عادت كاسندرا إلى القرية بعد غياب دام خمسة أيام , كانت طيلة الوقت تفكر في أخوتها الصغار جوناثان و ستيفاني و هنري الذين تركتهم بمفردهم في القرية , فهي تعيش وحيدة مع أخوتها الثلاثة و هي من تعولهم و تنفق عليهم , و لقد ذهبت إلى المدينة حتى تبيع بعض من محاصيل الزراعه فالوقت الآن شتاء و لا يوجد من الحصاد ما يكفي لسد رمقهم , أخذت تتسائل هل أستطاعوا تدبر أمورهم؟ كانت تثق كثيراً بجوناثان أكبر الثلاثة سناً بحكم أنه دوما يستطيع تدبر أمور أخوته في غيابها لكن هذا لم يمنعها من التفكير بهم حتى وصلت إلى القرية التي كانت مغطية بالثلوج التي لم تتوقف عن التساقط بهدوء في هذا الوقت من السنه, كان هناك تجمع في القرية لكنها لم تعرّ ذلك التجمع أهتماماً و أنطلقت مباشرة إلى منزلها لتجد الثلاثة في أنتظارها فضمتهم في شوق و حنان ثم أخرجت لهم بعض الطعام الذي جلبته من المدينة ففرحوا كثيرا و أخذوا يسألونها عن أحوال المدينة الكبيرة و ماذا جلبت لهم معها, ثم سألتها ستيفاني قائلة في أهتمام: هل رأيتي الذئب المفترس؟ لقد تم القبض عليه من قبل رجال القرية وهو الآن مقيد في ساحه القرية...
قطبت كاسندرا حاجبيها في أستغراب و قالت :
لقد رأيت تجمعاً و أنا في طريقي للمنزل و لكني تجاهلته, هل هذا التجمع من أجل الذئب المفترس؟
قال لها هنري و هو يحرك يديه مستطرداً:
نعم فمنذ أن قبضوا عليه قبل يومين و هم يجتمعون أمامه كل يوم و يضربوة بالعصي و يرجموه بالحجارة.
قال جوناثان متابعاً:
قبضوا عليه قبل أن يقتل الماشية و يريدون قتله.
قامت كاسندرا من مكانها و قالت لهم أمكثوا هنا و سأذهب لأطلّع على ما يجري هناك!!
خرجت من المنزل و أتجهت إلى مكان التجمع فشاهدت ذئب رمادي ضخم و قد تهالك منسدلاً على جنبه في ضعف و مخرجاً لسانه في ظمأ, و قد فقأت عينه اليمنى و كان هناك آثار دم جاف أسفل عينه, و عدد من الأشخاص مجتمعين أمامه يطلقون صيحات أستهجان عاليه ويضحكون على حالته و يرشقونه بالضرب و يرموه بالحصي فلم تتمالك كاسندرا نفسها و قالت لهم في غضب:
لماذا كل هذه الو؟حشية؟ إذا تريدون قتلة فأقتلوه و لا تعذبونه!!
أجابها أحد الفتيان في لامبالاة:
سنجعله يموت من الجوع فما المانع أن نتسلى عليه قليلاً.
ضحك الأخرون فقالت كاسندرا في غضب ثائر:
و لكن الذئب لم يقنل أي من الماشية أطلقوا سراحة و لو تريدون قتلة من باب الحيطة فأقتلوه بسلام!!!
قال لها أحد الفتيان في غلاظة:
إذهبي أيتها المزارعة لمزرعتك و أهتمي بشؤونك الخاصة, لم يطلب أحداً مشورتك.
ردد الجمع بالأيجاب و البعض يضحك فكادت كاسندرا ان تنفجر في ثورة لكنها تمالكت نفسها بكل ما أوتيت من قوة و رباطة جأش, فهي لا تملك القوة على مجابهتهم فأستدارت عائدة إلى منزلها في غضب عارم و ما أن دخلت حتى رأت نظرات أخوتها معلقة فيها و قد ألجمهم الخوف من الكلام بعد رؤيتهم تعابير وجهها الغاضب, فزفرت في حنق, ثم قالت و هي تحاول أن يكون صوتها هادىء بقدر الأمكان:
سنتناول طعام العشاء الآن , ثم كوب من الحليب الساخن, فمن سيساعدني في تحضير العشاء؟
هتف هنري و ستيفاني في سعادة عارمة:
أنا !
