كاتب الموضوع :
عهد Amsdsei
المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
الفصل الرابع : وطننا أعيننا
عبر تاريخ الحروب السرية كله، لم تخل عملية منظمة واحدة من الخطر..
ومن الخطأ أيضاً..
وكلما تعدَّدت العمليات وتكرَّرت، وازدادت صعوبة وتعقيداً، تضاعفت احتمالات الخطر أكثر وأكثر، وتضاعفت معها احتمالات حدوث الأخطاء غير المقصودة..
وفى عمليتنا هذه، أتى الخطأ على شكل انفجار..
ولا أحد يمكنه الجزم، حتى هذه اللحظة، بطبيعة الخطأ، الذى أدّى إلى انفجار القنبلة، قبل الموعد المحدَّد لها، فربما يكمن فى تركيبها، أو مكوناتها، أو فى التعامل معها، أثناء محاولة تمويهها..
المهم أنها قد انفجرت، فى وجود منفذى العملية الثلاثة، (فضل)، و(حجاج)، (وعادل)، فى منزل هذا الأخير..
ويروى (فضل) ذكرياته عن هذا الموقف الرهيب، فيقول: "لقد استعدت وعيى فى مستشفى (العريش) العام، قبل أن يتم نقلى إلى مستشفى (دار الشفاء) فى (غزة)، حيث أجريت لى الإسعافات الأوَّلية، ووضعت تحت حراسة مشدَّدة، من القوات الإسرائيلية، ومُنِعَ اتصالى بأى مخلوق، فى ظلّ تلك الحراسة..
كانت عيناى مغطتين بالضمادات، وآلام رهيبة تنتشر فيهما، على الرغم من الأدوية والمسكنات، إلا أن كل ما كان يشغل بالى هو مصير زميليّ (محمد حجاج) و(عادل الفار)..
كنت أتمنّى من كل قلبى أن يكونا قد نجيا من الانفجار، حتى ولو تم وضعهما تحت حراسة إسرائيلية مشدَّدة مثلآ "..
وهذا ما أخبره به القائمون على التحقيق بالفعل..
لقد أخبروه أن زميليه يعالجان فى حجرتين أخريين بالمستشفى نفسه، وأن أحدهما، وهو (عادل الفار) بالتحديد، قد أدلى باعترافات تفصيلية، اتهمه فيها هو و(حجاج)، بالاشتراك معه فى إعداد القنبلة ؛ تمهيداً للقيام بهجمة فدائية، على هدف ما..
ولقد أبدى (فضل) دهشته من هذا القول، وأصر على أنه لا يعرف شيئاً عما قاله (عادل)، وأنكر، بل واستنكر تماماً كل الاتهامات المنسوبة إليه..
فى الوقت نفسه، كان قائد المجموعة، (عبد الحميد الخليلى) يسعى بكل طاقته، لإيجاد وسيلة للاتصال بالمناضل (فضل) فى محبسه بالمستشفى، فى أسرع وقت ممكن، لإبلاغه بخبر بالغ الأهمية والخطورة..
لقد استشهد (عادل محمد الفار)، فى الثامن عشر من مايو، عام 1972م، وهو تاريخ الليلة، التى انفجرت فيها القنبلة فى وجوههم..
ويقول (عبد الحميد) عن هذا الموقف: "سقوط الثلاثة كان يعنى أن المجموعة قد فقدت خمسين فى المائة من طاقتها البشرية دفعة واحدة، وكنت واثقاً من أن الإسرائيليين سيحاولون إيهام (فضل) و(حجاج) بأن (عادل) ما زال على قيد الحياة، حتى يستدرجوهما للبوح بما لديهما من أسرار، لذا كان من المحتم أن يعرف (فضل) و(حجاج) باستشهاد (عادل)، حتى يمكنهما السيطرة على مجريات التحقيق، وإلقاء التهمة كلها على (عادل)؛ باعتبار أن الانفجار قد حدث فى منزله، وبحجة أن كليهما لا يعلم شيئاً عن الأمر.. كانت هذه هى الوسيلة الوحيدة لتجاوز الأمر، دون أن ينهار التنظيم كله.."..
