دهشت للسؤال ألا أنها أسرعت بأجابته:
" أخبرتك السبب عند مجيئي , ولا بد أنك تعرف العقد المطروح وألا لما كنت موجودا هنا الليلة".
" ما هو مركزك في الشركة؟".
" مساعدة خصوصية للسيد دوريل ".
أجابته وهي تحاول تناول كوكتيل الفاكهة .
" حسنا وهل هو المدير الوحيد للشركة؟".
ضمت شفتيها مانعة نفسها من الأجابة بخشونة , ألم يقرأ أيا من الرسائل المتبادلة ؟ ألم يطلع على أي من المعلومات قبل قبوله الدعوة؟ وأذا كان الأمر كذلك فلماذا لم يدع كينغسلي يواصل المفاوضات ؟ حسنا , أذا ما كان يرغب فيه هو تاريخ الشركة......
" السيد ميريك والسيد تيلور في مانشيستر كما أن هناك أضرابا في.....".
" أعرف كل تفاصيل الأضراب في ديلوز ولا تهمني التفاصيل غير الضرورية حاليا ".
فسألته بهدوء :
" ما الذي تريد معرفته بالضبط يا سيد بلاك؟".
" هل هذا هو أسلوبك الخاص مع رجال الأعمال يا جيردا؟".
وحلت لحظة المواجهة أخيرا , كانت عيناه باردتين ولم تستطع مقاومة التحديق فيهما , جف فمها وأزدادت ضجة غرفة الطعام حولها , فجأة الى حد تحولت فيه الى ضوضاء غريبة , قالت بصوت مختنق:
" لماذا لم تقل ذلك من قبل؟".
" لماذا تظاهرت بعدم معرفتي؟".
لم تستطع العثور على كلمات مناسبة للدفاع عن نفسها , وواصل قائلا:
" لم تتغيري , كل ما تغير هو أنك أمتلكت الجرأة للمجيء , ولكن لا بد أن السبب هو لأرضاء نرجسيتك بالتواجد في مكان مخصص للرجال".
أنتابها الوجوم وصمتت كما لو أنه ضربها على رأسها , ثم سحبت حقيبة يدها بعنف وقالت:
" أذا كان الأمر كذلك , فمن الأفضل أن أغادر المكان".
" وتسببين فضيحة ؟ أبقي في مكانك , وماذا عن العقد؟".
لحظت النادل مقتربا منهما , فسكتت ثم قالت بعد أبتعاده :
" لم تتغير أطلاقا يا جوردان , كما أنك لا تستطيع النسيان".
" هل توقعت مني ذلك؟".
" كلا , كنت سأكون بلهاء لو أنني توقعت أي شيء منك , وخاصة التفهم".
أحنت رأسها وتوقفت عن التظاهر بتناول الطعام لعلمها أن الطعام سيخنقها , لحظت أنعكاس الضوء على قدح شرابه وتكرار الأنعكاس عندما وضع القدح على الطاولة , قال :
" أذن , توفي بليز منذ ستة أشهر , هل ما زلت أرملة ؟ أم أن هوارد دوريل هو المرشح الجديد؟".
بتعمّد , دفعت صحن طعامها جانبا وجلست بأستقامة .
" أنت تعلم جيدا قوة مركزك حاليا , أذا ما رغبت بأهانتي فليس لدي الخيار بل سأسمح بذلك لأرضائك , ولكن أحتراما لرجل لا علاقة له بما حدث بيني وبينك , رجل لا يصح لومه لأي سبب كان , أطلب منك عدم ذكر أسم هوارد دوريل مرة أخرى".
" يبدو أنك تعلمت أخيرا , الأخلاص , ومن سوء الحظ أنك لم تتصفي به من قبل".
" لن أجادلك فيما قلته ". قالت ببرود : " لأنني جئت هنا لأنجاز عملي وليس .... وليس......".
وأحست بصعوبة في التنفس وأتمام جملتها ألا أنها قالت أخيرا:
" وليس لبدء نقاش في موضوع قديم مرة أخرى , والآن هل نستطيع أتمام حديثنا بصدد العقد؟".
