المنتدى :
المنتدى العام
فى مشرحة زينهم
لم أعلم فى أى أقسام المنتدى يفترض بى انزال الموضوع
ولا ماهو المطلوب تحديدا او فائدة انزاله
وأكيدا انها ليست رغبة مريضه فى إثارة الحزن لدى أعضاء المنتدى
حقا لا أعلم فلا تسألونى
كل ما أعلمه حقا هى رغبة صادقه وقويه هاجمتنى لنشر الموضوع فى جميع المواقع التى ارتادها بمجرد قراءته فهو منقول ولم اكتبه برغم علمى بكل مافيه ليس هناك جديد ولكن مواجهة الحقائق تؤلم اشد من معرفتها فى كثير من الاحيان
شعرت بهذه الرغبه كصرخة حبيسة تود ان تعلن عن نفسها بعد كبت وضغط
سامحونى اذا كان موضوعى ليس مكانه هاهنا
واعذرونى اذا كان موضوعى محزن ولا يعنى الكثير
ولكن تحملونى كأخوة فقط هذا ما أطلب
فى الطريق الى ميدان التحرير ، ادرت مذياع السيارة للاستماع الى القرآن لعله يزيح بعضا من كرب اللحظة ، حزن ثقيل جاثم على النفس ، تكاد تحس بثقله فوق ظهرك ، خمسة و ثلاثون شهيدا يقتلون بدم بارد فى يومين ، على أيدى الشرطة و الجيش المصريين ، كانت اول آية بصوت الشيخ مشالى "ربنا عليك توكلنا و اليك أنبنا و اليك المصير" ، لم أستطع ان أتمالك أعصابى ، انفجرت فى البكاء و مقود السيارة فى يداى ، و تحول البكاء الى نواح ، حزن ثلاثة ايام من أخبار سفك دم البشر فى الشوارع خرج و انفجر فى لحظة.
قررت الذهاب الى مشرحة زينهم بعد علمى بازدحام التحرير، و الحاجة للجموع عند المشرحة للتضامن مع أهالى الشهداء ضد ضغط أجهزة الأمن ، و الرغبة العتيدة فى تزوير تقارير الدفن ، لم أتردد ، لاقت الدعوة هوى فى نفسى ، كنت أود الاقتراب من هؤلاء الشهداء و من موتهم ، كنت أود ان أعرفهم أكثر، يقتلنى تأنيب الضمير لانهم ضحوا و ماتوا من أجلنا نحن ، نحن الأحياء.
عند مدخل المشرحة اللون الاسود فى كل مكان، و رائحة الموت فى الهواء ، على عكس ماتوقعت ، لم اجد نواحا أو صريخا ، دائما ما تعجبت من هذا الثبات و الصبر الذى يلهمه الله لأهل الفقيد ، فى صبرهم و قبولهم لقضاء الله ، يصطف أهالى الشهداء حول مدخل المشرحة ، ينتظرون وكيل النيابة لمعاينة الجثامين كى يصرح لهم بدفن اولادهم ، لماذا كل اهالى الشهداء فقراء؟ تذكرت مقال علاء سيف المسجون حاليا لأنه لم يعترف بالتحقيق أمام النيابة العسكرية ، هل لأن الفقراء هم من تصدّروا المعارك فى هذه الثورة؟ الواقع ان هؤلاء هم من رفعوا الثورة المصرية و كانوا قوة الدفع لها ، شباب الأحياء الشعبية هم من تصدوا يوم الغضب ويوم الجمل ، هم من أمّنوا الميدان ، و هم من لا يزالون يسقطون حتى الآن فى محمد محمود ، تذكرت حكاية الرجل الفقير الذى همس فى اذن متظاهرة على خط المواجهة "بلاش انتى يا بنتى ، شكلك بنت ناس و متعلمة، سيبونا احنا نموت عشان تبنوا البلد انتو بعدين" ، عن الشباب يوم موقعة الجمل الذين كانوا يختارون من يبدو عليهم الرخاء كى يدخلوهم عمر مكرم لحمايتهم بينما هم يتولون المواجهة ، هؤلاء هم الملقبون بالبلطجية الآن ، هم من يحاكمون أمام المحاكم العسكرية لأتفه الأسباب ، هؤلاء هم من يقال عنهم "ده شكل واحد عايز حرية؟"