ومن الواضح أن (عبد الحميد) قد بذل، مع زميليه (سعد) و(رشاد) جهداً مضنياً بحق، إذ أنهم قد نجحوا فى النهاية، فى توصيل المعلومة إلى (فضل)، فى الوقت المناسب تماماً..
وعلى الرغم من حزنه العميق، على استشهاد زميل كفاحه، إلا أن (فضل) كتم دموعه فى أعماقه، وفى عينيه المصابتين، وواصل تظاهره بأنه لا يعلم شيئاً عن مصرع (عادل الفار)، ثم راح ينسج القصة فى حزم وإصرار، ويطلب مواجهته بالشهيد (عادل) نفسه؛ ليؤكِّد قصته..
ومن ناحيته، نجح (فضل) فى إبلاغ (حجاج) باستشهاد (عادل)، من خلال طبيب تخدير، فى مستشفى (غزة)، يعرفه معرفة قديمة مسبقة، ويثق به ثقة كبيرة..
وعن طريق ذلك الطبيب، علم (حجاج) بالأمر، واتفق مع (فضل) على قصة ثابتة، يواجهان بها المحققين، بمنتهى الحزم والإصرار..
قصة تقول: إن (حجاج) قد التقى بزميله (فضل) و(عادل)، اللذين التقيا مصادفة، قبل هذا بنصف الساعة فحسب، وأصرّ (عادل) على استضافتهما فى منزله، وعندما استقر بهما المقام هناك، كان (عادل) يحمل لفة ما، يجهلان محتواها تماماً، وأن هذه اللفة قد انفجرت فجأة، فأصابهما ما أصابهما..
وواصل الاثنان ترديد قصتهما تلك طوال الوقت، وأكَّدا أن (عادل) هو المسئول عما حدث، باعتبار أنهما كانا فى منزله، وأصرَّا على مواجهته؛ لتأكيد قصتهما، مما أوقع المحققين فى حيرة شديدة، خاصة وهم يعلمون أن المواجهة مستحيلة، ويجهلون تماماً أن الاثنين على علم باستشهاد (عادل الفار)..
وعندما ضاق الأمر بالمحققين، بدءوا فى استخدام سلاح حقير قذر..
عيون البطلين..
لقد أخبروهما بأن بصرهما سيضيع إلى الأبد، ما لم تنال عيونهما العلاج المناسب، فى الوقت المناسب..
وكان ثمن تلقى العلاج، وإنقاذ البصر والعيون، هو الاعتراف بالطبع.. الاعتراف الشامل الكامل، الكفيل بإيقاع باقى أفراد المجموعة، وحرمان الوطن من خدماتهم، فى تلك المرحلة الحرجة..
وكجزء من الضغوط الحقيرة، تم نقلهما من المستشفى إلى سجن الرملة، وحالتهما تسوء كل يوم.. بل كل ساعة، والضغط يتواصل.. ويتواصل.. ويتواصل..
وحضر إلى السجن بعض الأطباء، الذين ادعوا أنهم من كبار الإخصائيين، فى هذا المجال، وأكَّدوا أن العلاج ممكن، وعودة الإبصار ممكنة، بشرط أن يعترفا..
وكان على (فضل) و(حجاج) أن يختارا..
إما بصرهما ، أو وطنهما ...
ويا له من اختيار!!..
عيونهما وإبصارهما، مقابل خيانة الوطن، أو ظلام أبدى لا ينتهى، ثمناً للإخلاص والوفاء..
ودون أن يلتقيا، اتخذ البطلان قراراً واحداً..
قرار لا يمكن أن يتخذه سوى أبطال..
أبطال حقيقيون ...
قرار يقول: لن نشترى عيوننا بخيانة الوطن..
وطننا عيوننا، ولن نبصر سواه ما حيينا..
