4- ثـــورة طـــــفلة
فتاة تافهة . . حقاً ! كم كانت بلهاء عندما سمحت لغريب بمعانقتها !
اللعنة على هذا الرجل !
تذكرت بوضوح لاذع قوله (الطراز الرفيع) , واستخدامه المتعمد
لكلمة طفلة . لقد خدعت بسهولة .. حمقاء ساذجة , أرادت أن تصدق
أن سرها في أمان . كان يجب أن تعرف ليلة أمس حين توقف عن
اعتبارها مصدر إزعاج .
جانيس يونغ ! (( الطفلة )) ! كان يعطي حبه وعطفه للصورة وليس
منتديات ليلاس
للمرأة . الفتنة القديمة قدم الزمان مابين الصبي والفتاة , هذا ما صوره
لها ستيفنز . . ونجح في هذا . المزيج المزعج لبراءة الصغار وإثارة
النضوج , هذه الصورة نجحت كثيراً وأنتجت ربحاً وفيراً .
لا عجب أن الغريب دهش عندما عرف أنها عذراء ! فلا شك أنه كان
يؤمن أن كل العارضات عابثات . . . وصحيح أن التحرشات عادية في
مهنتها , ولكنه لا يعرف أن أمها و ستيفنز طالما حمياها من أمثاله من
الرجال .
لسعت الدموع عينيها . . لقد أخبرته بقصة حياتها بإسهاب وتركت
مشاعرها تغدر بها . . صرّت على أسنانها لمنع شهقة بكاء تكاد تبرز عبر
الضيق في حلقها . . لن تبكيه . . لقد خدعها لسبب ما , لا تعرفه ولا
تريد أن تعرفه . يجب أن تنساه , غداً تضع الحادثة كلها خلفها وكأنها لم
تحدث . . يجب أن تتابع حياتها الطبيعية . . ولكن ليحدث هذا يجب أن
تصل إلى منزلها أولاً .
أجبرت نفسها على التفكير في ما هو قادم . . عليها أن ترضي أمها ,
لكنها لا تستطيع تفسير سبب غيابها الطويل . . ثم هناك ستيفنز . . ولكن
مجرد ذكره في ذهنها , حرّك كل مشاعر الكره تجاهه . . مع أنها تعرف
أن قطع كل صلة به أمر صعب سيؤثر في مهنتها , ومع ذلك ستقطع هذه
العلاقة . . . فالكبرياء واحترام الذات يفرضان عليها هذا .
ركزت على وضع الخطط للمستقبل , وبالتدريج هدّأت القيادة
أعصابها المتوترة . . وكان الوقت ظلاماً تقريباً حين أوقفت السيارة أخيراً
تحت مبنى الشقق . . لاحظت نظرتها المتعبة وجود سيارة ستيفنز في
موقف الضيوف . كانت تحس بالإرهاق العاطفي والجسدي لذا لم
تستطع أن تتحمل فكرة مواجهته وهاهو الغضب يثور ويثور في
أعماقها .
ترجلت من السيارة ثم سارت نحو المصاعد وهي تنظر إلى سيارة
ستيفنز بقرف . تساءلت كم بقيت متوقفة هنا , وماذا قال لأمها .
بالتأكيد لم يقل الحقيقة , لأن حتى إيفلين يونغ الحديدية لن تهضم
الحقيقة . الكثير من الأشياء يمكن أن تُهضم في الطريق إلى النجاح ,
لكن هناك حدود لما يمكن أن يبتلعه المرء . ولقد تعمدت إيفلين يونغ
حث ستيفنز على الاهتمام بـ جانيس , لكن حتى هي , يمكن أن ترى أن
زواجها مستحيل .
استدعت جانيس المصعد , ودخلته وضغطت بشكل آلي على الزر
الموصل إلى طابقها . صدمها فجأة أنها تفكر بـ ستيفنز دون ألم , بل بقرف
وازدراء .. إنها الآن هادئة بشكل عجيب .. وكأن المنظر البشع في شقة
ستيفنز حدث منذ سنوات طويلة , ولشخص آخر .. توقف المصعد
بحدة , وانفتحت الأبواب . هزت جانيس نفسها داخلياً وخرجت ولم
يكد مفتاح شقتها يلمس القفل , حتى انفتح الباب .
