1- أبتسم لها
كانت أمسية حارة تتهادى فيها الغيوم على صفحة الشمس فتجعلها ترسل أشعتها المتقطعة على شعر الرجل الجالس عبر نافذة المقهى.
كان الرجل يحرك الشاي في فنجانه بلا توقف , مع أن السكر ذاب فيه من زمان! بدا وكأنه يعالج في ذهنه مشكلة مستعصية ما ينفك حلها يتهرب منه.
وما كان ليلحظ الفتاة الجالسة في المقهى نفسه لولا وجود كلبها , كان صغير الحجم ذا شعر سلكي , وقد نهض وراح يتمطى برما , ثم وقف يلهث بأنتظار الفتاة التي كان يستلقي عند قدميها.
رفع منخريه فأختلجا ,وسار وأنفه الى البلاط ,حتى وصل مكان الرجل , فطفق يشمشم حذاءه وهو يهز النصف السفلي من جسمه القصير المتوثب , ويخبط ذيله في جنون من جهة الى أخرى ,ثم يحشر أنفه في كف الرجل التي هبطت في تلك اللحظة لتربت على رأسه.
راقبتهما أدريان وقد جمدها مشهد كلبها يطرح نفسه على شخص غريب كليا , لم تقدر أن تفهم تصرفه .... كما لو أنه وجد صديقا.
منتديات ليلاس
نادته في ضيق:
" فليك! تعال هنا!".
لكن الكلب لفرط أبتهاجه بصديقه الجديد لم يمتثل لأمرها , سارت عبر الأرض الخشبية وأنحنت لتقبض على طوقه , ألا أنه هرب منها وأنطرح تحت طاولة الرجل , غاصت وراءه , لكن جبينها أرتطم بحافة الطاولة في عنف , فأحست بالدوار ووقعت عند ساقي الرجل الذي مد لها يديه ليسندها.
ولما تشبثت بالطاولة أختل توازنها وأنسكب الشاي عليها , لكن الرجل تغاضى عن ذلك , وخلص الفتاة في لطف من وقعتها المحرجة , رفعت يدها الى جبينها وفركته بأسى , وأحست في عينيها حريقا من الألم .
نظر اليها بلهفة وسأل بصوت لطيف:
" هل أنت بخير ؟ كانت بالفعل خبطة قوية".
وباللطف ذاته , أزاح يدها وتفحص الكدمة , وقال:
" أنها أخف مما ظننت , لكنها تؤلمك , أليس كذلك؟".
أومأت , ثم قالت وهي تتأمل بركة الشاي الممتدة على سطح الطاولة :
" آسفة لحرمانك من الشاي ولكوني السبب في أنسكابه هكذا".
تذكرت كلبها ونظرت الى الأرض , كان يلعق قطرات الشاي المتساقطة على البلاط بفرح , فضحكا معا , وقالت للرجل تشرح تصرف الكلب:
" أنه مغرم بالسكر وليس بالشاي بحد ذاته , سأعوضك بفنجان آخر على حسابي".
" كلا , أنا سأفعل ذلك عنك ,تفضلي".
سحب الكرسي المقابل وألح عليها بالجلوس وهو يضيف:
" سآتي بفنجانين آخرين".
قفز الكلب الى الكرسي المجاور واضعا مخالبه على حافة الطاولة وشرع يلعق الشاي المسكوب بلسانه الطويل , ضحك الرجل ثانية ,لكن أدريان أنزلت الكلب الى الأرض وأهابت به قائلة:
" كفي يا فليك , وكن مهذبا!".
عاد الرجل بالشاي ولحقت به المسؤولة عن المقهى , أبتسمت لأدريان في عطف وهي تجفف سطح الطاولة وقالت:
" لقد رأيت ما حصل , فهل تشعرين بتحسن؟".
فأومأت أدريان شاكرة.
قدم لها الرجل السكر وقال مازحا:
" أتعلمين أنك أول أمرأة تطرح نفسها على قدمي ؟ يجب أن أسجل هذه الحادثة في مفكرتي".
أبتسمت أدريان وأحمرت قليلا لشعورها بالحرج من تصرفه الودي هذا.... نظر الى جبينها وقال:
" قد لا تزول آثار الكدماتسريعا , ومن حسن الحظ أن اللطمة لم تسبب ضررا أفدح".
ثم نظر اليها متأملا شعرها الأشقر وحاجبيها المقوسين وخديها المكسوين بمزيج من التورد والشحوب , شعرت به يتفحصها , أذ كانت تركز بصرها عمدا على تحريك الشاي في فنجانها , ولما أنتشلت الملعقة , تراقص السائل كالدوامة , ولف معه أوراق الشاي العائمة , ثم أمتصها في منتصف الدائرة قبل أن تهبط متمهلة الى القعر , أفكارها كانت أيضا في دوامة , فثمة شيء يحيرها في سمات هذا الرجل , أنها واثقة من أنها ألتقته في مكان ما من قبل , مع أنها لم تره في حياتها.
" ما أسم كلبك؟".
منتديات ليلاس
أقتحم سؤاله أفكارها , في عينيه صفاء وهدوء يدلان على قوة خفية , على شخصية تشع ثقة وتفهما , يحاول على ما يبدو أن يوحي بهما للآخرين , لا ريب أنه يمتلك قدرا كبيرا من العزيمة الخلقية ومن القدرة على مواجهة كل المواقف المستجدة , فهما بلغت صعوبتها.
كان ينظر الى حيث يضطجع الكلب قريرا , كصرة بيضاء مرقطة بالسواد , مغمضا عينيه ودافنا أنفه بين مخالبه.
" أسمه فليك".
" وما أسمك أنت؟".
فأضطرت عندها للنظر اليه ولمواجهت أبتسامته التي أوحت بأنه ما طرح السؤال ألا ليرغمها على رفع وجهها اليه , حيث راح يدقق فيه بنظرة جعلتها تتضرج أحمرارا .... لأول مرة تلتقي رجلا غريبا بهذه الطريقة , ولا تعرف بالتالي كيف يجب أن تتصرف ,هل يقتضي الموقف أن تطلعه على أسمها؟ لا مجال للتساؤل ولا مفر من ذلك , أنها ببساطة لا تعرف كيف ترفض ولا تملك ذلك الأسلوب الذكي المطواع الذي تنتهجه فتيات أخريات أمام سؤال كهذا ... فقالت :
" أسمي أدريان.... أدريان غارون".