الفصل الاول
كانت تمطر بغزارة ليوم بكامله في روما, تحول الصقيع والمطر الى جليد وعم البرد القارس.
وكانت هناك فتاة ترتدي سترة وقميصا اسود, كما عقدت شعرها الطويل باناقة لافتة, ثم لفت حول رأسها مشلحا حريريا اصفر اللون يقيها حدة البرد. كانت تسير على جسر سانت انجلو برشاقة وانوثة ترتجف اوصالها للريح العاتية التي تهب مزمجرة فوق الجسر. ملامح وجهها الجميل كشفت عن حزن عميق وكآبة, امسكت بمنديل ابيض تمسح به دموعها, اسرعت الخطى لاجتياز بوابة اعتلتها قنطرة.
انقطع المطر فجاة, وتحولت الغيوم الرمادية السوداء الى بيضاء, ثم انبثق نور اضاء السماء.
انها طبيعة روما كعادتها مشرقة, بدت جدران القصر العتيق باهرة وبلحظة من اللحظات تبددت الاشياء واستحال اجمل.
كانت حشود مجتمعة على امتداد الجسر نزولا حتى فيا دي تورديمونا.
منتديات ليلاس
وتمنت في تلك اللحظة ان تغادر بالازو حيث عاشت لفترة, غير انها على الرغم من حبها الشديد لتلميذتيها الصغيرتين فرانسيسكا وتوليا, تتوق للابتعاد ولو لسنة واحدة عن مقر عملها, حيث تجد سعادتها وحياتها مع من تحب. الحياة بكل ما فيها من عواطف جياشة احست بها في تلك اللحظة بالذات وشعورها نحوه كان دائما ولم يزل راسخا في مخيلتها.
التقته حين كانت تصفف شعر هاتين التلميذتين وتعدهما للجلوس بلباس رسمي انيق امام الرسام الانجليزي ويدعى "دومينيك", وطالما كان هذا الاسم يردد على مسامعها مرارا فتفرح. كان ذلك الرسام الماهر من اصل انجليزي غير ان امه برازيلية المنشا. درس فن الرسم في لندن ومن ثم تابع دراسته في باريس. احب الفنون على انواعها وكانت هوايته التجوال في متاحف روما بكل ما فيها من كنوز. تذوق تلك الفنون العريقة بشغف ونهم لا ينقطعان. ناهيك عن دور اعرض الفخمة التي زارها وهي حافلة بروائع لفنانين ذاع صيتهم.
لم يكن دومينيك متزلفاً يهوى الاستجداء من السيدة لورين التي تكن له مودة واحتراما عميقا, لصداقة قديمة تربطها بوالدته على الرغم من ضائقته المادية وتعسر أموره في الحياة.
عرفت السيدة لورن والتي كانت كريسيدا تعمل عندها مربية لطفلتيها بعملها الدؤوب واحتضانها لمبتدئين تمرسوا في اختصاصات وجامعات شتى, من بينهم دومينيك الذي اختارته ليكون رسام ابنتيها الخاص بعد ان طلبت منه رسم لوحات متوسطة الحجم تبرز جمال تلك الفتاتين والتركيز بريشته على وجهيهما اللذين اختصرا فتنة وروعة الجمال الايطالي, بتلك العيون الواسعة ووالملامح الجذذابة, اسرعت الفتاة الانجليزية تستعد للقائها الاول بذلك الفنان.
تصورته قادما الى غرفة الاستقبال متابطا اوراقه يختال بقامته الرشيققة ووجهه الشاحب. فكما وصفته لها لورين, يتمتع ببشرة حنطية وعينين سوداوين وشعر اسودكثيف- شاب ايطالي بكل معنى الكلمة.
كان يوما دافئا من ايام ايلول الجميلة, حين قدم الى ديل فاريس بالازو. ارتدى بنطلون جينز باللون الازرق افاتح وقميصا ازرقو وعلى كتفيه القى معطفا اسود ينم عن ذوق رفيع. التقى هناك بفتاة انجليزية اعجبت به كثيرا لكنه لفرط انغماسه في هوايته الي امتهنها لم يعط الامر اهتماما, وظهر بمظهر الشاب اللامبالي لامر احد ما جعله متميزا ومختلفا عن غيره في كل شيء.
