كان التمثال مقاماً على منضدة منخفضة بجانب الباب
تماماً, وقد انعكس من بصباحين مثبتين على الجدار, نور
وردي على جسمه الرخامي الأبيض.
قرأت ساشا على قاعدته الرخامية اسم " تيربسيكور"
أليس هذا إسم إحدى بنات الملك "زيوس" التسع ملهمات
الفنون ؟ وتذكرت الأساطير اليونانية... وابتدأت الحيرة
تعتمل في ذهنها. إنها ملكة الرقص من بين أخواتها .
وفجأة , اتضح لها كل شيء .
منتديات ليلاس
فكرت في غلظ إحساس لورين التي لم تدرك سبب طلب
ريكس نقل هذا التمثال, جمال المرونة في هذا التمثال
الأعضاء التي تمثل الرشاقة والحركة... الحركة التي
يفتقدها ريكس. (( هل أرضيت فضولك يا ساشا؟ ))
استدارت بسرعة عند سماعها الصوت حتى كادت أن
تصدم بالباب المفتوح. لقد كان في الغرفة طيلة الوقت.
وراء التمثال تماماً. ولكنها لم تدرك ذلك .
تمتمت: (( إنه... إنه فضول فقط. ))وأخذت تجيل نظرها
في أنحاء الغرفة؛ الرفوف المرصوصة بالكتب والطاولة
اللامعة في الوسط , المدفأة الضخمة والوسائد الوثيرة على
الأريكة والكرسي ذي الذراعين .
قال: (( هذا طبيعي. حسن ادخلي ما دمت هنا.)) لم تشعر
في حياتها قط بالجبن إزاء دعوة كما شعرت الآن. وأجفلت
عندما تناول عصا كانت مسنده بجانبه ودفعها إلى الباب
بقوة فانغلق .وعاد يقول: (( ادخلي ساعديني.)) ولما لم
تتحرك قال: ((هيا يا ساشا. أظنك من النضج بحيث لن
تتصرفي كابنة عمي المدللة . و ربما بالغة النضج والجد في
بعض النواحي.))
عبست بضيق وقد شعرت بأنه يغوص في داخل أعماقها
ومشاعرها .
قال بسخرية مفاجأة: (( إنني لن أكلك. ))
قالت: (( وأنا لا أظن ذلك. )) واقتربت منه بشجاعة وهي
تتابع: (( مادمنا تناولنا العشاء معاً .))
ارتسمت على شفتيه ابتسامة دافئة لنكتتها تلك. ورد
عليها قائلاً : (( هذا ليس ضماناً أكيداً . )) وتحرك في كرسيه
يواجهها وهي تنتقل بين أكداس الكتب . وهو يتابع قائلاً :
(( حتى وأن كان المشهور عني أنني افقد إرادتي في ثوان
قليلة إذا كانت الحلوى لا تقاوم. ))
نظرت إليه باحتراس وقد تسارعت دقات قلبها , لقد كان
جالساً بين المدفأة والأريكة وقد أراح مرفقه إلى العصا
الملقاة أمامه على كرسيه . وتلاقت عيناه بعينها القلقتين
فقطب جبينه وهو يسألها فجأة: (( هل أنت خائفة مني ؟ ))
حبست ساشا أنفاسها وقد تسارع الدم في عروقها وهي
تجيب رافعة رأسها بتحدِ من دون وعي منها: (( ولماذا
أخاف ؟ .))
قال وهو يخبط العصا بعنف جعلها تقفز من مكانها:
(( ولكنك محقة في ذلك .))
