آوه, يجب ألا تبكي , فكرت في ذلك وقد التهبت مشاعرها
لتجمع الدموع في عينيها . لقد عاهدت نفسها على ألا تدعه
يراها محمرة العينين منتفخة الأجفان. وإلا فسيعلم هو
إلى أي حد تحبه , وكيف أن عزمه على الإنفصال قد حطمها .
والطريقة الوحيدة لتجنب ذلك بعد ما انتصرت دموعها تلك
التي تجمعت في مآقيها لتنهمر على وجنتيها غزيرة دفاقة,
الطريقة الوحيدة لكي تمنعه من رؤية ضعفها هذا, هي أن
تذهب من دون أن تراه , ألان في هذه اللحظة. يجب أن تترك
له كلمة صغيرة وتتسلل خارجة قبل أن يستيقظ من النوم ,
فتكون بهذا قد جنبت نفسها عذاب الوداع, وعليه هو أن
يحترم مشيئتها .
هكذا في خلال عشرين دقيقة , كانت قد نهضت من
سريرها وارتدت ثيابها, ثم خلعت خاتم الخطبة من إصبعها
ووضعته في مغلف يحتوي على رسالتها المختصرة وذلك
على منضدة الزينة . ثم تسللت خارجة من البيت بهدوء .
كانت الشمس قد ارتفعت الآن فوق حقول القمح بينما
كانت هي تسير بسيارتها في طريق سافولك الخالية , ثم
أنزلت زجاج سيارتها تسمح للهواء النقي بأن يدخل
رئتيها .
لم يكن من الصواب أن تمضي ليلة أرقة في حين أن
أمامها مسافة ثلاثة آلاف ميل سفراً. وتنهدت وهي تفكر في
ذلك. ذلك أنها لن تستطيع أبداً أن تنام في الطائرة كما أنها لن
تستطيع التركيز على شيء. وانتهرت نفسها بذعر عندما
انفجرت أبواق السيارات خلقها فجأة , لتشد هي من كابح
السيارة بسرعة وهي تدرك أنها كانت في خطر انزلاق
السيارة إلى الخلف لتصطدم بمن وراءها .
استطاعت الآن أن ترى النهر يتألق من بعيد يشق طريقه
متلوياً بين الحقول. لقد تركت منزل ( الاستراحة ) من دون
أن تلقي بنظرة إلى الخلف , خوفاً من أن تنهار كلياً لو أنها
فعلت. والآن وكل ميل يزيد من ابتعادها عنه, أخذت تشعر
بغل من حديد يعتصر قلبها .
لم تكن تفارق ريكس فقط , وإنما كانت تفارق هذه البلاد
رائعة الجمال . بلاد قد لا تراها بعد ذلك أبداً. وانهمرت
الدموع على وجنتيها, على الأقل ليس قبل مرور سنوات
تكون آلام جراحها قد خفت عما هي عليه الآن ... وللتخلص
من هذه المشاعر, انعطفت بالسيارة نازلة نحو النهر. كانت
تعرف أنها كانت تعذب نفسها ولكنها أرادت أن تلقي على
المكان نظرة الوداع .
أوقف السيارة على الضفة المكسوة بالأعشاب , ونزلت
منها تاركة سترتها على حقيبتها في المقعد الخلفي ثم
مشت في محاولة لتجديد قواها والتخفيف من مشاعرها
في استنشاق هواء الصباح النقي .
كان في الجانب الأخر للنهر, قطيع من البقر ترعى العشب
في الشمس بأمان ... وأغنام تثغو في مزرعة بعيدة , وكان
صوت قبرة يعلو من مكان قريب .
فكرت بألم , لماذا لا تتغير الأشياء هي أيضاً ؟ وفركت
ذراعيها العاريتين دون وعي. لقد كانت تلك الليلة التي
عرض عليها فيها الزواج هي أسعد ليلة في حياتها , ثم
لتعود روزاليند بيكينغتون من السفر . لتنتهي هي هنا ,
مفارقة موطن نشوء حبها , انكلترا , وهذه المنطقة الريفية ,
و ريكس ... وسرت الدموع بين أجفانها ... وأغمضت عينيها
وقلبها يهتف ... نعم ... ريكس ....
(( يا آنسة ... إنتبهي! ))
جعلها هذا الصوت تدير رأسها بسرعة لترى رجلاً يركض
نحوها مع كلبه. ولكنه كان يشير إلى شيء وراءها,
واستدارت هي ثم صرخت مذعورة . كانت سيارتها الصغيرة
تتحرك منزلقة نحو النهر .