فقد حاز على اعجابها منذ اللحظة الاولى جلست تحدق به وهو غارق في تفكيره يرسم الفتاتين الصغيرتين اللطيفتين بريشته الانيقة وبخفة اصابعه رسم لوحة فنية رائعة في دقائق معدودة. كان يبدو سعيدا باسم اللوحة وهو يقوم بعمله هذا. بعد ان فرغ اعطى اللوحة لفتاتين اللتين كانتا تنتظران بفارع الصبر, ثم قال:
"هذه لوحتكما الجميلة تبدوان فيها جميلتين!"
نظرت الى اللوحة ثم تنهدت قائلة: "يا لجمالها, تبدو مثل لوحات رفاييل أليس كذلك؟"
ضحك ساخرا: "لست رساما بمهارة رافاييل المشهور, اؤكد لك ذلك."
اجابته: "اذن بمن من الرسامين المشهورين تشبه نفسك؟"
"انا رسام فحسب." اجابها بذلك ضاحكا. باناقته المعهودة وكبريائه استطاع ان يسلب قلبها ويفتنها من اول لقاء.
لكن بوقاحته المبتذلة وحشريته العلمية كان احيانا يتركها تتارجح ما بين الشك واليقين. وبذكائها الحاد استطاعت لفت نظره اليها.
انصب اهتمامه الكامل على توفير ثقافة فنية تليق بفتاة انجليزية مثلها. كان يزور معها متاحف ومواقع اثرية في روما, ويعمل على شرح ما استطاع من افكار استحوذ عليها خلال ممارسته لتلك الهواية التي احبها كثيرا. باصغائها وصبرها تمكنت من تكوين فكرة عن فن الرسم بكل ما فيه من دقة وبراعة.
بدات القصة حين دعاها الى الاستوديو ذات مرة طالبا منها رسمها.
"الا انها اجابته بفتور: "هل انت متاكد انك تريد ان ترسم بريشتك فتاة تشبهني انا؟"
سالها للمرة الثانية وهو مرتبك بعض الشيء: "هل توافقين على مثل هذا الامر؟" وصمت منتظرا.
منتديات ليلاس
كان يبدو مستاء جدا وهو ينتظر ردها, وهي بدورها ساورتها بعض الشكوك وبدت مضطربة لكنها اذعنت فيما بعد. اذ تساءلت وهي تقف صامتة ان امرا كهذا ليس غريبا على الاطلاق فلورين نفسها تحبه. فتيات كثيرات قد فتنها دومينيك بجاذبيته الساحرة, وهي ليست سوى فتاة عادية بهرتها صفات رائعة في شخص دومينيك, كسرعة خاطره وذكائه المتوقد واشياء كثيرة اخرى, اضافة الى كونه رساما عظيما وهو يمتلك الكرم والشهامة ودماثة الخلق, مما حدا بها الى الوقوف عند رغبته والجلوس امامه بصبر وجلد بكل طيبة خاطر.
وهو يحاول رسمها بفن ومهارة, كان يحلو له ان يبادرها ببعض الكلمات الطريفة, فقد اعجبته كما اعجبها, وفي كل مرة كانت تحاول اثارته ببضع كلمات تنم عن شعورها وعاطفتها نحوه.
فقد قال لها: "بالنسبة لي, اعتبرك فتاة مختلفة بملامحك الفاتنة ووجهك الصغير وعينيك الخضراوين الشبيهتين بعيني قطة جميلة تنقض على من يداعبها, الا انك والصدق يقال, جلودة ولطيفة في الوقت نفسه وايضا متوقدة الذكاء.
لست كباقي الفتيات اللواتي تشغلهن مور سخيفة في الحياة كالثياب والمجوهرات الثمينة وغيرها, تجيدين التحدث بمواضيع مختلفة حتى انك تتفوقين بمقدرتك وقدراتك العقلية على لورين المحترمة التي لا تحسن الاختيار من وقت لاخر. اني حقا مستمتع ألذ الاستمتاع بحضورك الكريم."
