ـ لا تناديني هكذا .
ـ أناديك كما يحلو لي . أنا الرجل المسلح هنا , أنسيت ؟
ارتجفت جو . وشعر بذلك من خلال ثيابها, وخطر له مرة أخرى أنه
لو كانت الظروف مختلفة , لَوَجد في جو لوكاس المرأة التي تروقه :
ممشوقة القوام, واضحة الخطوط , أما بالنسبة للوجه , فهو على
الأرجح ليس جذاباً جداً للوهلة الأولى , ولكن إذا ما نظرت إليه بإمعان
أكثر , استحوذ على اهتمامك . فبشرتها ناعمة بيضاء , أما حاجباها
وأهدابها فأكثر دُكنة من شعرها , تحيط بعينيها الرماديتين بشكل رائع .
أنفها مستقيم وفمها مغرٍ للغاية ...
جمالها كان طبيعيـاً . لا أثر لأي تبرج أو طلاء أظافر على الإطلاق .
ولكنه تساءل في سره : ماذا أفهم من كل هذا ؟ أنها امرأة عملية جادة وفي
الوقت ذاته رائعة على طريقتها الخاصة ؟
عض على شفته وأوقف حركتها المفاجئة التي قامت بها لتحرر نفسها
من قبضته . ومجدداً تشابكت نظراتهما , فابتسم في داخله للكبرياء التي
ظهرت في عينيها الرماديتين , للنظرة القائلة بأنها تكره كل لحظة تبقى
فيها محتجزة بين ذراعيه , رغماً عنها .
لو كانت النظرات تقتل , لكان ميتاً الآن لا محال . وتساءل كيف
عساها تتصرف لو حاول أحد التقرب منها أكثر ...
أوقف أفكاره الجانحة عند هذا الحد , رافعاً حاجبيه , فطرقت بعينيها
حائرة وكأنها تحاول أن تقرأ ما يجول في فكره , ولكن من دون
جدوى . أما هو فحاول مجدداً توجيه أفكاره في ناحية مهنية , فوجد نفسه
يتكهن عن سبب تورطها في هذا الوضع الجهنمي .
لعلها عشيقة أحدهم وقد قادها شغفها إلى هنا . ربما ... ولكن لا ,
لا يبدو الأمر كذلك . كما أنها لا تبدو من النوع الذي يُرتشى , يصعب
معرفة ذلك سيما مع النساء . ولكن من عساها تكون ؟ ما تراه أتى بها إلى
هنا ؟ الضغينة ؟ ولكن ماذا لديها ضده ؟ ضغينة ضد المجتمع أو ...
عندئذ , توقف ليسأل نفسه إن كان هناك خطأ ما .
ولكن ماذا عن كل تلك المصادفات ؟ كثيرة منها قابلة للتصديق ,
ولكن من جهة أخرى , لم يظهر معها أي أداة مشبوهة , أو أي جهاز
إطلاقاً , ما خلا هاتفها العديم الجدوى , ولكن كل هذا لا يمنع من أن
هذه المرأة كانت تقود سيارة الدعم , أليس كذلك ؟ وهو لا يستطيع
المخاطرة على أي حال .
أفلتها فجأة . فقالت بهدوء : (( خطرت لي فكرة . أثناء احتجازك لي
كرهينة قد يكون جو الحقيقي , إذا كان له وجود حقاً , في طريقه الآن إلى
المزرعة )) .
ضاقت عيناه مجدداً : (( الوقت كفيل بإظهار ذلك )).
ـ من أنت ؟
خرجت الكلمات منها عن غير قصد , فعضت شفتها . ولكن بما
أنها قالتها , قررت أن تتابع : (( قل لي على الأقل ما الذي يجري. من حقي
كرهينة أن أعرف في ما أنا متورطة )) .
توالت تعابير مختلفة في عينيه , وإن لم تكن مخطئة , فقد لاحظت طيف
ارتباك سرعان ما حلت مكانه وقاحة ظاهرة . فكرر بعدها : (( ما أنتِ
متورطة فيه , مشكلة من صنع يديك جو . والآن , لا أعرف ماذا بشأنك
ولكن أنا سأتناول الفاصوليا والبسكويت )).
* * *
بعد ذلك بساعتين , كان الكوخ غارقاً في السكون والظلام . فبعد أن
تناولت جو ملعقتين من الفاصولياء وقضت حاجتها في الحمام الملحق
بالكوخ, بـمراقبة مشددة من خاطفها , وقف كلاهما في الخارج لبعض
الوقت صامتين, محاولين أن يستشفا أي علامة حياة في عتمة الليل
الحالك البارد, ولكن عبــثاً حاولا .
وكانت تلك الفرصة لجو لتدرس أي إمكانية للهرب, إلا أنه لم يفارقها
لحظة ورافقها إلى الداخل , آمراً إياها بالخلود إلى النوم .
كان السريران ملتصقين بالجدار , مشكلـين زاوية مستقيمة , ولم تكن
هناك أي ملاءة تغطيهما . نزعت سترتها وحذاءها واستعدت للتمدد
ولكنه أوقفها فجأة آمراً إياها : (( ارتدي ثياب النوم )).