- جانيس!
ضمت ايفلين يونغ ابنتها :
- لقد عدت! شكراً لله! كدت أفقد عقلي قلقاً عليك .
ولكن قطع هذه اللهفة عبوس ستيفنز .
- انظري إلى هذه الملابس الجميلة! ماذا كنت تفعلين طوال
الوقت؟
لم ترد جانيس. كان ستيفنز يتقدم نحوها , ووجدت نفسها تنظر إليه
بطريقة متباعدة غريبة , إنه ستيفنز نفسه الذي ظنت أنها تحبه ... ستيفنز
صاحب البشرة الحمراء الذهبية , والشعر الأشقر الأملس والوجه الوسيم
والجسد الرشيق الأنيق الملبس كما دائماً ... طبعاً! إنه يتعامل مع
الصور ... متخصص في الصور الزائفة ... تماماً كما كان حبهما
المزعوم الرومانسي زائفاً .
- جانيس .
تراجعت عن يديه الممدودتين , فلوح بهما في إيماءة استرضاء وقال
بصوت منخفض:
- ما كان يجب أن تسارعي للخروج بتلك الطريقة .
كان يكلمها وكأنها طفلة تصرفت دونما تفكير!
أجفلتها لهجته ووترتها فهي تعرف أنها لهجة يستخدمها وأمها حين
تكون صعبة المراس . كانت تستسلم لهذه اللهجة غالباً , باعتبارها أكبر
منها سناً وأكثر حكمة , ولكنها لن تستسلم بعد اليوم ... صرت على
أسنانها , وارتدت إلى أمها .
- آسفة أمي .. كان يجب أن أتصل وأبلغك قبل أن أبيت ليلتي
خارجاً .. لقد تصرفت بشكل أناني , لكنني احتجت إلى الانفراد بنفسي
لأفكر .
بدا صوتها بارداً وهادئاً , وواثقاً ... هل غيرتها الساعات الأربع
والعشرين الأخيرة إلى هذا الحد ؟
أظهرت إيفلين يونغ دهشتها بسبب نبرة ابنتها المشحونة بالثقة
والثبات :
- حسناً .. لا بأس مادمت سالمة , لكن ثيابك عزيزتي ... لقد
أفسدتها , لن تعود كما كانت ..
- أهذا كل ما تستطيعين التفكير فيه أمي ؟ ثيابي !
وخرج منها كل السخط المخزون لسنوات :
- كل حياتي ثياب , ثياب , ثياب ! لا تلعبي , ستوسخين فستانك ..
اجلسي مستقيمة , ستتجعد تنورتك .. ما أنا ؟ دمية أم ابنتك ؟ هل فكرت
يوماً أن هناك إنساناً يعيش داخل تلك الثياب التي تضعينها علي؟ هل
فكرت في هذا أمي؟ هل تهتمين حقاً بما أشعر به الآن ؟ أم أن الثوب
الحريري أهم من هذا لديك؟
عارضت الصدمة الظاهرة على وجه الأم التأنيب في صوتها .
- جانيس ! أنا قلقة عليك بالتأكيد ... لكن ثيابك تكلف كثيراً ..
وتعرفين هذا!
- أجل أعرف ..
وعرفت كذلك أن لا طائل من الصياح بوجه أمها .. فستبقي
للمظاهر الأولوية عن إيفلين يونغ .. شعرها الأشقر المائل إلى لون
الرماد كان مسرحاً على الطراز الفرنسي .. وكان الماكياج الفني يخفي
التجاعيد الصغيرة التي تظهر على الوجه الجميل ... وللمرة الأولى
أحست جانيس بالأسى على أمها ... فإيفلين يونغ لن تعرف أبداً بجهة
التحرر من كل ثوابت المجتمع .
- حسناً .. لن أرتدي هذا الثوب مجدداً أمي , لذا سجليه على أنه
خسارة في دفتر حساباتك .
لقد قررت التخلص من عادة الانصياع إلى ما تمليه عليها أمها ..