، "فين شباب 25 الطاهر؟" "شوية عيال كده شكلهم صيع ولا ليهم فى السياسة و لا بتاع" ، تذكرت قائد الألتراس الذى رأيته فى الميدان فى اليوم السابق ، كانوا يهتفون فى حب مصر "مصر يا أم، ولادك أهم، يفدوكى بالروح و الدم" ، كان القائد بكل حماس ينظم هتاف الجموع بين الاجنحة اليسرى و اليمنى ، نفس الملامح ، البشرة السمراء ، الوجه الشاحب من ضعف الغذاء ، النحافة ، الشعر اللامع جراء دهنه بالصابون ، الملابس البسيطة ، تعجبت كيف يقود بهذا الحماس و كثير منا يملك انطباعا عن هذا الشباب بانه صايع و مبرشم! قد يكون حقا "مبرشم" و قد يكون فعلا "صايع" ، هذه مفردات الحياة فى الأحياء الشعبية ، مقومات البقاء ، و نتاج البطالة و الفقر، لكنه يحب هذا البلد ، و لا أعلم لماذا ، ماذا أعطته كى يحبها كل هذا الحب ، أعطاها التضحية و الهتاف ، و أعطته هى لقب "بلطجى" ، اتساءل الآن اذا كان هذا الشاب على قيد الحياة ، ام يحتل درجا من الأدراج.
الحيرة بجانب الحزن هى سيد المكان ، نسوة تتشحن بالسواد ، بعضهن يستندن على الحائط يبكين فى صمت ، رجال يتكلمون عن الرصاص الحى الذى وجدوه فى أجساد ذويهم ، كلام عن أنهم "بصّموا" الجثامين لاختلاق صحيفة سوابق لهم و الادعاء بأنهم بلطجية ، كلام عن أن الثلاجات مليئة على آخرها ، و أن موظف المشرحة يدعى أن عدد الجثامين ستة و عشرون فقط ، بينما هناك آخرون ملقون على ارض المشرحة ، عن التقارير ذات الأسامى الخاطئة عن عمد لتضليل النيابة ، عن الجثمان الذى ذهب و عاد أربع مرات بين المشرحة و المستشفى لأن التقرير يحتوى الاسم الخطأ ، عن الأربع ساعات التى مضت ولم يأت وكيل النيابة ، عن الثلاجات المعطلة والجثامين التى بدأت فى التحلل ، مضى على مصرعهم يومان ، ولا زالوا ينتظرون تكريمهم الذى لم ينالوه فى حياتهم ، ولن ينالوه بعد موتهم ، فقط يكرمون بدفنهم.
بجانب كل هذا كان هناك الآخرون الأيسر حالا ، اما ناشطون اتوا لمساندة اهالى الشهداء او صحفيون أتوا لتوثيق ما يحدث ، يوقظك من كل هذا قدوم سيارة نقل الموتى ، تنقل شهيدا جديدا من الميدان ، يخرجون الصندوق من السيارة ، سرحت وأنا أشاهد الصندوق و هو يسحب من خلف العربة البيضاء ، كل شيء انتهى ، بكل سهولة ، قرر نقيب او ملازم فى الجيش او الشرطة انهاء حياة هذا الشاب الذى لا اعرفه ، قرروا قتله بالخرطوش او الرصاص الحى ، قرروا تطبيق حكم الاعدام الذى اصدروه عليه فى الشارع ، بدم بارد، راحت كل الاحلام، لم يعد لكل مقتنيات الشهيد اى معنى ، سيظل والده ينظر الى غرفته طوال السنين القادمة، هل سيكون قد اقتص من قاتله؟ ، لم يعد لتلك الملابس فى الدولاب اى استخدام ، لقد ذهب ، لم يعد لدفتر التوفير ذو الرصيد البسيط أى معنى ، كان يريد ان يساعده فى شراء الشبكة عند زواجه ، ابنه ذوالتسعة عشر حلما ذهب ، لأنه كان يريد ان يعيش حلمه الأكبر ، ببلد يستطيع ان يشعر فيه بكبريائه ، مثله مثل الغنى ، أن يمشى رافعا رأسه لا يهاب شرطة أو جيش ، تذكرت الفيديو الخاص بقنص عيون المتظاهرين ، يظهر فيه الضابط الصغير و كأنه ذو مرض نفسى ، بكل تركيز يخترق صفوف العساكر، يوجه البندقية ، و يظلم الى الأبد عين شاب يطالب بحريته ، يعود الى الصفوف الخلفية بكل تركيز، بعد ان أدى مهمته ، و بعد ان تلقى التهنئة من زميله على تسديده ، تذكرت كل فيديوهات الثورة التى ظهر فيها اصطياد المتظاهرين كالعصافير، كأنها هواية صيد الارواح ، تذكرت عشرة شهور مرت ، و لم يعاقب اى من هؤلاء ، تذكرت عشر شهور مرت و لم نجد ايا من القناصة ، ياااااه اد كده البنى آدم رخيص فى بلدنا ، و يا سلام لو كان غلبان.