أطلق ضحكة جافة خالية من السرور وهو يتابع: (( وهكذا
عرفت نقطة ضعفي.. )) كانت كبرياء رجولته الجريح تجعلها
تدفع ثمن اكتشافها ضعفه من خلال التمثال . وقال: (( كوني
فتاة طيبة ولا تخبري لورين بهذا. إنها تعتقد إنني أسد لا
يغلب. وأنا اكره أن أبدد تصوراتها هذه. ولكن إياك أن
تقللي من شأني يا ساشا أو تظهري ذرة شفقة , و إلا
سحقتك بنفسي . أحياناً أظن أنك الملهم الوحيد للحركة
لدي في البيت اللعين. ))
دقت ساعة الحائط دقة واحدة ممتدة جعلتها تسخر من
دقات قلبها هي المفاجئة. ولكن , لماذا؟ ألأن رجلاً جذاباً
قال لها المديح؟ وأي مديح ذلك ؟ وكادت تقفز ذعراً عندما
أطلق الهر فجأة مواء ممدوداً وهو يقفز على كتف ريكس من
مكان ما .
ضحكت بصوت مرتجف وهي تعجب لهدوء ريكس
وبروده وهو يحاول أن يفك الحيوان المتمسك به من حول
عنقه وهو يقول: (( هل جربت لحم القطط المشوي؟ )) كان
صوته الجاف يحمل السامع على الظن أنه يعشق هذا النوع
من الطعام , بالنسبة إلى هذا الهر فقط , على الرغم من أن
يديه القويتين تينك, كانتا بالغتي الرقة في معاملتهما
للحيوان. ولطفت عيناه الضاحكتان من ملامحه الحادة في
ذلك الوجه الوسيم وهو يقول: (( أو ربما هو يفضل أن يحنط
ليصبح مومياء . ))
بادلته ساشا الضحك وهي تقول: (( لا أظن أن لورين
سيعجبها سماع هذا منك. )) وشكرت في سرها وجود هذا
الهر لتلطيف الجو بينهما, بينما وثب الهر من بين ذراعيه
إلى طاولة متوارية خلف المقعد. وتابعت تقول وهي تهز
كتفيها متوجهة نحو الباب : (( أوه ... على كل حال ... ))
لكن صوته العميق سمرها في مكانها قائلاً: (( انتظري
دقيقة واحدة. لقد دخلت المكتبة لآخذ كتاباً , ولكن يبدو أن
ثمة من وضعه بعيداً عن متناول يدي.. ذلك الكتاب
السميك... )) وأشار إلى صف من الكتب عبر الغرفة مقابل
المدفأة وهو يتابع: (( إنه على الرف الثالث فوق الخزانة.
كوني فتاة طيبة وانزليه إلي. ))
لماذا تبعث نبرات صوته الرجفة في أوصالها؟ وبينما
كانت تتوجه نحو كتاب وهي تتذكر ما سبق أن أخبرتها به
دي, من أنه يرفض تلقي العون من أحد. هل هو يستثنيها من
ذلك؟ تساءلت في نفسها وهي تبعد شعورها السخيف
بالدفء عند هذه الفكرة, وهي تنزل الكتاب الثقيل الوزن من
على الرف .
قال لها وقد لاحظ فضولها في قراءة إسم المؤلف: (( هل
سبق لك أن قرأته ؟ )) وهزت رأسها قائلة: (( لا, ولكنني
قرأت أحد كتبه عندما كنت في الجامعة , لا بأس به ولكن
ليس فيه ما يثير. ))
قال: (( أوه. ولكن ما هو الذي يثيرك يا ساشا ؟ ))
كان يعني ثقافياً, بالطبع, فلماذا توهجت وجنتاها
وارتجفت يداها وهي تناوله الكتاب؟ تساءلت بصمت راجية
ألا يكون قد لاحظ ذلك . وكان يمكن هذا الأمر أن يمضي لولا
أن اندفع الهر بين قدميها في الوقت الذي كانت تخطو فيه
إلى الخلف. و بصرخة فزعة, سقطت على ذراع المقعد وهي
تحاول أن تتمسك بأي شيء قبل أن تسقط .
أدركت عند ذاك بخجل إنها كانت قد تمسكت بكم ريكس,
وأن ذراعه القوية هي التي أسرعت تحميها من السقوط .
قال: (( هل أنت بخير ؟ ))
قالت: (( إنني لا أرتجف . إنني ... )) ونظرت إليه وقد شعرت
بأحاسيسها تذوب عند نبرات صوته: (( إنه الهر, لقد
أفزعني. ))
قال: (( أنت كاذبة )) وفي اللحظة التالية , كان يجذبها إليه
ليحتضنها بذراعيه القويتين .
