لم تر موراي في اليوم التالي , في الكوخ , وفي أثناء العمل , كانت تتوقف بين الفينة والفينة ترهف أذنيها , فتتخيل أنها تسمع وقع قدميه ألا أنه لم يأت.... في الصباح جاءتها السيدة ماسترز بالقهوة وفي العصر بالشاي وبدأت تتوق الى مرآه , ولا تشترط حتى أن تسمع صوته أو كفه.....عنفت نفسها على رعونتها هذه , فهي مخطوبة الى كليفورد وليس اليه.
وفي المساء راحت تتنزه , وأخذت تؤرجح مقود فليك بين أصابعها وهي تمر بالأزهار البرية المتفتحة في شجيرات السياج , تنفست عبير الصيف العابق حولها , فأنساقت خلف حلم لذيذ على أيقاع زقزقة الطيور. وحين عبرت المنعطف رأت رجلا ينتظر في نهاية الدرب , تسمرت في مكانها وخيل اليها أن المشهد جزء من الحلم , أذ ما قدرت أن تصدق حقيقة وجوده هناك.
ألتقط الكلب رائحته فركض صوبه مبعثرا التراب والحصى أذ كانت مخالبه تنزلق الى خلف وجسمه يندفع الى الأمام لشدة لهفته.
أنحنى موراي يداعبه ويغمغم:
" يا لك من كرة نارية يا فليك".
ثم أستوى واقفا وقال لها في منتهى البساطة:
" مرحبا".
أخذ المقود من أصابعها , فسألته وهي تقنع سرورها بأنزعاج مفتعل:
" كيف عرفت بأنني سأجيء؟".
" أحسست مجيئك في عظامي , كما تقول أمك".
أبتسم وبدا سعيدا , كذلك بدت العلاقات بينهما متوازنة , قال:
" سنذهب الى الحديقة العامة بدلا من الحقول , وأعتقد أن المقهى لم يقفل أبوابه بعد , أليس كذلك؟".
" أجل , ففي هذا الوقت من السنة يظل مفتوحا حتى حلول الظلام لكن.....".
بدأت تعترض لتثبت له أنه لا يستطيع فرض أرادته عليها:
" أنني أذهب دائما الى الحقول , فلماذا أغير الليلة هذه العادة؟ لنفترض أنني لا أريد الذهاب الى الحديقة؟".
لكنه تجاوز أعتراضاتها الواهية بغروره المعهود وقال:
" سنذهب بغض النظر عن رغبتك .... هيا بنا".
أمسك يدها , وعبثا حاولت تخليص أصابعها من قبضته , سألته:
" لماذا تريد الخروج معي؟".
" أنا في أجازة , وشعرت بحاجة الى رفقة أمرأة ,حتى لو كانت فقط زوجة أخي المقبلة.... أريد على كل حال , أن أتعرف اليها أكثر".
جلسا في المقهى الى طاولة هادئة , وربض فليك تحتها فيما كانا يشربان الشاي , وعلقت أدريان قائلة:
" أذا كنت تنفر من أخيك الى الحد الذي تقول , فلماذا تقضي أجازتك معه؟".
فضحك وأجاب:
" هذا لعمري سؤال ذكي! ولكنني لا أقضيها معه عادة , بل أسافر الى الخارج أو أرتاد الشواطىء المنعزلة في شمال أنجلترا , أو في غرب أسكتلندا , هذه المرة جئت هنا لأتعرف الى المرأة التي أعلن أخي فجأة أنه سيتزوجها".
" أتقصد أنك جئت لتعاينني كما يعاينون الماشية؟".
" أنا لست جراحا بيطريا ولا أنت حيوان بالمعنى الحقيقي للكلمة! فلنقل بطريقة أنسب , أنني أردت أن أمتحنك".
" وهل نجحت في الأمتحان؟".
فأبتسم في غموض وأجاب:
" أنا لا أبوح أبدا بنتائج فحصي , فذلك ينافي آداب المهنة , وأي طبيب بيطري يعطيك نفس الجواب".
غطى يدها بيده عبر الطاولة وتابع:
" لكنني أستطيع القول أنني كنت مصمما – في حال عدم أستحساني لأختيار أخي- علي مصارحته بهذه الحقيقة بكل وضوح و وعلى العودة سريعا الى حيث كنت , أما سبب بقائي لغاية الآن أن يعطيك فكرة معينة حول ملاحظاتي وأستنتاجاتي الخاصة بك".
" بكلمات أخرى , أنت تودني؟".
نظر اليها مليا , وأجاب:
" لولا معرفتي بطبيعتك لحسبتك تسعين الى الأطراء".
أزاح يده عن يدها وتابع:
" لنقل أنني لا أنفر منك".
توردت وجنتاها كدرا من عبارته الجافة ,ورمقها هو بأبتسامة كسولة , أدار رأسه , وحدق عبر نافذة المقهى الى الحديقة في الخارج , وبدت أفكاره تنساق بعيدا وحين تكلم ثانية , قال في جدية:
" قد تتساءلين عن الحب الأخوي المفقود بيني وبين كليفورد".
لم ينتظر جوابها , وتابع يفسر:
" كان في السابعة من عمره عندما ولدت أنا , وطوال ذلك الوقت كان قرة عيون والديه , ولما جئت الدنيا , تحولت عواطف أبويّ, كما الحال مع سائر الآباء والأمهات , وأصبحت أنا مصدر فخرهما وبهجتهما".
توقف قليلا فسألته بصوت لطيف:منتديات ليلاس
" وهنا شعر كليفورد بالغيرة , أليس كذلك".
فقطب وغامت عيناه بالألم وهو يجيب:
" نعم , غار مني وصار يكرهني على مر السنين , كان يلفق عني قصصا وأفعالا كاذبة فأعاقب عليها زورا وبهتانا , كنت وقتها صغيرا فلم أدرك أنه كان يفعل ذلك ليستعيد أهتمام أبويه به , فكرهته لأجل ذلك , ثم بدأ يتمارض , وكلما أشتد قلق والدي عليه كلما تمارض أكثر.... هل يشعرك حديثي بالملل؟".
هزت رأسها نفيا ورجته أن يستمر , فقال:
" كان يشكو لهما آلاما وهمية في كل جسمه , ويبدو أنه قرر في النهاية تركيز تلك الأوجاع في صدره حيث يوجد قلبه , عرضوه على رتل من الأخصائيين , وكان كليفورد يستمتع بكل دقيقة من تلك الفحوصات! ما كان ليصدق تأكيد الأطباء بأنه سليم القلب , في الأخير أقنع نفسه بأنه مريض بالقلب وأقنع والدي معه , فنسيا أمري في غمرة قلقهما عليه , وهكذا ربح هو ( المعركة)".
نظر في عينيها وسأل:
" هل تصدقين الآن حين أقول أن قلبه سليم كقلبي وقلبك ؟ وأن القصة بكاملها هي من نسج خياله , وأنه ما ينفك يستغل هذا التمارض ليحظى بالأهتمام و( الحب)؟".
رأى في عينها شكا , فقال في مرارة :
" يبدو أنك ما أقتنعت بعد .. أنه التاريخ يعيد نفسه".
" لا فائدة يا موراي , لك أن تقول ما تشاء ,ألا أنك لن تجعلني أغير رأيي".
" لن أغير لك رأيك ؟ أنظري.... فأنا ما أنتهيت منك بعد".