بدا يقص عليها قصصا مختلفة تارجحت بين المزح والجد.
كان جادا فيما قال وقد حمل كلماته وعباراته اطراء ما بعده اطراء. انها ابنة الثانية والعشرين وللمرة الأولى في حياتها تقع في حب رجل لطالما انتظرته. رجل انيق تتمناه كل فتاة.
كان قد اتخذ تلك الهوايةالرائعة مهمة استحوذت على اعجاب كل من عرفه, غير انه لم يكن يحتاج الى المال, فحالته المادية جيدة, وعرفت من خلال عبارات وجيزة تلفظ بها انه مثل عصفور طيار يتنقل من بلد الى اخر يستكشف فنونا رائعة يتميز بها وينعم بحياة هادئة بكل ما فيها من مباهج ومسرات.
استطرد دومينيك في نقاشه معها حول مسائل تتعلق بما يشبه الماورائيا. الفلسفة ومذاهب متعددة لاديان مختلفة, فيما عدا السياسة التي كان يمقتها, وهي بالنسبة اليه مواضيع لا يجوز التطرق اليها. كونه فتى انجليزي من اب انجليزي الاصل تربى ونشا على عادات وتقاليد انجليزية صارمة لم ترق له في يوم من الايام. وحنينه لوالدته البرازيلية الاصل اخذ منه ماخذا, وورث عنهاعدائيته لكل ما يتعلق بالبروتوكول والاصول.
وقفت الى جانبه على شرفة اطلت على مدينة روما التاريخية, حينها اقتنعت انها لا محالة قد اسرها حسنه وطلته البهية.
كانت دائمة التفكير به وهو امامها يقوم برسمها باوضاع وتعابير مختلفة.
كانت هناك لوحة برزت فيها برداء من صوف قرمزي اللون وقد امسكت بين يديها قطة سوداء, عمل دومينيك على رسمها باتقان فبدت عيناها شبيهتان بعيني القطة الخضراوين. وقد بيعت تلك اللوحة لمدير صالة محلية تستهويه الفنون.
توقف عن الرسم للحظات وخاطبها: "ارى ان عينيك الجميلتين الشبيهتين بعيني القطة تبعثان السرور في نفس من ينظر اليهما واراك الان تماما كالقطة الصغيرة منطوية, دافئة لكن ليس مثلها مخادعة وتترقبين للانقضاض على من يراك."
اجابته: "ارى ان القطط تختلف في حبها الدائم للاستقلال والحرية أليس كذلك؟"
"اظن ان نظرة الاهل والاصدقاء مختلفة عن تلك التي يرانا بها الاخرون."
والان اختلفت الاشياء وتبدلت, اذ اصبح دومينيك جزءا من حياتها المستقلة.
كان يوما من ايام كانون الاول الشدبد البرودة, حين شعرت برغبة تجتاحها للذهاب اليه ولقائه في الاستوديو الخاص به.
منتديات ليلاس
في ساعات الغسق الاولى ومع افول اخر خيط من خيوط الشمس الدافئة, قصدت مكانه. شعرت بالضيق ينتابها واخذت تسمع ضربات قلبها القوية.
متى ستنتهي قصته معها؟ متى النهاية؟اوجست بخوف اذ بدات علاقتها معه تتطور يوما عن يوم, احبته بطريقة متحضرة وهي التي لا تؤمن بالارتبط بعلاقة ودية وفقا لشروط مضى عليها الزمن. ارادت ان يكون حبها له مختلفا بكل تفاصيله لكن في المقابل كانت تطمح لعاطفة نبيلة وقوية فترضى وتقتنع. لكن الامر اتخذ طابعا اخر.
عاطفتها نحوه تبدلت بعد لقائه بها. وتكررت زياراتها له يوما بعد يوم الا ان تلك العلاقة لم يعلم بها احد سواهما, حتى انها اخفت الامر عن والديها وصديقاتها. هي الان واعية ولها حق الاختيار.
