وتحوّل تعبيره من شبه الجد الى الشك.
" إصغي الي يا جيردا , لمدة ثلاث سنوات , لم تكوني أنت موجودة بالنسبة الى جوردان , ثم ها أنت هنا فجأة , وتبدين مذعورة حتى من ظلك أحيانا والشعور بالذنب يجثم على صدرك أحيانا أخرى , بينما يبدو أخي وكأنه يحسب كل خطوة بعناية".
ودار ستيوارت بكرسيه حتى أصبح على مقربة منها , وكانت الحركة الهادئة خلفها مثيرة للأضطراب , فمسحت أصابعها في عصبية بمنديلها :
" أخبرتك من قبل بالحقيقة , أنني لم ألتق بجوردان إلا قبل أسبوعين".
لم يبد على ستيوارت أنه أصغى الى كلماتها وعضّ فجأة على شفتيه ونظر اليها بحدة:
" أنك لم تخبريه بما حدث , أليس كذلك ؟".
" كلا , لم أخبره أبدا".
" شكرا لذلك وإلا لدفعت الثمن غاليا , أعتقد بأننا نجحنا في أخفاء الحقيقة عنه...... ولكن جوردان......"وضغط بيده على جبينه:
" كانت الأيام التالية للحادث مثيرة للأضطراب , وأذا حاول أستعادة أحداثها لا أجدني أذكر الكثير , كل ما تذكرته هو وجوب عدم معرفة أحد بالسر فيما عدانا".
تنهدت قائلة بهدوء:
" أنس الموضوع , أذ لا أحد بعرف سوانا الآن".
كان ستيوارت صامتا ووشّى وجهه بالتأمل ثم قال أخيرا:
" لم نكن حسني السلوك معك , أليس كذلك؟".
ونهضت عن مقعدها وسارت عبر الغرفة لتلقي نظرة على لوحة موضوعة فوق الخزانة الجانبية , ثم سألت:
" نعم , أنها مزعجة".
" لا أعتقد ذلك".
وتفحصت عن قرب ما بدا لها سطحا رمليا ومهجورا عند الغروب , كان للبحر سطح أحمر ضبابي هادىء , وأحاط اللوحة جو يشير الى الموت.
" هل توجب عليك رسم اللوحة أثناء الجزر وأحتشاد الساحل بالأوساخ؟".
وتوقفت عن الحديث حين رأت فجأة الأشكال المخيفة في اللوحة:
" متى رسمت اللوحة؟ أنها مخيفة".
" هل تستهجنين وجود الجماجم؟".
وكان الرضى واضحا في صوته كما لو أن صدمتها أرضت رغبة دفينة في أعماقه وقال :
" رسمت اللوحة خلال تأثري بلوحات دالي , وقبل أن أكتشف أنني لم أكن موهوبا في الرسم , إلا أنها مجرد بداية".
" أعتقد أنك تتمتع بصدم مشاعر الناس".
" إنه واحد من الأشياء القليلة التي تركت لي لأتمتع بها , هل تريدين شرابا؟".
" نعم رجاء".
وخلط كأسين من الشراب لهما وأضاف بعض الثلج الى قدح جيردا ثم قال:
" حسنا , أقتربي وتناولي كأسك , وقولي شكرا بالطريقة المناسبة".
" هل تعني أن عليّ دفع الثمن؟".
أجابته بثبات محدقة في اليد الممسكة برسغها.
" أليس هذا جزءا من الخطة؟".
وحرّر يدها وأبتسم بسخرية مضيفا : " إذ أنني لست غبيا كما تعلمين ".
" لا أعتقد أنك غبي أطلاقا ".
وتراجعت الى مقعدها حيث جلست , وسألت:
" أين سوزان وليون؟".
" ذهبا الى أيست بورن".
" ألا تشعر بالغيرة ؟ في حال نشوء علاقة بينهما".
أضافت بعجل , خائفة أن يسيء تفسير قولها :
" كلا , أطلاقا أذ أن سوزان ملك لي".
منتديات ليلاس
تناولت قليلا من شرابها , واعية لتوترها متسائلة عن مدى تحملها لضغوط ستيوارت , قد يكون قاسيا مثل جوردان وهذا ما يمنح جوردان الحق بالقل على أخيه , رغم أنها جادلته بشدة في المرة السابقة , ودافعت عن موقف ستيوارت نحو الحياة , إلا أنها غيّرت رأيها الآن ....... إذ لاحظت أن عجزه أحاله الى شخص محروم يعاني بأستمرار ويراقب الآخرين بطريقة تدفعه الى الرغبة بأملاء رغباته عليهم , في أمكانه فهم حالته بالتأكيد إلا أن أحساسه الحاقد كان مثيرا لأضطرابها , ولأول مرة أكتشفت قبولها وجهة نظر جوردان بأن نظرة ستيوارت الى الحياة غير صحيحة".
" وها نحن نعود الى مناقشة موقفك , ترى هل أكتشفت بعد هذه السنوات أنني أعني شيئا لك ؟ أو أنك النهاية الحادة للتأسفات؟".