هرعت ساشا خلفها يلحق بها ذلك الرجل وكلبه الذي كان
ينبح . ولكن السيارة كانت تنزلق بسرعة فاقت محاولاتها
إيقافها , لتقف ساشا أخيراً تنظر إليها بيأس وهي تسقط من
فوق الضفة لتستقر في الماء .
صرخت بذعر: (( أوه , كلا... )) حين رأت صندوق السيارة
الأزرق تغمره المياه .
همست (( أشيائي !)) و بسرعة خلعت حذاءها ونزلت إلى
الماء وهي تلهث من صدمة برودة المياه .
بعيداً عن الضفة بحوالي المتر توقفت لم يكن ثمة جدوى
من التقدم أكثر من ذلك . وما كانت تقوم به لم يكن إلا مزيد
من بلل ثيابها, وتملكها اليأس , كانت المياه تغمر السيارة
إلى فوق أبوابها, وكان الماء يتدفق إلى داخلها من
النافذة التي كانت قد فتحتها .
قال لها صاحب الكلب: (( سأستدعي الشرطة.)) بينما كانت
هي تترك المياه شاعرة بضيق من تبلل ثيابها. وتابع
الرجل: (( سأحاول إيقاف السيارة الآتية هناك . ))
هكذا كان وجلست ساشا في مخفر الشرطة تحتسي
فنجان الكاكاو الساخن وقد لفت على كتفيها خرقة وارتدت
سروالاً واسعاً أعاروها إياها بدلاً من سروالها المبلل الذي
أرسلته الشرطة لتجفيفه .
ابتدأ الشرطي التحقيق من وراء مكتبه: (( تقولين إنك كنت
تقيمين مع صديق؟))
أومأت ساشا برأسها. فعاد الشرطي يسأل: (( ألا يمكن إذن
الإتصال بهذا الصديق...)) (( كلا... )) هتفت ساشا بهذه الكلمة
بذعر. إنها لا تريد أن تورط ريكس في الأمر, يكفي ما عاناه
منها إذ تركته هذا الصباح في هذا الشكل. إنها لا تستطيع
مواجهته مرة أخرى وخصوصاً في الحالة التي هي عليها
الآن. كانت مستميتة في سبيل ألا يعلم الأمر . و قالت
للشرطي: (( إذا أمكنك الإتصال بالسفارة الأميركية....))
(( هناك من يتولى هذا الأمر ويظهر أن الخط مشغول.))
رفع الشرطي رأسه إلى زميله الذي دخل لتوه يخبره
بذلك , وما أن نظر الشرطي الثاني ناحيتها حتى غاص قلبها
بين ضلوعها. لقد كان أحد رجال الشرطة الذين قدموا إليها
في منزل ( الاستراحة ) لكي يحققوا معها عندما سرقت
محتويات سيارتها. لقد عرفها الآن كما بدا لها إذ أخذ
يتبادل الحديث بهمس مع زميله .
قال لها وهو يلقي نظرة على التقرير: (( هذا شيء يدعو
إلى الآسف , أليس كذلك يا آنسة مورغان... أن تفقدي
متاعك مرتين؟ ))
شاهدت الشرطي الأول وهو يجاهد في كبح ابتسامة , وتملكها
اليأس هل كانت المشاكل تنقصها لتقع الآن في مثل هذه
المشكلة؟ وما لبث لشرطي الأول أن اعتذر ليخرج من
المكتب. وبدا لها الأمر وكأنها في كابوس قد تستيقظ منه
في أية لحظة, ما عدا علمها بأنها مستيقظة تماماً .
لم تعرف كم أمضت من الوقت وهي ترقب الناس يدخلون
ويخرجون, ونظرت إلى أعلى فجأة, لتختلط عليها
المشاعر وهي تهتف بذعر: (( ريكس ! ))
قال بصوت خشن: (( ما الذي فعلته . ))
لم تستطع أن تتأكد من نوع المشاعر التي اختلطت في
تلك الملامح المسيطرة وهو يعرج متقدماً نحوها متوكئاً
على العصا , كان غضبه واضحاً. ولكن هل هو شعور
بالإرتياح ذلك الذي لمحته خلف ذلك الغضب ؟ تساءلت عن
ذلك يحدوها شعاع من أمل . وتابع قوله: (( ماذا كان
المفروض علي أن أفكر فيه ؟ أولاً , رأيت أنك قد رحلت تاركة
خلفك كلمة صغيرة توضحين فيها ذلك, والشيء الثاني, هو
اتصال الشرطة بي لتخبرني بأن سيارتك في النهر, ألم
تفكري في أن همومي كافية دون هم جديد إذ أفكر في
أنك حاولت إغراق نفسك؟ ))