قامت لتحضير العشاء بمساعدة ستيفاني و هنري بينما كان جوناثان مشغولأ في ترتيب الغرفة , ثم أخذوا يتناولون العشاء و شرب الحليب الساخن ثم جلسوا يتسامرون قليلاً حتى جاء وقت المنام فأنصرف جوناثان و هنري إلى غرفتهما للنوم , و ذهبت كاسندرا وستيفاني لغرفتيهما و أنسلت كل منهما تحت غطائها و لم تمض دقائق قليلة حتى كانت ستيفاني تغّط في نوم عميق.
بلغ البرد أوجّه في منتصف تلك الليلة , و كانت الثلوج في أنهمار بشكل غير متقطع , ولازم الجميع بيوتهم أمام مدافئهم, , و هناك ..... تسلل ظل جسد ضئيل نحو ساحة المدينة, كان الجسد يرتجف من شدة البرد القارص و لكن مع هذا أستمر في طريقة نحو الذئب الذي ما أن أقترب منه الظل حتى رفع رأسه و أخذ يزمجر في غضب فرفع الظل الوشاح الذي يغطي وجهه الجميل و قال في هدوء و حنان :
لا تخشاني أيها الذئب الكبير, فكاسندرا لم تقدم هنا بقصد إيذائك.
حاول الذئب القيام و قد أرتفعت حده زمجرته, فوضعت كاسندرا أناء صغير و سكبت عليه بعض الماء فأخذ الذئب يشرب الماء في نهم متناسيا ما حوله فوضعت كاسندرا قطعة كبيرة من اللحم كانت قد أشترتها من المدينة لأطعام أخوانها , فأفترسها الذئب في شراهه و جوع, فأخذت تتطلع فيه بشفقة و حنان حتى أنتهى من أكل اللحمه فأخذت تربت على ظهرة برفق فأطلق الذئب زمجرة و كشّر عن أنيابة , فأمسكت كاسندرا الذئب بيدها اليسرى مع أذنه و أشارت بسبابتها اليمنى أمام وجهه مؤشرة قائلة:
ليس من الأدب أن تزمجر في وجه آنسة صغيرة و عدم شكرها أيها الذئب المشاكس.
فأشاح الذئب بوجهه عنها و أخذ يزمجر بصوت خافت جداً فربتت على رأسه في حنان ثم حلت قيوده و أطلقت سراحه, قامت و هي تؤشر له بالنهوض, قام الذئب في ضعف و هو يتلفت و كأنه يستنكر أطلاق سراحه ثم تطلع في وجه كاسندرا التي كانت تنظر له في حنان و هو ينظر إليها بصمت, فحركت كاسندرا يديها أمام وجهها و قالت:
هيا إيها الذئب المشاكس, أهرب بعيداً ولا تعود إلى هذه القرية, هيا أذهب أركض.
تطلع فيها الذئب في ثواني ثم أستدار و اخذ يحاول الركض في خطوات ضعيفه متعرجة أخذت تنظر إليه ثم رجعت إلى منزلها بعد أن أختفى الذئب عن أنظارها, و ما أن أغلقت الباب حتى سمعت عويل عالي أنطلق من على بعد مسافة, فتنهدت وقد أطمأنت ثم ذهبت للنوم في أرتياح.
مضت ثلاثة أسابيع على هذه الحادثة, كانت القرية أشبه بقرية أشباح بعد أن غطت عاصفة جليدية المنطقة و أندثرت المنازل تحت أطنان هائلة من الثلوج, توقف أنهمار الثلوج بعد أن حلت هذه العاصفة الثلجية, و أصبحت المنازل أشبه بقبور جليدية كبيرة , و في أحد هذه المنازل المدفونة تحت سيل من الثلوج المتراكمة تسلل صوت أنثوي صغير قائلاً:
هل ستأتينا النجدة من المدينة قريباً يا كاسندرا؟
تطلعت كاسندرا بستيفاني التي غطت نفسها بكمية كبيرة من الملابس و الأغطية حتى تتقي البرد القارص, فمنذ أن أندثرت المنازل تحت هذه الثلوج و هم الأربعة يدفنون أنفسهم تحت وابل من الأغطية و الملابس حتى يحتفظون على درجة حرارتهم عاليه.
أجابتها كاسندرا بصوت خرج من بين أسنانها مرتجفاً من شدة البرد:
ستأتي النجدة بأذن الله, حتى تأتي النجدة يجب أن نبقى أحياء.
قال لها هنري الذي نم شحوب وجهه على أنخفاض درجة حرارتة:
و لكن بدأت أشعر بتجمد أطرافي يا كاسندرا هل يمكن أن نشعل النيران للتدفئة؟
قال جوناثان و هو ينطق بالكلمات بشكل متقطع من شدة البرد:
ن ن ن نعم أك ك أكاد أت ت أتجمد من البر ر ر ر رد.....
