كاتب الموضوع :
عهد Amsdsei
المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
الفصل الخامس : وبدأت المعركة
* فجأة وعبر جهاز الاتصال الكهربى الجديد، وصلت إلى مجموعة (العريش) رسالة لاسلكية عاجلة وخطيرة..
خطيرة جداً..
رسالة تبلغهم أن استقبال رسائلهم فى (القاهرة)، مفتوح طوال الأربع والعشرين ساعة يومياً، لأجل غير محدود..
وفجرَّت تلك الرسالة حماساً منقطع النظير، فى نفوس الجميع بلا استثناء، وأكَّدت لهم ما شعروا به، من الرسالة السابقة أيضاً..
لقد اقتربت ساعة الحسم..
وساعة النصر..
وانطلق الجميع يعملون بنشاط جم، وحماس لا مثيل له، منذ وُلِدَتْ مجموعة (العريش) وفروعها..
الكل راح يكثِّف المراقبة الدقيقة لمختلف المحاور، التى تتحرَّك عليها قوات العدو فى (سيناء)، وتم وضع نظام دقيق للرصد والمتابعة، نفذته المجموعة بتفوق واقتدار غير مسبوقين، وبأطنان من الجهد والعرق، حتى أن مجموعة (عدنان الشهابى) كانت تعمل طوال الأربع والعشرين ساعة بلا انقطاع تقريباً..
طاقة هائلة، تلك التى تفجَّرت فى العروق والعقول، وخفقت مع القلوب، لتدفع الأجساد إلى العمل بلا توقّف، مع شعور الأفراد بقرب الحسم والمواجهة..
ولقد صدقت توقعات الجميع، وأندلعت حرب التحرير، يوم السبت، السادس من أكتوبر 1973م..
وفى ذلك اليوم، وصلت الرسالة المنتظرة من (القاهرة)..
"إلى الحاج (منتصر).. نحن فى انتظاركم.."
كان هذا هو الاسم الحركى للمجموعة، والذى يرتبط بكلمة النصر، شعار المرحلة الحاسمة، ويعنى مع الرسالة البدء فى توجيه ضربات قوية، إلى أهداف تم تحديدها مسبقاً، ومنح كل منها اسماً حركياً.. ومع وصول الرسالة، قفز الحماس إلى ذروته، وتفجَّر النشاط فى العروق، واستقبل الرجال، بفوره من اللهب، الرسالة التالية..
"إلى الحاج (منتصر).. نفذ (شلبى).."..
وكان هذا يعنى توجه أوَّل ضربة، إلى كوبرى السكة الحديد، كما تم الاتفاق عليه وتحديده من قبل..
ووفقاً للنظام المتبع، التقى أفراد المجموعة فى المكان المخصص لاجتماعاتهم، وتعانقوا فى فرح وسعادة، ثم قام (عبد الحميد)، قائد المجموعة بتجهيز العبوة الناسفة المناسبة للهدف، وتم تحديد ساعة التنفيذ وموعد التفجير، ثم اختار (عبد الحميد) للمهمة اثنين من أكفأ رجال التنظيم، مساعده الأوَّل (سعد)، و(رشاد حجاب)، الذى يتسم بالإقدام والجرأة، وسرعة وخفة الحركة..
وتم تنفيذ المهمة، على الرغم من الحراسة المشدَّدة، التى أحاط بها العدو الكوبرى، فى ظلّ ظروف الحرب، وقيام المجموعة نفسها بمهاجمته من قبل..
وفى الموعد المحدَّد بالضبط ، انفجرت العبوة الناسفة، ودمَّرت تماماً الطرف الشرقى للكوبرى، لتعزل إمدادات العدو عن محطة السكة الحديد، المزوَّدة بوسائل نقل وشحن الأسلحة والمعدات، إلى جبهة القتال..
واضطر العدو إلى نقل حركته إلى محطة (الأبطال)، مما كلفه جهداً ووقتاً مضاعفين، باعتبارها غير مجهَّزة لمثل هذه الأمور..
