كاتب الموضوع :
منى توفيق
المنتدى :
رجل المستحيل
تابع أحداث قصة ( ثعلب الثلوج ) العدد رقم 20
أرجو أن يكون الجزء السابق قد نال إعجاب أصدقائي
وسأتابع معكم أحداث هذه القصة الشيقة
فلنبدأ
** بسم الله الرحمن الرحيم **
{ نعود لقصتنا } 10 ـ الثعلب والذئاب ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وضع أحد حراس المصنع منظاره المقرِّب فوق عينيه ، ودار ببصره يفحص المنطقة وهو يقول لزميله :
ـ لم أعد أدري أيهما الرئيس !! .. مستر ( أبسن ) ، أم تلك الحسناء ( سونيا جراهام ) ؟
أجابه زميله بضجر :
ـ هذا لا يهم يا زميلي العزيز ، فلقد أمرنا مستر ( أبسن ) بطاعة أوامر ( سونيا جراهام ) منذ قدومها .
عاد الرجل الأول يقول :
ـ قاسية جداً هذه المرأة .. لقد أجبرت الرجال على العمل المتواصل لتجهيز الشحنة ، وأمرتنا بالمراقبة الدائمة ، وكأننا في حرب .
نمَّت لهجة الزميل الآخر عن الإعجاب ، وهو يقول :
ـ لا يمكننا إنكار مدى فاعلية أسلوبها ، فها هي ذي الشحنة قد أصبحت جاهزة ، برغم أنها تستغرق في العادة ثلاثة أيام .
وفجأة صاح الرجل الذي يضع المنظار المقرِّب فوق عينيه :
ـ مهلاً أيها الزميلان .. لقد خيّل إلى أن قطعة من الجليد قد تحركت و ....
قاطعه زميله ضاحكاً :
ـ إنها ظلال الغروب يا صديقي ، فهي تتحرك بسرعة ، قبل أن يستغرق قرص الشمس ساكناً وسط الأفق .
مط الرجل شفتيه ، وقال :
ـ يبدو أنك على حق يا زميلي .. ثم أي أحمق يفكر في اختراق الثلوج لمهاجمة مصنعنا بمفرده .. لابد أن يكون مجنوناً ليفعل ذلك .
* * *
تحرك ( أدهم ) بخفة ومهارة ، وسط الثلوج الكثيفة المحيطة بالمصنع .. كان الجو بارداً ، حتى إنه يقل عن الصفر المئوي بخمس عشرة درجة ، برغم ذلك كان ( أدهم صبري ) يموج بالنشاط والحرارة ، وهو يتسلل بمعطفه الفرائي الأبيض ، كالثعلب القطبي ، وبنفث أبخرة الثلج ، وهو يدرس المصنع بحرص وعناية ، ثم قال لنفسه :
ـ لا شك عندي في أن ( سونيا ) تحتفظ بـ ( منى ) في داخل هذا المصنع ، فهو يعد أكثر الأماكن أمناً بالنسبة لها .
وبهدوء شديد تحرك نحو سور المصنع ، وأخذ يفحصه .. كان السور مصنوعاً من الفولاذ ، بارتفاع مترين ونصف المتر تقريباً ، فابتسم ( أدهم ) بسخرية ، وقال :
ـ أعتقد أن الطول مناسب جداً ، المهم أن أعصر ذاكرتي ، للتوصل إلى أكثر الأماكن مناسب للاقتحام .. وبعد ذلك يأتي دور صديقتنا ( سونيا جراهام ) .
* * *
تنبه أحد حراس المصنع فجأة ، إلى حركة غير طبيعية تحدث خلفه ، فاستدار بحدة شاهراً مدفعه الرشاش وكنه لم يجد سوى كتلة من الأخشاب الساكنة ، وبرغم ذلك لم يطمئن قلبه ، فتحرك بحذر محاولاً الالتفاف حول الكتلة الخشبية ، وهو ينقل قدميه في بطء ، ثم قفز فجأة مصوباً مدفعه إلى ما خلف الأخشاب ، ولم يلبث أن تنهد في ارتياح ، حينما لم يجد ما يستدعي الخوف أو القلق ، ولم يكد يرخي مدفعه حتى شعر
بأصابع قوية تنقر على كتفيه ، وسمع صوتاً هادئاً ساخراً يقول :
ـ هل تبحث عن شيء ما يا صديقي ؟
استدار الرجل بسرعة بالغة معيداً تصويب مدفعه الرشاش ، ولكن استدارته لم تكتمل ، ومدفعه لم يجد الوقت الكافي للانطلاق ، إذ أوقفته قبضة صُبَّت من فولاذ ، هوت على فكه بقوة كافية لتحطيم فك ثور ، فتهشمت فك المسكين بصوت مكتوم ، وجحظت عيناه ألماً ورعباً ، وهو يهوي على الأرض كالصخرة .
