــي أفضل البقاء وحدي .
ـ حسناً . . سأراك وقت العشاء إذن .
ترددت جانيس . . العشاء سيقدم في الكوخ الخشبي . . تكدرت من
فكـرة الجلوس هناك فالذكريــات تهاجمهما شيئاً فشيئاً .
ـ أظن أننـي سأحضر لنفســي وجبة سريعة في المقطورة , وأنام
باكراً . . فهلا اعتذرت نيابة عنـي لـلآخرين ؟ أرجوك ميرنا .
جعدت تقطيبة جبين المـرأة , ونظرت بقلق ولهفة إلى جانيس :
ـ هل أنت واثقة أنك أنك على ما يرام ؟
ـ أجل . . لا تقلقــي . سأكون بخير غـداً .
عندما خرجت , هزت رأسها محيية مايكل ويذرس المنتظــر فـي
الخارج , ثم اتجهت رأساً إلى مقطورتها المتوقفة خلف الكوخ إلى يسار
خزانات الماء . صعدت إليها وأقفلت الباب . إن خزانة المؤن والبراد
ممتلئان وهذا يعني أنها لا تحتاج إلى شــيء أو أحد , يمكنها أن تتصرف
كما يشاء قلبها . . ولكن لا شيء قد يرضي قلبهــا .
المقطورة عبارة عن سرير مزدوج مريح . . . صعدت إليه لاحقاً ,
ودفنت رأسها في الوسائد . الدموع التي كبتتها طويلاً وجدت طريقها
للانهمار , دموع تعب ترافقها دموع البؤس .
أزعجها القرع على باب المقطورة , ولم تتحمله .. وجرت الوسادة
فوق رأسها , تفكر بتمرد .. فليذهب الجميع إلى الجحيم .
وتمسكت بعناد بالصمت .
ـ جانيس أعرف أنك في المقطورة , فإما أن تفتحـي وإلا دخلت .
سرت البرودة في دماء جانيس . . إنه براند آشتون . . لكنه رحل . .
لقد رأته يرحـل , فكيف يكون هذا صوته ؟ إلا إذا عاد ليتأكد من أدائها .
لكن لا بد أن وودي وينثرز طمأنه , فماذا يريد الآن ؟ ألم تمنحه ما فيه
الكفاية من نفسهـــا اليوم ؟
ـ جانيس . . سأدخــل الآن .
إنه قاس لا يرحـــم .
ـ لا ! انتظــــر !
أطلقها الذعــر إلى خارج السرير . . لا يمكنها أن تتركه يراها هكذا ,
ملطخة بالدموع , مشعثة , ودفاعاتها مشتتة .
نادت مجدداً :
ـ لن أتأخـر دقيقة . . أرجوك انتظـــر .
وركزت بشراسة حتى تستجمع ذاتها .
أسرعت نحو المغسلة ثم رشت وجهها بالماء البارد آملة بهذا أن
تضع قليلاً من اللون فيه . . بعد ذلك مررت الفرشاة في شعرها , ثم
سحبت نفساً عميقاً . وحطت إلى الباب , وما أن فتحته حتى دخل براند
آشتون .
ما إن أغلقت الباب وراءه حتى وبخت نفسها فكيف لم تفكر في
الخروج من المقطورة فقد سيطر وجوده على المساحة الصغيرة , لأنه
كان على مقربة شديدة منها . وفي محاولة للتخفيف من وجوده المثير
للاضطراب , جلست في أحد المقعدين المثبتين حول الطاولة , ولكنها
اختلست إليه نظرة وأشارت إليه أن يجلس قبالتها .
ـ أرجوك اجلس . . سيد آشتون .
كانت الكلمات فورية ولكنها جافة , والواضح أنها متململة . . .
لكنه لم يتحرك فاضطرت إلى رفع نظرها إليه , عندئذ حرقت عيناه
السوداوان عينيها , وكان فيهما تساؤل ولهفة . . غير أنها سارعت إلى
غض طرفها وتكلمت بسرعة في محاولة لإخفاء اضطرابها :
ـ لماذا تريد رؤيتـي ! لقد أنهينا العمل اليوم , كان السيد وينثرز
راضيــاً عن آخــر مشهــد صوره .
جــاء الرد :
ـ بــل أكثر من راض . . فلماذا أنت متكــدرة ؟
ـ لست متكدرة . . أنا متعبــة , وهذا كـــل شيء .
وأطرقت بــرأسها تنظر إلى الطاولة .
ـ وينثرز, ويذرس , ميرنا ويرنر , كلهم قالوا الشـيء ذاته . . أنت
متقوقعة على نفسك بشدة . . وهذا ليس رد الفعل الطبيعــي على النجاح ,
جـــــــانيس .
غضبت من هذا التوبيخ الســاخر, وأطلقت لسانهـــا قبل أن تتمـــكـن من
كبحـــه :
ـ لقد فعلت ما أردت أنت . . ولم أضيـــع مالك سدى . . فماذا تريد
الآن ؟ قل ما تريد . . قله ثم اتركنــي وشأنــي .