احست بسعادة عارمة وخالجتها شكوك مريرة, ففي كل مرة كانت تزوره تشعر برغبة بالبقاء معه طيلة حياتها, وحين تتركه تلهب الغيرة فؤادها وتتمنى لو لم تعرفه.
كانت تنتظر تلك اللحظة الحاسمة حين يفترقان. اصبح دومينيك بالنسبة اليها مثل كابوس في ليل طويل. استبد بها ارق أضج مقعدها, ونحل جسمها, ولاحظت لورين انها لم تعد مشرقة كما في السابق الا انها لم تفقد في يوم حيويتها مع تلك الصغيرتين الرائعتين. لم يدر دومينيك كم سبب لها من الام كثله كباقي الرجال الذين يؤمنون بالحب والعواطف النبيلة. انها المرة الاولى التي تشعر بها باسلوب مختلف في تعاملها مع من تحب.
شانه شان كل الرجال لا يحب الارتباط من اي نوع, يريد التملص فجاة متى بدات العلاقة تزداد الا انها على الرغم من حبها له, ابقت الامر سرا ولم تبح بها لاحد, وهي التي حاولت اغوائه بشتى الوسائل كي يبقى لها دون غيرها, فغيرتها التي اشعلت فؤادها قد كشفت مكامن ضعفها وجعلتها فريسة للكآبة والحزن بكل معانيه.
ان اللوم يقع على عاتقها فقط, فهي على علم بتصرفاته الطائشة وانه ليس ممن يحبذون الارتباط باي شخص, وقد قال لها من قبل بانه يطير من بلد الى اخر مثل الطائر الحر.
كان ياتي الى شقته الصغيرة مجموعة من الفنانين المبتدئين, فيضج المكان بهم ويحظى الجميع بلحظات رائعة, من بينهم فتاة دومينيك التي احبت اصدقاءه واصبحت على معرفة وطيدة بهم. في المبنى نفسه تقيم عائلة ايطالية يربطها بدومينيك علاقة مودة قديمة. حيث توفيت الزوجة مخلفة ست اولاد صغار, قام دومينيك بتفقد العائلة هذه وقدم ما يستطيع من معونة من ضمنها تكاليف الدفن وما شابهها, مثل اي ايطالي محب. فقد وهب مبلغا من المال لمساعدة الرجل مع عائلته بمن فيهم زوجته الجديدة التي اتى بها لرعاية الاطفال.وقد تصرف كعادته التي داب عليها طوال حياته. فغيره من الاغنياء لا يكترثون للفقراء والمحتاجين. الا ان تلك العاطفة النبيلة التي عرف بها لم تقتصر في يوم من الايام على من عرف من فتيات وهي التي احبها حبا جما لم تحظ منه بعاطفة مقابل حبها الكبير.
تيقنت حينها ان نهاية قصتها معه قد اقتربت.
تلك الايام الجميلة الوادعة التي قضتها معه, كانت حلمها الذهبي. فقد عرفها الى اماكن لم تكن تعرفها من قبل في ديل فاريس, وزارت مطاعم ومقاه رفيعة المستوى, وفي دوامة تلك الايام السعيدة كان دومينيك يملي عليها من علم معروفة في مجاله الفني.
واتى اليوم الموعود, اذ ذات امسية امسك بيدها فاقتربت نحوه خطوة ثم بكلتا يديه رفعها عاليا وسط اللوحات الفنية المبعثرة, هامسا باذنها كلمة طالما انتظرتها. قال لها " احبك. "
"قطتي الحبيبة احبك من كل قلبي, وتعنين لي الكثير."
غمرتها سعادة لم تعرفها وتحس بها من قبل. فاحست بنبضات قلبها تطرق بشدة وتمنت او يدوم فرحها.
كانت تنظر من نافذة الغرفة تسامر النجوم المضيئة في صفحة السماء.