تناول ( أدهم ) المدفع الرشاش ، وأسرع يجذب الرجل إلى ركن قصيّ ، وينزع معطفه الأزرق المميز لرجال الحرس بالمصنع ، وهو يقول بسخرية :
ـ لو أن أعمالي كلها تتم بنفس هذا القدر من البساطة ، ما أصابني هذا الإرهاق الذي أشعر به دائماً .
وما هي إلا لحظات ، حتى أصبح من الصعب تمييز ( أدهم صبري ) بين حراس المصنع ، الذين يتحركون بشكل غير منتظم ، يدل على ضعف تدريبهم ، أما هو فقد سار بهدوء ، حاملاً المدفع الرشاش نحو السلم الذي يقود إلى مكتب ( فريدريك أبسن ) .
وفجأة أوقفه أحد الحرس قائلاً :
ـ لحظة أيها الزميل .. ألا تعلم أن المرور في هذا الطريق ممنوع ، حتى تصل الشاحنات .
أخذ عقل ( أدهم ) يفكر في تعليل مقنع ، ولكن صوت بوق سيارة أعفاه من ذلك ، فقد أشاح الرجل بذراع في ضجر ، وتحرك نحو بوابة المصنع فور سماعه له ، فأسرع ( أدهم ) يجتاز المسافة الباقية ، ويصعد سلالم مكتب ( فريدريك ) قفزاً حتى وصل إلى باب مكتبه ، فدفعه بقوة ، وقفز نحو السكرتيرة التي همت بالصياح ، ولكن كف ( أدهم ) كتمت صراخها ، وهو يصوب مدفعه الرشاش إلى رأسها قائلاً :
ـ من بالداخل يا صغيرتي ؟
أجابت السكرتيرة وهي ترتجف من قمة رأسها إلى أخمص قدميها :
ـ السيدة ( سونيا ) والسيد ( فريدريك ) .. ولكن السيدة منعتني من إدخال أي كائن كان .
ابتسم ( أدهم ) بسخرية قائلاً :
ـ فليطمئن قلبك إذن يا سيدتي ، فأنا لست أي كائن كان .
ثم جذب حبلاً من سترته وأخذ يقيدها قائلاً :
ـ معذرة يا سيدتي ، ولكن بقائك حرَّة قد يفسد الخطة بأكملها .
* * *
زمَّت ( سونيا جراهام ) شفتيها بحنق ، عندما دق باب حجرة المكتب التي تجلس في داخلها ، وقالت بغضب:
ـ من بالباب ؟ .. ألم أمنع دخول أي إنسان ؟
وبرغم لهجتها الغاضبة فُتِحَ الباب بهدوء ، ودخل أحد رجال الحرس بمعطفه الأزرق المميز ، ودار ببصره في أرجاء الغرفة بوقاحة ، فصاحت ( سونيا ) في وجهه :
ـ كيف دخلت إلى هنا أيها القذر ؟ .. كيف سمحت لك تلك السكرتيرة المعتوهة بذلك ؟ .. ألم آمرها .. ؟
قاطعها الحارس وهو يسأل ببرود :
ـ أين مستر ( أبسن ) ؟ ..
قطبت حاجبيها وهي تقول بغضب :
ـ هذا لا يعنيك أيها الوقح .. اغرب عن وجهي .
أشار الحارس إلى خارج الغرفة إشارة مبهمة ، وهو يقول بنفس البرود :
ـ وهذه الفتاة المصرية .. ماذا سنفعل بها ؟
صاحت ( سونيا ) في غضب عارم :
ـ سنتركها كما هي في غرفة الحفظ ، حتى أصدر أوامري بشأنها أيها الحارس .
ارتسمت على شفتي الحارس ابتسامة ساخرة ، بعثت شعوراً بعدم الارتياح في نفس ( سونيا ) ، وازداد هذا الشعور عندما قال بلهجة تهكمية :
ـ سؤال أخير يا سيدتي .. هل لاحظت ذلك ؟ .
نطق بهذه العبارة وهو يمسك بأذنيه ويجذبهما إلى الخارج في قوة ..
