كلا ، كان بليز شخصا تحتمي به عند الحاجة وتشعر نحوه بالمودة وعرفان الجميل ، وكان هو من لجأت اليه بعد الحادث ووجدت في علاقتها به معنى العطاء الدائم والسلام النابع من توفير الراحة لمن تحب : إلا انها لم تستطع النسيان أبدا.
ولم يمت حبها لجوردان بلاك بل بقي مترسبا في أعماقها ,تثيره أحيانا بعض الذكريات السريعة , لكنها قاومت الذكرى بعنف لئلا تسيء إلى بليز , إلى ان تزوجت شقيقته الصغرى , وحين عادت مع زوجها بعد قضاء شهر العسل في كابري , تمّ لقاء العائلة باكملها في بيت والدته في ديفون , كان الجو رائعا فتوجهوا جميعا إلى ساحل البحر ,وإكتشفت جيردا هناك معنى العلاقة بين حبيبين حين راقبت تبادل الحب بين الزوجين الشابين ,وبقيت صامتة طول طريق الرحلة إلى البيت مع بليز وإذ عادت إلى سريرها وحدها كالعادة , بقيت مستيقظة تحلم بما رأته.
++++++++++++++++++++++++++
أرتجفت وإبتعدت عنه.
" لم لم تخبريني؟".
" هل كنت ستصدقني؟".
وكان صوتها مليئا بالمرارة.
" بالطبع ,آه كيف كنت سأتوقع هذا؟".
نظرت إلى كتفيه ,وشعرت بحذر غريب:
" هل سيؤثر ذلك على أي شيء؟".
" طبعا..........".
ونهض سائرا الى الجهة الأخرى من الغرفة.
" لم أتظاهر ابدا بأنني قديس , لكنني لم اكن مستعدا أيضا لأغواء فتاة بريئة".
ولم تستطع الرد ,فمرّر يده في شعره قائلا:
" لم أحلم بأنك فتاة لم تمس من قبل ,ولكنك كنت متزوجة من بليز".
" لم كن زواجا حقيقيا , هل يصدمك إعترافي؟".
" كلا ,لكن......لكنني لا عرف ما الذي افكر فيه حاليا".
" لم يعرف احد بالأمر إطلاقا".
" لست بحاجة الى التوضيح..... إنني........".
وسحبت يدها بسرعة :
" كلا ,اظن أنني اريد إخبار شخص ما ,كان عليّ إخبارك منذ البداية , بدلا من محاولة خداعك"
" كلا يا جيردا".
ومد يده الى علبة سجائره فسحب واحدة بدأ تدخينها وأحست بالرغبة في إخباره كل شيء , رغم إخفائها الحقيقة عن الجميع لسنوات طويلة .
" أخبرتك ذات مرة أنني تزوجت بليز بدافع الشفقة ,حسنا إنها الحقيقة ,قد يبدو الترتيب مستحيلا لكنه لم يكن بسبب ما فكرت به ،إذ لم اتزوجه هربا من مسؤوليتي اتجاه ستيوارت والحادث......".
" جيردا , لا حاجة بك لإعادة الحديث......".
" بل يعود الأمر الى زمن بعيد ,حين مرضت والدتي أوصى الطبيب بوجوب مغادرتها انكلترا اثناء الشتاء وقضائها الفترة في عيادة سويسرية ورتّب الحجز لنا , وذهبت معها لقضاء العطلة سويا ,وكان بليز مريضا في العيادة نفسها , بعد ان أزيلت إحدى رئتيه ، غلا أن المرض تسلل الى قلبه بعد ذلك ,ولأنه كان النكليزي الوحيد فكان من الطبيعي لقاؤنا وتبادل الأحاديث ,كان عطوفا ومثيرا للأطمئنان ومنح والدتي كل مساعدة ممكنة للأستقرار وهكذا شعرت بالأمان لتركها هناك والعودة الى أنكلترا دون خوف عليها ,بعد ستة اشهر إستلمت رسالة منها قالت فيها بأنها أفضل من السابق ،وأنها ستنتقل في الأسبوع المقبل الى مصح آخر ,لا أستطيع لفظ أسمه بطريقة صحيحة لكنه قد يكون تاميتا جورجي ,هناك ألتقت بالبروفسور هيرتز ,تزوجا بعد عدة اشهر وإستقرت هناك بشكل دائم , إنه مختص بالكتب النادرة ويعمل قرب جامعة غراز ,وهما سعيدان جدا".
منتديات ليلاس
توقفت عن الكلام مدركة بأنها إبتعدت عن الموضوع الأصلي , ثم تابعت:
" أخبرتني في رسالتها أن بليز في طريق عودته الى أنكلترا وإنه سيأتي لزيارتي ,وعندما جاء دعاني للعشاء فتحدثنا عن والدتي وسويسرا وعمله ,كان أكبر مني سنا , وتوفيت زوجته قبل سنوات ,وحين تزوجت والدتي كان عليّ أن أقرر هل اذهب لأعيش معها أم لا واعرف أنهما ارادا مني العيش معهما ,خاصة ان زوج والدتي رجل عطوف ورائع ,لكنني لم أكن واثقة من رغبتي بترك انكلترا وحياتي فيها ,وإذ حثني المحيطون على الذهاب الى سويسرا ,نصحني بليز بعدم الذهاب ما لم اكن واثقة تماما من اختاري وأن اترك الفرصة لوالدتي للأستقرار في حياتها الجديدة , بعدئذ ,حين ذهبت لقضاء عطلة طويلة معهما , أدركت صحة رأيه , إذ كان الأثنين منغلقين في علاقتهما تماما , هو يقوم بترجمة بعض نصوص القرون الوسطى ,تساعده والدتي في ذلك خاصة بعد ان أتقنت اللغة في فترة قصيرة ,وأحست بعدم الحاجة أليّ , كانت في صحة جيدة وتتمتع بحياتها الخاصة , وحين عدت الى انكلترا وإلتقيت بستيوارت وتوقفت عن لقاء بليز ,حينئذ كنت متعودة على الأخذ دون العطاء ,وعلمت اثناء ذلك أن رئة بليز الأخرى معطوبة وان الاطباء اخبروه أنه لن يعيش أكثر من عام آخر".