في تلك اللحظة تذكرت لندن حيث نشات وهي صغيرة. الا ان مكانها هنا في ديل فاريس بالازو. في روما, حيث عرفت الدفء والحنان, فهي لم تامل في يوم من الايام ان تصبح حبيبة لرجل نبيل مثل دومينيك.
من الليلة فصاعدا اشرقت شمس جديدة في حياتها, والايام الماضية التي عرفتها بتعبها وشجونها وباشيائها التي لم ترق لها اصبحت الان في طي النسيان. مبادئها القديمة التي كانت تمن بها وتسيطر على تفكيرها تبدلت تلك اللحظة اصبحت بكل كيانها ملكا لدومينيك, هام بها وعرفت سعادة لم تدرك نتيجتها.
وانقضى شهر بايامه ولياليه وساعاته القليلة التي تمخّض عنها حب جارف لا حدود له.
انقضى اسبوعان ولم تره, احست بفتور العلاقة وقررت البقاء حيث هي وعدم زيارة دومينيك. وهي غارقة بافكارها السوداء اتتها رسالة منه تقول: "قطتي الجميلة, لن استطيع ان اراك اليوم اذ يتحتم علي السفر الى باريس لاسباب مفاجئة طرات تتعلق بعملي. ساخبرك عندما اعود."
لاحظت ان اتصاله بها قد انقطع, فهو لذي لم يخط بحياته كلمة لشخص, ارسل لها بتلك الرسالة التي ضمنها حبه واشواقه.
ظللت عليها عتمة حالكة, فروما التي احبتها كثيرا اصبحت فراغا قاتلا يسودها السكون في غياب دومينيك. كان لا يقطع الصمت الرهيب سوى رن جرس الهاتف وتساؤلات الاولاد عنها وعن سبب غيابها. افكار شتى راودتها عن سفره المفاجئ وعمله في الخارج واشياء اخرى. وهي لا تملك الحق في السؤال والتدخل بحيثيات حياته اليومية. حبيبته لشهرين اثنين وكفى.
منتديات ليلاس
وتملكت منها كآبة عانت على اثرها الكثير, فأرق الليالي وقلة النوم, كل ذلك جعل منها فتاة نحيلة لا تقوى على شيء.
احست بغيرة قوية تنهش صدرها, تصرفاته لم تعد كسابق عهدها, لكن كل تلك التخيلات والظنون كانت تتصورها, فدومينيك محب وحنون وهي حبيبته لا غير.
اوت الى الفراش وكانت تشعر بالم لم تعرف مصدره, غير ان لورين تعرفت الى سبب مرضها واقترحت انه ما يسمى بالحمى الرومانية, وبكل حنان ومحبة حاولت الاهتمام بها ورعايتها.
ذات مساء وهي جالسة في سريرها, رن جرس الهاتف فاذا بدومينيك يتصل, فقفزت فجاة من مكانها وهتفت بفرح كبير حين سمعت صوته: "كيف حالك يا حبيبي؟ احبك."
اجابها ضاحكا:"قطتي الحبيبة." وضحك ساخرا.
قال: "ساكون في روما صباح يوم السبت المقبل."
اخذت تعد الايام التي تفصلها عن يوم السبت, ثم هتفت قائلة: "حسنا ساكون منتظرة في منزلك في الرابعة كعادتي."
اجابها: "بالطبع يا حبيبتي, كوني بانتظاري فانا باشد الشوق اليك."
ساد صمت, يبدو ان الرجال اشد حذرا من النساء هذه الايام, يقولون ما يودون قوله متى شاؤوا. رده كان مختصرا.
قالت بامل كبير: "الكل يتمتع خارج منزله وانا هنا..."
فقال: "اراك يوم السبت المقبل, الى اللقاء يا قطتي الصغيرة."
ارادت متابعة كلامها لكن الخط انقطع على الفور.
مضى وقت طويل على غيابها عن تلميذتيها فقد انقطعت عن التعليم منذ فترة وجيزة ولا تدري ما حل بهما الان. بدا قلبها يخفق بقوة وتابعت تحادث نفسها.
"الخميس, الجمعة, السبت وماذا بعد؟ اه دومينيك... دومينيك."