ومع مرور الوقت، وبعد ستة أشهر، لم يتلقيا خلالها سوى بعض العلاج الموضعى، من مراهم الكورتيزون، بناءً على أوامر المخابرات الإسرائيلية، تم الإفراج عن (فضل) و(حجاج) صحياً؛ لعدم ثبوت أية اتهامات عليهما..
وامتزجت فرحة باقى أفراد المجموعة بالكثير من الحذر والقلق..
الحذر؛ لأنهم يعلمون أن الإفراج فى واقعة مجرَّد خدعة ؛ لمراقبة الرجلين، وتحديد صداقاتهما واتصالاتهما، كوسيلة للإيقاع بالباقين..
والقلق العارم على مصير عيونهما، التى عانت الكثير والكثير، فى ظلّ احتلال بغيض..
فى تلك الفترة، كان أفراد المجموعة يتعرضون لضغوط عنيفة، واستدعاءات وتحقيقات مستمرة، من قبل المخابرات الإسرائيلية، ولكنهم صمدوا، وثابروا، وصبروا حتى أن العدو لم يجد لمحة واحدة تدينهم..
وعلى الرغم من تلك الضغوط، ومن حصار العدو المستمر لهم، كان من المحتم أن يتواصل عمل المجموعة؛ للتغطية على المعتقلين، وتخفيفاً للضغوط العنيفة عليهما، لذا فقد تواصل إصدار المنشورات، والقيام بعمليات ضد أهداف العدو، فى نفس الوقت الذى تم فيه ترتيب زيارة عاجلة لقائد المجموعة (عبد الحميد الخليلى) إلى (القاهرة)..
وهناك، فى (القاهرة)، وفى دفء جهاز المخابرات الحربية، قدَّم (عبد الحميد) تقريره عما حدث، وأوضح موقف المجموعة، بعد خسارة ثلاثة من أفضل عناصرها، قبل أن يتم اتخاذ قرار عاجل وهام للغاية..
قرار بضرورة إحضار (فضل) و(حجاج) إلى (القاهرة)، بأقصى سرعة ممكنة ؛ لعرضهما على كبار الإخصائيين، وبذل كافة الجهود لعلاجهما، وإنقاذ بصرهما..
وعلى الرغم من صعوبة نقل رجلين، تحت مراقبة المخابرات الإسرائيلية مباشرة، إلا أن المخابرات الحربية المصرية أدارت اللعبة على أكمل وجه ممكن، بحيث لم يدرج أسما الرجلين، فى كشوف الصليب الأحمر، إلا قبيل موعد السفر بيوم واحد، على الرغم من أن القواعد كانت تحتم أيامها أن يتم عرض الأسماء كلها قبل أسبوعين على الأقل؛ لمراجعتها، وإصدار الموافقات، أو أوامر المنع بشأنها..
وسافر (فضل) و(حجاج) إلى (القاهرة)، قبل أن تستوعب المخابرات الإسرائيلية الموقف، أو تجد وسيلة للتصرُّف..
وفى (القاهرة)، وفور وصلهما، تم عرض الرجلين على كبار الأطباء والإخصائيين، فى طب وجراحة العيون، وأجريت لهما كل الفحوص والدراسات اللازمة، قبل أن تجمع التقارير النهائية على أمر مؤسف للغاية..
العلاج بالكورتيزون لستة أشهر كاملة، أصاب عيونهما بأضرار بالغة،, وأدّى إلى ضمور العصب البصرى، وفقدان الإبصار..
نهائياً..
وعلى الرغم من صعوبة الخبر ومرارته، استقبله الرجلان بصبر وصلابة، وأعلنا معاً الأمر نفسه، دون اتفاق مسبق..
وطننا عيوننا، وإيماننا بصرنا، ونحتسب ما أصابنا لوجه الله (سبحانه وتعالى)، ونصرة الوطن فحسب..
يا له من موقف!..
ويا لها من كلمات!..