تحركت جيردا , فتناول جوردان السيجارة من يدها خاصة وأنها لم تدخنها إطلاقا.
" انت تعرف البقية و ادركت أنني لا احب ستيوارت ,وبعد الحادثة لم أعرف ما الذي أفعله وكنت تعيسة جدا ,وذات ليلة عرض عليّ بليز الزواج وأخبرني بانه لا يملك الكثير ليقدّمه اليّ وأنه لن يستغرب إذا ما رفضته بعنف ,ولكنه اضاف بأنني إذا لم أقرر الذهاب للعيش مع والدتي فيجب أن افكر بإقتراحه ,وكنت أعلم بأنه سيمنحني السعادة , وأدركت فجأة بأنني أريده وانني أحبه وأريد العيش معه والأهتمام به".
وتنفست بعمق:
"كنا سعداء جدا ,ورغم خوفي الدائم مما سيحدث كنا قادرين على الضحك والفرح ,ومرّت بنا ايام كان فيها بليز مريضا جدا لكنه كان شجاعا فاجبرني على مشاركته أحاسيسه , وإذ مرّ العام وبدا عليه بعض التحسن تجرانا على التفكير بخطأ إفتراض الأطباء , أو حدوث معجزة ...... إلا أن كل شيء إنتهى في العام الماضي ...." وإرتعش صوتها :" وكنا على وشك الذهاب الى ديفون , إلا أنه أحس بالضعف الشديد ثم توفي المستشفى في ليلة عيد الميلاد".
وساد بينهما صمت طويل بعد ان أنهت حديثها , وأخيرا تحرك جوردان ووضع يديه على ركبتيه للحظة قبل أن يقف ثم يتمشى في الغرفة ,وقال :
" وماذا ترك لك ؟ بعض المال والذكريات؟".
بقي مديرا ظهره لها ولم تستطع فهم حقيقة سؤاله ,إلا أنها اجابته بهدوء:
" كلا, لكنني تعرفت من خلال الزواج على شخص طيب ,لم يكن هناك أي خداع في زواجنا ,بل منحته الحب والتضحية وارجو أن أكون قد ساعدته في تسهيل آلام السنة الأخيرة ,ومنحني هو السلام والفهم اللذين كنت في حاجة اليهما ,ليس لدي ما آسف عليه بصدد زواجي من بليز وكنت فخورة بكوني زوجته".
إستدار جوردان وكان فمه متقلصا كأنه كان على وشك قول شيء ثم غيّر رايه في اللحظة الأخيرة :
" كان من الممكن بقاء بليزحيّا عدة سنوات ,هل كنت ستحافظين على مشاعرك ذاتها نحو الزواج ؟".
" نعم ".
منتديات ليلاس
همست مؤكدة قبل ان ينتابها أحساس مفاجىء بوجوب هربها ,لكنه لم يفهم قلقها ورغبتها في الأختلاء بنفسها , فعاد ليجلس الى جانبها ولأول مرة رات في وجهه القلق والندم وشيئا آخر لم تفهمه ، قال :
"هذا يجعل الأمور مختلفة هل تفهمين ؟ما كنت سأتصرف بهذه الطريقة ,لو أنني عرفت من قبل ما قلته لتوك".
وبحركة مفاجئة حاول معانقتها معتذرا عن سلوكه :
" لا احاول إختلاق الأعذار لسلوكي ,لكن يجب ان تصدقي ما قلته".
إلا أن جوردان نسي كبرياء المرأة وقوتها على إخفاء باقي المشاعر ,وحتى فضيلة الغفران ,وكانت ,في تلك اللحظة ,لمسة جوردان آخر شيء ارادته فإنكمشت في مكانها ,مبتعدة عنه :
" نعم قلت لك لا اهمية للأمر ".
كانت حركتها مندفعة ,فوقف جوردان بسرعة ونظر اليها بمرارة.
"نعم , أظن أنني المخطىء تماما".
حاولت ترتيب شعرها وإرتدت حذاءها ثم قالت بتعب:
" رجاء....... كل ما اريده هو نسيان ما حدث , ولست الومك".
وواصلت ترتيب شعرها كأنها لم تسمع فعلّق بصوت عال:
" حسنا , أنت محقة ,كنت مخطئا في حكمي عليك , ثم أكتشفت هذه الحقيقة المثيرة الأمر الذي يجب أن تشكريني عليه , لكنه لا وجود لمرأة ذات منطق وتتعرّف على الحقائق ,لوانني اغويتك فعلا لحوّلت الموقف الى مأساة ,أما لأنني لم افعل فإنك تسمين الأمر إحتقارا ...... أليس كذلك؟".
وتملّك جيردا غضب أعماها ,وكانت مرتبكة الى حد لم تفهم فيه أن جوردان نطق كلماته الأخيرة ليحمي نفسه وتزعزع ثقته بنفسه ,و وتجاهلت كل محاولاته للحديث معها وإقناعها باخذها الى البيت بواسطة سيارته , فهرعت مغادرة المنزل باقصى سرعة لتجد في الظلمة ملجأ لها.