الفصل الأول
كـان المنطاد يهبط بسرعة أكثـــر مما يجب !
وتوترت أصابع ساشا وهــي تنقل أبصارها بين الملامح
الصارمة للرجل الواقف عند موقد الاشتعال , يبذل جهداً
يائساً ليعلو قليلاً فوق الحقول الخضراء وقرميد منزل
المالك الذي برزت منه المداخن وقد بدت فجأة وكــأن المنطاد
موشك على الاصطدام بها .
منتديات ليلاس
وشعرت بالغثيان وهي تتساءل عما إذا كان هذا هو أجلها قادماً
وبدا وجهها , الذي يحيط به شعرها الأسود
المنسدل على كتفيها , شاحباً وهي تفكـــر في إمكان
سقوطهما من الفضاء فوق مكان ما من منطقة أسكس في تلك
الأمسية الصيفية! أم هي منطقة سافولك ؟ إنها لم تكن متأكدة
من طول المسافة التي اجتازتها .
هتفت : (( غايفن .. افعل شيئاً ))
امتلأت عيناها ذعراً وهي تنظر إلى النسيج المخطط
المنفوخ . وقال مرافقها بحدة : (( ألا ترينني أحاول ؟ ))
وتتابعت أمام عينيها نتف من شريط عمرها ذي الست
والعشرين سنة .
نشأتها وتعليمها الجامعي في نيويورك . طلاق
والديها , وتعرفها ببن . ولكنها سرعان ما نفت كل هذه
الذكريات من ذهنها جميعاً ابتداء من أول موعد لها مع أستاذ
الفنون الشاب الرقيق الملتحي إلى ذلك الاتصال الهاتفي
الذي زلزل حياتها منذ ثمانية عشر شهراً والذي دمر
سعادتها . شهور العذاب والمرارة التي ساقتها إلى انكلترا
هرباً من الوحدة والذكـــريات والشعور بالذنب. . .
وقال غايفن : (( لقد حاولت أن استوي به يا ساشا و أظنني
سأنجح في ذلك .))
وأعادها صوته إلى الخطر الحالي , كان مطبقاً أسنانه
بشدة , وقد احمر وجهه وهو يتنفس بصعوبة متشبثاً
بالأمل . وكانت ترقب محاولاته عندما اندلعت شعلة من
اللهب مرسلة دفعة أخرى من الهواء الحــــار في نسيج
المنطـــاد الملون .
وكان هذا كابحاً ينقص من سرعة النزول . وابتدأ نسيم
المساء يحوم بهما فوق المنزل , ولكـــن هذا لم يكن كــافياً
ولاحظت ساشا الخيمة خلف الأشجار , وكان بعض الناس
يتطلعون الآن إلى أعلى وقد تأنقوا جميعاً في لباسهم .
ولكنهما كانا على اهبة الهبوط بينهم إذا هما لم يأخذا
حذرهما .
وألقت نظرة ذعر أخرى سريعة على مرافقها . لقد شعرت
بدفعة أخرى من الحرارة من موقد الاشتعال . ولكن ذلك كان
بعد فوات الأوان إذ اصطدمت سلة المنطاد دون رحمة
نحو الخيـــمة .
سمعت ساشا نفسها تصرخ بينما كان الناس
يتصايحون , وهي تندفع ساقطة يحزها الم عنيف في
كتفها اليسرى قبل أن تصدمها الأرض وسط دوامة من
الأصوات والغبار .
وسمع صوت امرأة تصيح : (( انظروا ماذا فعلا . لقد دمرا
كل شيء . وانظروا ماذا حدث للخيمــة بسببهما ))
ارتفع صوت آخر لرجل : (( كيف حدث هذا بحق جهنم ...؟
كلا , لا تلمسوها . إذ علينا أن نعرف مدى إصابتها قبل أن
يحركها احد من مكانها .))
كان صوتاً عميقاً مسيطراً . وعاد صوت أنثوي آخر أكثر
رقة ونضجاً وقد بدت فيه لكنة خفيفة , يقول بحنان : (( لقد
ماتت يا للمسكينـــة ... ))
((كــلا ... إنني لم أمت !. ))
ومع إن هذه الكلمات تبلورت في
ذهنها إلا أنها لم تبرح شفتيها . وقد اختلطت في حواسها الضوضاء
برائحة الحشائش الغضة .
(( النجدة , النجدة من فضلكم ... )) و سمعت وهي ترتجف
ذلك الصوت المسيطر يلقي بتعليماته مرة أخرى . صوت ذلك
الرجل القادر على التنفيذ ... وسرعان ما شعرت بشيء
دافئ يغطيها. وكما لو كانت مؤرجحة فوق حافة هاوية
سحيقة , شعرت بخياشيمها تنتعش برائحة ذكية منعشة ,
وللحظات قليلة فكرت بلهفة في غايفن وعما إذا كان قد نجا
أم لا , ثم ابتدأت تتهاوى شيئاً فشيئاً في تلك الهاوية
الـــمظـلمة.
ولا بد أنها نقلت إلى الداخل , إذ وجدت نفسها , حين
استيقظت , في سرير وعيناها تحدقان إلى سقف مرتفع .
بينما كان ثمة أصوات مختلطة تصل إلى مسامعها.