خيِّلَ لـ ( سونيا ) وهلة أن الحارس قد انتزع أذنيه ، ثم تنبهت إلى الأمر ، فأسرعت يدها إلى مسدسها
الموضوع فوق المكتب ، ولكنها تسمرت بدهشة حينما صوب إليها الحارس فوهة مدفعه الرشاش ، وقال بصوت ساخر مألوف لا يخلو من الصرامة :
ـ شكراً يا عزيزتي ( سونيا ) .. لقد وفرت عليَّ الكثير من الوقت في البحث عن ( منى ) .. لاحظي أنني قد استوعبت الدرس هذه المرة ، وعمدت إلى تغيير معالم أذني .
ضغطت على أسنانها في قهر ، وهي تتمتم :
ـ كيف أمكنك .... ؟
قاطعها ( أدهم ) في سخرية قائلاً :
ـ إنني أجد متعة في أداء ما يظنه الآخرون مستحيلاً يا عزيزتي .
ثم أردف بصوت بارد قاس :
ـ والآن اسمحي لي بتكبيل يديك ، وتكميم فمك يا عزيزتي ( سونيا ) .. فمن الأفضل أن أعمل دونما تدخل منك .
سألته وهي تهز كتفيها ، متظاهرة باللامبالاة :
ـ ماذا تنوي أن تفعل يا مستر 0 صبري ) ؟
أجابها ببرود :
ـ أنوي إشعال النيران في شحنة اليورانيوم أولاً .
ضحكت ( سونيا ) ضحكة ساخرة ، مال على أثرها جسدها الضئيل إلى الخلف ، ثم نظرت في عيني
( أدهم ) مباشرة وهي تقول :
ـ هكذا ؟! .. تُرى ، هل تعلم ماذا يصيب اليورانيوم المشع من جراء الاشتعال ؟
قطب ( أدهم ) حاجبيه في ضيق ، فلم يكن حقاً يعلم نتائج اشتعال اليورانيوم ، ولكنه قال بتحد :
ـ ليكن ما يكون .. المهم ألا تصل الشحنة إلى دولتك .
عادت تضحك في سخرية ، ثم قالت بشماتة :
ـ هل تسمع صوت هذه الناقلات التي تبتعد يا مستر ( صبري ) .. إنها تحمل شحنة اليورانيوم إلى حيث يتم شحنها إلى دولتي .. أما زميلتك العزيزة فسيتم تقطيعها قطع صغيرة ، وتعبئتها في علب الأسماك المحفوظة .
ثم نظرت في ساعتها ، واستطردت بسخرية :
ـ والوقت لا يكفي لإنقاذ الاثنين .. عليك أن تختار يا مستر ( صبري ) .. الشحنة .. أو زميلتك .
* * *
11 ـ بين نارين ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شعر ( أدهم ) بغضب عارم يملأ نفسه ويهز كيانه بأكمله ، ووجد نفسه يطوّح كفه ليصفع ( سونيا ) صفعة ، أودعها كل ما يعتمل في نفسه من غضب ، وهو يقول :
ـ أيتها الحيَّة الم********************************ة .
سقطت ( سونيا ) من أثر الصفعة على الأرض ، وارتطمت رأسها بحافة المكتب ، ففقدت وعيها في الحال .. وقفز ( أدهم ) إلى خارج الغرفة ، ثم حلَّ كمامة السكرتيرة وجذبها مِنْ شعرها في قسوة ، وهو يصيح في وجهها :
ـ أين غرفة الحفظ ؟
ولم تكد السكرتيرة الفزعة تنتهي من وصف المكان ، حتى قفز ( أدهم ) خارجاً ، وهو يحمل مدفعه الرشاش ، وهبط درجات السلم العشرين في قفزة واحدة ، اندفع بعدها وسط الجميع في دهشة الجميع إلى مبنى المصنع .. كان منظره عجيباً إلى درجة دفعت كثيراً من رجال الحرس إلى تتبعه في شك ، برغم أنه يرتدي نفس زيهم المميز ، ولكن خطواته الواثقة وعدم التفافه إليهم ، جعلهم يظنون أنه أحد زملائهم ، في طريقه لأداء أمر عاجل ، فعاد كل منهم يتشاغل بعمله غير ملتفت إلى ( أدهم ) ، الذي قفز درجات سلم المصنع صاعداً ، ثم انحرف في أول ممر إلى اليمين ، وأخذ يعدو حتى الغرفة السابعة ، فتوقف أمامها يلهث ، ثم دق بابها في هدوء ..
سمع ( أدهم ) صوتاً يسأله عمن يكون ، فأجاب بلهجة نرويجية سليمة :
ـ ( سونيا جراهام ) تطلب المصرية في غرفتها حالاً .
فُتح باب الغرفة بهدوء ، وأطل منه وجه رجل ضخم الجثة ، نظر إلى ( أدهم ) بشك ، وهمَّ بالتفوه بكلمة
تساؤل ، ولكن الكلمات احتبست في حلقه ، عندما هوى ( أدهم ) بقبضته الفولاذية على فكه ، فأرسله إلى عالم اللاوعي ..