إنها إنسانة لها كل الحقوق , ولم تعد طفلة صغيرة يحدّد لها ما تفعل أو
ما لا تفعل .
أدارت وجهاً بارداً إلى ستيفنز الذي تراجع مبتعداً عن النار .
- لم أتوقع أن أجدك هنا ... وبما أنك هنا , فمن الأفضل استغلال
الفرصة لنسوي كل شيء الآن .
حذرتها أمها :
- جانيس .. لا تتعجلي باتخاذ القرار . لقد كان ستيفنز متكدراً
بسبب الجدال الذي دار بينكما ليلة أمس ... وأنا واثقة ..
- جدال .. ستيفنز ؟
سخرت عيناها الخضراوان من مراوغته , وانتشر الاحمرار من أسفل
عنقه إلى الأعلى مما جعله يبدو كفتى صغير غُرّ .
- جانيس .. دعيني أشرح لك ..
- لا ضرورة للشرح ... علاقتنا انتهت ستيفنز .. و إلى الأبد .
قست تعابير وجهه وبدا التهديد على ملامحه .
- أنت بحاجة إليّ جانيس .. فمن دوني ..
قاطعته بصوت ساخر :
- سأحتاجك كما أحتاج الجحيم !
قالت أمها : (( جانيس! هلا أصغيت إلى المنطق بحق الله ... )) .
ارتدت جانيس إليها :
- لا! لن أصغي إلى المنطق اللعين لأستمر معه .
وابتعدت عنها بنفاد صبر .. لقد زُرعت بذور التمرد في نفسها
على شاطئ بعيد عن هنا , ولكن هذه البذور نمت بسرعة في جو هذه
الغرفة الخانق .. جلست دون اهتمام على أحد المقاعد الطويلة في
غرفة الجلوس .. ووقفت بوجهيهما بثقة بالذات .
ران صمت مرعب استطاعت أمها خلاله استيعاب التحدي والتصميم
اللذين أظهرتهما جانيس , ونظرت لقلق إلى ستيفنز , ثم ارتدت لابنتها
تسترضيها .
- جانيس .. عزيزتي .. الواضح أنك مرهقة ..
- بل على العكس , فكري صافٍ كل الصفاء وأشك أنني رأيت يوماً
الأشياء أوضح مما أراها الآن .. إذا أحببت أن تجلسي أمي .. فسأخبرك
ماذا يجول في فكري .
تلاشت الابتسامة وتنهدت افلين يونغ التي التفتت معتذرة إلى
ستيفنز وكم كرهت جانيس تلك النظرة , لكنها لم تعترض .. قالت الأم
وهي تلعب لكسب الوقت :
- سأعد القهوة .. هل ترغبين في شيء تأكلينه عزيزتي ؟
- لا .. شكراً , ولا أريد القهوة , أنا متعبة وأفضل أن يخرج ستيفنز
من هنا .. فوراً .
تقدم ستيفنز بعدوانية وبدأ يقول :
- اسمعي الآن , جانيس .
- أنا أسمع ستيفنز .. لقد رأيت الكثير .. ولا أدين لك بأي شيء!
- أنا صنعتك!
- صنعتني كما تريد , فهل من المفترض أن أكون ممتنة لهذا؟ كانت
الصورة ناجحة . ولقد كسبت منها بقدر ما كسبت أنا .. أما الآن
فالشراكة فسخت .. يوم الاثنين سأعطي اسمي لأفضل الوكالات في
المدينة , وسأجرب حظي معهم .
اعترضت أمها :
- جانيس هذا غير منطقي .. لقد كان ستيفنز ..
التفت جانيس إليها وعيناها تبرقان بتحذير ناري .
- أمي! لقد انتهيت من السماح لكما بدفعي بطريقتك أو بطريقته .
أنا الآن في الثانية والعشرين الآن .. ولي آرائي الخاصة , وأنا أنوي فعل
ما أريد .. أشكركما على ما أوصلتماني إليه من نجاح ولكن هذا لم يكن
لصالحي بقدر ما كان لصالحكما .. أنتما أردتما النجاح أكثر مني .
