هنا سطعت البهجة من عينيها إذ إستيقظت في خيالها ذكريات الطفولة , أيام كانت تذهب الى شاطىء الأحلام برفقة والدها لتسبح وتحيط في الماء ,وتسرح وتمرح فوق رماله الناعمة , وهي ذكريات لا أمتع ولا أروع في نفسها , كانت تتردد في إعطاء قرارها بالموافقة أو عدم الموافقة على الاشتراك في الرحلة الوشيكة خشية أن تطغى بعض المفاجآت والمغامرات العاطفية هناك على الذكريات الممتعة البريئة التي ما زالت تحملها في أعماقها ,وما لبثت حتى إستجابت لسؤاله بالقول :
" أتمنى ألا اشترك في رحلات من هذا النوع .... رحلات ستكون ولا شك حافلة بالمغامرات التي لا تحقق لأصحابها إلا مزيدا من الأوهام".
وقاطعها والدها ليقول بلطف وهدوء:
" كل شيء باق على حاله , يا كيت , البحيرة ما زالت تحافظ على جمالها الطبيعي , إذ أن موقع نادي لسباحة الجديد لم يؤثر عليه بشيء".
" ما قصدت ذلك".
وتنهدت بعمق ثم أردفت قائلة:
" الأمور , كل الأمور ,تبدو مختلفة كليا الآن ".
" من الطبيعي أن تختلف , كل الأمور تبدو دائما مختلفة بالنسبة الى عمر الأنسان ,ولكن هذا لا يعني حرمان هذا الأنسان أوذاك من الشعور بمتعة متساوية , بطريقة أو بأخرى".
" لا , لا أظن انني سأشعر بالمتعة ذاتها التي كانت تراودني يوم أسبح على الشاطىء القديم , لن انسى جماله الطبيعي الساحر , ولا المتعة التي كانت تغمرني وانا اقفز واركض على إمتداده وأتصور نفسي الطفلة الوحيدة في العالم , هل تذكر تلك العاصفة التي هبّت فجأة ذات يوم وأرغمتنا على اللجوء الى بيت جدرانه الخارجية مرصوفة بأصداف البحر هربا من شرّها وطغيانها ؟ حدثني عنه يا أبتي! وعن تلك الفيللا البيضاء كالثلج".
فهز رأسه وهو يفكر ويتأملها بدهشة , ثم ردّ عليها قائلا:
" البيت موجود ولكنه مهجور , لقد هجره الدكتور ليم بعد وفاة زوجته ,الأعشاب تغطيه من كل صوب ,أصداف اللؤلؤ المتنوعة الأشكال والالوان وجمعتها فيكتوريا زوجة احد المزارعين ,وألصقتها على الجدران واحدة واحدة ........ تصوري ! يومذاك , كان عمرك ست سنوات , ومع ذلك كنت تطمعين في منزل الدكتور ليم ,طيّب الله ذكراه كم كان يداعبك ويلاطفك..... هل تذكرين ؟".
فردت وهي تبتسم له إبتسامة عريضة:
" وهل يمكن ان أنسى مثل هذه الذكريات الحلوة ! تنساني يميني إذا نسيتني , يا اعز والد في الوجود , ولكن أرجوك ألا تحكي لأحد شيئا عن ذكرياتي هذه حرصا على حلاوتها وطرافتها ,مفهوم!".
وصمتت وهي تتأمله وتهز رأسها بدلال , ثم سألته:
" هل تعتقد أنني سأشعر بنفس السعادة التي كانت تراودني وأنا أسرح وأمرح على شاطىء النادي القديم عندما كنت طفلة ,بعد التغييرات التي طرأت على الزمان والمكان؟".
" ولم لا ! لست أدري ما يحول بينك وبين شعورك بالسعادة اليوم........".
"هل أنت متأكد , يا أبتاه؟".
" طبعا ,طبعا , إذ أن السعادة لا تقاس بمقياس الزمان والمكان... وإنما هو شعور نابع من مصادر شتى لا حدود لها ".
" بما في ذلك التفرج على الزواج والعشاق يتبادلون النظرات الحالمة وأحاديث الغزل ,على مرأى من أنظار الكبار والصغار ؟كلا , يا والدي , لا يمكن إعتبار مثل هذه المشاهد المخزية مصدرا للسعادة , أنا لا أريد الذهاب لتمضية عطلة نهاية الأسبوع هناك لأنني لست في وارد مشاركة احد من الرجال , لا والت ,ولا شريدان , ولا من يحزنون , حياته الصاخبة و وأرجوك يا والدي أن تفهمني".