استيقظت من أفكارى على صوت سيارة الاسعاف و هى تأتى بشهيد آخر ، كان أهله و اصدقاؤه يعلمون بقدومه و فى انتظاره ، بعد خروج الجثمان بثوان سمعت صوت بكاء خفيض ، وجدت شابا فى نفس عمر الشهداء ، واقفا يبكى فى حالة انهيار، بجانبه صديقه يحاول ان يعزيه ويهدىء من روعه ، سألتهم "انتوا اصحابه؟"، رد على بالايجاب ، بينما الآخر مستمر فى البكاء ، حاولت مواساته “خلاص يا عم ، احمد ربنا انه مات شهيد، العمر لا بيطول و لا بيقصر، مش احسن من لو كان مات فى حادثة عربية؟" ، يرد على بهز رأسه بينما يستمر فى البكاء ، حاولت ان اربت على ظهره ، هو ليس معنا ، هو مستمر فى البكاء ، بعد مرور بضع دقائق ، قال و هو يبكى "انا كنت شايفه امبارح و انا رايح النادى..."
تذكرتنى و انا فى مثل هذا الموقف منذ ثمان سنوات ، كان صديق لنا قد توفى من السرطان فور تخرجنا ، وقت الآمال و الطموحات والأحلام ، دخلت فى موجة انهيار عصبى و بكاء مباشرة بعد دفنه ، كانوا يواسوننى مثلما أواسى أنا الآن هذا الشاب المكلوم ، المرض هو من أخذ صديقى ، لكنها الآن يد الغدر و الطغيان ، لا نستطيع أن نقتص من المرض، لكن هؤلاء سيحاسبوا...سيحاسبوا.
لم استطع ان افعل شيئا للشاب المكلوم ، تركته مع صديقه باحثا عن زملائى ، او عن زميلاتى اللاتى لم يترددن فى القدوم الى المشرحة للوقوف بجانب الضحايا ( مين قال ان ستات مصر أجدع من رجالتها؟) ، وجدت الأهالى ينظرون الينا ، يظنونا صحفيين ، "مش انتوا صحفيين ، ادخلوا صوّروا عشان تعرّفوا كل الناس باللى حصل ، باولادنا اللى اتقتلوا بالرصاص الحى ، التليفزيون اللى بيقول عليهم بلطجية ، مش عايزين حقهم يضيع" ، وقعت فى حيرة من امرى ، هم يرون فينا منقذين لهم ، فقط لبشرتنا الصافية و ملابسنا المهندمة، يعلمون مثلما نعلم جميعا أن الفقير فى هذا البلد حقه لا ينظر اليه ، وكلما ارتقيت بين الناس كلما استطعت الحصول على بعض من حقك ، غير ذلك ، تسحق قى آلة الطغيان المصرية العتيدة ، قلت هامسا "أنا مش صحفى" ، ردّ على الرجل "امال جايين تعملوا ايه؟" ، "نقف مع الناس و نساعدهم" ، احتار الرجل ، و قتها و جدت الصحفية و قد دخلت معهم ودخلنا وراءهم جميعا تحت ضغط الناس ، الذين يرون فينا أمل الحصول على حق ابنائهم ، دخلنا المشرحة ، دخلنا غرفة ادراج الموتى.