وكلنا نعلم كم تساوى الدقائق، فى زمن القتال، فما بالك بالساعات، وبحالة التوتر والعصبية، التى أصابت العدو، ودفعته إلى وضع حراسة مكثفة، على طول خط السكة الحديد، من (العريش) إلى (إسرائيل)، مما كان يعنى خسارة رهيبة للعدو، الذى يعانى دوماً من نقص عدد الأفراد، ويفتقر فى قتاله إلى العنصر البشرى..
ومع نداء آخر، ورسالة لاسلكية تالية، قامت المجموعة بتدمير كابل الاتصالات الرئيسى،، الذى يربط مركز التنصت والقيادة الإسرائيلية فى (العريش)، بداخل (إسرائيل) مباشرة، ولقد تم تدميره فى موضعين مختلفين، وبفارق زمنى ساعة واحدة، بحيث حدث الانفجار الثانى، أثناء محاولة العدو لإصلاح ما دمره الانفجار الأوَّل..
ثم تم توجيه ضربة قوية إلى محول الكهرباء الرئيسى، الذى يغذى قوات ومعسكرات العدو، فى منطقة (الريسة)، شرق (العريش)، وبعدها ضربة أخرى، فى منطقة محطة (الأبطال)..
وكان (سعد عبد الحميد محمود) هو القاسم المشترك، فى كل العمليات، هذا بالإضافة إلى دوره الأساسى، فى كل ما يتعلَّق بالمجموعة، فهو الذى قدَّم مقراً لتخزين مستلزمات العمل، من متفجرات وأدوات طباعة، وكل ما يتعلَّق بهما، وصفاته الشخصية، التى جعلت قائد التنظيم يعتبره مساعده الأوَّل، ويعتمد عليه، فى كل الأمور، بالغة الأهمية والخطورة..
وطوال الوقت، ومع تطوّر الأحداث، لم تتوقَّف النداءات الكودية والشفرية المتفق عليها، سواء عبر جهاز الاتصال اللاسلكى، أو شبكة الإذاعة، إلى (الحاج منتصر)، أو (عبد الودود عبد الصمد)، أو (أبو محمد)، أو (أبو أمانى)، وكلها أسماء حركية لرئيس المجموعة، حيث تطالبه الرسائل والنداءات بالمزيد من المعلومات، أو بتدمير أهداف جديدة..
ولأن الرسائل تتوالى بلا انقطاع، طرح (عبد الحميد) الحذر جانباً، ووضع مقعداً إلى جوار الراديو، وراح يتابع الاتصالات بلا نوم أو راحة، حتى شعر باقى أفراد المجموعة بالإشفاق عليه، وطالبوه بالإفطار، فى شهر رمضان، إلا أنه رفض فى إصرار، وواصل مهمته على أكمل وجه، دون كلل أو ملل..
ومن الأحداث التى يذكرها (عبد الحميد الخليلى)، عن تلك الفترة، أن والده، الذى كان يبلغ السبعين من عمره تقريباً - آنذاك - لم يكن قد تصارح مع ابنه أبداً، بشأن الأمر، إلا أنه قلب الأب، الذى ينبض فى صدره، كان يشعر بما يحدث، لذا فعندما تضاعف الجهد على (عبد الحميد)، وغفت عيناه إلى جوار الراديو، كان يستيقظ ليجد والده إلى جواره، يبلغه بما تردَّد عبر الراديو، مدعياً أنه لا يفهم ما يحدث..
ولكنهما لم يتواجها قط..
فى تلك الفترة على الأقل..
ومع التطوّر السريع للأحداث، تضاعف حماس ونشاط أفراد المجموعة، وإن حملت أعماقهم بعض الخوف، على هذه الانتصارات المتوالية، مما دفعهم إلى المزيد والمزيد من الجهد والعمل المضاعف..
وأثناء المعارك، رصدت المجموعة رتلاً من المجنزرات والمدرّعات، والدبَّابات الثقيلة، تتحرَّك ليلاً فى اتجاهين.. بعضها نحو المحور الأوسط، والبعض الآخر نحو المحور الشمال..
وعلى الفور، وعبر جهاز الاتصال اللاسلكى، تم إبلاغ هذه المعلومة إلى (القاهرة)..
ولأن المعلومة قد وصلت فى الوقت المناسب، تمكَّنت القوات المصرية من القضاء على لواء مدرَّع بالكامل، وأسر قائده (عساف ياجورى)..