تأملها طويلا وهو يبتسم ويلاطفها لتهدئة أعصابها قبل أن يرد عليها بقوله:
" جاء دوري انا لأسألك عما يشغل بالك ,ما بك ثائرة على الرجال ؟ وما الذي يقلقك ؟ أخبريني ولا تخفي عني شيئا و يا كيت و أنت أغلى وأسمى ما عندي في هذه الدنيا , ما الذي غيّرك من حال إلى حال؟".
" لا شيء , أنا لم اتغيّر ابدا و.........".
فقاطعها ليقول :
" بل تغيّرت بعد الذي حصل بينك وبين كين , واأسفاه على فتاة واعية وعاقلة مثلك ترزح تحت وطأة حادث بسيط ,وإن كان مؤسفا يجعلها تحتقر جميع اصناف الرجال وتنفر منهم , إذا كنت لم تنسجمي مع السيد والت فهذا لا يعني نهاية الرجال أو نهاية العالم و كما لا يليق بك أن تظلي ترفضين الدعوات التي تأتيك من هنا وهناك , برضاي عليك يا عزيزتي , عودي إلى سيرتك السابقة وكفي عن الظهور بمظهر المتكبرة والمتغطرسة ,هكذا أصبح الناس يتحدثون عنك كلما خطرت ببالهم".
" هذا ليس صحيحا ,كلا , انا لست متكبرة , فانا ارفض هذه الدعوة أو تلك لأن من حقي أن أرفض كل دعوة أراها غير مرغوبة".
" وما رأيك بعزلة نفسك عن العالم ! وماذا يهم إذا صدف وخان أحد الرجال العهد , أو قلب لك ظهر المجن , أو طعنك في الظهر ! ومع ذلك ,فهذا لا يعني أنك بريئة مما جرى لك حتى الان , قد تكونين شريكة في ما جرى , من يدري!".
وكان هذا الكلام بمثابة صدمة أصابتها في الصميم , ربما لأن والدها فاجأها بكشف جميع الأوراق التي يحملها في جعبته ووضعها أمامها على الطاولة ,لكنها كتمت شعورها بالصدمة وظلت محافظة على أعصابها ووردت عليه بلطف ونعومة:
" لم أكن أتصور أبدا أن رسائلي تركت لديك كل هذا الأنطباع عن مدى تأثير كين علي , صدقني يا أبي انني على عكس ما تراني".
" أنت إبنتي ,وهل يعقل ان لا يعرف الأب إبنته على حقيقتها ! الحقيقة أن توقفك عن عدم ذكر إسم كين جعلني اعتقد بأن الأمور ليست على ما يرام بينكما , ولكنني لم أفاتح أحدا بهذا الموضوع , وأهم من ذلك , صارت رسائلك اللاحقة ترد إلينا خالية من أي ذكر للجنس الخشن ,وإنما لم يخطر ببالي انك اصبحت متشائمة الى مثل هذا الحد إلا بعد عودتك الى البيت , بصراحة ,هذا كل ما عندي".
وبما أنه لم يسبق للانسة كيت أن إشتركت في حديث طويل وشامل كهذا , وما تخلّله من كشف للحقائق تارة , وتبسيط للأمور طورا , فقد إعتصمت بحبل الصمت إتجاه ما سمعته يجري اخيرا على لسان والدها ,وهي تفكر وتفكر إلى أن إنتهت الى القول:
" صدقني يا ابي , إنني لم اتغير بقدر ما تتصور , ولا أنا متحجرة ولا متقوقعة على نفسي , كل ما في الأمر انني أحاول حماية نفسي من هذا الحديث المجنون كما يجدر بكل فتاة أن تفعل هذه الأيام و المهم , كان الحديث شيّقا وممتعا لأنه كان يدور عليك.....".
وقاطعها قائلا:
" وعلى عطلة نهاية الأسبوع أيضا".
ثم هبّ واقفا وصار يتمطّى ويتثاءب ,ويطبطب على خدها بنعومة , دون أن يعاتبها او يلومها ولو بكلمة واحدة , إلى ان خاطبها وهو يبتسم :
" لا تيأسي , يا عزيزتي , لا بد للحظ ان يطرق باب قلبك مرة ثانية في يوم من الأيام ".
وهكذا إنتهى نقاشهما بسلام , فذهب كل منهما في طريقه إلى غرفة نومه , يراودهما الأمل برؤية حلم جميل.