وتولد في داخلها أقتناع مخيف بأنه يعرف خطة جوردان.
" توقفي عن التظاهر يا عزيزتي , لم لا تعترفين بأنك مستخدمة لغرض تمهيد الطريق لخطوة أكبر؟".
وعذبها أحساسها بالذنب وحدقت في وجه الشاب الساخر متسائلة عن أفضل حل للتخلص من موقفها في الخلاف بين الأخوين , ألا أن ستيوارت لم يزعج نفسه بأنتظار جوابها بل قال بمرارة:
" أن الأمر واضح تماما , يأمل جوردان بنجاحك حيث فشل هو ".
" ولكن كيف فشل؟".
" أن لجوردان شخصيته المسيطرة , ويحب أدارة حياة الآخرين , ويشبه في ذلك والدنا , أنه قاس وصعب المعاشرة ويحمل بين يديه دائما صلاحية أدارة الأمور المالية ....... وتوقف ستيوارت عن الحديث فجأة , ثم توجه بكرسيه الى مكان قرب النافذة حيث تطلع الى خضرة الحديقة , وفضحت ملامحه غضبه الشديد.
" لماذا يجب أن أكون معتمدا عليه ؟ أتمنى أحيانا لو أنني لم أولد لو لم تكن والدتي ضعيفة الشخصية لما كنت في حالتي هذه , آه أرجو أن تذهبي وتتركيني وحدي , لا أريدك , لا أريد رؤية أحد".
وصدمتها فجائية الكلمات فوقفت مدهوشة , إلا أن رؤيتها لرأسه المنكس على حافة الكرسي بألم جعلها تشعر بشفقة لا حد لها أنستها مخاوفها ويأسها فركضت اليه وجلست الى جانسبه"
" ستيوارت ....." , ومدت يدها نحوه :" ما هذا ؟ ألا تستطيع أخباري؟ أنك لا تعني فعلا ما قلته , أنا متأكدة بأن جوردان ....... هل أنت متأكد.....؟".
وتوقفت عاجز عن التوضيح أكثر , باحثة عن تفسير لما قاله.
" أنها الحقيقة , إلا أنك لا تريدين سماع كل شيء".
" إذا كان سيساعدك ويشعرك بالراحة, فحدثني أذن وإذا كان الأمر عكس ذلك فسأتركك وحدك".
" كلا".
وأمسك بيدها , وشدّها بقوة الى صدره :
" لا تبتعدي عني ثانية , لم أشعر بأهمية الأمر قبل الحادث , أذا كانت علاقتي بجوردان حسنة , فنحن لم نحاول الألتقاء دائما وأكتفينا بتبادل المجاملات دون أثارة بعضنا , ولم أكن بحاجة الى الأعتماد عليه , أشعلي لي سيجارة رجاء".
قال هذا في محاولة لأستعادة هدوئه وتجنب النظر مباشرة اليها.
" حدث أن والديّ أفترقا حين كان جوردان طفلا , لن أخبرك كل التفاصيل السيئة بل سأكتفي بالقول أن والدي كان قاسيا , متجهما بينما كانت والدتي ضعيفة وحنونة ولم يستطيعا العيش سوية , وهذا سيساعدك على فهم الأختلاف بيني وبين جوردان .
منتديات ليلاس
بعد ذهاب أمي تولى والدي تربية جوردان بطريقة خاصة , وأرسله الى أحدى المدارس حيث كان عليه النهوض عند منتصف الليل لكسر الثلج وإذابته قبل الأغتسال والأصغاء لأنواع الأهانات قبل تناول الأفطار .
لكن والدتي عادت للعيش مع الوالد حين كان جوردان في الرابعة عشرة من عمره وكنت أنا النتيجة , ويفسّر ذلك أختلاف العمر بيننا , أننا نعود الى قطبين مختلفين , وأعتقد بأنني كنت محظوظا أذ تغيّر والدي قليلا بعد ولادتي وأصبحت معاملته أقل قسوة من السابق , لذلك لم أعان من قسوة المعاملة التي تلقاها جوردان".
" لا بد أنك كنت صغيرا حين توفي والدك".
" توفي اليوم التالي لعيد ميلادي العاشر , وأذكر بأنني غضبت لأنه رفض شراء بندقية لي , ثم ندم في اليوم التالي ووعدني بشرائها , كان ذلك في الصباح الباكر , وتوفي الوالد مساء".
وهز ستيوارت كتفيه مضيفا:
" وتحمل جوردان مسؤولية إدارة الأعمال مباشرة وكان مركز والدي ملائما تماما لجوردان الذي أحتل مكانه في كل شيء بشكل طبيعي".
قالت جيردا معلقة بنعومة:
" كان لا بد من وجود أحد يتحمّل المسؤولية , ولم يكن هناك أحد غير جوردان".
وبقي ستيوارت متوترا , فأحست بالحاج الى التوضيح أكثر , رغم كراهيتها لأتخاذ موقف مؤيد لجوردان:
" قد تجد أن كل شيء صعب الآن , ولكن بالنسبة الى جوردان , فحاول الحكم عليه بنزاهة , فهو قام بكل شيء يستطيع أنسان القيام به من أجلك".