ضمتهم كاسندرا إليها و قالت و هي تمنع دمعة كادت أن تنسال من مقلتيها:
لا نستطيع أشعال النيران, سنموت أختناقاً لو أشعلنا النيران.
قالت لها ستيفاني بصوتً باكاً :
لكننا سنموت لو بقينا على هذه الحال.
ربتت كاسندرا على كتفها و قالت بصوت لم تنجح في أخفاء الرجفة الواضحه بين حروفه:
هناك أمل, لا تفقدي الأمل أبداً........ هناك دوماً أمل.
سرحت كاسندرا بعقلها بعيداً بعد هذه الجملة, تذكرت الأيام الخوالي, تذكرت العربة القديمة التي كانوا يملكونها و تذكرت اليوم التي تحطمت فيه هذه العربة بعد أن سقطت في منجرف عالي , تذكرت زهرة الأقحوان التي كانت تملكها و التي ربما سحقت تحت هذه الأطنان من الثلوج, فجأة تذكرت الذئب الذي أنقذت حياته منذ فترة بسيطة, ترى هل لازال على قيد الحياة؟ هل هو بعيد عن هذة المقبرة الجماعية؟
أنسالت دمعه من عينها و هي مسترسلة في تفكيرها, ثم عادت إلى رشدها و أنتبهت إلى أن أخوتها قد سقطوا في سبات عميق, كانت تعلم ان المساعدة لن تأتي من المدينة الكبيرة قبل على الأقل ثلاثة أسابيع و من المستحيل أن يبقوا أحياء طيلة هذه الثلاثة الأسابيع فلم يكن هناك أمل سوى معجزة تأتي من السماء , فشعرت بقبضة أبرد من الثلج تقبض على قلبها لتجمدة في برود مخيف فأنهمرت الدموع من عينيها و ........فجأة سمعت صوت طرق مكتوم يصدر من مكان ما فتجمدت في مكانها و قد ألجمتها المفاجأة من الحركة , ثم سمعت الصوت الطرق المكتوم يتكرر فأرادت معرفه مصدر هذا الصوت و فجأة سمعت صوت أرتطام ثقيل تلاة صوت زجاج يتحطم على الأرضية فأنتفضت في عنف وتجمدت في مكانها لثواني ثم حانت منها ألتفاته نحو أخوانها فشاهدتم غارقيين في سباتهم و لم يشعروا بما يحدث حولهم , فأستدارت نحو مصدر الصوت الذي كان مصدرة الغرفة المجاورة فأستجمعت طاقتها و أنطلقت ركضا نحو الغرفة وما أن شاهدت المنظر الماثل أمامها حتى توقفت مصدومه لما تراه, فلقد أستلقى جسد ذئب رمادي ضخم على الأرض و كان زجاج النافذة متناثر حول الغرفة فركضت نحو الذئب ورفعته لتشاهد قطعه كبيرة من الزجاج قد أخترقت عنقه و أردته ميتاً فصاحت و هي تهز الذئب من كتفيه:
أنهض إيها الذئب المشاكس, لا تموت, كاسندرا ستعتني بجروحك.... أنهض بالله عليك, , لا أريدك أن تموت.
لكن الذئب لم يحرك ساكناً فلقد لفظ أنفاسه الأخيرة , فضمت جسده إليها و أخذت تبكي في حرارة ثم قامت و شاهدت الحفرة التي حفرها الذئب في طريقة لأنقاذها و أنقاذ أخوتها فسالت دموعها في غزارة ثم حملته بكل ما أوتيت من قوة و عبرت به الحفرة للخارج ثم حفرت حفرة في الثلج و وضعت جسده وسطها ولفت عنقه بوشاحها ثم دفنته في صمت و هي تذرف دموعها.
ثم قامت و قالت عند قبرة: شكراً لك أيها الذئب الكبير, لن أنسى تضحيتك في سبيل أنقاذ حياتي لن أنساها مهما بقيت حية.
ثم عادت إلى بيتها و أجتازت الحفرة ثم أوقظت أخوانها الذي أخذوا يتطلعون فيها و في الحفرة بذهول و يتسائلون عن كيف تم أنقاذهم و من قام بذلك فتطلعت فيهم كاسندرا في حزن صامت ثم قالت لهم في صوت شبه باكي:
لقد كانت تلك المعجزة...... المعجزة قامت بأنقاذكم.