ثم كان التدخَّل الأمريكى..
فذات صباح، وبينما المعارك محتدمة ومستمرة، استيقظ سكان (العريش) على دوى كالرعد فى السماء، مع ضباب كثيف من ناحية البحر، مما دفع مجموعة (العريش) إلى السعى لرصد منطقة الساحل بسرعة فائقة..
وهناك بدت الطائرات ، ذات اللون الأبيض، واضحة جلية، وبعضها يتجه من البحر إلى مطار (العريش)، فى حين ينطلق البعض الآخر إلى جبهة القتال مباشرة..
ولأوَّل مرة، بدأ القلق يتسلَّل إلى أفراد المجموعة..
القلق الشديد..
فذلك اللون الأبيض يميِّز طائرات البحرية الأمريكية، التى اشتركت مباشرة فى المعركة..
ومن منطقة (رمانة)، وصلت معلومات أخرى بوصول طائرات من البحر، تقوم بإنزال الجنود، الذين يتم نقلهم فوراً، بوساطة عربات عسكرية إسرائيلية، إلى جبهة القتال مباشرة..
(أمريكا) لم تكتف إذن بإرسال الطائرات والأسلحة والمعدات إلى (إسرائيل)، عبر جسر جوى لا ينقطع، وإنما دفعت جنودها وطياريها أيضاً إلى جبهة القتال مباشرة..
(مصر) إذن لم تعد تحارب (إسرائيل) وحدها..
لقد أصبحت تحارب الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً..
وبسرعة، قام (عبد الحميد) بتشفير هذه المعلومات، وإرسالها فوراً إلى (القاهرة)..
وفى (القاهرة)، أدركت المخابرات الحربية أن تلك الطائرات، ذات اللون الأبيض، تتبع الأسطول السادس الأمريكى، وحاملات طائراته مباشرة..
وتأكيداً للمعلومات الواردة من المجموعة، انطلقت طائرتا استطلاع إلى المنطقة، وعادتا تحملان تأكيداً حاسماً قاطعاً إلى القيادة السياسية والعسكرية، لتتخذ قراراتها المناسبة فى هذا الشأن..
وحتى الثانى والعشرين من أكتوبر، عندما صدر قرار وقف إطلاق النار، لم تتوقف مجموعة (العريش) عن إرسال المعلومات، ورصد تحركات العدو، والقيام بالعمليات الفدائية، التى تؤرقه، وتعيق حركته طوال الوقت..
وبعد وقف إطلاق النار، وصلت رسالة لاسلكية من (القاهرة)، تطالب المجموعة بإيقاف نشاطها، والتزام الحيطة والحذر، خلال المرحلة القادمة..
والتزمت المجموعة بأوامر (القاهرة)، على الرغم من خرق وقف إطلاق النار المستمر، وتحركات العدو التى لا تتوقَّف، على المحورين ، الشمالى والأوسط للجبهة..
وفى الثامن من نوفمبر 1973م، رصد بعض أفراد المجموعة أعداداً ضخمة من الدبابات والمجنزرات، ومختلف المعدات والآليات الثقيلة، تتحرَّك نحو الجبهة مباشرة..
وهنا، قرَّرت المجموعة تجاوز الأوامر الصادرة من (القاهرة)، وإجراء اتصال لاسلكى، لإبلاغ هذه المعلومات الخطيرة فوراً..
وتوجه أفراد المجموعة إلى نقطة الاتصال، الكائنة فى منزل والدة (سعد)؛ وراحوا يعدون المعلومات، التى يقوم (عبد الحميد) بتشفيرها، تمهيداً لإرسالها إلى (القاهرة)، و...
وفجأة، اقتحمت قوات العدو الإسرائيلى المكان، وارتفعت فوهات مدافعهم الآلية، فى شراسة متحفزة، نحو أفراد المجموعة..
ولم يكن هناك مجال للإنكار، أو لنسج قصة وهمية؛ فالإسرائيليون اقتحموا الحجرة، وبها جهاز اللاسلكى، والمعلومات المشفَّرة، وغير المشفَّرة، وأفراد المجموعة..