نظرت أمها إليها وكأن ابنتها أصبحت غريبة , ثم هزت رأسها
وتهاوت إلى أقرب مقعد .
- لا أفهم ماذا حصل لك جانيس .. لماذا تتصرفين هكذا؟ أنا أمك ,
ولم أفعل يوماً إلا ما هو الأفضل لك .
قالت جانيس برقة لأن الحقيقة يجب أن تقال :
- أعرف أنك تعتقدين هذا أمي , المشكلة أن ما تظنينه هو الأفضل
لي , ليس ما أظنه أنا . لقد حان الوقت لتتوقفي عن العيش من خلالي .
يجب أنا أحيا حياتي الخاصة .. لم أعد طفلتك الصغيرة أمي .. أنا الآن
كبيرة .
للحظة حادة تحول تفكيرها إلى مكان آخر ... رمل وبحر , ورجل
قاس ... وبدا لها أنها بحاجة إلى جهد مركز لتدفع عنها الذكرى .
صاح ستيفنز بغضب :
- كبيرة ! ولكن إدراكك إدراك طفلة ! أنت لا ترين شيئاً بوضوح
أبداً.. غرورك بلغ الذروة . . . تظنين أنك قادرة على الانطلاق
وحدك .. صوري أنا هي التي صنعتك .. أتظنين أن أي مصور قادر على
التقاط التأثيرات ذاتها ؟
ردت برقة دون أن تهتم بثورته :
- سنرى هذا .. أليس كذلك؟
التوى وجهه الوسيم قرفاً :
- يا لله ! لولا براءتك وغباؤك لعرفت أين هي مصلحتك .. حقاً
نستطيع الوصول إلى القمة , ولا أعني هنا .. نيويورك .. لندن ...
باريس ..
اغرورقت العينان الخضراوان بالاشمئزاز :
- لا ! أنا لست بريئة إلى هذا الحد ستيفنز . والشكر لك .. وأنا
أفضل السمن النباتي على الزبدة التي تعرضها عليًّ ... ابحث عن فتاة
أخرى تشكلها على الصورة التي تريد .. أنا غير حاضرة حتى ولو كان
ذلك يعني الوصول إلى نيويورك أو لندن أو باريس .
صاح ساخطاً: (( تقطعين أنفك نــكاية بوجهك ! )) .
-إنه وجهي .
جعله عنادها البارد يصرّ على أسنانه غيظاً .
- ستعودين إلي زاحفة حين تجدين نفسك فاشلة .
- لا تعتمد على هذا .
قال بحــدة: (( من السيئ أن تحرقي الجسور قبل أن تقطعيها
جانيس ... أرى أن المنطق الآن لن يجدي نفعاً ولكن حاولي الطيران
من دوني قليلاً ... وانظري إلى أين ستصلين )).
تقدم إلى الباب, ثم ارتدّ إليها مبتسماً ابتسامة مريرة:
- أسامحك على جحودك نحوي , حين تعترفين أخيراً أنك مخطئة .
امتنعت جانيس عن الرد , وشعرت بالراحة لأنه رحل .
قالت افلين يونغ مؤنبة:
- إنه على صواب جانيس .. أنت لا تدركين أبداً ...
- ألا أدرك أمي؟ إذن , يجب أن أكتشف هذا بنفسي .
مدت الأم يديها تسترضي ابنتها .
- جانيس .. فلنتحدث عما جرى .
عرفت جانيس اللهجة المراوغة من تجارب قديمة .
- لا .. قلت كل شي أمي , وعنيت كل كلمة قلتها . سأستحم
الآن وفيما بعد , إذا أردت الكلام فسنتكلم .. إنما ليس عن ستيفنز ..
وفيما كانت مستلقية في الحوض الدافئ , تسللت ذكرى مياه
أخرى إلى تفكيرها , وتركتها تطوف كما تشاء ... من حسن الحظ أنها
قررت تركه قبل أن تضع نفسها تحت سلطة ذاك الرجل حيث لا مجال
للتراجع . لقد تعمد خداعها , ومهما كان الدافع لهذا فهناك شيء واحد
مؤكد: لا يمكنها أن تثق به !