بقيت تراودها افكارسيئة حول ما سيحصل فيما لو تاخر دومينيك.
هل سياتي الى المنزل ام سيبقى في باريس؟ ماذا لو حدث له اي طارئ؟ ستعرف بالتاكيد من لورين صديقة والدته.
تخيلت نفسها في اول لقاء لها مع دومينيك في عناق حار, وهو يقبلها قبلا كادت لا تقوى على المقاومة, ثم وهو يمسك بيده ريشته يقول: "لا تتحركي ابقي حيث انت, تعابير وجهك الجميلة جذابة, اريد ان ارسمك كما انت الان."
كعادته في كل مرة, كان يفقدها صوابها قبل ان ياخذها بين ذراعيه.
بات عليها الان ان تلبي اوامر لورين لتاخذ ابنتيها لزيارة عمتهما في حي من احياء روما, وعليهم العودة قبل العشاء.
لاول مرة تبدو مستاءة, لا تقوم بتحقيق رغبة لورين وترفض معتذرة القيام بواجبها.
"ارجوك اعذريني لدي موعد هام..." وجهت اليها الكلام متوردة الخدين خجولة.
بدت لورين متفاجئة ومحتارة: "هل الامر هام جدا؟"
فكرت الفتاة باعتذار فقالت: "قريبة لي تنتظر في المطار, علي اصطحابها ومرافقتها الى حيث ستمكث في روما."
اخيرا, اذعنت لورين واخذت تفكر في حل للقضية, عندها تنفست كريسيدا الصعداء.
الا تاتي الى منزله يوم السبت وتكون في انتظاره امر لا تحتمله.
والان وهي في طريقها الى شقته بدات تتذكر لحظات سعيدة عاشتها في روما مدينة الضوء والارستقراطية المذهلة بكل حيويتها وضوائها, روما التي احبتها منذ زمن بعيد.
وقفت تتامل نهر التيير المتدفق تحت الجسر العتيق منسابا انسياب الذهب, ومياهه عكست لون السماء الازرق الصافي. بدات الغيوم تختفي وتفكيرها منشغل بما سيفعل دومينيك هذا المساء.
على الارجح سيرتاحان لساعات قليلة في الشقة الصغيرة ومن ثم يخرجان لقضاء امسية في احد مطاعم حي بيازا, أي في سانت ايغنازيو, حيث يتناولون وجبة فوتشيني المفضلة لدى دومينيك, وبعد طلب الفاكهة والقهوة سيمضي دومينيك بعض الوقت يرسم منزلا يتراءى له من خلف قضبان حديدية لبوابة كبيرة, او صف حجر نبت عليه العشب واشياء اخرى تثيره وتضيف الى غموضه ورومنسيته.
"اه دومينيك, دومينيك."
عادت الى المنزل الذي كان لفنان من فلورينتين صديقا له, حيث امضى فصل الخريف بكامله عنده ومن ثم رحل عائدا الى بلده.
صعدت السلم الخشبي المؤدي الى شقته بخطى سريعة وهتفت: "دومينيك, دومينيك." وهي تلهث من شدة التعب. كعادتها مشت نحو منزله غير ملمة بما يدور حولها.
منذ ثلاثة ايام اتصل بها ليعلمها انه قادم صباح هذا اليوم وسيلتقي بها بعد الظهر, لكن ما الذي حصل حتى عاد بسرعة, حزم امتعته ثم عاد ثانية دون ان يراها؟ وكانها افاقت من كابوس مخيف.
منتديات ليلاس
التفتت الى الظرف الملقى على الطولة وقد كتب عليه اسمها, بدا مالوفا بالنسبة لها, انه خط دومينيك الذي تميزه من بين كل الخطوط.
مزقت الغلاف بسرعة واخذت تقرا كلمات رسالته بعد ان فضتها, امعنت لوقت طويل في قراءتها للرسالة وهي تهمس: "يا له من رجل غير منظم."