" آه! نعم العقد".
ومال جوردان في مقعده ليتّخذ وضعا مريحا أكثر وقال :
" أنك ترغبين في الحصول على هذا العقد مهما كان الثمن , أليس كذلك؟ خاصة أن شركتكم مرت بعام تجاري سيء , في السنة الماضية ".
" تمر كل الشركات , أحيانا , بظرف عصيب".
وحاولت في الوقت نفسه الحفاظ على جمود ملامحها لئلا يجد لذة سادية في تعذيبها .
" ألا تريد بعض الحلوى؟".
أشار بيده رافضا وطلب من النادل جلب الجبن , وبعد أنصراف النادل قال:
" حسنا , لنعد الى العمل , أفترض بأنك مركز ثقة دوريل ... هناك أشياء كثيرة أود معرفتها قل الموافقة على العقد".
منتديات ليلاس
كانت وجبة طعام مخيفة , وبدا كأن جوردان قد تحول الى مخلوق آخر , مخلوق أشتهر بصلابته وقسوته في المعاملات التجارية , وتحوّلت أسئلته التي أطلقها الى تحقيق متواصل , حلّل فيه كل نقطة في العقد , وناقشها في أدق التفاصيل , وكانت أعصاب جيردا على وشك الأنهيار قبل أن يتوقف لأشعال سيجارة أخرى.
كانت صالة الطعام فارغة تماما , والجو مثقلا بدخان السجائر , راقبت جوردان مدخنا سيجارته ثم تذكرت ما قاله هوارد لها : ( لن يوقع الليلة , بل سيكون اللقاء مجرد تهيئة لذلك).
وسرت رعشة يأس في جسمها , وتلاشى أملها في منحه العقد للشركة , خاصة بعد معرفته بعملها .
بقيت صامتة , ألا أن التساؤل الواضح في عينيها دفعه للقول :
" لنخرج من هنا".
وقادتهما جملته الأخيرة الى تعقيد جديد , وخلافا للمألوف طلب من النادل الحساب ودفع هو كل شيء ثم قال للنادل المتعب أن يتناول شيئا على حسابه , ثم خرجا سويا.
" لا أسمح لأي أمرأة بدفع حسابي , أطلاقا".
قال بتصلب حين خرجا الى الظلمة وواصل قائلا:
" حسنا , أين سنتوجه الآن ؟".
حدقت في وجهه مما دفعه الى أطلاق ضحكة قصيرة.
" لم يتم شيء الليلة , كما تعلمين , وأحد الأسباب هو أن ضمان وقت التسليم ليس موافقا لمواصفاتي , والآن , لنأخذ سيارتي القريبة ولنعد الى بيتي".
" كلا ".
وأطلقت الجواب بسرعة دفعته للقول:
" لم لا ؟ أنه المكان الذي أجري فيه صفقاتي عادة".
" أفضل عدم الذهاب فالوقت متأخر و...".
ثم توقفت بصعوبة.
" وأنت تخافين الأساءة الى سمعتك , هل أنت متأكدة أن هذا هو السبب الوحيد؟".
" نعم".
" أرجو أن تكوني مقتنعة , على الأقل , بما تقولينه , كلا لم تتغيري في شيء يا جيردا! ذلك الجمال البريء البارد , المعروض لخداع أي رجل , إلا أنه لن يخدعني".
" عليّ الذهاب الآن ".
نظرت الى مكان خلفه.
" سأذكر تعليقاتك للسيد دوريل وسأسأله عن الضمان , سيتصل بك في أقرب فرصة".
ومدت يدها لمصافحته
"تصبح على خير وشكرا على وجبة الطعام".
تجاهل جوردان يدها الممدودة وقال:
" أين ستذهبين؟".
" الى البيت بالطبع".
" بسيارتك؟".
" كلا , بواسطة التاكسي".
" سآخذك بسيارتي".
" كلا , لا حاجة لأزعاجك , أذ أستطيع أستدعاء سيارة....... بسهولة".
