قال: (( أحقاً ؟ )) كان صوته خشناً , وقد ارتسمت على شفتيه
السخرية من تجاوبها هذا, كما بانت المرارة على ملامحه
وهو يقول: (( حسن, إن الشفقة ليست هي ما احتاج إليه يا
ساشا . أنني رجل , كما إنك تعرفين هذا جيداً , أليس كذلك؟ ))
وتنفس بعمق وقد تعلقت عيناه بنظراتها وهو يتابع:
(( تعرفين ذلك أكثر مما تعترفين به, ولا يهم بما ستعترفين
به على قولي هذا. ))
أطلقت شهقة قصيرة وهو يحتضنها فجأة: (( كلا... ))
وغرزت أظافرها في كتفه وهي تحاول أن تكبت
استجابتها لذلك والتي كانت ترتعد أوصالها , إنها لا
تستطيع... بالنسبة إلى أي رجل ! إنها لا تستحق الحب ... بعد
الذي فعلته في بن !
كسا وجهها الألم, نتيجة صراع الرغبة والشعور بالذنب
في نفسها . وفجأة شعرت بقبلاته تتوقف . وفتحت عينيها
لترى ريكس ينظر إلى وجهها وقد تلاشت الرغبة في
ملامحه وبدت في عينيه نظرة كالثلج , وهو يهمس بوحشية:
(( اخرجي ... اخرجي من هنا . ))
كان في لهجته من الوعيد ما جعلها تتراجع بسرعة
لتخرج إلى غرفة الحديقة ثم تتوارى من خلال الباب
المزدوج .
إنها ما كانت لتفعل أكثر من هذا لتحمله على الظن أنه
طرهاً طرداً. وكرهت نفسها. ولكن , كيف كان لها أن تخبره
أنها , في داخلها, كانت معوقة شعورياً بقدر ما كان هو
معوقاً جسدياً ؟ لقد جعلته يحتقرها... واعترفت أن هذا ما
تستحقه فعلاً . وشعرت بالمرارة وعيناها تغرورقان
بالدموع .
منتديات ليلاس
تنفست بعمق محاولة للتخفيف من الحريق الذي
تحسه في داخلها . وجالت في إنحاء الحديقة لتجد نفسها,
من دون أن تشعر , بجانب إسطبلات الخيل القائمة إلى جانب
المنزل .
كانت رؤوس الخيل الكبيرة بارزة من فوق الأبواب,
وأثارت عواطفها رائحة الخيل وهي تضرب الأرض
بحوافرها .
أوقفها صوت كليم يسألها من أحد الإسطبلات: (( هل
تودين ركوب واحد منها؟ )) وأطل عليها بوجهه الذي لوحته
الشمس وقد علت رأسه القبعة المعتادة. وتابع قائلاً: (( يوجد
هنا الفرس الغبراء, وكذلك الكستنائية اللون. )) وشمل الباحة
أمامه بنظرة وهو يستطرد : (( وهناك ذو اللون الكستنائي
القاتم. ))
كانت أحصنة رائعة ولكن أنظار ساشا استقرت على
حصان أرقط أغبر اللون في آخر الإسطبل . وأخذ هذا
يضرب الأرض بقوائمه وهي تقترب منه .
سمع صوت كليم يخاطبها وهو يجر فرساً كستنائية
اللون قادماً نحوها : (( لا أنصحك بركوب ذلك الحصان, فهو
ليس للنساء. إنه حصان السيد ريكس, وأنا الوحيد الذي
أركبه الآن... ولهذا, فهو لا يخرج بما فيه الكفاية وقد جعله
هذا منفعلاً. هل تريدينني أن أجهز واحداً لك ؟ أم تفضلين
ذلك بنفسك؟ ))
قالت: (( بل يمكنني أن أقوم بذلك بنفسي .)) وشعرت
بالسرور حين مدت يدها تربت على أنف الحصان الضخم
فلم ينفر منها .