لم تستطع إلا أن تستسلم ليموت لديها أي إحساس آخر.
وحلقت بها المشاعر عالياً فوق سحب , سحب الألم
والشعور بالذنب والخيانة والغدر والعذاب .
ما لبثت أن تنهدت وهي تقاومه بكل قوتها لكي تتخلص
منه وهي تقول: (( كلا . لا أستطيع. ))
لقد كانت الرغبة في ملامح ريكس, كما بدت في ملامحها
هي .. رغبة هي مزيجه بالارتباك , وما لبثت أن شاهدت
البرود في وجهه الذي بدا وكأنه نحت من الرخام , وهو
يقول بصوت جاف: (( إنني آسف. لم أدرك كم هو مثير
للاشمئزاز في نظرك أن يقبلك رجل معوق. ))
أجفلت وهي تساءل ... هل هذا ظنه بمشاعرها؟
وضعت يدها على فمها وهي تقول متلعثمة: (( ليس الأمر
هكذا... أعني إنني...))
اضطربت أنفاسها مثله, وهي ترى برودة المشاعر في
عينيه . لقد دفعها اليأس والشعور بالذنب وتبكيت الضمير,
إلى الهرب منه لتصعد إلى عزلتها في غرفتها الخاصة .
وتساءلت في نفسها كيف استطاعت أن تسمح له بتقبيلها
في هذا الشكل؟ أن تتجاوب معه في حين ما زالت تحب بن.
تساءلت عن ذلك يكتنفها شعور تبكيت الضمير وقد استندت
إلى الباب وأغمضت عينيها. لقد سبق أن عاهدت نفسها على
أن لا تتورط في حب آخر مرة أخرى . هل هي بهذه الخفة ؟
ألم يعن لها بن شيئاً كثيراً؟ ... وبعد ما كانت مسؤولة عن
موته... تعود لتشعر بهذا الإنجذاب القوي نحو ريكس
تمبليتون ؟
لم تكن تريد حتى مجرد التفكير في هذا. وأرغمت نفسها
على الاغتسال راجية أن يهدئ الماء الدافئ من مشاعرها
المضطربة وينسيها ما حدث. ولكن الذي لم تستطع تجاهله
هو أنها شعرت معه برغبة لم تشعر بها من قبل نحو أي
إنسان .
عندما نزلت في الصباح التالي إلى غرفة الطعام لتناول
الإفطار , لم تجد لـــ ريكس أثراً ولا لـ لورين كذلك. ولم تجد
ساشا إلا الظن أنهما لا بد قد خرجا معاً .
لماذا إذاً أخذها بين ذراعيه إذا كانت رغبته واضحة في
تلك الفتاة الأصغر سناً ؟ وانتابها شعور رفضت أن تسميه .
هل كانت هي بالنسبة إليه مجرد شيء يتسلى به بعد خصامه
مع ابنة عمه الجميلة؟ فقط ليرضي زهوه برجولته الذي
ضعف بعد الحادث لذي أصابه... ليرى إن كانت تتجاوب
معه, ذلك التجاوب الذي كان حقيقة, إلا إذا كان هو لا يزال
يفسره في الشكل الذي جابهها به أمس ؟
حسن, فليستمتعا معاً!.. ولكنها شعرت بالألم لهذه
الفكرة. ولكي تنسى كل هذا, اعتذرت إلى والدة ريكس عن
عدم شهيتها لإكمال إفطارها واعتذرت أيضاً راجعة إلى
غرفتها.
كانت لا تزال تفكر في ما إذا كانت ستبقى في غرفتا تلك
أو تنزل إلى عملها, أو تذهب إلى المدينة, عندما سمعت
فجأة مواء لهر من خارج نافذتها التي اعترضت طريقه فلم
يستطع العودة .
أطلت من نافذتها. كان الهر جاثماً على الإفريز الذي يمتد
تحت نافذتها. وكانت عيناه المتسعتان ومواءه المتألم
شاهداً على أنه كان خائفاً .