نظرت ( منى ) بجزع ، إلى الشاب الأشقر الوسيم الذي قفز إلى داخل الغرفة وأسرع نحوها ، ولم تلبث أن تهللت أساريرها عندما تعرَّفت الشاب ، فهتفت بسعادة :
ـ ( أدهم ) ؟! .. كيف نجحت في الوصول إلى هنا ؟
أخذ ( أدهم ) يحل وثاقها بسرعة ، وهو يقول :
ـ لا وقت لشرح الأمور أيتها النقيب ، فالشحنة تكاد تفلت من بين أصابعنا .
قالت ( منى ) بدهشة :
ـ كيف ؟ .. لقد كنت أظن ذلك الصندوق الذي أحضروه ..
توقف ( أهم ) عن حل وثاقها ، وقاطعها قائلاً :
ـ أي صندوق يا (منى ) ؟
أشارت برأسها إلى صندوق متوسط الحجم في طرف غرفة الحفظ ، فأسرع ( أدهم ) يحل الجزء المتبقي من وثاقها ، ثم نهض وسار نحو الصندوق ، وأخذ يعمل عل فتحه ، وتبعته ( منى ) بفضول ..
لم يكد ( أدهم ) يرفع غطاء الصندوق ، حتى أطلقت ( منى ) صرخة رعب مكتومة ، وقطب ( أدهم ) حاجبيه في دهشة وغضب ، فبداخل الصندوق تكومت جثة تجمدت الدماء حول ثقب بين عينيها .. جثة
( فريدريك أبسن ) .
* * *
كان المشهد مرعاً ومثيراً للاشمئزاز ، ولكنه كان الدليل القوي على أن خطة ( أدهم ) ، المبنية على التفرقة بين المخابرات المعادية و( فريدريك أبسن ) ، قد نجحت لم يتصورها هو نفسه .. ولكنه أعاد الغطاء بهدوء ، وأمسك بيد ( منى ) قائلاً في برود يفوق برودة الجو نفسه :
ـ هيا أيتها النقيب .. لقد غامرت بضياع الشحنة من أجل إنقاذك ولم يعد هناك المزيد من الوقت لنضيعه .
أسرعت ( منى ) تتبعه وهو يتقدمها حاملاً مدفعاً الرشاش ، حتى وصلا إلى الباب الذي يقود إلى ساحة المصنع ، فهمس ( أدهم ) في أّنها :
ـ انتظري هنا حتى أحصل على وسيلة انتقال تمكننا من اللحاق بالشحنة .
تحرك ( أدهم ) بهدوء خارجاً ، وهو يرخي غطاء الرأس فوق جبهته ، ويضم ياقة المعطف الأزرق المميز ، وقد خفض فوهة مدفعه الرشاش ، وأخذ يسير بثقة نحو سيارة ( فريدريك ) المرسيدس الزرقاء .. ولم يكد يصل إليها حتى مد يده بهدوء ، ففتح بابها واندس أمام عجلة القيادة ..
أسرع إليه الحارس المكلف بحراستها ، وسأله بحدة :
ـ ماذا تفعل أيها التعس ؟ .. إنها سيارة الرئيس الخاصة .
أجابه ( أدهم ) بصرامة وبلغة سليمة للغاية :
ـ ابتعد أيها الغبي .. لقد أسند إليَّ مستر ( أبسن ) مهمة عاجلة تختص بالشحنة ، وويل لمن يعترض طريقي .. تراجع الحارس بقلق ، حتى أنه لم يلحظ أن ( ادهم ) أدار محرك السيارة عن طرقي سلكي الكهرباء ، وليس عن طريق مفتاحها الأصلي ..
انطلق ( أدهم ) بالسيارة في ثقة تبعد الشكوك في طبيعته تماماً ، حتى توقف أمام الباب الداخلي للمصنع ، وأشار إلى ( منى ) ، فأسرعت تحتل مكانها إلى جواره ، وهو يقول :
ـ من الواضح أن رجل مستر ( أبسن ) من النوع الذي يسهل خداعه .
ولم يكد ( أدهم ) يدير محرك السيارة ، حتى دوَّى في أرجاء المصنع صوت ( سونيا جراهام ) ، وهي تقول في عجلة :
ـ هناك جاسوس في أرض المصنع يحاول إنقاذ الفتاة المصرية .. اقبضوا عليه قبل أن يحاول الهرب .. أريده حياً أو ميتاً .