أخرجت نفسها من الحوض , وجففت نفسها ببطء , وهي تتساءل
كم سيطول الوقت قبل أن تنسى السحر الذي أحدق بها وهي هناك على
منزل الشاطئ . ولكنها على الأقل , خرجت من التجربة دون مخاطرة .
اشتد ضغطها على شفتيها وهي تفكر بـ ستيفنز الذي لن تزحف إليه
أبداً ... أبداً .. ارتدت روبها المنزلي , وخرجت إلى المطبخ . إنها
جائعة , ومستعدة للعراك مع أمها إذا لزم الأمر .
بدأت افلين يونغ تعامل ابنتها وكأنها شخص معاق بحاجة إلى رعاية
وتساهل وقد أذهل هذا التكتيك جانيس . لكنها لم تقاومه فالزمن وحده
سيظهر لأمها مدى تصميمها , ولسوف تعتاد أمها على وجود ابنة
راشدة .. ولكن على طموحات افلين يونغ أن تبتعد عن جانيس وتتوجه
إلى نفسها إنها امرأة جميلة الطلعة , ومازالت شابة , وعليها القيام
بشيء ما بناء في حياتها ... لقد استحوذ عليها الجهد الذي تبذله لدفع
ابنتها إلى الأمام , ولكنها الآن بدأت الخطـوة الأولى على درب
الاستقلال , لذا لن تؤلمها أكثر بالإسراع بعيداً بهذه السرعة .
يوم الاثنين , ألغت جانيس كل ترتيبات الزواج , ثم أخذت حقيبة
الصور إلى أرفع وكالات العارضات في سيدني . ولكن حماسهم خاب
عندما أعلمتهم أنها لن تعمل مع ستيفنز دراسيل وظلت على إصرارها
رغم محاولتهم إقناعها , فاسمها مرتبط باسم ستيفنز منذ بداية عملها
كعارضة .. كانا فريق عمل ! جانيس يونغ و ستيفنز دراسديل ... ولقد
ساورت الشكوك الوكالات في مسألة تسويق اسمها دون المصور الذي
أعطاه خاصيته , وارتابوا أكثر حين قالت لهم إنها لا تريد المتابعة
بالأسلوب الذي ابتدعه لها .
جلبت الأسابيع التالية إليها الإحباط , فقد تلقت العروض التي
رافقها دائماً شرط وهو أن يكون ستيفنز وراء الكاميرا , وعندما رفضت
كل العروض حذروها من أنها تنتحر مهنياً .. وبدأ اليأس يتسلل إلى
نفسها , ولم تجد تعاطفاً في البيت .
كانت أمها تهاجمها بحدة , فقد وجدت أن جانيس ليست معاقة
أبداً :
- هذا غباء وعناد!
لكن افلين يونغ ذاتها كانت أكثر عناداً , وصممت أن تعيد ابنتها إلى
الطريق الذي خطته لها من سن المراهقة , وهي التي سعت لتعمل مع
ستيفنز .. ورغم معرفتها بأمر خيانته لابنتها فقد كانت على استعداد
لإقناع جانيس بالعمل معه .. لكن جانيس تجاهلت ثرثرة أمها
وإصرارها , ويوماً بعد يوم أخذت الوحدة تتسلل إلى نفسها .
كانت بين الحين والآخر تسترجع ذكريات ذلك اليوم الذي حافظ
على سحره الخاص . رغم النهاية المريرة التي انتهى بها فهي غير قادرة
على نسيان الرجل الذي كلما تذكرته عصفت بها مشاعر غريبة عميقة ..
إنها لم تشعر بالوحدة وهي معه .. ولكنها لن تستطيع العودة فالأمور
بينهما لن تكون كما كانت .. لا يمكن .. ليس بعد الطريقة التي انتهت
فيها .. مع ذلك كان نداء البحر والرجل , قوياً بحيث كان قلبها ينفطر
كلما تذكرت .