فكرت في السبب الذي يجعل ريكس يحتفظ بهذا
الحصان في الوقت الذي لم يعد بحاجة إليه. وثارت
مشاعرها, وكان بودها أن تسأل كليم عن ذلك لو لم يكن
الحنق بادياً على وجهه لإصرارها على اختيار ذلك
الحصان. وقال لها بغلظة وهو يعيد الفرس الكستنائية
اللون مكانها: (( في هذه الحالة, التمسي طريقك من
هنا.)) ثم ذهب من دون كلام آخر .
أخذت تربت على رقبة الحصان الدافئة وهي تخاطبه
قائلة وهي تراه يعود فيضرب بحوافره قلقاً: (( إهدأ يا فتى ..))
كانت أذناه منتصبتين إلى الأمام يستمع إلى ضربات حوافر
الفرس الكستنائية, ثم دفع برأسه محتجاً على احتجازها
في حظيرته .
أمسكت بأنفه من دون خوف وهي تريح رأسها عليه
بعطف وتخاطبه قائلة: (( هل تفتقد سيدك يا فتى؟ )) وتساءلت
عما إذا كان يشعر بالحزن ذاته الذي تشعر به, وبالوحدة
والكآبة من دون يد تكبح جماحه كما هو الحال معها في هذه
اللحظة .
شعرت بوحشية تكتنفها لم تحس بها من قبل, وجعلها
شعوره بالألفة نحوه تجد مربطه بسرعة .
كانت معتادة ركوب الخيل, فقد كان خالها يملك مزرعة
في تكساس, وكانت, في عطلتها المدرسية تتسابق مع
جولييت في أنحاء المزرعة المغبرة تلك. ولكن هذا
المخلوق الفظ لم يكن بتلك الرقة التي تميزت بها تلك الفرس
التي عرفتها ذلك الحين. وبعزم بالغ, توجهت بالحصان إلى
ذلك الطريق الذي يحيط بالمنطقة إلى أن غاب منظر البيت عن
عينيها .
كانت أكوام محصول اللفت والسبانخ الأخضر تمتد على
طول الجانب الآخر للأرض التي كانت يوماً ما من أملاك آل
تمبليتون , لتباع بالتدريج قطعة بعد قطعة على مدار السنين
كما علمت . كانت حرارة الشمس على ذراعيها العاريتين
تدفئها . كما تحيل حقول القمح المحصود جزئياً إلى بساط
من الذهب والبرنز . وكان في إمكانها رؤية الجرار
الزراعي يعمل بجد وثبات . وكانت تشم رائحة التبن المكوم
حديثاُ يصعدها الهواء من الوادي.
شدت لجام الحصان فجأة غير متأكدة من المسافة التي
قطعتها وهي تهتف به: (( ووو ... يا فتى... )) لقد زال اكتئابها
بعد هذه الرياضة في الهواء الطلق. ولقد استنفذ الحيوان
طاقته إلى آخرها كذلك, كما قدرت, لتدير رأسه نحو
الإسطبل , وفجأة وجدت نفسها تناضل بكل قوتها في سبيل
كبح جماح الحصان.
صرخت بالحصان وهي تدفع قدمها في الركاب إلى
الأمام , بينما تتصارع مع اللجام لتمنع الحصان من .
الانطلاق بعيداً. كان بالغ القوة والتحايل والتصميم على عدم
الرضوخ لمحاولاتها الأنثوية عديمة الجدوى. وأطلقت
ساشا صرخة ذعر عندما وقف على قائمتيه الخلفيتين
فجأة ملقياً إياها من فوق السياج الخشبي المنخفض, مما
جعلها تحاول بغير جدوى التحرك في القمح المحصود.
كافحت للوقوف على قدميها وقد انحنى ظهرها, إنما لم
يصبها أي ضرر, في الوقت الذي كان فيه الحصان يركض ,
ملوحاً بالرسن والركاب لينعطف إلى الطريق الزراعي
الضيق , ثم يغيب عن النظر .