هل ما تراه هو موجود انعكاس للعذاب الذي في عينيها , في عينيه ؟
للحظة حية , بدأ أنهما عادا روحاً واحدة , في هذه اللحظة أغرتها نفسها
أن تمد يدها إليه تتوسل أن يفهم الحاجة التي استعادة تلك المشاعر التي
حركت كيانها كله . وبدا وكأنه يولد القوة الدافعة وراء هذا الاحساس . .
لكن لا . . لا . . لا يكون هذا . . ليس عبد كل ما قاله
وفعله . . انتزعت عينيها منه . ولئلا تغرق يضعف أحمق وضعت مرفقيها
على الطاولة تغطـي وجههـا بيديها .
ـ جانيس . . .
أفــــي صوته توسل ؟ ولكن اللهفة في صوته تشير إلى هذا , إنما . .
إنما لن سمح لنفسها أن تصدق . . سمعت نفسه الحاد وتنهيدته قبل أن
تمتد يداه إلى كتفيهــا . تقوقعت على نفسهـــا لأنها تذكــــرت كيف أدائهـا
عندما استجابت للمسته في أول لقـــاء لهمــا في مكتبه .
سحب لمــسته بســرعة .
ـ جانيس . . إذا كنت لا تريدين المتابعة . . إذا كان ما طلبته . . إذا
كان يؤلمـــك . . فسأعفيك من العقد . . لم أرد أن أؤلمك جانيس .
لمست كلمات الاهتمام قلبها بألم وذكرتها بالرجل الذي كان على
الشاطئ , ولكنها ذكرت نفسها : خيال . . وما هذا إلا تعاطــف مع
الضغط العاطفي الذي تسببه لها . . أحرقت الــدموع مقلتيها , لكنها
أجبرتها بحزم على التراجـع . . يا الله إنها لا تريد المتابعة . . لكن ماذا
يمكنها أن تفعل غير هذا الآن ؟ أين تذهب ؟ إلى أمها . . إلى ستيفنز . .
لتعترف لهمـــا بالفشل ؟
قالت بصوت مختنق بائس :
ـ ليس لدي خــيار آخـر . يجب أن أتابع .
أثار صمته أعصابهــا . . اذهب من هنا . . اذهب من هنا . . أخيراً
تكلم وبدا صــوته متوتراً كمــا تشعر جانيس :
ـ أنا آسف . . لا أقصد أن أضيع مزيداً من الضغط عليك بزيارتي
هذه . أردت فقط أن . . أن أعلمك أن لا مجال لطلب تعويض فيما لو
رغبت في التخلي عن العقد . . . وأرجــو لك النجاح غداً .
ثم ذهب . . وتردد صدى باب المقطورة في الفــراغ الذي وضع شروطــه
دون رحمـــة ؟
جرت نفســهــا وصنعت إبريقاً من الـشاي وقطعت بعض الجبن ,
وقليلاً من البسكويت . . كان على قطع البسكويت الجافة أن تغتسل لتمر
في حلقهــا , لكنهــا تابعت على مضض . . ما من جدوى في أن تجعل نفسهــا
ضعيفة من قلة الطعام , يجب أن تكمل عملها في القصر . . ولسوف
يحصل براند آشتون على الإعلان الذي يريد . . ولسوف تضطـر كارا
مارثاين أن تعترف بالهزيمة . . أما جانيس . . فستحصل على مستقبل
مهنـي . . مستقبل فارغ لا معنى له , ملـيء بالأنوار المشعة , والـظلام
النفســـي .
خلعت ملابسها . . هواء الليل كان قد انقلب بارداً بشكــــل غير
متوقع . . برجفة صغيرة ارتدت ثياب النوم , وأطـفأت النور , ثم صعدت
تحت البطانيات . أدارت الوسادة المبللة دموعــاً , وسوت نفسها بارتياح
عليها . . مع ذلك راوغها النوم . . فتحت النافذة تصغـي إلى هدير البحـر
المهدئ . . كــــان يـجــب أن يهدئ أعصابهـــا لـكنه لـــــم يفعــل . تلوت
وتقلبت , جسمها لا يرتاح مع الكثير من الأشواق المحبطــة .
سمعت أصوات الآخريـن المخنوقــة وهم يتوجهون إلى النوم . . فـي
محاولة لإبعاد الأفكـار المزعجــة , ركزت على التقــاط أصوات الطبيعة ,
أزيز الحشرات , نداء الطـيور , هسهسة أوراق الشجــر . . أخيراً استولى
عليها النوم , لكنه كان مليئاً بالظلام , أشيــاء لا اسم لها ومخيفة , عذبت
لاوعيهــا ولم تعطها أية راحــة .
* * *
نهاية الفصــل (( الســابع )) . . .