" آه , نعم , أقر بذلك , ولكن لماذا لا يدعني أنجز الأشياء بطريقتي أنا ؟ ما الذي يفعله ؟ أنه يأتي دائما للتنكيد عليّ , لينتقد أصدقائي , أنه قاس في سلوكه نحو سوزان , يلقي علي المحاضرات حول السلوك الحسن , ويصرخ متشكيا أذا ما أستلم قائمة مصروفاتي , ما الذي يتوقع مني عمله؟".
لم تعلق جيردا بشيء , أذ لم تجد شيئا تقوله , لأنها وجدت أم كلا الأخوين محقان ومخطئان في الوقت نفسه , إلا أنها لم تجد حلا ملائما.... بأستثناء....
" جيردا , أنا في أنتظار رأيك".
ونظر اليها مبتسما.
" هل أنت بأنتزار معجزة تحل كل مشاكلك؟".
" كلا , بل في أنتظار حديثك الحيوي المقنع".
" حديث حيوي ؟ ماذا تعني؟".
" لا تتظاهري بالبراءة , أعرف أن مجيئك تم بترتيب من جوردان آملا أن يعيد أليّ حيويتي وشعلة الحياة في داخلي , أن تحاولي أقناعي بأجراء العملية في ألمانيا , أليس ذلك صحيحا؟".
منتديات ليلاس
كان قريبا من الحقيقة وأمتلكها أحساس بذكر كل شيء له , إلا أنها نجحت أخيرا في التخلص من ذلك الأغراء , إذ ليس في مستطاعها إحداث قطيعة أكبر بين الأخوين , مهما كانت الأسباب الداعية لذلك , ثم أن ستيوارت كان مخطئا في شكوكه , قد يكون جوردان مغاليا في سلوكه إلا أنه كان بالتأكيد مهتما بستيوارت الى حد لا يمكن أنكاره , الى حد أنه كان مستعدا لتحطيم حياتها وحياة آخرين من أجل إعادة الأمل الى أخيه , وأحست بالكآبة تنتابها إذ لم تجد سوى هذا الجواب تتلفظ به:
" كلا , ستيوارت , أن حكمك خاطىء , لم يذكر جوردان كلمة واحد عن إجرائك العملية , قبولك أو رفضك أياها , وأقسم بذلك".
" لكنه سيثير الموضوع".
هزت رأسها مرة أخرى , عاجزة عن هز شكوكه رغم جوابها المقنع .
" حسنا , إذا ما ناقش الموضوع معك فأنني لا أرغب بسماع أي شيء عنه وخاصة منك يا جيردا , أنها حياتي وليس لأحد الحق بتوجيهي غلى ما أفعله أو لا أفعله , هل تفهمين؟".
أومأت أيجابيا وساد بينهما الصمت للحظات قصيرة , ثم أستدار بكرسيه متوجها الى المكتب الصغير حيث فتح أحد الأدراج وتناول منه قنينة حبوب فتحها , ثم ألتهم حبتين في آن واحد.
" ما هي هذه الحبوب؟".
سألت لأنها أحست بالحاجة الى كسر طوق الصمت حولهما أكثر من أحساسها بالفضول .
" حين يبدو العالم مظلما , تساعدني الحبوب على تحمله .... جيردا .....".
" نعم ".
وأستدارت نحوه وأحست بالخوف لمرأى نظرته المؤلمة وإذ مد يده نحوها لم تجد أمامها غير الرضوخ لطلبه وأمسكت يده محاولة الأبتسام في الوقت نفسه.
" حاول الأبتسام يا ستيوارت , وإلا أتهموني بالأساءة اليك إذا ما عادوا ووجدوك في هذه الحالة".
" أنهم يعرفون مزاجي أحسن منك يا عزيزتي , هل أنت متأكدة أن جوردان لا يستخدمك في أحدى لعبه؟".
" ليجبرك على تغيير رأيك ؟؟ كلا , لم أعرف بالموضوع حتى أخبرتني".
ولا بد أن شيئا ما في نظراتها الثابتة أقنعه , إذ أومأ برأسه رغم ألحاحه يسؤال جديد:
" ولكنك توافقينه الرأي , أليس كذلك؟".
" نعم , ولا أعدك بأنني لن أحاول أقناعك بأعادة التفكير في المسألة ".
وحدّق في وجهها لفترة طويلة كما لو رغب في أكتشاف الحقيقة في ملامحها , ثم قال:
" هل سيهمك ما سيحدث لي؟".
" بالطبع يهمني الأمر , لا تزال حياتك أمامك وعليك ألا تيأس ويجي ألا تضيّع حياتك".
" أذن أنت تؤمنين فعلا بوجود معجزة قريبة؟".
" كلا , لا أؤمن بوجود معجزة , بل أؤمن بوجود الأمل".
تنهّد بعمق ومس يدها بحنان:
" جيردا , لا تتركيني مرة أخرى رجاء , عديني بالبقاء".