التفتت الأنظار كلها وفوهات المدافع الرشاشة إلى سيارة ( فريدريك ) التي يستقلها ( أدهم ) ، وإلى جواره
( منى ) ، فقد فهم الجميع من لحظة واحدة أن ذلك الحارس الذي يتصرف بأسلوب مريب منذ البداية ، ما
هو إلا الجاسوس المطلوب .. ويجب قتله في الحال .
* * *
وبرغم صعوبة الموقف الجديدة ، أطلق ( أدهم صبري ) الملقب بـ ( رجل المستحيل ) ضحكة ساخرة عالية ، وقال وهو يضغط دواسة البنزين بقوة :
ـ عجباً !! هذا المشهد يتكرر للمرة الثانية .
ثم انطلق بالسيارة في سرعة جنونية نحو بوابة المصنع ، وهو يقول لـ ( منى ) :
ـ أخفضي رأسك أيتها النقيب ، فسينهمر علينا الرصاص كالمطر ، ولابد لنا من اللحاق بالبوابة قبل إغلاقها ،
فهي لا تزال مفتوحة منذ خروج الناقلات التي تحمل شحنة اليورانيوم المطلوبة .
لم تستجب ( منى ) لأوامره ، بل أسرعت تتناول المدفع الرشاش من المقعد الخلفي ، وأخذت تطلق نيرانه من النافذة في جرأة وإقدام ، على حين انهمرت رصاصات الحرس خلف المرسيدس الزرقاء ..
ضحك ( أدهم ) بسخرية قائلاً :
ـ مرحى يا زميلتي العزيزة .. ها قد أصبحت أخيراً عضواً فعالاً في المخابرات المصرية .
أسرع الحرس يحاولون إغلاق البوابة ، ولكن ( أدهم ) اندفع بسيارته كالسهم ، وهو يقول :
ـ مهلاً أيها الأوغاد .. أنا مصر على العبور .
تحطم زجاج السيارة تماماً من الرصاص المنهمر كالمطر ، وأصيب ذراع ( منى ) برصاصة ، ولكنها لم تنبس ببنت شفة ، واستمرت في إطلاق مدفعها الرشاش ، وهي تضغط على أسنانها من شدة الألم .. وشعر ( أدهم ) برصاصة تحتك بعنقه ، وتستمر في طريقها لتحطيم زجاج السيارة الخلفي ، وبالدم يسيل على رقبته ويلوث المعطف .. وكانت البوابة الحديدية الضخمة قد قاربت الإغلاق ، ولكن ( أدهم ) لم يرفع رجله عن دواسة البنزين ، واستمر في طريقه بجرأة مذهلة ، وإصرار فولاذي ، حتى اقتحم البوابة ، وارتطم بقوة حطمت مقدمة السيارة ، التي أثبتت مرة أخرى تفوق هذا النوع من السيارات ، فقد واصلت طريقها برغم ذلك إلى خارج المصنع ، بعد أن انفتحت البوابة على الرغم منها ، وأصبح ( أدهم ) و( منى ) خارج دائرة الخطر .
* * *
صاحت ( منى ) بفرح :
ـ لقد نجونا يا ( أدهم ) .. لقد نجونا .
غير أنه قال بلهجة غامضة :
ـ ليس بعد يا عزيزتي .. ليس بعد .
وفوجئت به ( منى ) يستدير بالسيارة ، برغم الأرض الثلجية الزلقة ، ليعود مواجهاً بوابة المصنع ، ثم أوقف السيارة فجأة ، فصاحت فيه ( منى ) :
ـ يا إلهي !! إننا ما زلنا في مرمى نيرانهم يا ( أدهم ) .
لم يهتم ( دهم ) بعبارتها ، ولكنه ضم كفيه أمام وجهه كالبوق ، وصاح بملء فيه :
ـ كفى أيها الأغبياء .. إنكم تطيعون أوامر ( سونيا ) التي قتلت زعيمكم ، ووضعته داخل صندوق خشبي في غرفة الحفظ .. اقتصوا منها بدلاً من ذلك .
تسمر الحراس في ذهول ، وانخفضت فوهات مدافعهم الرشاشة ، وهم يتبادلون النظرات فيما بينهم ..
كانت عودة ( أدهم ) متحدياً الخطر لتحذيرهم ، قد أشعرتهم بصدق ما يقول ، فتردد كل منهم في إطلاق النار عدا واحداً صاح بحنق :
ـ أنت كاذب .
وألقى بكرة معدنية نحو السيارة في غضب واضح .. وبدلاً من أن يتفادى ( أدهم ) الكرة ، مد يده خارج الزجاج المهشم والتقطها بمهارة ، ثم دار بالسيارة ، وانطلق في طريقه كالصاروخ ، غير ملتفت إلى الرصاصات التي عادت تنهمر خلفه ..