أخيرا نفذ الصبر ، وجدت رجلا ملتحيا واقفا امام ثلاجة ابنه ، يصرخ فى توتر و يرفض التصوير ، طمأنته باننا سنصور فقط من يريد ، والد آخر خرج من صبره و احتماله ، انفجر، انفجر الشيخ ذو الجلبية و الشال “تعالوا صوّروا ، تعالوووا ، قتلوا ابنى ، قتلوه بالطلق الروسى ، كلنا عارفينه ، افتح ، انا عايز كله يعرف القتالين ولاد الكلب” ، و بدأ فى اللطم على وجهه ، اخترقت الصحفية و المصورة الجموع الى درج الجثمان ، ثوان و عدن باكيات العيون ، انطلقوا جميعا الى خارج المشرحة ، ذهبت ورائهم كى اخبرهم انى مستعد للتصوير ان كانوا لا يقدرون على الاستمرار ، الحقيقة انى كنت اود ان أراهم ، كنت أود ان أرى الشباب النضر، أردت ان أرى من يلاحقونى فى يقظتى و منامى ، لكن الله لم يرد ذلك ، كانوا قد اكتفوا بما صوروه ، دقائق و اندلعت مشاجرة بين شاب يرفض تصوير والده (هناك كبار السن ايضا من شهداء التحرير) و الباقين الذين يودون فى استمراره ، لم يكن هناك أى سبب للشجار ، لكن التوتر و ضغط الموقف جعل الناس يخرجون كبتهم فى بعضهم ، مثلما يحدث بيننا جميعا كل يوم.
قابلت زميلتى و قد دخلت الثلاجة المجاورة، اخبرتنى ان الثلاجة معطلة و ان الجثامين كلها لشباب صغير لا يتعدى العشرين ، و أن الجثث بدأت فى التحلل ، يا الله ، ما هذه البلد ، خسارة فى الميت أن يحتفظ بجسده حتى يدفن؟ يلقى فى ثلاجة معطلة فى انتظار البيه وكيل النيابة ، ممثل السلطة المصرية ، كى يصرح للميت بأنه مات؟ آلة الطغيان المصرية لا ترحم فقيرا ، حيا أو ميتا.
انتهت المهمة و انصرفنا، الحقيقة اننا لم نفعل شيئا ، قد نكون وقفنا بجانبهم قليلا ، أو وقفنا بجوار الصحفيين ضد من يؤلبون الأهالى عليهم ، لكن وجودنا لم يكن مهما ، ولكننا حمّلنا أمانة ، أخبرونا أننا يجب ان نخبر العالم و كل الناس عما حدث لأبنائهم ، عن الرصاص الحى ، عن تليفزيون الدولة الذى يعتبر ابنائهم بلطجية ، عن الصحف التى تكذب لأنهم غلابة ، لهذا كتبت هذه المقالة ، فقط لتعلموا ، و لتعلموا غيركم ، اننا بعد عشرة أشهر من الثورة ، البنى آدم زى ما هو، لسة رخيص ، ويا سلام لو كان غلبان.
اقتلوا مهما قتلتم ، لن تهزمونا ، غدا سيكون بجانبنا صديقه الذى "رآه وهو رايح النادى" ، نحن كثير لا ينتهى ، نحن من رأينا معجزات رب العالمين تتحقق أمامنا ولم نكتف بقراءتها فى كتبه ، رأينا مبارك فى القفص هو وابنه ، أخرجناهم من السلطة و السلطان ، جعلنا مصدر فخرهم فى اقامتهم فى غرفة مستششفى أو زنزانة مريحة ، نحن من رأينا القذافى ، ملك الملوك يسحل فى شوارع طرابلس ، نحن من رفضنا الاعتراف بالمحاكمة العسكرية ، رغم لمعان النجوم و النسور النحاسية ، نحن من نقف امام المدرعات ، نتسلق الأبراج ، و نواجه الحى و المطاطى ، نحن رهاف القلوب ، من ندمع لجرح البشر و ظلمهم ، تأكدوا انكم لن تهزمونا ، نعلم أن العمر مكتوب ، واننا لن نقدر على أن نهنأ بالعيش ان خذلنا رفقائنا الذين سبقونا ، احذرونا ، انما هى أيام أو شهور، دفعنا و ندفع ضريبة الدم ، و متيقنون من نصر الله لنا ، و أنه آت ذلك اليوم الذى ستكون فيه كرامة أى مصرى فوق رقبة أى حاكم.
اللهم ان الحكم كله لك استودعناك بلادنا وابناءنا وفوضنا الامر لله وحسبنا الله ونعم الوكيل
|