وتم إلقاء القبض على الجميع، وانطلق ضباط المخابرات الإسرائيلية يفتشون الحجرة والمنزل كله، فى شراسة ما بعدها شراسة..
كان هناك جيش كامل، من الجنود والضباط الإسرائيليين، يحيط بالمنزل، فى تحفُّز كامل، كما لو أنهم يلقون القبض على كتيبة كاملة من الفدائيين، وليس على عدد محدود من الأفراد..
وفى المنزل، عثروا على مجموعة من أقلام التوقيت، أثارت رجال المخابرات الإسرائيلية أكثر وأكثر..
وبعدها انقسم الضباط مع الجنود إلى مجموعتين، إحداهما اقتادت (سعد) إلى منزله، فى شارع 23 يوليو، فى حين اقتادت المجموعة الثانية (عبد الحميد)، إلى منزله فى شارع الشهيد (محمد الخليلى)..
وتم تفتيش المنزلين بمنتهى الدقة والوحشية، وتم الاستيلاء على كل المشغولات الثمينة، وكل الأوراق والأجهزة، مع تدمير كل ما تبقى كعادة الإسرائيليين، فى مثل هذه الأحوال..
ثم تم نقل المجموعة إلى مبنى المخابرات الإسرائيلية فى العريش، والذى يحتله (نزل الشباب) حالياً..
وهناك، بدأت التحقيقات، وبدأ الاستجواب..
وبدأ التعذيب..
ويقول الحاج (سعد) أن الأيام الأولى كانت تحوى الكثير من الضرب والتعذيب العنيف، والقليل جداً من الاستجواب، حتى أنه والحاج (عبد الحميد) قد فقدا تماماً الإحساس بالزمان والمكان، ولم يعد باستطاعتهما معرفة كم مرّ عليهما من وقت هناك...
وفى الوقت نفسه، لم تتوقَّف أجراس الهاتف ونداءات اللاسلكى أبداً، كما تم عرضها على أعداد كبيرة، من ضباط الجيش الإسرائيلى، الذين راحوا يردون إلى المبنى، برفقة ضباط المخابرات، دلالة على ما سببته لهم المجموعة من خسائر جسيمة.
وبعد فترة، لم يتمكن أحدهما من تحديدها بالضبط، تم نقل المجموعة إلى سجن (غزة) المركزى، معصوبى الأعين، ومقيِّدى الأيدى خلف الظهور، فى سيارة نقل عسكرية..
وفور وصولهم إلى سجن (غزة)، بدأت حلقة جديدة من التحقيقات، سبقها وتخللها وأعقبها عديد من صنوف التعذيب والإكراه، والضغوط النفسية والجسدية...
والمؤلم أن الإسرائيليين قد منحوا القسط الأكبر، من التعذيب والإهانات والعنف، للحاج (صباح الكاشف)، دون احترام لكبر سنه، أو ضعف جسده..
ولكن الرجل - رحمه الله - كان مثالاً حياً للبطولة والصلابة والشهامة، عندما تحمل العذاب والتعذيب الوحشى، بكل رجولة وحزم، دون أن تلين عزيمته، أو يعترف بحرف واحد مما لديه..
وأثناء الاستجواب والعنف، شعر قائد المجموعة (عبد الحميد)، أن الإسرائيليين لا يعلمون شيئاً عما فعلوه، طوال السنوات الماضية، وأن معلوماتهم تقتصر فقط على نشاط المجموعة، أثناء حرب أكتوبر، وأراد أن يبلغ الحاج (سعد) بهذا، حتى تقتصر اعترافاتهما على فترة الحرب وحدها دون غيرها..
كان أحدهما سجين زنزانة منفردة، فى بداية ممر السجن، والآخر نزيل زنزانة منفردة أخرى، فى نهاية الممر، وتفصلهما مسافة كبيرة نسبياً، تمنعهما من تبادل أية أحاديث، دون أن يلتقطها الإسرائيليون، الذين زوَّدوا زنزانتيهما بأجهزة تنصُّت دقيقة أيضاً..
لذا فقد ابتكرا صديقا وزميلا العمر وسيلة فطرية عبقرية ومدهشة، لتبادل الحديث فى هذا الشأن.