ـ لماذا ؟
ـ لأنك ستأوين إلى السرير .
أشارت معترضة : (( وهل تسمي هذا سريراً ؟ )).
ـ هذا هو الموجود .
ـ ربما , ولكنني سأشعر بحال أفضل إذا ما نمت بثيابي . قد يكون
هناك ذباب ... حشرات ... أي شيء .
ـ لا يهمني جو . سترتدين البيجاما . سأحضرها لك .
وأمسك بحقيبتها . إلا أنها اعترضت , واضعة يديها على وركيها :
(( لا ... مهلاً ! إذا كنت تظن بأنني هنا لأقدم لك عرضاً ؟ إذا كنت
تريدني أن أرتدي البيجاما لهذا السبب , فأنت مخطئ تماماً ! )) .
رفع حاجبيه وتفحصها من رأسها إلى أخمص قدميها . فبدت له مثيرة
وهي تضع يديها على وسطها بهذا الشكل .
قال بنعومة وهو يتأمل صدرها وخصرها النحيل : (( يا لها من فكرة
مغرية ! ولكن لسوء الحظ أن هذا لم يكن ما أفكر فيه , فقد كنت أنوي
الخروج بينما تغيرين ثيابك )) .
حدقت به حائرة : (( إذاً .. لماذا .. ماذا .. ؟ )) .
ـ الأمر بسيط عزيزتي . لا يُحتمل أن تهربي وتجولي في الريف بثياب
النوم إذا ما خطرت لك فكرة جهنمية تحثك على الفرار , ناهيك عن أنك
ستتجمدين من البرد .
وأطلق ضحكة شريرة قبل أن يضيف : (( لا تتأخري , فأنا أيضاً لا
أنوي أن أتجمد في الخارج )) .
ثم خرج .
شدت جو فكيها وأطلقت كل شتيمة خطرت على بالها , ولكن لم
يكن أمامها حل آخر سوى تغيير ثيابها وارتداء البيجاما التي أحضرتها .
ناداها من الخارج : (( هل انتهيتِ )) .
ـ أجل .
ـ جاهزة ومجنونة .
قال ذلك وهو يدخل ويقفل الباب خلفه . ثم تفحصها من الرأس إلى
أخـمص القدمين .
نظرت جو إلى بيجامتها القطنية البيضاء , ثم رفعت نظرها إلى وجهه :
(( سأنتقم منك ذات يوم , ولو كان ذلك آخر يوم في حياتي )) .
ـ هذا مثير للاهتمام , والآن هيا إلى السرير , جو .
ـ ماذا .. ماذا ستفعل ؟
ـ أنتظر وأراقب . هل من أمر آخــر ؟
ـ إذا تجرأت واقتربت من سريري ...
ولكنه قاطعها بسرعة : (( في الواقع لا أحب الاغتصاب , أياً يكن
رأيك بي . أُفضل أن تكون عشيقاتي دافئات راغبات .. علماً أن بعض
العدائية مثير أحياناً )).
أجابت من بين أسنانها: (( أنت مقرف )).
ضحك عالياً وهو يقول : (( هناك جمهور من النساء يخالفك الرأي )) .
ـ أتصور ذلك . عشيقات اللصوص , لا شك .
علق بتعبير بارد : (( ما من واحدة منهن كانت بارعة مثلك في
التمثيل , عزيزتي )) .
واستدار ليلتقط سترتها وحذاءها وحقيبة ملابسها ويرميها إلى
العلية .
كانت جو على وشك أن تصرخ لشدة الإحباط ولكنها حافظت على
رباطة جأشها وتمددت على السرير بهدوء , ورفعت الغطاء إلى رأسها .
كان النوم طبعاً أبعد ما يكون عن تفكيرها , مع أنها أغمضت عينيها
عدة مرات بينما كانت نار الموقد تخمد شيئاً فشيئاً . وكان خاطفها قد
استند إلى الخلف في كرسيه , واضعاً سلاحه على ركبتيه .
أخذت جو تفكر في أنها لو تظاهرت بالنوم, لربما نسي أمرها وغط
في النوم . ولكن ماذا ستفعل لو تمكنت من الخروج من الكوخ ؟ مفاتيح
سيارتها في جيبه وحذاؤها ليس في متناول يدها . وكما توقع تماماً , لم
تكن فكرة الهروب بثياب النوم وحافية القدمين مغرية جداً إلا لداء الرئة
والبـــــرد .
ولكنها أعادت التفكير في الأمر : ربما أستطيع الاختباء . يبدو أنه
ليس لديه أي شعلة . وربما أستطيع أن آخذ الغطاء معي .
فتحت عينيها وحدقت بالباب وسط الظلام , لم يكن هناك أي قفل
إنما مزلاج من الداخل و ... أخذ قلبها يخفق بسرعة أكبر وهي تتذكر أن
هناك مزلاجاً من الخارج أيضاً . كم سيكون رائعاً لو تمكنت من التسلل
نحو الخارج واحتجازه من الداخل !