منتديات ليلاس
وأخذت ساشا تنفض ثيابها وهي تنظر في أثره
مذعورة, ربما يستطيع العودة سالماً , ولكن , ماذا لو لم
يعد؟ ماذا لو دخل حقلاً لأحد الناس وابتدأ يأكل من
المحصول؟ أو قد يحدث الأسوأ, إذا هو اختار أن يذهب إلى
الطريق العام ليتسبب في حادث اصطدام ؟
جمد الدم في عروقها, ومن دون أن تضيع وقتاً , عادت
من فوق السياج وابتدأت تقتفي أثرة, لتقف بعد فترة لاهثة
بعدما أدركت عدم جدوى ذلك , لابد أن الحصان قد قطع الآن
أميالاً عديدة, ويمكن أن يكون أيضاً في طريقه إلى المنزل,
مما يعني أن لا أمل لها في أن تصل قبل أن يدرك أحد
ما حدث, وخصوصاً ريكس .
ارتجفت وهي تفكر في أنها قامت بما فيه الكفاية لكي
تنفره منها, وتحط من قدرها في عينية حتى دون هذا
العمل الأخير .
صممت, وهي تفكر في الحيوان أكثر مما تفكر في
نفسها. على أن تجد طريقها إلى المنزل في أسرع مما
تستطيع. وكان أمامها طريق واحد لتحقيق ذلك .
مضى الوقت قبل أن تسمع صوت سيارة آتية.
وتوقفت لتلتقط أنفاسها ثم رفعت إبهامها لكي توقف
السيارة. لم تتعود في حياتها من قبل أن تتطفل على سيارة!
وكان واضحاً أن المهارة تنقصها في ذلك, كما فكرت
يائسة, عندما مرت بها السيارة من دون أن تتوقف. ومرت
بعد ثوان سيارة أخرى تاركة إياها, هي الأخرى , على
قارعة الطريق وقد تملكها اليأس .
تمنت أن يصادفها الحظ المرة الثالثة بعد ما سمعت
صوت سيارة آتية . ولم تكد تصدق وهي ترى السيارة تبطئ
في سيرها قبل أن تشير إليها . وأخذت تبتسم حين تبدلت
أساريرها فجأة , وقد صعقت حين رأت باب المقعد الخلفي
من السيارة البي إم دبليو يفتح .
قال ريكس بصوت ينبئ بالخطر وهي تجلس على
المقعد إلى جانبه : (( حسن, يالها من مفاجأة .)) يالسخرية
القدر أن يكون هو, وليس غيره من وقف ليلتقطها من
الطريق. كانت تفكر في هذا وقد غاص قلبها بين ضلوعها
لم تكن قد أدركت أنه خرج . ولو لم يكن كليم قد أسرج تلك
الفرس الكستنائية لشيلا, ثم عاد إلى الإسطبل , لما لاحظ
غياب الحصان...
قالت: (( ريكس... إنني... ))
قال: (( هل تستمتعين بمناظر سافولك الريفية؟ ))
أسكتها الخطر الذي يبطن لهجته المهذبة, عن أن
تسترسل في الشرح, وكانت نظرته الفولاذية تتعارض
وابتسامته .
قال بصوت خشن علا على صوت المحرك: (( ما الذي
تفعلينه هنا؟ ))
جرضت بريقها بتوتر وهي تقول: (( تعني التطفل على
السيارات؟ )) حسن, ما الذي يعنيه غير ذلك؟ ولماذا يجعله
ذلك غاضباً على هذا النحو؟ وتساءلت كذلك عن الطريقة
التي يمكنها أن تخبره بها عن الأمر. وقالت: (( لم أكن أعرف
أين أنا, وكيف أعود , ريكس إنني أعلم أن ...))