بدا لها أن ليس هناك طريقة لتغيير هذا كله ! وأقنعت نفسها أنها
تستسلم للحلم .. حتى لو قال الحقيقة , وحتى إن لم يكن لديه دوافع
من وراء تكتمه على معرفة هويتها , وحتى لو زحفت إليه معتذرة , وأعادا
إحياء المشاعر التي كانت بينهما .. ولو أن كل هذه الأمنيات تحققت ..
فلن يكون لها مستقبل حقيقي معه .
لم يعرض عليها مستقبلاً . قال فقط : ابقي معي .. وماذا يعني هذا؟
إلى كم من الوقت يمكن أن يعيش المرء بلا هدف ؟ .. يتنقل على
الشاطىء , يصطاد السمك ويمرح .. ولكن لن يستطيع أحد تجاهل
وقائع الحياة .. فهي بالتأكيد سترغب في الزواج , وفي إنجاب الأولاد .
وحتى ذلك الوقت يجب أن نجد عملاً ونكسب عيشها .. لكن , لم
يكن هنا أي فرح في هذه الوقائع .. ليس كما أحست وهي على
الشاطئ ..
لم تتلق أي عرض من وكالات عارضات الأزياء .. لذا بدأ مستقبلها
المهني يتحول إلى ركود .. وظل ذلك حتى اتصل أحدهم فجلب ذاك
الاتصال بصيص أمل .. كانت مستعدة للقبول بأي شيء , ولكنه لم يكن
عرضاً ثابتاً .. فمؤسسة آشتون تطلب مقابلتها فقط , ولكن الطلب أظهر
اهتماماً بها .. جرى ترتيب موعد بسرعة وأحست جانيس بدغدغات
الإثارة .
مؤسسة آشتون هي من أكثر مؤسسات مساحيق التجميل شهرة في
استراليا .. وكانت أشهر النجمات العالميات يقمن بالدعاية لمنتوجات
الشركة , وإن كانت هذه المقابلة تعني أنهم يفكرون أن تكون جانيس فتاة
آشتون التالية , فستكون فرصة العمر لها . إن اختاروها , فلن تفتقد
للعروض في المستقبل .. وسيكون اسمها قد لمع ليس هنا فقط بل في
الأسواق العالمية .
عندما جاء ستيفنز دراسديل يزورها , تبين لها أن أمها هي التي
دعته .. فواجهتهما معاً وصدتهما مع أنهما حاولا جهدهما إقناعها
للإذعان للمنطق .
قال ستيفنز بقوة لا ترحم :
- كوني عاقلة جانيس .. الدعاية هي كل شيء في هذه اللعبة ...
وإن لم يظهر وجهك باستمرار .. فستخسرين مهنتك .. ضعي جانباً
العامل الشخصي , واشتغلي معي على أساس المهنة فقط , أنت تخسرين
أكثر مما أخسر أنا فعملي مطلوب دوماً .
دعمته الأم طوعاً :
- هذا صحيح عزيزتي .. كفـــاك عناداً ...
ردت جانيس بالسلاح الوحيد في حوزتها:
- هل هذا صحيح ؟ ... حسناً .. قد يثير اهتمامكما أن تعرفا أن لدي
مقابلة مع مؤسسة آشتون غداً , واستطيع أن أزيد أن هذا يعد بمستقبل لا
يمكن لك أبداً أن تعدني به .
رد ساخراً: (( المقابلة لا تعني عقد عمل)) .
لكن تأكده من أنها تحتاج إليه , أصبع مضعضعاً . ضغطت جانيس
لمصلحتها .
- لكنك لا تعرف هذا .. صحيح ستيفنز؟ سأحظى بفرصتي
معهم .. شكراً لك .
نظر إليها بحقد وهو يقف :
- لن أعود مرة أخرى جانيس .
ردت ببرود: (( لم نسألك المجيء )) .
أوصلته افلين يونغ إلى الباب , ووقفا هناك يتمتمان معاً بسخط
مشترك .. وما أن رحل , حتى ارتدت أمها إليها تهاجمها:
- لماذا لم تخبريني؟
- ولماذا لم تستشيريني قبل أن تدعي ستيفنز؟
ردت بحدة: (( كان على أحـد أن يأخذ المبادرة لجمعكما )) .
- لا أريد منك أن توجهيني أو تتدخلي بشؤوني , أمي !