وتحت رعاية وعناية المخابرات الحربية المصرية، استكمل البطلان علاجهما من باقى إصاباتهما، وصحَّح الأطباء المصريون بعض العمليات، التى أجريت لهما بوساطة أطباء العدو، ثم انخرطا فى الحياة المدنية، وقدَّمت لهما أجهزة الدولة كل المساعدات الممكنة، وواصل (فضل) شق طريقه فى الحياة، بكل الإيمان والحزم، فأكمل دراسته، حتى حصل على ليسانس الآداب بتقدير جيِّد فيما بعد..
أما قائد المجموعة (عبد الحميد)، فقبل أن يعود من (القاهرة)، كان قد حصل على خطة العمل فى المرحلة القادمة، وتحدَّدت له الأهداف والأولويات، وطرق الاتصال والتحرُّك، وخصوصاً عندما تحين ساعة الصفر، ويصبح للمجموعة دورها القوى الفعَّال، فى تحقيق النصر، وقهر المستحيل!..
وعاد (عبد الحميد) إلى (العريش)، وهو يحمل حماساً بلا حدود فى أعماقه، استشفه رفيقاه فى وضوح، عندما اجتمع بهما، وراح يخبرهما بما لديه، وإن دفعه حذره الفطرى إلى الاحتفاظ لنفسه ببعض التفاصيل، التى بدت له من الخطورة، بحيث لا ينبغى أن يعلم بها سواه..
ومن بين هذه التفاصيل، عبارة أخبره بها ضابط المخابرات، المسئول عن العملية، قبيل انصرافه مباشرة: "فى أية لحظة، سيأتيك من يخبرك أنه يحمل رسالة من (أبى ياسر)، وسيعنى هذا أنه من طرفنا، وأنه يحمل إليك بعض الأشياء الهامة جداً.."..
وحدد (عبد الحميد) لرفيقيه أهداف المرحلة القادمة، التى تتجه إلى زيادة عدد أفراد المجموعة، والتوسَّع فى جمع المعلومات، عن طرق وتحرُّكات العدو فى (سيناء) بأكملها..
ودون أن يفصح أحدهم عما يدور فى أعماقه، أدرك ثلاثتهم أن ساعة الصفر تقترب، وأن حلم التحرير قد دنا من شاطئ الحقيقة..
وبكل الحماس، الذى أطلقته الفكرة فى أعماقهم، انطلقوا لتنفيذ تلك الأهداف الجديدة..
فى البداية، وقع اختيارهم على (عدنان شهاب)؛ بحكم صلاته المتعدِّدة بعائلات المدينة، وبعشائر وقبائل بدو (سيناء)..
تم اختيار (عدنان) بإجماع الآراء، وبثقة أثبت أنه أهل لها، عندما أدّى دوره بمهارة وإيمان وإتقان واقتدار، فى كل ما طُلب منه، حتى أن المجموعة قد فوّضته فى اختيار العناصر، التى تعاونه على أداء مهمته على خير وجه، ممن يثق فيهم، وفى وطنيتهم وأدائهم..
ولكن بشرط واحد..
ألا يعلموا شيئاً عن باقى أفراد المجموعة..
وفى هذا أيضاً، أدّى (عدنان) دوره بنجاح يستحق الإعجاب، واستقطب بعض العناصر الوطنية، من خيرة أيناء المدينة، مثل الصيدلى (محمود أحمد حمودة الأزعر)، و(جمال مسلم حسونة)، والحاج (محمود مصطفى العزازى)..
وبكل براعة وإخلاص، قدَّم هؤلاء الرجال العديد من الخدمات والمعلومات عن العدو، وعن تحركاته وتنقلاته، فى قلب (سيناء)، مما كان له أكبر الأثر، فى استكمال الصورة، والتعامل مع العدو، فى اللحظات الحاسمة..