أخذت نفساً عميقاً تستجمع به نفسها وتتحرك قليلاً . أصدر السرير
صوتاً خفيفاً , ولكن الرجل لم يحرك ساكناً .
لقد نفدت بجلـدها , ولكنها قررت أن تنتظر قليلاً , حبذا لو كان نومه
ثقيلاً ! بعد عشر دقائق , جلست بحذر وانتظرت. لم تصدر أي حركة عن
الكرسي , فنهضت من السرير وأجفلت للصرير الذي أصدره . مع
ذلك , بقي الرجل نائماً من دون حراك . وقفت بهدوء محاولة الاعتياد
على الظلمة فالنار قد أخمدت تقريباً في الموقد .
كان السلاح لا يزال في حضنه , فتمكنها رغبة عارمة : ليس عليها
سوى الاقتراب والإمساك به ... ولكن لم يكن لديها فكرة على الأسلحة
إطلاقاً . إلا أن الأمر سهل ! أي كان يستطيع الضغط على الزناد . ليس
بالضرورة عليه هو , ولكن لو علم أنها مستعدة لإطلاق النار , لكان
ذلك كـــافياً .
تحرك قليلاً فتسمرت مكانها . ولكن ما فعله كان أنه استدار في مكانه
قليلاً ووضع يده على السلاح, متمتماً بعض الكلمات غير المفهومة قبل
أن يغط في النوم مجدداً .
بارحت جو مكانها, واهنة من الخوف وقررت ألا تلمس السلاح ,
خشية أن تؤذي نفسها .
تناولت الغطاء عن السرير , واتجهت نحو الباب على رؤوس
أصابعها , محاولة فتح المزلاج بحذر بالغ .
ـ محاولة جيدة عزيزتي .
كاد تقفز من مكانها , واستدارت لتجده واقفاً خلفها , موجهاً
سلاحه إليها . كيف وصل إلى هناك من دون أن يصدر أي صوت ؟
سألته متلعثمة : (( ما .. ما الذي أيقظك ؟ )).
ثم نظر إليها بسخرية : (( هل كنت تأمين النجاة بفعلتك , جو ؟ )).
هزت كتفيها : (( لست أدري ولكن لم يكن باستطاعتي أن أبقى هكذا
مكتوفة اليدين وتقبل القدر أو ما شابه ! )) .
حدق بها فرأى النبض يتسارع عند أسف حنجرتها وعينيها متسعتين
ذعراً .. وعناداً .
أطلق تنهيدة داخلية وأخفض سلاحه . عليه أن يقر بأن هذه المرأة
تثير إعجابه , فلا بد للمرء أن يكون شجاعاً ليحاول الفرار في مكان
مجهول وليلة باردة , من دون حذاء أو ثيــاب .
ولكن لا يمكنه أن يخاطر ويصدقها , مهما بدت له شجاعة .
استدار ليضع مزيداً من الحطب في النار ثم وقف وأخذ يفكر .لم
يعرف ما الذي أيقظه , ولكن ما يعرفه هو أنه لم ينم لحظة خلال
الساعـــات الأربع والعشرين الماضية , وبدأ يتوق للنوم .
ـ حسناً , إليك ما سنفعله .
دفع سريرها والصقه بالسرير الآخر , وأشار إليها قائلاً : (( اصعدي
إلى ذلك السرير لجهة الحائط , وأنا سأنام في هذا )).
فتحت فمها لتعترض , ولكنه أحبط محاولتها قائلاً : (( جو , لن
أتعرض لك جسدياَ . لكنني أحذرك بأن الطريقة الوحيدة للفرار تحتم
عليك المرور من فوقي وأؤكد لك أنك لن تجديني عندئذٍ في مزاج
متساهل . والآن هلا صعدت إلى السرير ؟ )).
ترددت قليلاً ثم فعلت ما أمرها به وتمددت , وجهها إلى الحائط .
غطاها ثم تمدد بدوره إلى السرير الآخر .
كان محقاً , كما أدركت. هي محتجزة تماماً ولا سبيل لها للفرار .
تنهدت وتململت قليلاً مكانها , محاولة إيجاد وضعية مريحة . فقال لها
صوت ناعس من الخلف : (( أعتذر فقط عن السرير . وسيفرحك أن
تسمعي , لو كنتِ فعلاً جوان لوكاس الرسامة , أن الأسرة في المزرعة
أكثر راحة بكثـــير )).
ـ وما أدراك أنت ؟
ـ لقـد نمت هناك .
عبست جو و سألته : (( من هؤلاء الأشخاص الذين تظنني أنتمي
إليهم ؟ ولماذا تهرب منهم ؟ )).
ـ إنهم خاطفون , كما لو أنك لا تعلمين .
نزعت الغطاء عنها وجلست : (( هذا سخيف ! لِمَ يرغب أحد , سواي
طبعاً , باختطافـك ؟ )) .
ـ بسبب خطاياي , يصادف أنني غافن هاستينغ الرابع .
نهاية الفصل ( الأول ) ...