- أنت ترمين كل شيء في ( البالوعة ) بعنادك الغبي .
- لا أهتم لو حدث هذا .. لن أعود إلى ستيفنز .
لكنها كانت تهتم .. ولقد أرادت يائسة فرصة لتثبت قدرتها على
شق طريقها بمفردها , فهي على أي حال , لا تعرف عملاً غير هذا ..
والمستقبل يبدو لها غامضاً .
الإحساس باليأس ذاته , جرّ قدميها وهي تصعد الأدراج العريضة
نجو مبنى مؤسسة آشتون في الصباح التالي . . يجب أن يعجبوا بها . . .
ارتفعت عيناها إلى الاسم المذهب على البابين الزجاجيين الكبيرين . .
إذا قررت هذه المؤسسة المشهورة المحترمة استخدامها , فالـخوف الذي
بدأ يعشعش في قلبها قد يزول . دفعت أحد البابين تفتحه ودخلت بهواً
رخامياً بارداً , سقفه مرتفع مقوس وفي البهو بركة فخمة ونافورة , وهي
صورة عن منتجات آشتون المعروفة بفخامتها وارتفاع ثمنها .
نظرت جانيس بقلق إلى ساعتها . . أمامها عشر دقائق حتى موعد
المقابلة .. ألقت نظرة على نفسها من خلال المرايا الموجودة على
الحائط خلف النافورة . . فوجدت أن لون بذلتها الخضراء قد زاد من
إبراز لون عينيها . . . وردت على نظرتها جانيس يونغ التي تعرف
صورتها تماماً , والتي هي على أتم الاستعداد لهذه المقابلة .
كانت راضية عن مظهرها , لذا اتجهت جانيس بثقة إلى المصاعد .
وضغطت الزر الموصل إلى طابق العلاقات العامة . كان يرأس هذا القسم
مايكل ويذرس , وهو الرجل الذي ستقابله . . سحبت بضع أنفاس عميقة
لتهدئ أعصابها المتوترة , وما إن انفتح الباب حتى رسمت على وجهها
ابتسامة وللمرة الأولى أسعدها أن ترى وميض الحسد في عينيّ موظفة
الاستقبال لأن ذلك رفع من معنوياتها .
حياها مايكل ويذرس بتحفظ هي غير معتادة عليه .. كان شاباً
طويلاً , نحيلاً , أنيق المظهر كحال جميع المدراء التنفيذيين . . لم يكـن
وسيماً , ولكنه لم يكن غير جذاب . في ابتسامته شيء من السحر, وقد
برقت عيناه بالإعجاب سريعاً, إنه رجل يجعل النساء والرجال يشعرون
بالراحة عندما يكونون معه .
قال بأدب وهو يجلسها في مقعدها :
- آنسة يونغ . . كنت أتوق لمقابلتك شخصياً .
عاد إلى ما وراء منضدته وأبتسم لها مجدداً .
- أحياناً , تكذب الكاميرا . . لكن هذا غير صحيح معك بالتأكيد . .
تمتمت جانيس ممتنة للإطراء :
- شكراً لك .
تلاشت البسمة عن وجهه . . وكسا وجهه الجو العملي .
- سأتطرق إلى صلب الموضوع آنسة يونغ . لقد طورنا عطراً
جديداً , ونريد الفتاة المناسبة لتقديمه إلى الجمهور . . كانت سياستنا
الدائمة هي استخدام النجوم المشهورين في حملات الإعلان , لكن . .
صمت قليلاً , وكأنه يختار كلماته بدقة لمزيد من التأثير .
- .. هذا العطر مختلف , إنه فريد من نوعه . وفكرنا أن تقديمه
بشكل مختلف قد يكون أشدّ تأثيراً .. ولقد وضع اسمك على اللائحة ,
ونريد استكشاف هذه الإمكانية . . أقول استكشاف , لأن مجلس إدارتنا
غير مقتنع أنك ستقدمين الصورة المناسبة .