" ربما , ألا أنني لا أترك أمرأة وحدها في الشارع في الساعة الواحدة صباحا".
أمسك بذراعها وساعدها على عبور الشارع , ولم تستطع التخلي عن حذرها حياله ,حتى عند أقترابهما من سيارته المرسيدس الخضراء.
قال بتجهم وهو يفتح باب السيارة:
"لا تقلقي , أعرف ما الذي تفكرين به , ولكنني لا بد أن أكون في حاجة ماسة الى أي أمرأة أذا ما فكرت بلمسك".
جذب الملف من يدها ورماه على المقعد الخلفي لسيارة , ثم قال بتصلبه المعهود:
" الى أين؟".
لم تبد أي رغبة بدخول السيارة بل قالت:
" لا بد أن كراهيتي الى هذا الحد ترضي رغباتك".
" كلا , ليس الكراهية , للكراهية صلة قريبة بالحب , عزيزتي جيردا , وأنا أشك بمبدأ فهمك للعاطفتين , لو أنك.......".
وجذبها نحوه قائلا:
" تعرفين ذلك , وألا لما جئت الليلة لرؤيتي".
منتديات ليلاس
أرتجفت لملمس ذراعيه ودخلت السيارة بسرعة , وأرتفعت في داخلها أصوات أحتجاج أن تصرخ , أن تحتج , أن تطلب منه تفهم ظروفها أرادت أن تهرب قبل أن تسقط في الفخ , ألا أنها لم تستطع القيام بأي شيء , بل دفعت رأسها الى الخلف ليلامس المقعد الجلدي الناعم وأن تصلي طلبا للقوة لتصمد أمام تعذيبه لها لحين أتمام مهمتها.... وبد ذلك...
وأهتزت السيارة , أذ دخل جوردان بلاك وأغلق الباب خلفه , ومست ذراعه ذراعها أذ بدأ لمسه لأزرار الأضواء وأنكمشت هي لملمسه وكان بقاؤها معه في ظلمة السيارة , وحدهما , أمرا غير محتمل ودهشت لسماع صوته مخاطبا اياها:
" أين تسكنين؟".
" بناية كرافتون".
" أعرف المكان ".
وسارت السيارة بسهولة , مطيعة لكل لمسة من لمساته وبلا مقاومة مثل أمرأة مستسلمةبلا أحتراس لعواطفها , وكما كانت في تلك الليلة قبل ثلاث سنوات , ترى هل هل يذكر ما حدث؟ هل يتذكر آخر مرة جلست الى جواره في السيارة بعد أن غادر المستشفى وحاولت أخباره الحقيقة عن علاقتها بستيوارت , بكت حينئذ كثيرا لأن ما حدث كان مأساويا , ألا أنها لم تستطع تفادي الأمر , وواساها بين ذراعيه , وظنت بأنه فهمها وأنه سيحاول تهدئتها , وجاءت التهدئة بشكل عناق , وأعتقدت للحظة بأنه أهتم بها وأنتابها أحساس رائع ورغبة بنسان كل ما حدث وأن تستسلم تماما لمشاعرها الجذلة بقربها منه فمسدت شعره الفضي الجميل.
منتديات ليلاس
أغلقت جيردا عينيها , كان الجرح عميقا ومؤلما كما لو أنه حدث يوم أمس , أذ لا تزال تحس بضغط يديه وضحكته المحتقرة حين دفعها بعيدا عنه بكل قسوة ووجه اليها أتهامات لم تحلم بسماعها من قبل , أتهمها بأنها كانت رخيصة , أنانية , وأنه لن يغفر لها مأساة أخيه طوال حياته.
حين وقفت السيارة , وأستدار نحوها أختلط الماضي في ذهنها بالحاضر وتوقعت منه الغضب ألا أنه أبتسم في وجهها .
" أخشى أن يكون علينا مواصلة النقاش فيما بعد , متى ستلتقين بدوريل؟".
" غدا صباحا , لن أتصل به الليلة لتأخر الوقت".