صاحت ( منى ) بحنق :
ـ ما معنى هذا الأسلوب المسرحي ؟
ابتسم ( أدهم ) وهو يمسح الدم الذي يلوث عنقه ، وقال :
بالعكس يا عزيزتي .. لولا هذه الحركة المسرحية ، لضاعت منا الشحنة إلى الأبد .
سألته ( منى ) باهتمام ، وهي تعقد منديلاً صغيراً حول ذراعها المصاب :
ـ هل تعني أن هذه الكرة المعدنية .... ؟
قاطعها ( أدهم ) قائلاً :
ـ نعم يا عزيزتي ، هذه الكرة المعدنية تحتوي على تقرير من عملينا السري داخل المصنع ، يبين خط سير الشحنة ، حتى يمكننا تعقبها وتدميرها .
صاحت ( منى ) بدهشة :
ـ عميل سري ؟
أجاب ( أدهم ) بابتسامة :
ـ إن أحد رجال ( فريدريك أبسن ) في الواقع ، تمكنت مخابراتنا من شرائه بمبلغ ضخم يحتوي على ستة أصفار ، ووعدناه بمبلغ مماثل ، لو أنه ساعدنا في تعقب وإيقاف خط سير الشحنة .. إنه سحر المال يا عزيزتي ، الذي لا يحرك إلا الأوغاد .
ثم ناولها الكرة المعدنية قائلاً :
ـ هذه الكرة مقسومة إلى نصفين متساويين يا عزيزتي .. افتحيها وأخرجي الورقة التي في داخلها ، وأخبريني أين ستذهب الشحنة .
قالت ( منى ) بضعف :
ـ لا أعتقد أنه سيمكنني هذا يا سيادة المقدم .. فذراعي تنزف بغزارة ، وأشعر وكأنني سأفقد وعيي .
أوقف ( أدهم ) السيارة بصورة مباغتة ، والتفت إليها بجزع قائلاً :
ـ هل أصابتك رصاصة من هؤلاء الأوغاد ؟
أومأت برأسها موافقة ، فدار بالسيارة وهو يقول :
ـ لابد من علاج ذراعك أولاً .
صاحت بضعف :
ـ دعنا نلحق بالشحنة أولاً .
قال ( أدهم ) بصرامة ، وهو ينطلق نحو مدينة ( تروندهايم ) :
ـ ذراعك أولاً أيتها النقيب .. هذا أمر .
أرجعت ( منى ) رأسها ، واستندت بضعف إلى مسند مقعدها ، وهي تشعر بالامتنان البالغ تجاه ( أدهم ) ، أما هو فقد انطلق بالسيارة وعقله يعمل بقوة ، محاولاً التوفيق بين إسعاف ( منى ) واللحاق بالشحنة التي تهدد أمن مصر .
* * *
12 ـ الانتحاري ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رفع الطبيب الرصاصة التي استخرجها من ذراع ( منى ) في وجه ( أدهم ) وابتسم وهو يقول :
ـ ها قد انتهينا يا سيد ( أدهم ) .. ولست أدري إذا كان ما أفعله صحيحاً أم لا ؟!
قال ( أدهم ) وهو يتحسس الضمادات التي تغطي الجرح العميق برقبته :
ـ لك أن تفعل ما تراه صواباً أيها الطبيب ، فأنا لا أملك ما يؤيد أقوالي .
هز كتفيه بلامبالاة ، وقال :
ـ لست أحتاج إلى أدلة يا سيد ( أدهم ) ، فكلانا مصري ، يعمل من أجل مصر في ( النرويج ) سواء كنت على حق أم على خطأ ، فسأغامر على أمل أن يؤدي عملي هذا إلى قطرة خير من أجل مصر .
صافحه ( أدهم ) بإعجاب وامتنان ، وهو يقول :
ـ صدقني يا سدي الطبيب ، أن عملك هذا سيحقق لمصر ما لا يمكنك تصوره .
شملت وجه الطبيب المصري المهاجر ابتسامة واسعة ، وهو يقول :
ـ يكفيني هذا القول يا سيد ( أدهم ) .
عاون ( أدهم ) زميلته على النهوض ، وهو يقول :
ـ معذرة يا سيدي .. سنضطر إلى مغادرتك فوراً ، فعملنا يحتاج إلى السرعة :
قال الطبيب بدهشة :
ـ ولكن هذه الفتاة تحتاج إلى الراحة .
ابتسمت ( منى ) ، وقالت :
ـ لا عليك يا سيدي .. إن من يعمل مع ( أدهم صبري ) لا يجد الراحة مطلقاً .