فمن زنزانته، هتف الحاج (سعد): " الله واحد ..".. وهنا أجابه (عبد الحميد)، بهتاف آخر: "لا من قبله ولا من بعده.."..
وفهم الرجلان المعنى، بعد سنوات وسنوات من الزمالة والصداقة..
فهم كل منهما أنه عليهما الحديث عن نشاط أكتوبر وحده، لا ما قبله، ولا ما بعده..
الحاج (سعد) وجد وسيلة أخرى طريفة، يتحدَّث عنها قائلاً: "كنت أحياناً أتظاهر بنسيان بعض التفاصيل، وباحتياجى لمراجعتها مع الحاج (عبد الحميد)، فيرسل المحققون الإسرائيليون لاستدعائه، وعندئذ ألتقى به، وأصافحه، ونتبادل بعض الكلمات السرية، التى لا يعرفها سوانا، والتى يفهم كل منا معناها جيِّداً، دون أن يفهم الإسرائيليون منها شيئاً، على الرغم من أنهم كانوا جميعاً يتحدثون العربية بمنتهى الطلاقة ..".
وهكذا، انتصر الذكاء المصرى الفطرى، على العقول الإسرائيلية المحترفة المدرَّبة، التى حاولوا إيهامنا، لسنوات وسنوات، أنها عبقرية متميِّزة، لا تُقهر ولا تنهزم أبداً..
وهذا يؤكِّد رأى الحاج (عبد الحميد)، الذى لا يمل ترديده أبداً..
"الإسرائيليون ليسوا أبداً بالبراعة، التى يوحون للعالم بها.."..
وفى حديثه عن فترة السجن والتعذيب، يروى الحاج (عبد الحميد)، قصة، كاد شعر رأسى يزداد شيباً لسماعها..
يروى أن والده قد زاره فى السجن، وقد تجاوز السبعين من العمر، فأخفى هو كفيه، اللذين اسودا وتورَّما من شدة الضرب والتعذيب خلف ظهره ؛ خشية أن يراهما والده، وهو يتوقَّع منه أن يلومه ويقرِّعه، على توريط نفسه فى أمر خطير كهذا، دون أن يستشيره، أو يطلب موافقته..
واقترب (عبد الحميد) من والده، وهو يقدِّم قدماً، ويؤخِّر أخرى، وخفق قلبه بقوة، عندما رآه والده، وهبّ من مقعده بحركة فتية، لا تتناسب مع أعوام عمره السبعين، وانتظر صراخه الغاضب، وثورته العارمة، و...
ولكن الأب، الذى نما فى تراب هذا الوطن، وأكل وشرب من خيره، رفع قبضته أمامه فى حزم، وارتفع معها صوته، بمنتهى القوة، والعزم، وهو يهتف بابنه:
- إياك أن تحنى رأسك لمخلوق واحد..
ويحكى (عبد الحميد) أن قشعريرة قوية قد سرت فى جسده، وهو يحدِّق مبهوراً فى والده، الذى تابع بنفس القوة والعزم، ودون أن يخشى رد فعل الإسرائيليين:
- ما فعلته يستوجب الفخر والزهو، فإياك أن تشعر بذرة واحدة من الخزى أو العار، وإياك أن تحنى رأسك لمخلوق واحد هنا.. المؤمن لا يحنى رأسه إلا لله (سبحانه وتعالى) وحده.
الواقع أن الرواية فجَّرت ألف انفعال وانفعال فى أعماقى، إلا أنها لم تدهشنى، فكما يقولون دوماً، من الطبيعى أن يكون هذا الشبل من ذاك الأسد ، وأن تكون هذه مصر المصريين ..
المهم أن فترة السجن والعنف، والاستجواب، والتعذيب قد انتهت بصدور لائحة الاتهام، التى حوت سبع تهم، أخطرها التجسُّس فى زمن الحرب، وأقلها حيازة جهازى إرسال لاسلكى، وأسلحة، ومفرقعات، ومواد ناسفة شديدة التفجير..
ومع صدور لائحة الاتهام أو الادعاء، انتقلت القصة كلها إلى مرحلة جديدة ودقيقة جداً..
إلى المحاكمة..
الإسرائيلية.
* * *
|