فى تلك الفترة، وحتى عودة (عبد الحميد) من (القاهرة) فى المرة الثانية، كانت المجموعة تعتمد فى اتصالاتها على جهاز إرسال لاسلكى يعمل بالبطارية، ويحتاج إلى تكلفة تشغيل مرتفعة، ويعانى من كثير من الأعطال، كما كانت تفتقر إلى التمويل، المادى اللازم، بعد أن رفض أفرادها، وبمنتهى الإصرار تقاضى أية أموال من جهاز المخابرات، أو حتى من المسئولين، واعتمدت فى تمويلها على تبرعات واشتراكات أعضائها، ومساهماتهم المتواضعة المستمرة، حتى أن (فضل)، الذى كان طالباً أيامها، أصرّ على دفع اشتراكه ونصيبه من التمويل، من مصروفه الشخصى، حتى ولو قضى الشهر كله مفلساً..
كانوا جميعاً صورة مشرِّفة للكفاح والنضال والجهاد، فى سبيل الله (سبحانه وتعالى) والوطن..
ولأنهم يرفضون تقاضى أية أموال سائلة، طلب قائد المجموعة من المخابرات تزويدهم بجهاز لاسلكى آخر، يعمل بالكهرباء، وعدد من أقلام التفجير الموقوتة، وبعض المواد الناسفة القوية، للقيام بالعمليات اللازمة، فى المرحلة التالية..
ولأنه يعلم أن المخابرات ستزوِّده حتماً بكل ما طلب، فى أسرع وقت ممكن، راح (عبد الحميد) ينتظر وصول الرسالة، فى نفس الوقت الذى راح فيه ومجموعته يواصلون كتابة وطباعة وتوزيع المنشورات القوية، التى تبشِّر المواطنين بقرب ساعة النصر والتحرير، وتكشف أمامهم أساليب العدو فى الوقيعة بينهم، وتؤكِّد لهم أن الاحتلال أمر مؤقَّت، لن يدوم أبداً، وأن (سيناء) ستعود كلها حتماً إلى (مصر)، عندما يهبّ جيشها ليثبت جدارته، ويؤكِّد وجوده، ويرفع راية النصر عالية خفَّاقة..
فى الوقت نفسه قامت المجموعة ببعض الهجمات على سلطات الاحتلال، رافعة شعاراً قوياً، فى مواجهة العدو..
شعار يقول: "إما الانسحاب، أو الهزيمة والاندحار.."..
ووسط كل هذا، وبينما يواصل عمله الحكومى، فى بلدية (العريش)، وجد (عبد الحميد) مواطناً يتقدَّم إليه، لإنهاء بعض الأعمال الخاصة برسوم المياه والكهرباء، ويطلب توصيل الكهرباء إلى منزله الجديد..
وعلى الرغم من أن الأمر يحتاج إلى دقائق قليلة فحسب لإنجازه، لاحظ (عبد الحميد) أن المواطن يتلكأ على نحو ملحوظ، ولكنه لم يتدخل، وتركه على راحته، حتى خلا المكتب تماماً، وعندئذ، مال المواطن نحوه، وهو يقول: "لدى رسالة من (أبى ياسر).. رسالة هامة، أرجو تحديد موعد ومكان استلامها.."..
وبكل دهشة الدنيا، حدَّق (عبد الحميد) فى وجه ذلك المواطن..
لقد كان يتوقع بالطبع وصول رسول من قبل المخابرات الحربية، يحمل كلمة السر المتفق عليها مع الرسالة، ولكنه، وعلى الرغم من ثقته التامة فى كفاءة المخابرات المصرية، لم يتصوَّر لحظة أن تبلغ البراعة هذا الحد المدهش..
فالرسول، الذى حمل الرسالة من (القاهرة)، كان الحاج (صباح حمدى يعقوب الكاشف)، الذى شارف الستين من العمر - آنذاك - والذى يحمل وجهاً ملائكياً هادئاً، بشعره الأشيب، ولحيته البيضاء الكثيفة ، ختى أنه من المستحيل أن يشك إسرائيلى واحد فى أمره ..
وتسلَّم (عبد الحميد) الرسالة من الحاج (صباح)، وكانت تحوى جهاز اتصال لاسلكى جديد، يعمل بالكهرباء، وعدد من أقلام التوقيت، ومجموعة من المواد الناسفة، المموَّهة بأشكال مختلفة..