* * *
سألت ( منى ) ( أدهم ) وهو ينطلق في سرعة جنونية :
ـ ماذا عن خط سير الشحنة ؟
أجابها ( أدهم ) دون أن يرفع عينيه عن الطريق :
ـ خط سير الشحنة يقضي بنقلها عن طريق الشاحنات براً إلى ( أوسلو ) العاصمة ، حيث يتم نقلها بواسطة قطار بضائع إلى ميناء ( ستافنجر ) على بحر الشمال ، ومن هنا تنقل عن طريق البحر إلى ميناء ( كاليه ) الفرنسي ، ثم بالقطار عبر ( فرنسا ) إلى ميناء ( مرسيليا ) ، ومنه عبر البحر المتوسط إلى ( تل أبيب ) .
سألته ( منى ) بقلق :
ـ وهل تعتقد أنه في إمكاننا اللحاق بالشحنة في ( أوسلو ) ؟
زوى ( أدهم ) ما بين حاجبيه ، وهو يقول :
ـ لو أننا فشلنا في ذلك ، فنضطر إلى القيام بخطوة انتحارية ، لا مناص منها أيتها النقيب .
* * *
صرخت عجلات سيارة ( أدهم ) بصرير مزعج ، عندما توقفت السيارة دفعة واحدة أمام محطة القطار في
( أوسلو ) ، وقفز منها ( أدهم ) و( منى ) ، وأسرعا نحو الباب الرئيسي ، وصاح ( أدهم ) يسأل حارس الباب :
ـ هل غادر قطار البضائع المتوجه إلى ( أوسلو ) المحطة ؟
أجاب الرجل في هدوء وبإيماءة من رأسه قبل أن يقول :
ـ نعم يا سيدي .. منذ ساعة تقريباً .
سأله ( أدهم ) متظاهراً باللامبالاة :
ـ وهل حمل شحنة الأسماك المحفوظة ؟
أجاب الرجل مبتسماً :
ـ بالطبع يا سيدي .. لقد أشرفت على شحنها بنفسي .
ظلت ملامح ( أدهم ) جامدة وهو يقدم شكره للرجل ، أما ( منى ) فقد ظهرت على وجهها خيبة الأمل وهما ينصرفان ، ولكن ( أدهم ) قفز إلى السيارة ، وأشار إليها أن تحذو حذوه ، فقفزت بدورها إلى جواره ، وسألته بإحباط :
ـ والآن ماذا سنفعل ؟
قال ( أدهم ) وهو يعاود الانطلاق بالسيارة :
ـ من المستحيل اللحاق بالقطار بواسطة السيارة ، فسرعته تبلغ مائة وستين كيلومتراً في الساعة ، والطرق البرية زلجة مغطاة بالثلوج ، لا تصلح للانطلاق بالسيارة ، بنفس السرعة .
سألته ( منى ) بتوتر :
ـ وماذا بعد ؟
قال ( أدهم ) وهو منطلق بسرعة شديدة :
ـ القطار في طريه الآن إلى ( كريستيانسوند ) ، قبل أن يصل إلى ( ستافنجر ) ، ويمكننا اعتراض طريق الشحنة في هذه المنطقة تقريباً .
سألته ( منى ) بدهشة :
ـ وكيف يمكننا الوصول إلى هناك قبل أن يصل القطار ؟
أجابه ( أدهم ) ، وهو ينحرف إلى طريق جانبي ضيق مغطى بالثلوج :
ـ سنقوم باستئجار طائرة صغيرة يا عزيزتي .
خرجت من فم ( منى ) صرخة تعجب ، وعادت تسأله بدهشة :
ـ ولكن المنطقة هنا شديدة الوعورة ، حسبما أذكر من دروس الجغرافيا ، ولن يمكننا أن نجد شبراً واحداً صالحاً للهبوط .
قال بهدوء وفوق شفتيه ابتسامة ساخرة :
ـ لهذا سنضطر إلى شراء مظلة هبوط أيتها النقيب .
اتسعت عيناها دهشة وهمت بالاعتراض ، ولكنها عادت تضم شفتيها ، وتهز كتفيها ، فقد كانت تعلم جيداً أنه من المستحيل منع عمل قرر أن يقوم به ( أدهم صبري ) .
* * *
انطلق قطار البضائع يشق طريقه إلى ( كريستيانسوند ) بسرعته البالغة مائة وستين كيلومتراً في الساعة ، وهو يطلق صفيراً عالياً ، منبهاً كل من يدفعه سوء حظه إلى اعتراض طريقه ..