بدات بالقراءة: "عزيزتي, لا ادري ما علي ان اقول, لم يتوجب علي الذهاب دون ان اودعك, اقسم اني لم احسب ان الامور ستسوء الى مثل هذه الدرجة. تعرفين اني لست من مؤيدي الزواج, لكن معك اختلف الوضع فقد عشت اجمل ايام حياتي.
اخبرتك اني احببتك كما لم احب من قبل, لكني لست من نمط اولئك الذين يرتبطون بزواج, اعترف ان الامور افلتت من يدي, احبك وتحبينني,عملت كل ما في وسعك من اجل انجاح العلاقة وكانت تضحيتك كبيرة, لكني في المقابل لا استطيع فعل شيء, اود اللقاء بك واسعادك والبقاء بجانبك كل فترة عملك فيروما.لكن ظروف طارئة حدثت بباريس بدلت كل خططيهذا الصيف, فقد زرت والدتي وقد اخبرتك ان والدي توفي مذ كنت يافعا, وتزوجت امي للمرة الثانية من رجل برازيلي يصغرها بكثير وبقيت لفترة طويلة لا اراها.
ومن ثم توفي زوج امي في حادث سيارة ومنذ ذلك القوت وهي مريضة وغير سعيدة.
كنت قد بقيت معها لو لم تتزوج, فحين تزوجت به كانت في الخمسين من عمرها وجميلة جدا, لكن الان هي في باريس حيث اتت للعلاج من مرض عضال على يد اختصاصي في الاورام السرطانية تثق به. لكن للاسف لم يستطع فعل شيء. جزعت اذ رايتها نحيلة شاحبة اللون, غير ان ممرضة خاصة تهتم بها, وعدتها بالمجيء اليها في البرازيل والعيش معها.
حان وقت الوداع عزيزتي, ولا اعتقد امما سنلتقي من جديد. اعلن لك عن جبني وخساستي, ولا اقوى على وداعك وجها لوجه, قطتي الصغيرة انت نبيلة جدا واعتقد ان الوداع سيكون مؤثرا جدا, لذا فضلت الهرب. كان يجب ان اودعك بواسطة الهاتف. اعترف انني اناني ومتوحش, رغبت حقا بالبقاء ورؤيتك مع علمي انك ستاتين لرؤيتي.
حاولي ان تسامحيني اقل ما في الامر, اني لست مغرما باحداهن, اعدك اني لن احب احدا سواك ما حييت, اشكرك واحبك باسلوبي الخاص.
كوني سعيدة في حياتك... دومينيك."
وعلى مهل بعد ان فضت الرسالة وقراتهاطوتها ووضعتها في غلافها الخاص ومن ثم دستها في حقيبة يدها. كان يلزمها بعض الوقت لتفهم مغزى الرسالة, فالشاب الذي احبته عاجز عن وداعها: "يا للهول يا له من امر مخزي."
احست بالم شديد لم تعرف مصدره اذ انتهت من قراءة سالته وشعرت بكآبة محزنة.
واستدركتسطرا قراته في تلك الرسالة: "اعدك اني لن احب سواك."
كادت تقع على الارض من فرط الضحك. هل مثل هذا الكلام يهدئ اعصابي, وما الفائدة ان هو احب فتيات اخريات غيري سواء في باريس او البرازيل او في اي مكان اخر؟ لكن ما يهون الامر علي ويخفف من حدة المي انه تركني ليعيش مع امه وليس سواها. يا له من رجل! من فرط حساسيته لم يتمكن من مواجهتها وتركها وحيدة تتلقى ضربة مؤذية ستتذكرها لمدى العمر.
رددت عبارة وردت في رسالته: "لا اظن اننا سنلتقي من جديد.ولا انا اعتقد ان لي رغبة في لقائه في اي وقت من الاوقات."
لكن الحياة تبقى مستمرة مهما تازمت الاوضاع وعليها البقاء وحيدة, هذا مستحيل من وجهة نظرها.
فجاة ارتمت على الكنبة وغمرت وجهها بغطاء مزخرف.
ثم تناولت الرسالة من حقيبتها وحملتها بقرب صدرها ثم مزقتها شر ممزق.