وفى الوقت نفسه، عرض عليه الحاج (صباح) التعاون، فى أية مهمة تُسند إليه، وأبدى استعداده التام للتضحية بكل غال ونفيس، وبذل كل ثمين وعظيم، حتى الحياة نفسها، إذا ما اقتضى الأمر، فى سبيل الله والوطن..
كان الرجل، على الرغم من كبر سنه، قوياً حازماً، يمتلك عزة نفس، وإباء، ورغبة حقيقية فى العمل والكفاح، من أجل إنهاء الاحتلال، واستعادة (سيناء) لحريتها وانتمائها..
ومن أعمق أعماقه، شعر (عبد الحميد) بمنتهى التقدير والاحترام للحاج (صباح)، ولكنه أشفق عليه، فى الوقت ذاته، من أن يواجه ما يواجهونه من خطر، أو يتكبَّد ما يتكبدونه من جهد وعناء وشقاء بلا حدود..
وبكل ما يحمله له، صافح (عبد الحميد) الحاج (صباح الكشاف)، وشكره على عرضه الكريم، ومبادرته الطيبة، وأخبره أنه يدخره لوقت الحاجة، وأن دوره العظيم، فى نقل مثل هذه الرسائل من (القاهرة)، لا يقل أهمية وخطورة، عما تقوم به المجموعة كلها من جهد..
وعن طريق الحاج (صباح)، توالت الرسائل من (القاهرة)، وكان الرجل، على الرغم من كبر سنه، وضعف قوته، يتميَّز دوماً، خلال عمليات التسليم والتسلُّم، بالروح العالية، والثقة المفرطة، والشجاعة والإقدام، مع حرص دائم وذكى، على سرية الأمر، ودقة القيام بعمليات المناورة والتمويه..
باختصار، كان يستحق، وعن جدارة، ذلك اللقب، الذى وصفته به يوماً، عندما تحدَّثت عن المجموعة، على شاشة التليفزيون..
لقب (عمر المختار) مصر..
المهم أن الرسائل قد توالت، وتوالت معها عمليات المجموعة، التى كبَّدت العدو خسائر جسيمة، فى الأرواح والمعدات، ومنشوراتها التى راحت تبث روح الحماسة فى قلوب المواطنين، وروح اليأس فى قلوب الأعداء..
وطوال الوقت، راح جهاز الاتصال اللاسلكى الكهربى الجديد يبث المعلومات، ويستقبل التعليمات والرسائل من (القاهرة)، فى الأوقات المخصصة والمحدَّدة لهذا..
ثم وصلت رسالة هامة من (القاهرة)..
رسالة تطلب من المجموعة كلها بذل المزيد من الجهد والنشاط، بكل فروعها؛ لرصد أية تحركات غير طبيعية للعدو فى المنطقة، وإبلاغها إلى (القاهرة) أوَّلاً بأوَّل..
كانت قوات العدو أيامها، تقوم بمناورات وتدريبات شبه روتينية، ولم ترصد المجموعة أية تحركات غير طبيعية، ولكنها أبلغت (القاهرة) بهذا، باعتباره توضيحاً للأمور والموقف..
وجاء الرد من (القاهرة)، بضرورة متابعة العمل نفسه، ومواصلة عمليات الرصد والمراقبة، وإيقاف كل العمليات والأنشطة الأخرى، من كتابة وطباعة وتوزيع المنشورات فى المدينة، إلى عمليات إعداد واستخدام المتفجرات، ومهاجمة أهداف العدو..
كان المطلوب إذن هو التفرُّغ التام، لمهمة الرصد والمراقبة وحدها..
وشعر الكل أن هذا يعنى الكثير..
والكثير جداً..
هناك حتماً تطوّر ما فى الأمور..
تطوّر هام..
وخطير..
إلى أقصى حد..
ثم تأكَّد هذا الشعور، الذى راودهم جميعاً، مع وصول الرسالة اللاسلكية التالية، والتى كانت تعنى حدوث تطوّر أكثر خطورة..
أكثر بكثير..
جداً..
* * *
|