تناولت الملف ونظرت اليه قائلة دون أن تجرؤ على الثقة بأبتسامته:
" سأتصل بك صباح الأثنين".
" ذلك متأخر جدا أذ سأكون في باريس".
" كم سيطول ذلك؟".
" يوما واحدا , ثم سأتوجه الى بون وسأعود الى المدينة يوم الخميس".
" سأتصل بك يوم الخميس أذن".
وضع ذراعه على ظهر المقعد وتفحصها بدقة:
" أنك غير ملائمة لهذا العمل كما تعلمين , أذ تتركين لي فرصة الأنسلال بعيدا دون أعتراض".
ضمت شفتيها بقسوة متسائلة:
" أحقا؟".
" لو كان من أتحدث اليه رجل أعمال خبيرا لقيّدني بوضع معيّن منذ فترة طويلة".
وأدركت أن ما يقوله ما هو إلا تلاعب بأعصابها:
" وهل تكفي مصافحة سيد مهذب آخر بهذه المناسبة؟".
وأختفت أبتسامته الواثقة أذ قال:
" هل تعتقدين أن التجارة همل سادة مهذبين؟".
" في جيرنغفولد , نعم".
ووضعت الملف تحت أبطها ومدت يدها مرة أخرى لمصافحته.
" تصبح على خير وشكرا على إيصالي".
لم يتحرك من مكانه.
" ألم تنسي شيئا؟".
" لا أعتقد ذلك".
" ألا تودين السؤال عن ستيوارت؟".
وشحبت فجأة :
" هل سيغيّر سؤالي أي شيء , كيف هو في أي حال ؟ تقبّل حقيقة كونه مقعدا طوال حياته , أذ ليس لديه أي أمل في غير ذلك".
" أتذكر ذلك , ليس في مستطاعي نسيانه".
" كلا؟ أجد أن نسيانك أكثر أقناعا من تذكّرك".
" لقد أوضحت ذلك من قبل ومنذ البداية , ما الذي تتوقع مني عمله الآن ؟ أن أشعر بالأسف لشيء لم أرتكبه؟ أن أرسل أعتذاري المهذّب ؟ أي فائدة في ذلك؟".
" لا فائدة أطلاقا".
وألتمعت عيناه أذ مدّ يده لأغلاق باب السيارة.
ومزق صوت أغلاق باب السيارة صمت الليل وزاد الأمر سوءا صوت المحرك , وألتمعت الأضواء مثل عينين غاضبتين لحين أختفاء السيارة عند المنعطف , وعاد للطريق اهدوء.
وجدت جيردا نفسها في المصعد دون أن تتذكر كيف وصلت الى هناك , وأحست بتقلص معدتها عند توقف المصعد في الطابق الثاني وأنفتح الباب بهدوء , وأحست بالضغط يسري في أوصالها , أذ دخلت الشقة وجلست حالما وصلت أقرب مقعد , حتى قبل أن تخلع سترتها.
وسقطت سترتها الحريرية الناعمة على الأرض , حين تحركت لتسكب لنفسها قدح شراب , ورغم دفء الشقة , أحست جيردا بالبرودة تسري في جسمها , وكما لو أن ما حدث طوال الأمسية تسجل على شريط سينمائي , بدأت بأستعادة كل التفاصيل : جوردان بلاك واقفا عند الزاوية , ثم مواجهتها أياه عند تناول اعشاء , عيناه المتهمتان , خيل اليها أن قوته بالسيطرة عليها قد تلاشت بعد مضي ثلاث سنوات , ألا أن ما حدث أكّد عكس ذلك.
حدثت في ظلال الغرفة طوال الليل , وحاولت جيردا الأمساك بما يعيد اليها طمأنينتها , وتمنت أن يستعيد هوارد صحته قبل يوم الخميس , حينئذ لن يكون هناك أي سبب للقاء جوردان مرة ثانية , وسيغرق الماضي في ظلام النسيان من جديد.
ألا أنها لم تحصل على السلام المتوقع , ولمعرفتها الجيدة بطبيعة جوردان بلاك , أدركت أنه لم ينته منها بعد.