ابتسم لها ابتسامة صغيرة يطمئنها أنه يراها مناسبة , لكن حركة
حاجبيه كانت تقول بوضوح إن الأمر ليس بيده , وقدرت له جانيس هذه
الحركة , لكنها زادت من توترها الداخلي . . وتابع :
- ما نريد أن نفعله هو أن تقومي بإعلان كتجربة . سندفع لك أجرك
المعتاد , ولكننا لا نضمن لك أننا سنستخدم ذلك الإعلان . . قـــد لا
يهمك أن تضيعي وقتك بمثل هذه التجربة التي لا ضمانات لها , لكن لو
وافقوا على عملك فستكون المكافآت كبيرة جداً , فالعقد مع شركة
آشتون عدا عن الناحية المالية , هو قوة لا يستهان بها في عالم
الموضة . . وهذا أمر تعرفينه وتقدرينه بالتأكد . .
ردت بسرعة : (( أجل . . أقدره )) .
- إذن , ربما تريدين بعض الوقت للتفكير في عرضنا .
لن تفكر في الأمر . . فليس لها خيارات أخرى , وفرصة إثبات
وجودها تتدنى أمامها , وتمسكت بها بأيد متلهفة :
- لا .. فأنا مسرورة للمضي في هذا الترتيب .
- قد لا يقودك الأمر إلى شيء .
ابتسمت جانيس , غير قادرة على احتواء إثارتها نحو العرض :
- من ناحية أخرى , هذه فرصة تستحق المخاطرة . . أبيس كذلك !
رد ابتسامته ا:
- عرفت أنك ستنظرين إليها هكذا . . فلدى القسم القانوني في
الشركة إتفاق جاهز لتوقيعه آنسة يونغ , لكن السيد آشتون يود مقابلتك
أولاً . . اعذريني لحظة !
مال إلى الأمام يضغط زراً على هاتفه الداخلي:
- أرجو إبلاغ السيد آشتون أنني سأرافق الآنسة جانيس يونغ إلى
مكتبه الآن .
الواضح أنه راض عن الموقف :
- أتسمحين لي بمرافقتك ؟
وقفت جانيس برشاقة :
- قلت السيد آشتون . . وكنت أظن ايفا آشتون . .
- لقد تنازلت الملكة لصالح ابنها .. ايفا آشتون تحتفظ فقط بلقب
رئيس مجلس الإدارة , ولا تزال هي الواجهة للمؤسسة . . لكن براندون
آشتون هو الذي يدير المؤسسة . . وهذا غير معروف للجميع , عليك أن
تعرفي أنه . . هو الذي يجب أن يرضى حتى يتم توقيع أي عقد . . وهو
رجل من الصعب إرضاؤه .
وتنهد :
عاد التوتر إلى جانيس وهما يصعدان بالمصعد إلى طابق الإدارة
العامة . . أخذت معدتها تتقلص وحاولت بذعر أن تسترخي . . الواضح
أن من الضروري التأثير في هذا الرجل . . ويجب أن تكون هادئة , واثقة
من نفسها , وقبل كل شيء , يجب أن تقنع براندون آشتون أنها الفتاة
المناسبة لتسويق عطره .
لم تكد تلاحظ الترف والفخامة في قسم الاستقبال . هز مايكل رأسه
تحية للمرأة وراء طاولتها , فلوحت بيدها نحو باب , وقِيدت جانيس
رأساً إليه . قرع مدير العلاقات العامة الباب قبل فتحه , وأدخل جانيس
دون انتظار الرد .
كان مكتباً فخماً مثيراً .. لكن جانيس لم تر سوى الرجل الذي
وقف بهدوء وسط مقعده .. البذلة الرمادية التي يرتديها متقنة التفصيل ,
ولكنها تفضل لو كان مرتدياً الجينز والتيشرت . . . ولكن أكان مرتدياً
بذلة أنيقــة أم ثيابــاً عادية فلن يشكــل ذلك فرقـــاً أبداً , فهذا هــو رجل
الشاطئ . . الرجل الذي شاركته الكوخ الخشبي البدائي . . الرجل الذي
كان يطارد أحلامها منذ ذلك الوقت ..
وهو .. براندون آشتون .
* * *
نهاية الفصل (( الرابــع )) ...