غير أن الآنسة كيت , رغم المأزق الذي تواجهه , ورغم تفكيرها بمعاملته باللين سواء عاملها باللين أو بالقسوة , لم تتردد في التعبير له عن حقيقة شعورها نحوه والمنزلق الغامض الذي يحاول جرّها اليه من خلال مجاملاته السمجة ومداعباته الثقيلة الظل إذ صارحته القول بأنها ليست من طينة أولئك الفتيات اللواتي ينجرفن وراء عواطفهن إنجرافا عابرا , وأنذرته بضرورة التفكير طويلا قبل أن يتمادى في تصرفاته , وإلا فإنه لن يجني سوى الندم.
وغني عن القول أن موقفها الجريء هذا كان له أثره البالغ في نفسية السيد شريدان , إذ نهض وهمّ بمغادرة المنزل وهو يتمتم بإنفعال:
" أجل , سأعود لمقابلة والدك صباح غد".
غير أنها أستمهلته ريثما ينهي فنجان الشلي , على الأقل.
لم تكن هذه التجربة الأولى من نوعها التي تعرّضت لها إذ سبق لها أن مرّت بتجارب عديدة مماثلة , واجهت خلالها شتى أنواع الأطراء من قبل الشباب المعجبين بجمالها أثناء قيامها بعملها كعارضة أزياء دون أن تتزحزح قيد أنملة عن النمط المستقيم الذي رسمته لحياتها.
عاد شريدان وجلس لأكمال شرب الشاء , وما لبث حتى عاود تعليقاته , بين الفينة والفينة , كأنه مصمم على النيل منها , بطريقة أو بأخرى , رغما عن إرادتها , وظلّت الحال على هذا المنوال لغاية أن بلغ نفورها منه حدا لا يطاق , فنصحته بالذهاب والعودة غدا لأن والدها سيتأخر طويلا في العودة الى البيت بسبب الأجواء العاصفة المخيمة على البلدة ووجوده في منزل السيد مارلو لتناول العشاء معه.
بيد أن السيد شريدان , خلافا لمحاولته السابقة مغادرة المنزل ساعة نصحته بضرورة الذهاب والعودة في اليوم التالي لمقابلة والدها , أرتأى الأنتظار بحجة أنه ليس مرتبطا بأية مواعيد سابقة , ولا يضيره إن لم يعد والدها الى البيت حتى الفجر , قال ذلك وهو يبتسم بعيدا عن أي أثر للغضب أو الأنفعال.
ثم نهض ومشى ببطء نحو باب الشرفة فأسدل الستارة وقبض بيده على سقاطة الباب , ثم أستدار وقال لها:
" لن أغدر المكان إلا بعد أن توافقي على الخروج معي , فما رأيك؟".
" إنك تضيع وقتك بدون فائدة".
" هكذا يظهر لي".
" أجل ! وماذا بعد؟".
" لا , أبدا ! أخبريني , يا كيت , هل ستذهبين معنا في رحلة نهاية الأسبوع؟".
" لم أقرر بعد".
" لم لا ! خائفة أنت من شيء ما؟".
" خائفة؟ أنا ؟ لا شيء يخيفني ساعة أنوي الخروج".
قالت ذلك بعصبية ظاهرة , ثم تناولت قنينة المرطبات وجرعت منها قليلا ولسان حالها يقول : ( ترى , متى يتوقف السيد شريدان عن متابعة هذا الجدل البيزنطي ! أوف , الحديث معه أشبه بمناطحة سور الصين).
وهنا عادت بها الذاكرة الى السعادة التي غمرتها ليلة عودتها الى هذه الديار الشرقية , بعد غياب طويل , أمتدّ الى خمس سنوات , قضتها في لندن حيث كانت تشتغل بصورة منتظمة , وتعيش حياة حافلة بالرفاهية والبحبوحة , وشهدت أنتقالها من مرحلة المراهقة الى سن الشباب , فضلا عن النجاح الذي حقّقته , بحيث مضت السنين كلمح البصر دون أن يؤثّر كل ذلك , ولو بمقدار حبة الخردل , على صحبتها لوالديها , وتمنت الآن وهي تواجه السيد شريدان , أن لا يؤثر تأففها وتبرمها منه على شعورها بذاك السرور المقرون بعطف والديها قبل رحيلها الى لندن , والتمتع برؤيتهما يتبادلان العواطف الزوجية المبنية على أسس لا يرقى الشك الى تفاوتها وأصالتها ومصداقيتها , وزاد في سرورها مشاهدة التغييرات الكثيرة التي طرأت على البلدة أثناء غيابها.
لا شك أن الآنسة كيت سافرت للعمل في لندن بموافقة ورضى والديها , وبدون أن يراودهما أي شعور بالقلق عليها , وذلك نظرا لوجود عمتها ريتا هناك , المعروفة بمحبتها لها وأندفاعها لمساعدتها كلّما كانت بحاجة للمساعدة.
ولئن عادت الآنسة كيت الى المنزل العائلي الآن , نزولا عند رغبة والدتها الذاهبة الى أنكلترا لأجراء عملية جراحية لعينيها. فإن من السابق لأوانه القول ما إذا كانت الأواصر العائلية الحميمة , خاصة بين كيت ووالدتها , قد طرأ عليها أي تغيير بسبب الفترة الطويلة التي عاشتها كيت في لندن بعيدا عن العائلة , ذلك كان ما يشغل بال كيت ويدفعها لأختباره خلال الثلاثة شهور التي ستمكثها هنا أثناء غياب الوالدة , للأهتمام بشؤون البيت وتوفير الراحة لوالدها , والحقيقة أن قلقها كان في محله , إذ سبق لوالدتها أن عبّرت في رسالتيها من ظنون حول أمكانية أنجرافها مع تيار الحياة في تلك الديار البعيدة , ومدى أنغماسها في عالم اللهو والصخب.
ولعل موافقة كيت للعودة الى منزل والديها , بدون أي تردد أو تذمر , ورفضها عرضين هامين ومغريين للعمل قبل مغادرتها لندن ببضعة أيام , من شأنهما أن يبددا كافة الظنون التي تدور في مخيلة والديها حول تصرفاتها الشخصية هناك , ما يهمها الآن هو أن تقوم بواجباتها نحو والدها , وتبعد عنه شبح الوحدة والوحشة أثناء غياب والدتها عن البيت , وحسبها أن ما ستفعله لأجله , ناهيك عن وجودها شخصيا معه وبجانبه , سيكون من شأنه إزاحة الهموم عن كاهل والدتها , وتخفيف حدة المخاوف التي تراودها بشأن والدها الحبيب , رغما عن أنف السيد شريدان.