ضحكت وهي تخاطبه قائلة: (( لقد تكبدت الآن ما ليس في
طاقتك, أليس كذلك ؟)) ولكن ما الذي جعله يصعد إلى هناك؟
إلى هذا العلو عن الأرض؟ لا يمكن أن يكون هذا قد أتى من
الداخل, ذلك أنها قد رأت السلم المتحرك الذي يستعمله
منظفو النوافذ, هذا الصباح, فأغلقت النافذة لكي ينظفوها
قبل أن تنزل إلى غرفة الطعام. إلا إذا ...
عادت تخاطب الهر وهي تتذكر حادثاً مماثلاً لهر آخر:
(( لقد تسلقت السلم إذاً ولم تستطع النزول , أليس كذلك. ))
أجابها هو بمواء ممتد نائح. وبعد عدة كلمات مشجعة
محاولة أن تستدعيه إلى الدخول, رأت أن الهر كان من
الخوف بحيث رفض الحراك, فلم يبق أمامها سوى خيار
وأحد هو أن تخرج إليه بنفسها لإمساكه .
فكرت في أن الأمر سيكون على ما يرام إذا هي لم تنظر
إلى أسفل. وظلت تذكر بهذا بينما كانت تخرج من
النافذة لتحبو على يدها وركبتيها على امتداد الإفريز
وطمأنت نفسها إلى أن عرض الإفريز هذا كان كافياً
للسماح لها بالزحف عليه. لقد كان الخوف فقط من مجرد
التفكير في هذا العلو .
لكن السروال الجينز الذي كانت ترتديه كان يعرقل زحفها
وحبست أنفاسها وأغمضت عينيها بعد إذ سقطت قطعة من
الإفريز لتطير شظاياها على المدخل في الأسفل محدثه
قرقعة شديدة. ولكنها ما لبثت أن وصلت إلى الحيوان
المذعور لتمد يدها إليه تمسك جسمه ثم تشد جسمه الصغير
المتصلب إلى جسمها, لتقفل عائدة على الإفريز نحو
نافذتها .
صك سمعها هدير محرك لتختلس نظرة إلى أسفل. كانت
ثمة سيارة رياضية زرقاء تصعد الطريق. وكان ريكس
وإلى جانبه لورين عند المقود .
سمعت السيارة تتوقف , ثم أصواتاً وإغلاق باب بعد فترة
ولكنها لم تنظر إلى أسفل إلى أن وصلت إلى نافذتها
انتصبت واقفة . ولكنها عند ذاك, تمنت لو لم تنظر إلى أسفل
وترى لورين وكليم ينظران إليها غير مصدقين, و ريكس
مستنداً إلى عكازيه يمط جسمه إلى أعلى بنظرة شخص مذبوح
جاءها صوته: (( ماذا تفعلين عندك هناك؟ )) كان غضبه
مخفياً بقدر ما كانت مغامرتها على ذلك الإفريز . كان صوته
واضحاً قوياً إخترق الجو وهو يأمرها: (( عودي إلى الداخل.))
لم تكن هي بحاجة إلى أن يأمرها بذلك لكي تدخل
وتستمتع بملمس السجادة تحت قدميها في غرفتها.
قالت تخاطب الهر: (( لو لم أكن أعلم أنك حيوان أعجم,
لظننتك تعمدت ذلك لكي تجعله مجنوناً من الغضب علي.))
وكان الهر في هذا الأثناء قد قفز مختبئاً تحت سريرها حال
دخول الغرفة. وعندها فقط أدركت أنها كانت ترتجف.
وتساءلت بدهشة عن السبب, فهي لم تكن تشعر بكل ذلك
الخوف, أم أن ذلك نتيجة غضب ريكس الذي جعل ساقيها لا
تقويان على حملها . وفكرت, حسن , إنه على الأقل لا يستطيع
الصعود لصب غضبه على رأسي. وساورها الإحساس
بالذنب لشعورها بالارتياح لعجزه ذاك ...
قرع الباب لتدخل شيلا والدة ريكس لتخبرها أن ثمة
اتصالاً هاتفياً من غايفن .