(( لا ادري كيف أمكنك تقبل الأمر بمثل هذا الهدوء. إنني
اعرف انه كان حادث صدام و إنني اشعر بالأسف لأجلها ,
ولكنني لا يمكن ألا اشعر بالانزعاج. من المؤكد أن ريكس
لن يكون راضياً عن نتيجة ما حدث لخطته التي استغرق
أسابيع في وضعها.))
استدارت ساشا لترى قائلة هذه الكلمات الغاضبة .
فوجدتها فتاة اصغر سناً منها هي , ذات شعر قصير أصهب ,
تقف قرب النافذة. وعندما ابتعدت المرأة النحيلة التي
تكبرها سناً والتي كانت إلى جانبها, بدت لعيني ساشا
بالغة الأناقة .
قالت المرأة الكبرى : (( كفى يا لوريـــن . ))
وميزت ساشا صوتها ذي اللكنة الخفيفة المرأة ذاتها
التي سبق أن تحدثت عنها بحنان . ولكن إذا كان مثل هذا
الحادث يمكن أن يعكر مزاجه , فإنني ...)) وسكتت المرأة
فجأة وقد أدركت أن ساشا كانت مستيقظة .
اقتربت المرأة منها وقد كست ابتسامة رقيقة ملامحها
وهي تسألها : (( هل أنت بخير يا عزيزتي؟ هل تشعرين بألم ؟ .))
كانت أنيقة و لطيفة , برغم صلابة ملامحها .
ورفعت ساشا يدها إلى صدغها وهي تشهق متألمة ثم
قالت: (( إنني ... إنني بخير . إنها ... كتفي فقط . )) وابتدأت
تحاول تذكر ما حدث وقد بدا العبوس في وجهها وارتفعت
نظراتها إلى النافذة المستطيلة تتطلع من خلالها إلى المرج
الأخضــــر
فجأة ابتدأت تتذكر , وحاولت الجلوس وقد بدا الألم في
عينيها وهي تهتف : (( غايفن ... هل هو ... ؟ ))
قالت المرأة المسنة تطمئنها بلهجتها تلك : (( انه بخيــر
تماماً . )) كانت لهجتها إسكوتلندية (( انه في القاعة يتلقى
علاجاً لبعض الجراح وسيكـــــون على ما يرام . ولكن, بما إنك
غبت عن الوعي عدة دقائق , أرى أن من الأفضل , لزيادة
الاطمئنان , أن تنقلي إلى المستشفى .))
المستشفى . المكان الذي سبق أن انتظرت طويلاً , لكي
تخرج منه في النهاية صفر اليدين ... من دون أمل , ومن
دون مستقبل . وقد تشتت أحلامها !
قالت وهي تمد ساقيها إلى ما تحت حافة السرير .(( كلا. ))
وتأوهت والألم يفتك بأعماقها , وشعرت بأنها موشكة على
الإغماء , وهي تنظر إلى قميصها وقد أدركت أن شخصاً ما
قد فك حزام سروالها .
عادت المرأة تقول : (( أرأيت إنني على حق يا عزيزتي ؟
إنهم في المستشفى يعرفون كيف يهتمون بك . لورين ,
اذهبي واطلبي من كليم أن يجهز السيارة . ))
وهتفت ساشا مرة أخرى ودفعها إلى ذلك الألم الذي
يمزقها : (( كلا )) كانت لهجتها حادة , ولكن ليس في أمكانها
أن تواجه احد هذه الأمكنة مرة أخرى . لا يمكنها ذلك ابدأ ...
أوليس هذا ما دفعها إلى المجيء إلى انكلترا لكي تنسى ؟
عادت تقول بلهجة اعتذار : (( كلا , إنني بخير حقاً . )) ولكن
المرأة الشابة لم تقبل هذا منها , قالت : (( إن عمتي تعرف ما
هو الأنسب لك . إذ يتبع ذلك أحياناً عوارض خطرة قد تكون
مهلكة . ))
قالت ساشا وهي ترفع وجهه البيضوي الشاحب الخالي
من الزينة كغيرها من الفتيات : (( شكراً . )) وفكرت في لورين
ومظهرها المرح .
قالت العمة : (( إن لورين خصبة الخيال . ))
فقالت لورين : ((ولكن ذلك صحيح . قد يمكن ريكس أن
يقنعها , مادامت لا تستمع إلينا . إنك تعرفين مدى قدرته على
الإقناع , يا عمتي شيلا . ليس عليه إلا ...))
(( لورين ))
جذب الصوت المسكت انتباه الجميع إلى وجود رجل على
عتبة الباب. كن رائع البنية بقميصه الأبيض وربطة عنقه
الفضية وسرواله القاتم الحسن التفصيل. وكان شعره
الأسود يزيد من وسامته الفائقة . ولاحظت ساشا قوة
شخصيته المسيطرة من خلال ملامحه الفولاذية . كان يبدو
في أوائل الثلاثينات تبدو العجرفة في فكه وانفه . وكانت
إمارات السيطرة التي لاحظتها ساشا حتى وهي مستلقية
على الحشائش شبه مغمى عليها, والتي زادها قوة , كرسي
ذو عجلات كان هو مشدوداً إليه.