وعلى ارتفاع مائتي قدم فوق القطار ، ظهرت طائرة صغيرة ذات محركين .. كان من الواضح أنها تنطلق بسرعة تفوق الحد الأقصى لانطلاقها ، حتى وهي جديدة ، وفي داخلها قال ( أدهم ) لزميلته :
ـ ها قد نجحنا بفضل سرعة الطائرة ، واتخاذ الطرق الجوية المختصرة من اللحاق بالقطار ، ولكن لابد لنا من تخطيه بعد أن نتم مهمتنا هنا .
ثم تخلَّى عن عجلة القيادة وهو يقول :
ـ هيَّا أيتها النقيب .. لنرى مهارتك في القيادة .
أسرعت ( منى ) تحتل مقعد القيادة وهي تقول :
ـ لن أبلغ نصف مهارتك على أية حال يا سيادة المقدم .
فتح ( أدهم ) باب الطائرة ، وشعرت ( منى ) بالبرودة الشديدة ، عندما عبر الهواء المثلج إلى داخل الطائرة ، ولكنها ضمت كتفيها ، وتشبثت بعجلة القيادة ، وسمعت ( أدهم ) يقول :
ـ سأتعلق بالسلم الصغير المصنوع من الحبال ، وأهبط على سطح القطار أيتها النقيب .. حاولي المحافظة على سرعة الطائرة ، بحيث تساوي سرعة القطار تقريباً .
وقبل أن تنطق ( منى ) بما يفيد سماعها للأوامر ، تعلق ( أدهم ) بالسلم الصغير ، وهو يضم إلى صدره حقيبة كبيرة بعض الشيء ، وشعر بالرياح الشديدة المثلجة ترتطم بوجهه وصدره ، وتدفعه إلى الخلف ، ولكنه أحكم قبضته على السلم ، وتدلَّى بنصفه السفلى نحو سطح القطار ..
ولو أن رجلاً آخر في وضع ( أدهم صبري ) لتجمدت أطرافه من شدة البرد والرياح الثلجية .. ولكن جسد ( أدهم ) كان يفيض بنوع عجيب من الحرارة ، حراس التصميم والحماس وحب مصر ..
لم تكد قدما ( أدهم ) تلمسان سطح القطار ، حتى سقط بوجهه على السطح البارد ، وانزلق جسده بشدة ، ولكنه تعلَّق في اللحظة الأخيرة بحافة القطار ، دون أن تفلت قبضته عن الحقيبة التي أمسكها بقوة ، وكأنها تحوي كنزاً بأكمله ، ثم انتظر قليلاً حتى اعتاد جسده على شدة الرياح ، ثم فتح الحقيبة بعناية ، وأخرج منها أسطوانتين من مادة ( ت . ن . ت ) الشديدة التفجير ، وألصقها بواسطة قرص مغناطيسي قوي في سطح العربة التي يقف فوقها ..
تحرك ( أدهم ) بسرعة وخفة برغم البرد والرياح ، وأعاد الكرَّة مع كل عربة من عربات القطار ، حتى تأكد أنه قد وزع متفجراته بشكل سليم ، فأسرع يعدو فوق السطح حتى وصل إلى المنطقة التي تفصل القطار عن قاطرة السحب الرئيسية ، فتسلَّل في الفراغ الضيق ، وأخذ يعالج السلسلة التي تصل القطار بالقاطرة محاولاً فصلهما ، وعندما عجز أخرج مسدسه وصوبه إليها وهو يتمتم بسخرية :
ـ معذرة أيتها السلسلة المسكينة .. ليس أمامي سوى ذلك .
ثم أطلق ست رصاصات متتالية ، تحطمت السلسلة على أثرها ، وانفصل القطار عن المقطورة تماماً ..
ازدادت سرعة القاطرة بعد انفصالها ، على حين بدأت سرعة القطار في الانخفاض تدريجياً وببطء ، فأسع ( أدهم ) يصعد سطح القطار وأشار بذراعيه إلى ( منى ) ، التي هبطت بالطائرة حتى أصبحت على ارتفاع ثلاثة أمتار فقط من سطح القطار ، وتدلَّى السلم الصغير وأخذت الرياح تطوحه بعيداً ، ولكن الوقت لم يكن يسمح بالتردد ، فجمع ( أدهم ) قوته ، وألقى بالحقيبة الفارغة بعيداً ، ثم قفز ليتعلَّق بالسلم ..
ولأول مرة أخطأ تصويب ( أدهم ) ، بسبب الرياح التي تهز السلم بقوة .. فوجد يديه متعلقتين بالهواء ، وجسده يهوي نحو الأرض بسرعة وقوة .
* * *
|